بيولوجيا الخوف

كنتُ وصديقي في لندن ذات خريفٍ بعيد، وكانت تلك الليلة بالفندق طويلةً طويلة، شيءٌ من أحزان الخريف المسحورة يلفُّها، تُذْكيها الريحُ، والمطرُ الذي لا يتوقف إلا ليعودَ فينقر زجاجَ النافذة، ثم توغَّل الليل وتوغَّل. في ظلام الحجرة كان صديقي على سريره يحكي عن حبيبته ويُسهِب، وعن قصة حبه التي انتهت بلا مُبرِّرٍ مفهوم، وأنا على سريري أستمع. وفجأة صمَت. أحسَسْتُ أن الدموع تملأ عَيْنَيْه. مَالَكَ؟ سألتُ، في همسٍ أجاب: أخاف أن تضيعَ. كان يُحبُّها ذلك الحبَّ الشرقيَّ الرفيعَ النبيل. صمَتَ ثانيةً. وصمَتُّ.

مكَثتُ بقيةَ الليلة أفكِّر في هذه الجُملة القصيرة المشحونة. لخَّصَت كُلَّ ما كان يعتملُ في نفسه. وطالَ بيننا الصمتُ حتى الصباح. لا هو نام. ولا أنا. لأول مرةٍ بدأتُ أفكِّر في موضوع «الخوف.» اجتمع الليلُ وصوتُ الريح ومطرُ الخريف والغُربة — و«فكرةُ الخوف.» ومع انبلاج ضوءِ الصباحِ كنتُ قد رأيتُ أن غريزةَ الجنس وغريزةَ الخوف هما الأصل في بقاء الحياة. الجنسُ يحفظ جيناتِ نوعنا البشري حتى يَمتَدَّ في الزمن ويتَّصل، فلا ينقرض ويفنَى، والخوفُ يحمي به كل فردٍ منَّا جينومَه المُتفرِّد، يحمي توليفتَه الجينية الخاصة التي لم ولن تتكرَّر أبدًا، ويُسهِم بها ما أمكَنه في المستودَع الجيني البشري. غريزةٌ لحفظ النوع، والأخرى لحفظ الفرد. كان صديقي يخاف الوحدة، كان يخشى موتَ الحب. الحب تعبيرٌ عن الرغبة في الحياة، لكنَّ الخوف هو الغريزة، هو الأساس البيولوجي لنفس هذه الرغبة.

في الصباح كنتُ في طريقي إلى ميونيخ. أوصلَني الصديق إلى المطار. وعلى ظَهرِ الطائرة خلال الرحلة القصيرة كتبتُ قصيدةً أهديتُها إليه، وأرسلتُها له من ميونيخ. كان عنوانُها هو نفس جملته القصيرة: «أخافُ أن تضيع.» قلتُ فيها:

أخافُ يا حبيب،
أخافُ أن تُصاحبَ الطيورَ في الصباحْ …
وترجعَ الطيورُ، دون أن تعودَ، في المساءْ
بطيئةً حزينةً …
لَيسَ مَن رأى كمَن سَمِع!

تروحُ الأيام وتأتي، وتبقَى ذِكْرى تلك الليلةِ الحزينةِ في لندن مرتبطةً لديَّ بفكرة «الخوف.» لقد سمعتُ «القصةَ من صديقي، لم أرَهَا.» ولكني قد رأيتُ بلا شكٍّ مثيلاتٍ لها في الأفلام السينمائية. قد تُشاهِدُ واقعةً بغيضةً تحدُث لشخصٍ آخر وتسبِّب له الفزع والخوف. كَلْبٌ يعقره مثلًا. الكلبُ لم يَعقِركَ أنت، لكنَّ مشاهدتَك الواقعةَ سيُنبِّه في مُخِّكَ نفسَ المناطقِ المختصةِ بالألم التي نُبِّهَت في الشخص الذي عُقِر. كذا تقولُ نتائجُ الأبحاث، ستخافُ أنتَ من الكلاب، ستربطُ الكلبَ بصدمة الخوف. لقد حُفظَت في ذاكرتك، وكأنَّكَ أنت مَن خبَر الواقعة. أما إذا حَكى لك آخَرُ واقعةً عقَرهُ فيها كلب، ووصَفَ لك ما جَرى له فيها، فإن رؤيتك الكلبَ فيما بعدُ لن تُثير في مخك استجابةَ الخوف، أن ترى الواقعة بعينك أمر، أما سَمَاعك بها فهو أمرٌ آخر. الاستجابة التي تأتي نتيجةً للرؤية تعني على ما يبدو، أن القضية قضيةُ تطوُّرٍ، ظهرَت في البشر قبل أَن نتمكَّنَ من اللغة، أما الاستجابة نتيجةً للرواية الشفاهية فهي ما زالت ضعيفة، تطوَّرَت فيما بعدُ لترتكز على آليَّةٍ في المخ جديدة، غير القديمة.

ألِلخَوف علاقةٌ بالوراثة؟ إذا كان غريزيًّا فلا بد أنْ يكونَ أساسُه وراثيًّا.

ماذا قال داروين

في كتابه «التعبير عن العواطف في الإنسان والحيوان» قارن داروين بين سلوكنا وسلوك الحيوان عند الاستجابة للمواقف المختلفة، كالحزن والقلق والدهشة والخوف، فوجد أن لاستجاباتنا العاطفية مثيلًا عند غيرنا من الأنواع، وأنَّ لها وظائفَ مفيدة. ميَّز داروين بين «الخوف» والرعب، واقترح أن كلمة «الخوف» هي الملائمة لاستجابتنا للفُجَائيِّ والخَطر، واستعمل كلمة «الرعب» للخوف الرهيب.

لاحِظ أننا إذا خِفْنا فجأةً، فَتَحْنا الفَم، والفَمُ المفتوح يسمح بالتنفس. بصورةٍ أفضل، استعدادًا لأن «نُضربَ أو نَهْرب.» والناسُ يُخفون الفَمَ باليد إذا هم جَفلُوا، ثم إنَّ مثل هذا يحدُث في معظم السلالات البشرية؛ ومن ثَم فالأغلبُ أن يكونَ له أساسٌ طبيعي، هدفُه تقليلُ الضجَّة الناشئة عن التنفُّس التي قد يَسمعُها العدوُّ أو المُفترِس. قال داروين إن الكثير من استجابات الخوف لدينا قد «حُفظَت» عبْر الأجيال من أزمانٍ سحيقة.

الخوفُ يقدحُ فينا زِنادَ تغيُّراتٍ فورية، تمامًا كما يحدُث مع غيرنا من الحيوانات، تغيُّرات يستعد بها الجسم للهجوم أو الهروب — مثل العرَق البارد، والعجز عن التحكُّم في عَضلةِ الِاستِ العاصرة، ووقوف الشَّعر، هذه بقايا استجاباتٍ وَرِثناها عن أسلافنا؛ فوقوف الشَّعر في الحيوانات ذات الفِراء مثلًا يجعل مَظهرَها مُفزِعًا يُخيف الأعداء، ولقد بَقِيَت الصفةُ فينا، دونما فائدةٍ منها نجنيها، كما يرى داروين. على أننا نعرف الآن أن وقوفَ الشَّعر يجعله يُحِس بسهولةٍ بتيارات الهواء، وبذلك يمكن أن نكشفَ تحرُّكَ العدُو أو المُفترِس.

الطفلُ يُولَد وهو يخافُ بالغريزة من الضجَّة، والغُرباء، والحيوانات الغريبة، ومن الأشياء السوداء اللون، من الظُّلْمة، من العُزْلة، من الفِراء، من الأعيُن الكبيرة، وهو يخاف أيضًا ممَّن يُكَشِّر له عن أسنانه، لكن الطفل، على عكس الحيوانات، لا يخافُ النار إلا إذا لسَعَتْه. مثل هذا الخوف ليس إذن غريزيًّا، هو مُكتسَب.

الجُرَذُ الطفلُ يُصيبُه الذعرُ إذا التقطَ أنفُه رائحة القطة، وهو لم يرَ في حياته قطة، الخوفُ هذا مغروسٌ في مادته الوراثية.

الذئبُ يخافُ الإنسانَ بالغريزة، وهو في الحقيقة من أجبَن الحيوانات. والكلب ليس كذلك، رغم أنه ينحدر عن سُلالة الذئب. إذا حدث تزاوجٌ بين الحيوانَين أخذَ النسلُ الناتج من الكلب صفةَ الجسارة وعدمَ الخوف من البشر، ولم يأخذ من الذئب صفة الجبن، الوراثة لا شك تلعبُ دورًا في صفة الخوف.

إذا رأيتَ ثعبانًا اعتراكَ الخوف. هذا الخوفُ يأتي مؤكدًا لأن مخَّك قد أدرك أنك قد رأيتَ ثعبانًا، وأخبرك أن تخاف، لتبدأ التَّجلِّياتُ الجسدية التي تحدُث عندما تخاف، ولكن لماذا لم تُخبِر نفسَك أن الثعبانَ ليس خطرًا؟ ستجد أنه يكاد يكون من المستحيل أن «تُغلِقَ» هذا الخوف، حتى لو كان غيرَ منطقي. يبدو أن هناك «مركزًا للعواطف» في مخك لا يستمع بسهولة لمخك «المفكِّر.»

الشواهدُ كثيرةٌ على أن استجابتنا للخوف إنما تُشبِه ما كان يفعله أسلافُنا القدامى، لا بد أن الجزءَ «البدائي» من المخ هو المسئول عن الاستجابة الفورية للخوف؛ لأن المخ «الأعلى» لم يظهر إلا مؤخرًا في تاريخ التطوُّر.

لكن يبدو أننا «نَشطَح» كثيرًا في تفسيرِ بعضِ صور الخوف، كي نعزوها إلى الانتخاب الطبيعي، لتُضمَّنَ الصفةُ داخل الجينوم البشري! يقول البعض مثلًا إن مَن كان يتمتعُ من أسلافِنا القُدامى بصفة الخوف من الثعابين، سيحيا حياةً أطول يُنجِب فيها نسلًا أكثر — في الوقت الذي نعرفُ فيه أن أهالي غينيا الجديدة لا يخافون الثعابين التي تنتشر في بلادهم بشكلٍ واضح.

ماذا يفعل الخوف بأجسادنا؟

إذا أُصِبتَ بالخوف أفرزَ جسمُك موادَّه الخاصةَ التي تقوم بقتل الألم (واسمها الإندورفينات endorphins) لمواجهة ما قد يحدث من إصاباتٍ أثناء الهجومِ أو الهروب. تتقلَّص الأوعية الدموية قُربَ الجلد لتُقلِّل ما قد ينزف من دمٍ عند الإصابة، وتُفتَح الغُدَد العرَقية، حتى لو كان الجو باردًا، لتبريدِ الجسمِ إذا تَطَلَّبَ الأمرُ الهربَ بسرعة. يتسعُ إنسانُ العين ليساعد في كشف الحركة، ويقفُ شعرُ الرأس ليزداد الإحساس بالبيئة المحيطة، وتتزايد ضرباتُ القلب، وتتسعُ الأوردة لتسمح للدم بأن يعودَ بسرعة إلى القلب — حتى ليُضَخ إلى القلب خمسة جالونات من الدم في الدقيقة بدلًا من جالونٍ واحد — لضمانِ أن يصلَ إلى العضلات أكبر قدْرٍ من الأكسجين إذا استدعَى الأمر. يزداد مُعَدَّلُ التنفس استعدادًا لما قد يحتاجُه الموقف، ويُفرَز الجلوكوز من الكبد ليوفِّر للعضلاتِ الوقودَ الفوري. تنقبضُ الأوعيةُ الدموية المغذية للجهاز الهضمي والجهاز التناسلي والكُلْيتَين، لتُغلَق مؤقتًا هذه الأجهزة غير المطلوبة للضرب أو الهرب. يجف الفم، ويتجه الدم بغزارة نحو العضلات الرئيسية للرجلَين والذراعَين، ونحو المخ أيضًا؛ فأنت تحتاج في هذا الموقف إلى قَدْرٍ كبيرٍ من الدم من أجل «التفكير السريع» الذي قد يَلْزَمُكَ — لا يهم قَدْرُ ما يصل من طاقة إلى عضلات رجلَيك إذا كنتَ تجري في الاتجاه الخاطئ. تُنبَذ محتوياتُ المعدة والأمعاء والمثانة؛ فقد يَصرِفُ هذا ذهنَ المُهاجِم، كما يخفِّف من العبء الذي يحمله الجسمُ أثناء الهروب.

كانت كل هذه الآليات مهمةً غاية الأهمية في الأزمنة البدائية السحيقة القِدَم، عند صيد فريسةٍ أو الهروب من مُفترِس، كانت أساسيةً للبقاء. أما في مجتمعاتنا الحديثة فإنها كثيرًا ما تسبِّب المشاكل، لكنها — فَرْضًا — موجودةٌ بالجينوم ينقلها جيلٌ وراء جيل. وإذا كان ثمَّة جيناتٌ لهذا الخوف الغريزي، فأين تُوجَد؟

التوحُّد ومتلازمة تيرنر

هناك بالفعل منطقة بكروموزوم س (X) ترتبط بالإحساس بالخوف، وقد تفسِّر السبب في أن يكون احتمالُ وجود التوحُّد autism في الرجال عشرةَ أمثاله في النساء. من بين أعراض التوحُّد عدم القدرة على تمييز مظاهر الخوف على وجوه الآخرين، حتى ليرى البعضُ أنَّ سلوك مَرضَى التوحُّد هو السلوكُ الذكرِيُّ الطبيعي مُضَخَّمًا. اتضح أن الأميجدالة amygdala (= اللوزة) — وهي، كما سنرى، الجزء من المخ المسئول عن إدراك تعبيرات الوجه، ومن بينها التعبير عن الخوف — تكون شاذةً فيمَن يحملون عطبًا معينًا في كروموزوم الجنس هذا. يحمل الرجالُ كروموزوم س واحدًا، بينما تحمل النساء كروموزومين — إلا نساء متلازمة تيرنر Turner syndrome؛ فَهُنَّ يَحمِلْن، كالرجال، كروموزوم س واحدًا أيضًا. ومعنى وجود نسخةٍ واحدة من الكروموزوم س في الجينوم، أن يظهرَ أثرُ كلِّ جينٍ به أو اقتضاب deletion؛ فوجود كروموزوم س ثانٍ (في الإناث الطبيعية) يعني أنه قد يَحمِل صورةً أخرى من أي جينٍ قد تحوِّر المظهر. يَصلُ احتمال ظهور التوحُّد في نساء تيرنر مائتَي مثلِ احتمالِ ظهورِه في غيرهن من النساء — كذا تقولُ بعض المراجع (وإن كانت حساباتي تقول إن هذا الاحتمال لا بد أن يكون مائة مثْلٍ فقط، إذا اعتبرنا أن التوحُّد في الرجال يبلغ عشرةَ أمثاله في النساء). بالبحث في كروموزوم س بنساء تيرنر تمكَّن العلماءُ من تحديدِ منطقةٍ به قرب المنتصف تتحكَّم في الأميجدالة. ولا يزالُ البحثُ جاريًا في هذه المنطقة للكشف عن الجين أو الجينات المسئولة عن الخوف الغريزي، وتشريحها جُزَيئيًّا.

طريقان للخوف المكتسَب

الخوفُ الغريزي نُولَد به، لكنَّ الغالبيةَ العظمى من مخاوفنا مخاوفُ مُكتسَبة. كل أمراض الجَزَعِ تنشأ عن ذكريات الخوف بداخلك.

إذا كنتَ تسيرُ وحيدًا في طريقٍ مُظلِم، ثم سمعتَ صوتَ خطواتِ شخصٍ يمشي خلفَك، فإنك ستفزَع، ستخاف. لقد تعَلَّمتَ أن تخافَ.

تلميذٌ كان يتظاهر بالخروج من المنزل في طريقه إلى المدرسة، ثم يتسلق جدار البيت ليعود من الشُّباك إلى حجرته فيقضي بها بقية يومه. تَعلَّم أن يخافَ من أن يبدوَ أحمقَ أمام رفاق الدراسة، ويحاول أن يوفِّق أوضاعه بحيث يتفادى المواقف التي تُسبِّب له الذعر.

غزالةٌ تأتي إلى بِرْكةٍ لتشرب، يُقابلُها هناك في الطريق نَمِرٌ يحاول افتراسَها، فتتمكَّن من الهرب، وتتعلم أن تربطَ الطريق إلى البركة بالخوفِ من النمور، وتُحاوِل أن تجد طريقًا بديلًا.

الحزنُ المكتسَب سلوكٌ تكيُّفي للغاية لُوحظ في أنواعٍ لا تُحصى من الحيوانات، من القواقع وحتى البشر. والأميجدالة هي مصنعُ الخوفِ في جسم الإنسان.

الأميجدالةُ جزءٌ من المخ في حجم وشكل اللوزة، تَقعُ عميقًا خلْف مُقلتَي العين تقريبًا. وهي أساسيةٌ في فَكِّ شفرة العواطف، وعلى وجه الخصوص المنبهات التي تهدِّد الكائن الحي. والحقيقة أن الكثير من دارات التحذير بالجسم تُجمَع سويًّا في الأميجدالة لتُخبرها بما قد يكون خطِرًا في البيئة. تصلُ المعلومات إليها مباشرةً من مناطقَ مختلفة بقشرة المخ، لكن هناك مناطق تتصل محاورُ خلاياها العصبية (نيوروناتها) بالأميجدالة، مثل قرن آمون hippocampus الذي يختص بتخزين واسترجاع الذكريات «الصريحة»؛ إذ يتخصَّص في معالجة «مجموعات» المنبِّهات؛ أي سياق الموقف. وبسبب الروابط الوثيقة بين الأميجدالة وقرن آمون، يعود سياقُ الموقف المتعلِّق بواقعةٍ بغيضة حدثَت لك، يعود بأكمله يُثير فيك القلَق والجزَع.

المخ يحمل أشكالًا مختلفةً من الذاكرة، قرن آمون وقشرة المخ يمكِّنانِنا من الذكريات الصريحة الواعية. أما الأميجدالة، فتُمكِّننا من صور الذاكرة «الضمنية»؛ الذكريات العاطفية المرتبطة بالخوف. قرنُ أمون والأميجدالة يُعالجان على التوازي نواحيَ مختلفةً من أي موقفٍ عاطفي خاص، كحادثة سيارة مثلًا. بِقَرنِ آمون تتذكَّر مَن كنتَ معه، وأين ومتى، وماذا فَعلْتَ، وحقيقةَ أن الموقف كان مؤلمًا للغاية. أما الأميجدالة فإليها يرجع السبب في أنك عندما تتذكَّر الواقعة يتفصَّد العرق في راحتَيك، وتزدادُ ضرباتُ قلبك، وتُشد عضلاتُك.

افترِض أنك كنتَ تسير في شارعٍ ما عندما هجَم عليك شخصٌ كريهٌ فجأة، بعد بضعة أيام رأيتَ شخصًا آخر يجري في اتجاهك. هنا ستُسرِع نبضاتُ قلبك، لكنه لم يمَسَّك، واكتشفتَ أنه كان يُحاوِل اللحاق بالأوتوبيس، فتهدأ. بعد عدة أسابيع تمُر في نفس المكان، فتُصاب بالخوف والغثيان. لا أحد يجري نحوك، لكنَّ عناصرَ معينةً من سياق الواقعة قد أصبحَت شرطيَّة. قرنُ آمون قد تدخَّل.

تصل المعلومات من المُنبِّه الخارجي إلى الأميجدالة عن طريقَين؛ واحد قصير سريع ولكنه غير دقيق، مِن الثَّالَامَص thalamus مباشرة، والآخر طويل بطيء ولكنه دقيق، من قشرة المخ. الطريق القصير المباشر هو الذي يجعلنا نتهيأ لخطرٍ محتمَل قبل أن نعرفَ بالضبط ما هو. قد يكون جزءٌ من الثانية هو الفرق بين الموت والحياة. افترِض أنك كنتَ تمشي في غابة عندما رأيتَ فجأةً شيئًا طويلًا نحيلًا ملتويًا قُربَ قدَمِك. يصلُك هذا الشكل الشبيه بالثعبان بسرعةٍ خارقة، من خلال الطريق القصير، ويحرِّك الاستجاباتِ الفسيولوجيةَ فتقفز بعيدًا، لكن رؤيتك ذاتها لهذا المُنبِّه، وبعد أن تَمُرَّ خلال الثالامَص ستُنقَل أيضًا إلى قشرة المخ، وبعد بضعة أجزاءٍ من الثانية، ستُدرِك قشرة المخ أن الشكل الذي رأيتَه لم يكن إلا خرطومًا مُهمَلًا، فينخفضُ عددُ ضربات القلب ثانية! أما إذا اتضح للقشرة أنه بالفعل ثعبانٌ فستكونُ قد نَجوتَ.

وعلى هذا فإن الطريقَ السريع، من الثَّالَامَص إلى الأميجدالة، لا يترك الأمرَ للتقادير. بَعْدَهُ تقوم قشرةُ المخ باتخاذ التصحيحات الواجبة، فَتَكْبِتُ أيةً ردود فعلٍ اتضح أنها غير ملائمة.

لكن القشرة ليست هي الجزءَ الوحيدَ من المخ الذي يتدخل مع الأميجدالة؛ فَقَرْنُ آمون، كما ذكرنا، قد يلعبُ دورًا بأن يقدِّم المعلومات عن السياق.

الخوف والجينات

كلنا يعرف أن الجينات تلعب دورًا في أمراضٍ كالسرطان أو تصلب الشرايين، وربما السُّمْنَة أيضًا، لكن العلماء اكتشفوا في ١٩٩٧م أن الجينات تلعب أيضًا دورًا في الطريقة التي يستجيبُ بها الحيوانُ للمواقف المخيفة. عُرِّضَت فئرانٌ لصدماتٍ كهربائيةٍ خفيفة يَصْحَبُها صوتٌ معيَّن. كانت الاستجابة الأولى للخوف هي أن يتجمَّد الفأر في مكانه. ثم أصبحَت هذه الفئران تتجمَّد في مكانها إذا سمعَت الصوتَ وحده دون الصدمة. قارنَت جين ويهنر J. Wehner وزملاؤها فئرانًا تُظهِر خوفًا شديدًا بأخرى خوفُها أقل، واكتشَفوا أن الكروموزومات ١، ١٠، ١٦ تختلف بين المجموعتَين، مما قد يشير إلى وجود جيناتٍ عليها ترتبطُ بالخوف.

قامت جماعةٌ دولية من الباحثين بكشفِ موقعٍ داخل جينوم الجُرَذ — على الكروموزوم الخامس — يؤثِّر في التجليات المختلفة للخوف تحت ظروفٍ تجريبيةٍ متباينة. نُشرَت النتائج في أبريل ٢٠٠٢م، عُرِّضَت الجرذان لخبرةٍ جديدة لم تَعرفها قَبْلًا؛ إذ أُكرِهَت على أن تُواجه البقاء على ارتفاعاتٍ وفراغاتٍ مفتوحة، فواجهَت بذلك مواقفَ تحذِّر من أن شيئًا غير طَيِّب، أو مخيفًا، على وشك أن يحدث. كانت الجرذان مُربَّاةً داخليًّا، بعضُها «جبان»، وبعضُها «جسور.» كشَف هذا البحث عن أول جينٍ يؤثِّر في الخوف. كان أول شاهد تَوَفَّر لنا عن أساسٍ مادي مُحَدِّدٍ يؤثِّر في عاطفة.

وحقيقة أن آلياتِ نيوروناتِ الخوف وأعصابه شائعةٌ في كل الفقاريات، إنما ترفع من أهمية كشف هذا الموقع الوراثي (الجين) على الكروموزوم الخامس للجرذان، وتعطي قيمةً خاصةً لضرورة دراسة الخصائص الوراثية والتكييفية للخوف والجزع في البشر، وتحث على البحث للتعرُّف على نظير لهذا الجين في الإنسان.

أن نرى أحاسيسنا

ثم حدثَت ثورةٌ حقيقية خلال بضع السنوات الماضية في دراسات العواطف. العواطف — الحب، الخوف، الغضب، الرغبة — هي التي تلوِّن كلَّ شيء في حياتنا وتُضفي المعنى. كان من المعتقد أن القلبَ هو بيتُ العواطف، لكنَّا نعرف الآن أنها تنشأ في المخ. ولقد غدا في إمكان العلماء الآن أن يستخدموا أجهزة التصوير العصبي، ليرَوا بها خلايا المخ الحية وهي تفكِّر وتشعُر. من بين هذه الأجهزة جهازان لكشف الإشارات الناجمة عن نشاط المخ؛ جهاز التصوير الرنيني المغنطيسي الوظيفي (fMRI) الذي يَسْتخدم المجالاتِ المغنطيسيةَ والموجاتِ الإشعاعيةَ لالتقاط الإشارات التي تصدُر عن خلايا المخ، ثم جهاز التصوير المَقْطعي بالإصدار البوزيتروني (PET) الذي يستخدم مِرْسَمةً نشطةً إشعاعيًّا لرصد الإشارات من المخ. أمكن بمثل هذه الأجهزة دراسةُ السُّبل في المخ المختصة بعمليات الحس، بل وحتى دراسة نشاط الخلايا المُفرَدة واحدةً واحدة.

لقد دخلنا بالفعل عصرًا يمكننا فيه أن «نرى» بالمخ المسارات التي تشكِّل أساسَ العواطف، حَظِيَت عاطفةُ الخوف باهتمامٍ كبير؛ لأنها عاطفةٌ أساسية للبقاء، ولأنها تُسَبِّب — إذا خرجَت عن نطاق التحكُّم — أمراضَ الجزَع والهلَع وبعضَ أعراض الاكتئاب. تقول نتائج الأبحاث إن الفردَ منا إذا تعلَّم أن يربطَ بين إشارةٍ محايدة وبين شيءٍ بغيض — كمثل صوت طنينٍ مرتفع — ففي مقدورنا أن نلحظَ المخَّ وهو يعمل في تخزين البيانات التي تُنذر بالخطر، كما يُمكِننا أن نعالِجَ المعلومات عن التهديد والخوف، حتى ولو لم يكن الشخصُ المفحوصُ يركِّز عليها، بل ولربما حتى وهو لا يتذكَّر بوعيٍ أنه يرى إشارة الخطر.

أن تتذكر

الذاكرةُ تُضفي على حياتنا معنى الاستمرارية، تمكِّننا من أن نتعلم من خبراتنا، وتُبقي الأوقاتَ السعيدةَ التي قضَيناها فلا تضيع، لكنها قد تسبِّب لنا الألمَ عندما تُعيد إلينا ذكرياتِ الأمسِ البغيضة، الذكريات البغيضة تثبُت؛ لأن التطورَ قد وَجَد بها وسيلةً تجعلنا نتذكَّر الأشياءَ الهامةَ لبقائنا.

عالَمُنا عالَمٌ خَطِر، نُواجِه فيه الخطَر في كل مكان. هذا الكلبُ قد يعقِرُك. هذه العربة قد تدهسُك. هذا الشخصُ قد يشتمُك. والمخ قد تكيَّف ليُحِسَّ بهذه التهديدات، ويزوِّدَنا بالسلوك الملائم للدفاع عن أنفسنا، ويسجِّلَ الظروف التي تُحيط بالخبرة، للذكريات عن الوقائع المخيفة وظيفةٌ بيولوجية حيوية، إنها تسمح لنا بأن نتوقَّع المخاطر في المستقبل.

رجلُ الغابة إذا صادف وحشًا في طريقه إلى البئر، فسيتجنَّب هذا الطريق في المرات القادمة، ويحاول أن يجد لنفسه طريقًا بديلًا آخر. الداراتُ في الأميجدالة وغيرها من مناطق المخ تتخصَّص في تثبيتِ علاقاتٍ كهذه. الأدرينالين الذي يُفرَز ويجعل رجلَ الغابة يهربُ من الوحش، يعمل في المخ ليُقوِّي الربط بين الطريق وهذا الحيوان.

لكنَّ حياة رجل الغابة ستفسَد إذا استيقظَ يصرُخ ليلةً بعد ليلة. وهو يتذكَّر الوحش، بل وربما فقَد من جرَّاء ذلك قُدرتَه على الصيد! الخوف يقتُل العقل. لا شيء يقتل الفكر مثل الخوف (ولا شيء يقوِّي الخوفَ مثل الجهل!).

عِلة الجزَع

لمَّا كان مَن يُصابون بعِلل الجزع anxiety لا يمثِّلون إلا نسبةً محدودة فقط ممن يتعرضون لحوادثَ مفزعة تثير الخوف، فإن هذا قد يُشير إلى وجود شيءٍ من عطَبٍ وراثي لديهم يُسهِم في هذه العِلل المؤلمة القاسية.
تمكَّن العلماء من إنتاج فئرانٍ تجريبية اقْتُضبَ منها جينٌ بذاته يعمل في نقلِ رسائلَ كيماويةٍ معيَّنة في المخ. يؤدي اقتضابُ هذا الجين من جينوم الفئران إلى انخفاضٍ واضح في عدد مستقبِلات ناقلٍ عصبيٍّ اسمه جابا GABA. يثبِّط هذا الناقلُ العصبيُّ نشاطَ الأميجدالة وقرن آمون. كانت هذه الفئران عندما تتعرض لمُنبِّهٍ يُخيف تُبدي جزعًا أكبر بكثيرٍ مما تُبديه الفئران ذات الجينوم الكامل. الفئرانُ الفقيرةُ في هذا المستقبل تتعلَّم سريعًا أن تستجيبَ بالخوفِ لِتَكرُّر نغمةٍ أو صوتٍ يسبقُ (بثانيةٍ واحدة) صدمةً كهربائية في القَدَم. الفئرانُ المنقوصة الجين تشعر بالذعر — كالبشر الذين يعانون من علَّة الجزع — حتى من الوقائع التي ترتبطُ ارتباطًا ضعيفًا بالتهديد الحقيقي، كما أن خوفَها يتضاءل كثيرًا إذا حُقِنَت بعقاقير كالفاليوم الذي ينشِّط مستقبِلاتِ جابا.
الخوف يُجنِّب الناسَ الأذى، ويقدَح زناد استجابةٍ دفاعية صحية ضرورية للبقاء، لكنَّ خروجَه عن حدود المعقول يعرِّض الفرد لعِلل الجزَع، فيتدخَّل في سَيْر حياتهم الطبيعية. قد يدخُل الفردُ العليل السوبر ماركت فيُصاب بنوبة ذُعرٍ لا مبرِّر لها؛ فليس في السوق شيء يُهدِّده. فحص جون هيتيما J. M. Hettema وزملاؤه أثر الجيناتِ على الخوف في ١٧٣ زوجًا من التوائم، نصفُهم تقريبًا توائمُ متطابقة identical twins والنصفُ توائمُ أشقة fraternal twins، والتوائم تلائم كثيرًا دراسةَ صفاتٍ كالخوف؛ لأن المتطابقَ منها يحمل نفسَ التركيب الوراثي، بينما يشترك الأشقةُ منها في نحو نصفِ الجينات فقط، ومن الممكن بذلك أن نفصلَ أثر الجينات عن أثر البيئة. فحَص الباحثون كيف يستجيب التوائم «للتكيُّف للخوف»: كان التوائم يشاهدون صور شيءٍ مخيف — الثعابين مثلًا أو العناكب — كما يُشاهدون صورًا محايدة — كالدوائر أو المثلَّثات — لا يُفترَض أنها تُثير أيَّ خوف، ثم إنهم كانوا يتلقَّون صدمةً كهربائية خفيفة عند رؤية بعض الصور — لا كلِّها. بهذه الطريقة كُيِّف التوائم كي يشعروا بالخوف استجابةً لبعض الصور؛ لأنهم ببساطة كانوا قد صُدِموا كهربائيًّا عند رؤيتها قَبْلًا. وجد الباحثون أن استجاباتِ فَرْدَي التوائم المتطابقة تتشابه بأكثر مما تتشابه استجاباتُ التوائم الأشقة، مما يؤكِّد دَور الوراثة في عاطفة الخوف.

داراتُ تعلُّم الخوف

وفي ١٣ ديسمبر ٢٠٠٢م أُعلن عن اكتشاف أوَّل مكوِّنٍ وراثي لمسارٍ بيوكيماوي في المخ، مسارٍ يتحكَّم في الدمغِ الثابتِ لخبرة الخوف في الذاكرة. يشفِّر هذا الجينُ لبروتينٍ يثبِّط فِعلَ دَارَاتِ تَعَلُّم الخوف في المخ، وتفهُّم كيف يلطِّف هذا البروتين من الخوف، وقد يقودُ إلى تصميمِ عقاقيرَ جديدةٍ لعلاج الاكتئاب والذعر، وغير ذلك من عِلل الجزَع والقلَق.

ظهر البحث بمجلة سيل Cell (الخلية). كانت الدراسات السابقة تقول إن هناك سبيلًا إشاريًّا يتحكَّم في اكتسابِ الخوف الذي يتم بمنطقة الأميجدالة بالمخ. كشف العلماءُ عن جينَين محتملَين لتعلُّم الخوف، وركَّزوا جهدهم على واحدٍ منهما هو الجين Grp الذي يشفِّر لبروتينٍ قصير يسمَّى ببتيد إفراز الجاسترين GRP؛ فقد لاحظوا أن لهذا البروتين توزيعًا غير عادي في المخ، وهو معروفٌ بأنه يعمل كناقلٍ عصبي، واتضح أن عملَ الجين Grp مكثفًا في منطقة النواة الجانبية lateral nucleus (وهذه منطقة من الأميجدالة) وغيرها من مناطق المخ التي تغذِّي الأميجدالة بالمُدْخَلات السمعية. كان اكتشافُ نشاط هذا الجين في النواة الجانبية للأميجدالة وفي عددٍ من مناطقَ أخرى تَصُب فيها، اكتشافًا مثيرًا لأنه يقترح أن الأمر هو أمْرُ دَارَةٍ كاملة. ثم ظهر أن النيورونات الاستثارية الرئيسية هي التي تُعَبِّرُ عن بروتين GRP، مُستقبِله (GRPR) هو ما تعبِّر عنه النيوروناتُ البينية الكابحة، حدَّد العلماءُ بعد ذلك خلايا الأميجدالة التي تُفرِز مُستقبِلاتِ البروتين في مُخ الفأر، واتضح أن عملَ البروتين في الأميجدالة هو إثارةُ جمهرَة من النيورونات البينية الكابحة في النواة الجانبية التي توفِّر تغذيةً مرتدة وتثبِّط النيورونات الرئيسية.
حاول الباحثون بعد ذلك أن يعرفوا ما إذا كان تعطيل نشاط البروتين GRP سيؤثِّر في القدرة على تعلُّم الخوف، فلجَئوا إلى سُلالة فئرانٍ منقوصة الجين (ينقصها الجين الذي يُشفِّر لمُستقبِل GRP في المخ). عَلَّموا هذه الفئران مع سُلالة فئران أخرى عادية أن تربطَ نغمةً محايدة، بصدمةٍ كهربائية تتلوها؛ تعلَّمَت الفئرانُ بالتدريب أن هذه النغمةَ المحايدة تُنذر بالخطر. ثم قارَنوا بين درجة التعبير عن الخوف في السلالتَين عندما تستمعان إلى نفس النغمة وحدها، وذلك بقياسِ طول فترة التجمد من الذعر عند الخوف. اتضح من النتائج أن تعزيزًا قويًّا للخوف المكتسَب قد بان في الفئران المنقوصة الجين. ثم إن أثرًا أَخرَ غير هذا لم يظهر؛ لم تتزايد لديها الحساسية للألم، ولم تحدث زيادة في الخوف الغريزي. العيب الذي تحمله السلالةُ المنقوصة الجين يختصُّ على ما يبدو بالخوف المكتسَب وحده. الخوف الغريزي يختلف عن الخوف المكتسَب.
ولمَّا كان البروتين GRP يعمل في تقليل الخوف، فقد يكون من الممكن — من ناحية المبدأ — أن نطوِّر عقاقيرَ تنشِّط هذا الببتيد؛ مَدخلٌ جديد تمامًا لعلاج عِلل الجزَع.

كيف يُمحى الخوف من المخ؟

إذا ما رُصد في مخك خوفٌ أو سُجِّل، فهل من وسيلة للتخلص منه؟ اتضح أن تكثيفَ تعريضِ الفرد للمنبِّه المسبِّب للخوف — أي تعريضه لهذا المُنبِّه على دفعاتٍ مركَّزة متسارعة، لا بشكلٍ تدريجي على مرات تفصل بينها فتراتٌ زمنية طويلة — يعطي نتيجةً أفضلَ كثيرًا في محوِ أثَر المُنبِّه. فعلى سبيل المثال، إذا كنا نُعالِج الخوفَ من الأماكن المرتفعة، فمن الأفضل أن يُؤخَذ «المريض» مباشرةً إلى قمة مبنًى مرتفعٍ للغاية، ولمرَّاتٍ متتالية سريعة، لا أن نأخذَه إلى قممِ مبانٍ ذاتِ ارتفاعاتٍ متزايدة، في زياراتٍ تَفْصل بينها فتراتٌ طويلة من الزمن. ثمَّة فتاةٌ كانت تخاف خوفًا مَرضيًّا من أن تُصابَ بالسرطان بالعَدْوى من والدتها، وكان الحل هو أن أُقنِعَت بأن ترتديَ وشاحَ أمها طول الوقت، فاختفى الخوفُ مع الزمن. الكلبُ يعَضُّ الإنسان، والإنسان يخافُ الكلبَ طول الوقت، لكنك إذا وضعتَ رجلًا وكلبًا سويًّا في حُجرة لفترةٍ طويلة، فإنه سيتخلَّص من خوفه!

أثبتَت التجاربُ أن ربطَ الخوفِ بالمُنبِّه لا يُمحَى من الذاكرة، إنما تتولَّد — عند محاولة التخلص من الخوف — ذاكرةٌ جديدة أخرى تجعل الفرد لا يخافُ من هذا المنبِّه. الأميجدالة تلعب دورًا هامًّا في اكتساب الخوف وفي محوه. اكتُشف في أميجدالة الجرذان بروتينُ مُستقبِلات NMDA التي تُسرِع من عملية نَزْع الخوف. هذا البروتينُ ليس مطلوبًا فقط لتعلُّم الخوف واكتسابه، إنما هو ضروريٌّ أيضًا لتتعلَّم ألَّا تخاف. إذا عُوِّق عملُ هذا البروتين في الجرذان أصبح محوُ الخوف أصعبَ كثيرًا. أما إذا عُزِّز — كما يحدث عند استعمال عقارٍ اسمه D-Cycloserine كان يُستعمَل في علاجِ مرضِ التدرُّن الرئوي (السُّل) — سهُلَت عملية إزالة الخوف. قد يفتح هذا البروتينُ مجالًا ومنهجًا جديدًا آخر في علاجِ أمراض الخوف.

الخوف من الوحدة

مرةً أخرى تعود إليَّ صورةُ تلك الليلة الحزينة مع صديقي في لندن. كان «يخاف» أن تضيعَ منه حبيبتُه. أن يُصبحَ وحيدًا. أن يحيا في الصمتِ ويغوص. بغيره يصبح الفردُ منا إنسانًا. نحن الآخرون. يُبَلوِرُ الإنسانُ مِنَّا الآخرين في شخصٍ ينتقيه أميجداليًّا. ثم يؤكِّد ذلك قَرْنَامُونِيًّا! أكاد أقول: يختاره في البدء «فَنِّيًّا»، ثم يؤكِّد ذلك الاختيار «علميًّا.» يُصبِح المحبوبُ خُلاصةَ الناس. يجمع الناسَ في واحد. فإذا «ضاع»، ضاع معه الخَلْق. ومع الخلْقِ يضيعُ الفرد ذاته. يصبح وحيدًا. يعتريه الخوف. الخوف الصامت. الخوف من الوحدة في عالَمٍ مُعادٍ خَطِر. تصمتُ فيه الطيور في الشجر، ويختفي القمر! مثلما يخاف الإنسان من العناكب والثعابين، من الأماكن المُغلَقة، من الأماكن المرتفعة، من السرطان، من الرَّعْد، من الموت، فإنه يخاف قبل هذا وذاك من الوحدة. يخاف أن يفقدَ البشر. يخاف أن يفقدَ مَن تَجَسَّدَ فيه معنى البشر. الحياةُ اثنان. مِنْ كل كروموزوم في جينومنا اثنان. في كُلِّ حيوانٍ يُوجَد جنسان، عينان، أذنان، يدان، رِجلان. الأميجدالة ذاتُها لوزتان (كم هي عبقريةٌ لغتنا العربية!). كيف لا يخافُ صديقي أن تضيع؟ الذكرياتُ القديمة لا تضيع. تبقَى في المخ لا تضيع. ومحاولةُ مَحوِها إنما تولِّد ذاكرةً أخرى جديدة. أتُراه كان يخشى الذاكرة الأخرى؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥