بيولوجيا الخوف
كنتُ وصديقي في لندن ذات خريفٍ بعيد، وكانت تلك الليلة بالفندق طويلةً طويلة، شيءٌ من أحزان الخريف المسحورة يلفُّها، تُذْكيها الريحُ، والمطرُ الذي لا يتوقف إلا ليعودَ فينقر زجاجَ النافذة، ثم توغَّل الليل وتوغَّل. في ظلام الحجرة كان صديقي على سريره يحكي عن حبيبته ويُسهِب، وعن قصة حبه التي انتهت بلا مُبرِّرٍ مفهوم، وأنا على سريري أستمع. وفجأة صمَت. أحسَسْتُ أن الدموع تملأ عَيْنَيْه. مَالَكَ؟ سألتُ، في همسٍ أجاب: أخاف أن تضيعَ. كان يُحبُّها ذلك الحبَّ الشرقيَّ الرفيعَ النبيل. صمَتَ ثانيةً. وصمَتُّ.
مكَثتُ بقيةَ الليلة أفكِّر في هذه الجُملة القصيرة المشحونة. لخَّصَت كُلَّ ما كان يعتملُ في نفسه. وطالَ بيننا الصمتُ حتى الصباح. لا هو نام. ولا أنا. لأول مرةٍ بدأتُ أفكِّر في موضوع «الخوف.» اجتمع الليلُ وصوتُ الريح ومطرُ الخريف والغُربة — و«فكرةُ الخوف.» ومع انبلاج ضوءِ الصباحِ كنتُ قد رأيتُ أن غريزةَ الجنس وغريزةَ الخوف هما الأصل في بقاء الحياة. الجنسُ يحفظ جيناتِ نوعنا البشري حتى يَمتَدَّ في الزمن ويتَّصل، فلا ينقرض ويفنَى، والخوفُ يحمي به كل فردٍ منَّا جينومَه المُتفرِّد، يحمي توليفتَه الجينية الخاصة التي لم ولن تتكرَّر أبدًا، ويُسهِم بها ما أمكَنه في المستودَع الجيني البشري. غريزةٌ لحفظ النوع، والأخرى لحفظ الفرد. كان صديقي يخاف الوحدة، كان يخشى موتَ الحب. الحب تعبيرٌ عن الرغبة في الحياة، لكنَّ الخوف هو الغريزة، هو الأساس البيولوجي لنفس هذه الرغبة.
في الصباح كنتُ في طريقي إلى ميونيخ. أوصلَني الصديق إلى المطار. وعلى ظَهرِ الطائرة خلال الرحلة القصيرة كتبتُ قصيدةً أهديتُها إليه، وأرسلتُها له من ميونيخ. كان عنوانُها هو نفس جملته القصيرة: «أخافُ أن تضيع.» قلتُ فيها:
تروحُ الأيام وتأتي، وتبقَى ذِكْرى تلك الليلةِ الحزينةِ في لندن مرتبطةً لديَّ بفكرة «الخوف.» لقد سمعتُ «القصةَ من صديقي، لم أرَهَا.» ولكني قد رأيتُ بلا شكٍّ مثيلاتٍ لها في الأفلام السينمائية. قد تُشاهِدُ واقعةً بغيضةً تحدُث لشخصٍ آخر وتسبِّب له الفزع والخوف. كَلْبٌ يعقره مثلًا. الكلبُ لم يَعقِركَ أنت، لكنَّ مشاهدتَك الواقعةَ سيُنبِّه في مُخِّكَ نفسَ المناطقِ المختصةِ بالألم التي نُبِّهَت في الشخص الذي عُقِر. كذا تقولُ نتائجُ الأبحاث، ستخافُ أنتَ من الكلاب، ستربطُ الكلبَ بصدمة الخوف. لقد حُفظَت في ذاكرتك، وكأنَّكَ أنت مَن خبَر الواقعة. أما إذا حَكى لك آخَرُ واقعةً عقَرهُ فيها كلب، ووصَفَ لك ما جَرى له فيها، فإن رؤيتك الكلبَ فيما بعدُ لن تُثير في مخك استجابةَ الخوف، أن ترى الواقعة بعينك أمر، أما سَمَاعك بها فهو أمرٌ آخر. الاستجابة التي تأتي نتيجةً للرؤية تعني على ما يبدو، أن القضية قضيةُ تطوُّرٍ، ظهرَت في البشر قبل أَن نتمكَّنَ من اللغة، أما الاستجابة نتيجةً للرواية الشفاهية فهي ما زالت ضعيفة، تطوَّرَت فيما بعدُ لترتكز على آليَّةٍ في المخ جديدة، غير القديمة.
ألِلخَوف علاقةٌ بالوراثة؟ إذا كان غريزيًّا فلا بد أنْ يكونَ أساسُه وراثيًّا.
ماذا قال داروين
في كتابه «التعبير عن العواطف في الإنسان والحيوان» قارن داروين بين سلوكنا وسلوك الحيوان عند الاستجابة للمواقف المختلفة، كالحزن والقلق والدهشة والخوف، فوجد أن لاستجاباتنا العاطفية مثيلًا عند غيرنا من الأنواع، وأنَّ لها وظائفَ مفيدة. ميَّز داروين بين «الخوف» والرعب، واقترح أن كلمة «الخوف» هي الملائمة لاستجابتنا للفُجَائيِّ والخَطر، واستعمل كلمة «الرعب» للخوف الرهيب.
لاحِظ أننا إذا خِفْنا فجأةً، فَتَحْنا الفَم، والفَمُ المفتوح يسمح بالتنفس. بصورةٍ أفضل، استعدادًا لأن «نُضربَ أو نَهْرب.» والناسُ يُخفون الفَمَ باليد إذا هم جَفلُوا، ثم إنَّ مثل هذا يحدُث في معظم السلالات البشرية؛ ومن ثَم فالأغلبُ أن يكونَ له أساسٌ طبيعي، هدفُه تقليلُ الضجَّة الناشئة عن التنفُّس التي قد يَسمعُها العدوُّ أو المُفترِس. قال داروين إن الكثير من استجابات الخوف لدينا قد «حُفظَت» عبْر الأجيال من أزمانٍ سحيقة.
الخوفُ يقدحُ فينا زِنادَ تغيُّراتٍ فورية، تمامًا كما يحدُث مع غيرنا من الحيوانات، تغيُّرات يستعد بها الجسم للهجوم أو الهروب — مثل العرَق البارد، والعجز عن التحكُّم في عَضلةِ الِاستِ العاصرة، ووقوف الشَّعر، هذه بقايا استجاباتٍ وَرِثناها عن أسلافنا؛ فوقوف الشَّعر في الحيوانات ذات الفِراء مثلًا يجعل مَظهرَها مُفزِعًا يُخيف الأعداء، ولقد بَقِيَت الصفةُ فينا، دونما فائدةٍ منها نجنيها، كما يرى داروين. على أننا نعرف الآن أن وقوفَ الشَّعر يجعله يُحِس بسهولةٍ بتيارات الهواء، وبذلك يمكن أن نكشفَ تحرُّكَ العدُو أو المُفترِس.
الطفلُ يُولَد وهو يخافُ بالغريزة من الضجَّة، والغُرباء، والحيوانات الغريبة، ومن الأشياء السوداء اللون، من الظُّلْمة، من العُزْلة، من الفِراء، من الأعيُن الكبيرة، وهو يخاف أيضًا ممَّن يُكَشِّر له عن أسنانه، لكن الطفل، على عكس الحيوانات، لا يخافُ النار إلا إذا لسَعَتْه. مثل هذا الخوف ليس إذن غريزيًّا، هو مُكتسَب.
الجُرَذُ الطفلُ يُصيبُه الذعرُ إذا التقطَ أنفُه رائحة القطة، وهو لم يرَ في حياته قطة، الخوفُ هذا مغروسٌ في مادته الوراثية.
الذئبُ يخافُ الإنسانَ بالغريزة، وهو في الحقيقة من أجبَن الحيوانات. والكلب ليس كذلك، رغم أنه ينحدر عن سُلالة الذئب. إذا حدث تزاوجٌ بين الحيوانَين أخذَ النسلُ الناتج من الكلب صفةَ الجسارة وعدمَ الخوف من البشر، ولم يأخذ من الذئب صفة الجبن، الوراثة لا شك تلعبُ دورًا في صفة الخوف.
إذا رأيتَ ثعبانًا اعتراكَ الخوف. هذا الخوفُ يأتي مؤكدًا لأن مخَّك قد أدرك أنك قد رأيتَ ثعبانًا، وأخبرك أن تخاف، لتبدأ التَّجلِّياتُ الجسدية التي تحدُث عندما تخاف، ولكن لماذا لم تُخبِر نفسَك أن الثعبانَ ليس خطرًا؟ ستجد أنه يكاد يكون من المستحيل أن «تُغلِقَ» هذا الخوف، حتى لو كان غيرَ منطقي. يبدو أن هناك «مركزًا للعواطف» في مخك لا يستمع بسهولة لمخك «المفكِّر.»
الشواهدُ كثيرةٌ على أن استجابتنا للخوف إنما تُشبِه ما كان يفعله أسلافُنا القدامى، لا بد أن الجزءَ «البدائي» من المخ هو المسئول عن الاستجابة الفورية للخوف؛ لأن المخ «الأعلى» لم يظهر إلا مؤخرًا في تاريخ التطوُّر.
لكن يبدو أننا «نَشطَح» كثيرًا في تفسيرِ بعضِ صور الخوف، كي نعزوها إلى الانتخاب الطبيعي، لتُضمَّنَ الصفةُ داخل الجينوم البشري! يقول البعض مثلًا إن مَن كان يتمتعُ من أسلافِنا القُدامى بصفة الخوف من الثعابين، سيحيا حياةً أطول يُنجِب فيها نسلًا أكثر — في الوقت الذي نعرفُ فيه أن أهالي غينيا الجديدة لا يخافون الثعابين التي تنتشر في بلادهم بشكلٍ واضح.
ماذا يفعل الخوف بأجسادنا؟
كانت كل هذه الآليات مهمةً غاية الأهمية في الأزمنة البدائية السحيقة القِدَم، عند صيد فريسةٍ أو الهروب من مُفترِس، كانت أساسيةً للبقاء. أما في مجتمعاتنا الحديثة فإنها كثيرًا ما تسبِّب المشاكل، لكنها — فَرْضًا — موجودةٌ بالجينوم ينقلها جيلٌ وراء جيل. وإذا كان ثمَّة جيناتٌ لهذا الخوف الغريزي، فأين تُوجَد؟
التوحُّد ومتلازمة تيرنر
طريقان للخوف المكتسَب
الخوفُ الغريزي نُولَد به، لكنَّ الغالبيةَ العظمى من مخاوفنا مخاوفُ مُكتسَبة. كل أمراض الجَزَعِ تنشأ عن ذكريات الخوف بداخلك.
إذا كنتَ تسيرُ وحيدًا في طريقٍ مُظلِم، ثم سمعتَ صوتَ خطواتِ شخصٍ يمشي خلفَك، فإنك ستفزَع، ستخاف. لقد تعَلَّمتَ أن تخافَ.
تلميذٌ كان يتظاهر بالخروج من المنزل في طريقه إلى المدرسة، ثم يتسلق جدار البيت ليعود من الشُّباك إلى حجرته فيقضي بها بقية يومه. تَعلَّم أن يخافَ من أن يبدوَ أحمقَ أمام رفاق الدراسة، ويحاول أن يوفِّق أوضاعه بحيث يتفادى المواقف التي تُسبِّب له الذعر.
غزالةٌ تأتي إلى بِرْكةٍ لتشرب، يُقابلُها هناك في الطريق نَمِرٌ يحاول افتراسَها، فتتمكَّن من الهرب، وتتعلم أن تربطَ الطريق إلى البركة بالخوفِ من النمور، وتُحاوِل أن تجد طريقًا بديلًا.
الحزنُ المكتسَب سلوكٌ تكيُّفي للغاية لُوحظ في أنواعٍ لا تُحصى من الحيوانات، من القواقع وحتى البشر. والأميجدالة هي مصنعُ الخوفِ في جسم الإنسان.
المخ يحمل أشكالًا مختلفةً من الذاكرة، قرن آمون وقشرة المخ يمكِّنانِنا من الذكريات الصريحة الواعية. أما الأميجدالة، فتُمكِّننا من صور الذاكرة «الضمنية»؛ الذكريات العاطفية المرتبطة بالخوف. قرنُ أمون والأميجدالة يُعالجان على التوازي نواحيَ مختلفةً من أي موقفٍ عاطفي خاص، كحادثة سيارة مثلًا. بِقَرنِ آمون تتذكَّر مَن كنتَ معه، وأين ومتى، وماذا فَعلْتَ، وحقيقةَ أن الموقف كان مؤلمًا للغاية. أما الأميجدالة فإليها يرجع السبب في أنك عندما تتذكَّر الواقعة يتفصَّد العرق في راحتَيك، وتزدادُ ضرباتُ قلبك، وتُشد عضلاتُك.
افترِض أنك كنتَ تسير في شارعٍ ما عندما هجَم عليك شخصٌ كريهٌ فجأة، بعد بضعة أيام رأيتَ شخصًا آخر يجري في اتجاهك. هنا ستُسرِع نبضاتُ قلبك، لكنه لم يمَسَّك، واكتشفتَ أنه كان يُحاوِل اللحاق بالأوتوبيس، فتهدأ. بعد عدة أسابيع تمُر في نفس المكان، فتُصاب بالخوف والغثيان. لا أحد يجري نحوك، لكنَّ عناصرَ معينةً من سياق الواقعة قد أصبحَت شرطيَّة. قرنُ آمون قد تدخَّل.
وعلى هذا فإن الطريقَ السريع، من الثَّالَامَص إلى الأميجدالة، لا يترك الأمرَ للتقادير. بَعْدَهُ تقوم قشرةُ المخ باتخاذ التصحيحات الواجبة، فَتَكْبِتُ أيةً ردود فعلٍ اتضح أنها غير ملائمة.
لكن القشرة ليست هي الجزءَ الوحيدَ من المخ الذي يتدخل مع الأميجدالة؛ فَقَرْنُ آمون، كما ذكرنا، قد يلعبُ دورًا بأن يقدِّم المعلومات عن السياق.
الخوف والجينات
قامت جماعةٌ دولية من الباحثين بكشفِ موقعٍ داخل جينوم الجُرَذ — على الكروموزوم الخامس — يؤثِّر في التجليات المختلفة للخوف تحت ظروفٍ تجريبيةٍ متباينة. نُشرَت النتائج في أبريل ٢٠٠٢م، عُرِّضَت الجرذان لخبرةٍ جديدة لم تَعرفها قَبْلًا؛ إذ أُكرِهَت على أن تُواجه البقاء على ارتفاعاتٍ وفراغاتٍ مفتوحة، فواجهَت بذلك مواقفَ تحذِّر من أن شيئًا غير طَيِّب، أو مخيفًا، على وشك أن يحدث. كانت الجرذان مُربَّاةً داخليًّا، بعضُها «جبان»، وبعضُها «جسور.» كشَف هذا البحث عن أول جينٍ يؤثِّر في الخوف. كان أول شاهد تَوَفَّر لنا عن أساسٍ مادي مُحَدِّدٍ يؤثِّر في عاطفة.
وحقيقة أن آلياتِ نيوروناتِ الخوف وأعصابه شائعةٌ في كل الفقاريات، إنما ترفع من أهمية كشف هذا الموقع الوراثي (الجين) على الكروموزوم الخامس للجرذان، وتعطي قيمةً خاصةً لضرورة دراسة الخصائص الوراثية والتكييفية للخوف والجزع في البشر، وتحث على البحث للتعرُّف على نظير لهذا الجين في الإنسان.
أن نرى أحاسيسنا
لقد دخلنا بالفعل عصرًا يمكننا فيه أن «نرى» بالمخ المسارات التي تشكِّل أساسَ العواطف، حَظِيَت عاطفةُ الخوف باهتمامٍ كبير؛ لأنها عاطفةٌ أساسية للبقاء، ولأنها تُسَبِّب — إذا خرجَت عن نطاق التحكُّم — أمراضَ الجزَع والهلَع وبعضَ أعراض الاكتئاب. تقول نتائج الأبحاث إن الفردَ منا إذا تعلَّم أن يربطَ بين إشارةٍ محايدة وبين شيءٍ بغيض — كمثل صوت طنينٍ مرتفع — ففي مقدورنا أن نلحظَ المخَّ وهو يعمل في تخزين البيانات التي تُنذر بالخطر، كما يُمكِننا أن نعالِجَ المعلومات عن التهديد والخوف، حتى ولو لم يكن الشخصُ المفحوصُ يركِّز عليها، بل ولربما حتى وهو لا يتذكَّر بوعيٍ أنه يرى إشارة الخطر.
أن تتذكر
الذاكرةُ تُضفي على حياتنا معنى الاستمرارية، تمكِّننا من أن نتعلم من خبراتنا، وتُبقي الأوقاتَ السعيدةَ التي قضَيناها فلا تضيع، لكنها قد تسبِّب لنا الألمَ عندما تُعيد إلينا ذكرياتِ الأمسِ البغيضة، الذكريات البغيضة تثبُت؛ لأن التطورَ قد وَجَد بها وسيلةً تجعلنا نتذكَّر الأشياءَ الهامةَ لبقائنا.
عالَمُنا عالَمٌ خَطِر، نُواجِه فيه الخطَر في كل مكان. هذا الكلبُ قد يعقِرُك. هذه العربة قد تدهسُك. هذا الشخصُ قد يشتمُك. والمخ قد تكيَّف ليُحِسَّ بهذه التهديدات، ويزوِّدَنا بالسلوك الملائم للدفاع عن أنفسنا، ويسجِّلَ الظروف التي تُحيط بالخبرة، للذكريات عن الوقائع المخيفة وظيفةٌ بيولوجية حيوية، إنها تسمح لنا بأن نتوقَّع المخاطر في المستقبل.
رجلُ الغابة إذا صادف وحشًا في طريقه إلى البئر، فسيتجنَّب هذا الطريق في المرات القادمة، ويحاول أن يجد لنفسه طريقًا بديلًا آخر. الداراتُ في الأميجدالة وغيرها من مناطق المخ تتخصَّص في تثبيتِ علاقاتٍ كهذه. الأدرينالين الذي يُفرَز ويجعل رجلَ الغابة يهربُ من الوحش، يعمل في المخ ليُقوِّي الربط بين الطريق وهذا الحيوان.
لكنَّ حياة رجل الغابة ستفسَد إذا استيقظَ يصرُخ ليلةً بعد ليلة. وهو يتذكَّر الوحش، بل وربما فقَد من جرَّاء ذلك قُدرتَه على الصيد! الخوف يقتُل العقل. لا شيء يقتل الفكر مثل الخوف (ولا شيء يقوِّي الخوفَ مثل الجهل!).
عِلة الجزَع
داراتُ تعلُّم الخوف
وفي ١٣ ديسمبر ٢٠٠٢م أُعلن عن اكتشاف أوَّل مكوِّنٍ وراثي لمسارٍ بيوكيماوي في المخ، مسارٍ يتحكَّم في الدمغِ الثابتِ لخبرة الخوف في الذاكرة. يشفِّر هذا الجينُ لبروتينٍ يثبِّط فِعلَ دَارَاتِ تَعَلُّم الخوف في المخ، وتفهُّم كيف يلطِّف هذا البروتين من الخوف، وقد يقودُ إلى تصميمِ عقاقيرَ جديدةٍ لعلاج الاكتئاب والذعر، وغير ذلك من عِلل الجزَع والقلَق.
كيف يُمحى الخوف من المخ؟
إذا ما رُصد في مخك خوفٌ أو سُجِّل، فهل من وسيلة للتخلص منه؟ اتضح أن تكثيفَ تعريضِ الفرد للمنبِّه المسبِّب للخوف — أي تعريضه لهذا المُنبِّه على دفعاتٍ مركَّزة متسارعة، لا بشكلٍ تدريجي على مرات تفصل بينها فتراتٌ زمنية طويلة — يعطي نتيجةً أفضلَ كثيرًا في محوِ أثَر المُنبِّه. فعلى سبيل المثال، إذا كنا نُعالِج الخوفَ من الأماكن المرتفعة، فمن الأفضل أن يُؤخَذ «المريض» مباشرةً إلى قمة مبنًى مرتفعٍ للغاية، ولمرَّاتٍ متتالية سريعة، لا أن نأخذَه إلى قممِ مبانٍ ذاتِ ارتفاعاتٍ متزايدة، في زياراتٍ تَفْصل بينها فتراتٌ طويلة من الزمن. ثمَّة فتاةٌ كانت تخاف خوفًا مَرضيًّا من أن تُصابَ بالسرطان بالعَدْوى من والدتها، وكان الحل هو أن أُقنِعَت بأن ترتديَ وشاحَ أمها طول الوقت، فاختفى الخوفُ مع الزمن. الكلبُ يعَضُّ الإنسان، والإنسان يخافُ الكلبَ طول الوقت، لكنك إذا وضعتَ رجلًا وكلبًا سويًّا في حُجرة لفترةٍ طويلة، فإنه سيتخلَّص من خوفه!
الخوف من الوحدة
مرةً أخرى تعود إليَّ صورةُ تلك الليلة الحزينة مع صديقي في لندن. كان «يخاف» أن تضيعَ منه حبيبتُه. أن يُصبحَ وحيدًا. أن يحيا في الصمتِ ويغوص. بغيره يصبح الفردُ منا إنسانًا. نحن الآخرون. يُبَلوِرُ الإنسانُ مِنَّا الآخرين في شخصٍ ينتقيه أميجداليًّا. ثم يؤكِّد ذلك قَرْنَامُونِيًّا! أكاد أقول: يختاره في البدء «فَنِّيًّا»، ثم يؤكِّد ذلك الاختيار «علميًّا.» يُصبِح المحبوبُ خُلاصةَ الناس. يجمع الناسَ في واحد. فإذا «ضاع»، ضاع معه الخَلْق. ومع الخلْقِ يضيعُ الفرد ذاته. يصبح وحيدًا. يعتريه الخوف. الخوف الصامت. الخوف من الوحدة في عالَمٍ مُعادٍ خَطِر. تصمتُ فيه الطيور في الشجر، ويختفي القمر! مثلما يخاف الإنسان من العناكب والثعابين، من الأماكن المُغلَقة، من الأماكن المرتفعة، من السرطان، من الرَّعْد، من الموت، فإنه يخاف قبل هذا وذاك من الوحدة. يخاف أن يفقدَ البشر. يخاف أن يفقدَ مَن تَجَسَّدَ فيه معنى البشر. الحياةُ اثنان. مِنْ كل كروموزوم في جينومنا اثنان. في كُلِّ حيوانٍ يُوجَد جنسان، عينان، أذنان، يدان، رِجلان. الأميجدالة ذاتُها لوزتان (كم هي عبقريةٌ لغتنا العربية!). كيف لا يخافُ صديقي أن تضيع؟ الذكرياتُ القديمة لا تضيع. تبقَى في المخ لا تضيع. ومحاولةُ مَحوِها إنما تولِّد ذاكرةً أخرى جديدة. أتُراه كان يخشى الذاكرة الأخرى؟