عِلم اسمه الضحك

أمن الممكن حقًّا أن تتخيلَ عالمنا هذا وقَدْ خَلا من الضحكة والبسمة؟ أن تتخيل عالمًا لا تَشْهَدُ فيه على وجوه الناس سوى علاماتِ الحزنِ والقلقِ والخوف؟ عالمًا لا تسمع فيه غيرَ آهاتٍ تتردَّد؟ أيمكنك أن تعيشَ في عالمٍ كهذا؟ إننا في داخلنا الأعمق نُحب الضحكة والبسمة. الضحك جميل. ونحن نُحب مَن يجعلنا نضحك، كلنا يسعَى إلى عالمٍ كوجه حبيبة الشاعر أبي القاسم الشابي:

كالسماءِ الضحوكِ كالليلةِ الْقَمْـ
ـرَاء، كَالْوَرْدِ، كابتسامِ الوليدِ

نُولَد جميعًا ولدينا القدرةُ على الضحك. إنه لغةٌ عالمية لا نحتاج أن نتعلَّمها. كل الناس تضحك. كُلُّ الشعوب. الضحكُ جزءٌ من السلوك البشري في كل مكان بالعالم. يضحك الفردُ منا في المتوسط ١٧ مرةً كل يوم. إننا نضحك أكثر مما نأكل أو نغنِّي أو نُحب. كلنا يفهم لغةَ الضحكِ دون تدريب. الضحك هو أقصر المسافات بين اثنَين. إذا رأيتَ شخصًا يضحك، شاركتَهُ الضحك، حتى دون أن تعرفَ السبب. تَرُدُّ عليه بضحكة. لا يهم من أيِّ جنسيةٍ هُوَ، ولا أيَّ لغةٍ يتحدث. الضحك كالبكاء — تُمارِسه حتى وأنت رضيعٌ عُمرك ثلاثة أشهر ونصف أو أربعة؛ إذ تبسم لأمك عندما تراها، وتحس بالحنان يغمرك. الطفل يضحك قبل أن يتعلم الكلام. نشأ الضحك بلا شك قَبْلَ الكلام. وبسمةُ الطفل لأُمه لا تأتي فقط محاكاةً لبسمتها. الرضيعُ الذي يُولد أعمَى أو أصمَّ أو أبكمَ يمكنه أن يبتسم. البسمةُ جزءٌ من العتاد البشري يُوَرَّثُ. الضحك سلوكٌ مُبرمَج، بَرمَجَتْهُ جيناتُنا.

الحياة في جوهرها المكنون ضحكة. هي نصيبُنا من الحياة. تَكْمُنُ هناك في رَبْتةٍ على كتفِ غريب، في وجه طفلةٍ تلعب، في عينَي طفلٍ يُحِبُّك، في انبلاج فَجْر، في صوت يمامة، في موسيقى تسبح، في رائحة ياسمينة، في أصداء عطرِ حبيبتك تَنْشَقُه قبل أن تراها. في زَهْرَةٍ تتمايل على غُصن، في عنقودِ عِنَبٍ يَتَدَلَّى من تَعْرِيشة، في حقلِ قمحٍ تَرْقُصُ سَنَابِلُه، في نَسيمٍ رقيقٍ يُدَاعِبُ مَوْجَةً، في قَوْسِ قُزَح، في مَطَرٍ ينهمر ويَنْشُرُ الخَيْر، بل وحتى في تَأَوُّهِ عاشق.

لماذا نضحك؟

يقول الفيلسوفُ الأمريكي جون موريل J. Morreall إن الضحكة البشرية الأولى ربما تكون قد صَدَرَتْ تعبيرًا عن الارتياح لزوالِ خَطَرٍ ما. يسمعُ الآخرون الضحكة فيُحسُّون بالأمان ويطمئنون، ويضحكون. يستطيعون بعد ذلك أن يسترخُوا. عندما يضحك الفردُ تسترخي عضلاتُ جِسْمِه كلها بالفعل (والحق أن الضحك إذا تَمَكَّن منكَ فَقَدْ تُضْطَرُّ إلى أن تقبضَ بيدك على شيءٍ ما حتى لا تسقط على الأرض!). إن الاسترخاءَ يُبطئ من استجابة «اضرب أو اهرب». بالضحك ستثق فيمَن حولك. إنه إشارةُ ثقة في رفاقك، وإعلانٌ عن زوال تهديد.

يرى البعضُ الآخر أن ضحك الإنسان قد تطوَّر كوسيلةٍ لتشكيلِ العلاقات بين الناس وتوطيدها. كانت البسمةُ أولًا، ننقلُ بها إلى الآخر الرغبةَ في التواصل. ومع الزمن أصبح من السهلِ تزييفُ البسمات، وتطلَّب الأمر إشارةً أكثر تعقيدًا. فكان الضحك. الضحكُ يتطلب من الجهاز العصبي أكْثَرَ، ويحتاج إلى طاقةٍ أكثر، وبذا سيصعُب تَزْيِيفُه. حَلَّ الضحكُ إذن محلَّ الابتسام كدلالةٍ أمينةٍ على الرغبة في الانخراطِ في صفوفِ الجماعة.

لا بد أن الضحك قد نشأ لتغييرِ سلوكِ الآخرين، شأنُه في ذلك شأنُ غيره من ضروبِ السلوكِ البشري؛ ففي وقت الخطر، قد يخدم الضحكُ كإيماءة للتهدئة والاسترخاء، كوسيلةٍ لتنحية الغضب بعيدًا. إذا اشترك معَكَ في الضحك الشخصُ الذي يهدِّدك، تلاشى خَطَرُ المواجهة. إذا تغيَّر الحديثُ من الجاد إلى غير الجاد، اختفَى التهديد.

لكنَّ هناك فريقًا آخر من العلماء لا يرى في الضحك وسيلةً لبناء العلاقات بين الناس، وإنما يرَون فيه دليلًا على فعلٍ عدوانيٍّ في المقام الأول. الضحك يعني لديهم أنك قد كسبتَ جولةً. ضَحِكُكَ يعني أنك قد انتصرت — كما يقول تشارلس جرونر C. Gruner. هو يرى أن الضحك في الأصل صيحةُ النَّصْرِ والسخرية يُطلِقُها المُحارِبُ إِذا هَزَم عَدُوَّه. الوليد في رأيه يبتسم لا لِيُرْضيَ والدتَه، وإنما لأنه قد حصَل أو سيحصُل منها على ما يريده!

إذا ضحك رئيس العمل، ضحك جميع مرءوسيه. دراساتٌ عديدةٌ تؤكد أن ذوي السلطة — رؤساء العمل أو كبار رجال القبائل — يستخدمون الفكاهةَ أكثر من مرءوسيهم، ليُصبِح التَّحَكُمُ في ضحك الجماعة طريقًا لممارسة السلطة. الناسُ يضحكون أكثر إذا جاءت النكتةُ من رئيسهم، فإذا ما تزحلَق رئيسُهم على قشرة موزٍ وسَقَط ثم وقَف سريعًا، وجدوا في ذلك أمرًا مضحكًا للغاية. للغاية. هم بشكلٍ ما قد «انتصروا»!

ما الضحك؟

كنتَ تجلس مع صديقةٍ لك، وفجأة وجَدتَ أن وجهَها قد بدأ يتشنَّج. عضلاتُ الوجه، والشَّفَتان على وجه الخصوص، تتمدَّد. في عينَيها ظهرَت تعبيراتٌ غريبة. أجهزتُها الصوتية تُصدر تتابعًا من أصوات زفيرٍ متواترة، لكنَّ أحدًا ممن حولكما لم يُعِر الأمر اهتمامًا، رغم أنها قد أصبحَت على حافة الاختناق، وتحاول جاهدةً أن تقتنص شهيقًا مفاجئًا. كتفاها تهتزَّان بعنف وجسدها كله يلتوي وَيَرْتَجُّ. ماذا ستفعل؟ هل تستدعي لها الطبيب؟ لا لزوم لذلك. لقد حدث لك أنتَ هذا كثيرًا. ربما كان السببُ في كل ما حدث لها جملةً قُلْتَها أنت. إن ما حدث يُسمَّى «الضحك»!

قد يبدو هذا الوصفُ وكأنه وصفٌ لمرضٍ عصبي، ولكنَّ التحليلَ الفسيولوجي «لأعراض» الضحك يكشفُ عن تشابهٍ يَلْفِتُ النظر، بَيْنَهُ وبين النوبات العصبية، بل حتى بينه وبين بعضِ صُورِ الصَّرْع.

الضحك يُعدي

في عام ١٩٦٢م حدثَت في تنجانيقا واقعةٌ غريبةٌ للغاية. بدأَت الحكاية في قرية كاشاشا الصغيرة المعزولة على الشاطئ الغربي لبحيرة فكتوريا، كنوبة ضحكٍ اجتاحت مجموعةً صغيرةً من البنات بمدرسةٍ داخلية، أعمارهن تتراوح ما بين ١٢ و١٨ سنة، ثم انتشَرَت بسرعة في صورة وباء! لا نعرف التفاصيل، لكنَّ الضحك انتقل من فردٍ إلى فرد ليُصيبَ في نهاية المطاف بعضَ المجتمعات المجاورة. عَمَّ الوباء، حتى لقد تطلَّب الأمرُ إغلاقَ المدارس لمدة ستة أشهر.

كانت طبيعة الوباء هي ظهور نوباتٍ عَرَضية من الضحك تجتاحُ الجماعات بالمنطقة على فتراتٍ غير منتظمة. كانت الدولةُ قد استقلَّت حديثًا عن إنجلترا، وشعرَت الطالبات والناس جميعًا بضغوطٍ نفسية خوفًا من المستقبل. يرجِّح بعضُ العلماء أن هذا هو السبب في انتشار «الوباء».

هذا الوباء يُعتبَر مثالًا دراماتيكيًّا للطبيعة المُعْدية للضحك — وهذا أمرٌ نعرفه جميعًا في حياتنا اليومية. إننا نجد النكتةَ أظرفَ إذا كان مَن يُلقيها يضحك. ولقد وجَد الباحثون بالفعل، كما سنرى، أن مَن يُلقي النكتة يضحك بالفعل أكثرَ ممَّا يضحكُ مستمعوه.

الضحك يُعْدي. نعم إنه يقع تحت أقلِّ تَحَكُّمٍ واعٍ، هو تلقائي، ولا يخضع تقريبًا لرقابة. الضحك المُعْدي صفةٌ مؤكدةٌ يتميَّز بها جنسُ الإنسانِ، هذا الحيوانِ الثدييِّ الاجتماعي. إنه ينفضُ عنه رداء الثقافة الخادع، ويتحدَّى النظرية التي تقول إننا نتحكَّم تمامًا في سلوكنا.

وحقيقةُ أن الضحك يُعْدي، تُثير احتمالَ أن يكون لنا نحن البشر مِكْشَافٌ سَمْعِيٌّ للضحك، دَارَةٌ عصبيةٌ في المخ تستجيب فقط للضحك (التثاؤب المُعْدي يتضمن عمليةً مثيلةً في المجال البصري). إذا ما قُدِحَ زنادُ هذا المِكْشاف نَشطَ مُوَلِّدُ الضحك؛ دارةٌ عصبية تتسبَّب في أن ننخرط في الضحك.

الضحك جزء من طبيعتنا البشرية

الواضحُ أنَّ الضحك جزءٌ من حياتنا نشطٌ فَعَّال. هو جزءٌ من السلوك الوطيد لجنس البشر. هو بعضٌ من «الطبيعة البشرية»، هو من أكثر الأشياء شيوعًا في حياتنا. «إذا فقَدنا القدرةَ على الضحك، فقدنا كلَّ شيء.» أدرك أهميتَه من قديم الزمان علماءُ وفلاسفةٌ؛ أرسطو، كانط، داروين، بيرجسون، فرويد، لكنَّا لا نزال نجهلُ عنه الكثيرَ على الرغم من تفهُّمنا لأهميته، ومن تأكُّدنا من أنه مفيدٌ لنا. «هناك ثلاثةُ أشياءَ حقيقية؛ الله، وحماقة البشر، والضحك. الأول والثاني أبعدُ من إدراكنا. علينا إذن أن نفعل ما نستطيعه مع الثالث.» كذا قال جون كيندي. ما هي الخصائص الفيزيقية للضحك؟ ما هي القواعد التي تحكُم التعبيرَ عنه؟ هل هناك نظيرٌ له لدى الأنواع الحيوانية الأخرى؟ علماءُ الإيثولوجيا ethology (علم سلوك الحيوان) يعتبرون ضروبَ السلوك الحيواني صفاتٍ تكييفيةً. سلوكُ «الضحك» في الحيوانات الأخرى له عندهم أساسٌ وراثيٌّ وفسيولوجي، فهل الأمر كذلك لدينا نحن البشر؟ لكن، هل تضحك الحيوانات؟

هل تضحك الحيوانات؟

لا يتفرَّد الإنسانُ بالضحك. نحن لا نحتكر الضحك. الضحكُ شائعٌ بين معظم الحيوانات. حتى جُرَذ المعمل يضحك، وليس لديه الكثيرُ مما يُضْحك! لاحَظَ أحدُ العلماء أن الجرذان تبدو خائفةً قلقةً إذا كانت منفردةً في مكانٍ مفتوح، فإذا عادت إلى القفص مع غيرها من الجرذان بدت بالفعل سعيدةً، بَدَتْ وهي تَلْعَبُ مع أقرانها وكأنها تَضْحَكُ! لاحَظ العالِم أن صغارَ الجُرذان تُصدِرُ أثناء اللعب تعبيراتٍ صوتيةً قصيرةً من طبقةِ صوتٍ أعلى من أن نسمعَها نحن بآذاننا. في تجربةٍ أُجريَت عام ٢٠٠٠م، اتضح أنها تستجيبُ للدَّغدَغة (للزَّغزَغةِ) (في البطن والضلوع) بِعَضَّةِ مزاح أو بسَقْسَقَةٍ فوق سَمْعنا. وكانت الأفرادُ التي تُصدِر أعلى سَقْسَقَةٍ هي الأكثر حرصًا على أن تُدَغْدَغ. أما النتيجةُ الأكثرُ إثارةً فكانت أنَّ تزاوُجَ الأفراد التي تُحب الدَّغدَغة قد أنتج بعدَ أربعةِ أجيالٍ من التربية نسلًا يُسَقْسِق ضعفَ عدد مراتِ سقسقةِ أجداده!

فإذا نظرنا إلى الرئيسات primates الأقرب إلينا فسنتأكَّد أن الضحك ليس أمرًا يخصُّنا وحدنا. وليس في هذا ما يُسْتَغْرَبُ. أَلَسْنَا نوعًا اجتماعيًّا كغيرنا من الرئيسات الاجتماعية؟ لماذا يكون الضحكُ حكرًا علينا؟ داروين (سنة ١٨٧٢م) أشار في كتابه «التعبير عن العواطف في الإنسان والحيوان» إلى أن الكثيرَ من أنواعِ القردة يُصدِر عند السرورِ أصواتًا متكررةً تُشبِه في وضوحٍ «ضَحِكَنا». والواقع أن القِرَدة العليا كالشمبانزي تقوم بما يُشبه ضَحِكَنا إذ تُصدِرُ الصوت اللاهث «ها آه» — صوتًا يشبه صوتَ منشارٍ ينشُر خشبًا — وهي تفتحُ الفمَ واسعًا، وتكشفُ عن أسنانها، وتسحب زوايا الشفاه، عندما تلعب مع بعضها أو مع إنسان، أو عندما تُدَغْدَغ، لكن الشمبانزي لا يستطيع أكثر من صوتٍ واحدٍ في كل نفس، وهو صوتٌ يختلفُ عن «ها – ها» في ضحكنا نحن.

بل ولقد نجدُ الضحك حتى بين الثدييات الأدنى من الرئيسات. الكلابُ عندما تلعب تُصدِر أصواتًا غريبةً عند الزفير تختلف عن الأصواتِ التي تُصدِرُها عندما تخافُ أو عندما تُهاجمُك.

على أن الواجب أن نتوخَّى الحرصَ عند تفسيرنا لِلُهات الحيوانات لمَّا تلعب. من الجميل أن نتصوَّر أنَّ هذا يُناظِر الضحك، لكنَّ الأمرَ قد يكون شيئًا آخرَ له وظيفةٌ أخرى.

الدغدغة

يحدُث الضحك عندما يلتقي اثنان أو أكثر في لقاءٍ غيرِ رسمي، أو عندما يُدَغدِغ (يُزَغزِغ) آخر قدَمَك. أنتَ لا تستطيع أن تُدَغْدِغَ نفسك وتضحك، لكنك تضحكُ إذا دَغْدَغَكَ آخَرُ. جَرِّب! هذه حقيقةٌ دوَّخَت علماءَ الأعصابِ عقودًا طويلة. إن دراسة الدغدغة ستوضِّح الطريقة التي يتمكَّن بها المخ من أن يُصفِّي الإحساساتِ الكثيرةَ التي تلتقطُها حواسُّنا. شُحِذَ مخُّنا بطريقةٍ تجعلنا نتجاهل التافهَ والمألوفَ لنلتفتَ إلى الهام. إذا كنتَ تمشي حافيًا فستتجاهلُ ما تتوقَّعه من ضَغْطٍ على باطن قدمك. أنت تتوقَّعُه؛ وَمِنْ ثَمَّ لا تنتبه إليه وتتجاهَلُه، حتى أنْ تَعْثُرَ إصبعُ قَدَمك في حجر، فتنتبه. يصلُ المخَّ من الأحاسيس والأصوات والشعور الكثيرُ والكثيرُ مما لا يستطيع استيعابَه كاملًا، وسيكون عليه أن يَفْرِزَ مَا يُهِم وأنْ يتغاضَى عن المألوف والمتوقَّع. يسمعُ عَصْفَ الريحِ يدوي حتى يألَفَهُ فينساه، ولكنه يَنْتَبِهُ إذا جاء مع صوت الريح بكاءُ طفلٍ يطلب العون. يمشي في الغابة والجوُّ حوله يعبق بالروائح، لكنه يلتقط ويُمَيِّزُ رائحة ثمرة نضجَت فوق غصنِ شجرة.

الدغدَغة إذا أُجريَت في الموقع الصحيح من الجسم تختزلك إلى «هُلام». مُخُّك يتوقع ذلك إذا حَرَّكْتَ يَدَك وأرسلتَها تُداعب قدمَك مثلًا. إذا دَغْدَغَ الشخصُ نفسه فإن جهازًا للإحساس موجودًا بالمخيخ في مؤخرة الرأس يُعطِّل البهجة والضحك (المُخيخ هو الجزء من المخ المسئول عن مراقبة الحركة)؛ إذ يرسل إشارةً تثبِّط المنطقة من المخ التي تُحس بالدغدغة (منطقة اسمها القشرة الجسدية الحسية).

الضحكة ليست كلمة تُقال

عكَف روبرت بروفاين R. R. Provine وثلاثةٌ من طلَبته على دراسة السلوك اليومي للبشر إذ يضحكون. تجوَّلوا في أماكنِ تجمُّعِ الناس وأخذوا يتنصَّتون عليهم وهم يضحكون؛ في المتاجر، في فصول الدراسة، في الشوارع والطرقات، في المكاتب، في الحفلات. جمَعوا مادةً وفيرةً من البيانات لدراسة الضحك كتعبيرٍ اجتماعي؛ ١٢٠٠ حالة ضحك وقعَت طبيعيًّا. إذا سمعوا ضحكًا رصَدوا جنسَ المتحدث (مَن يتحدث قبل بداية الضحك)، ورصدوا مَن يستمع، وما إذا كان المتحدث يضحك أو مَن يستمع إليه، وماذا قال المتحدثُ قبل الضحك.

كان الهدفُ الأول هو وَصفَ التركيب الصوتي للضحك في البشر. اتضح أن هذا أمرٌ بالغ الصعوبة؛ إذ يختفي الضحك ما إن تحاولُ ملاحَظَتَهُ، لا سيما في المعمل. من بين الطرق التي جُرِّبَتْ: أن يُطلب من الناس أن يضحكوا. هذا الطلبُ ذاته كثيرًا ما يستجيبُ له الناسُ بالانفجار في الضحك، لكنَّ نحو النصفِ منهم كانوا يقولون إنهم لا يستطيعون أن يضحكوا «بالأمر». الواقع أن تحكُّمَنا المُتعمَّد في الضحك يقلُّ بالفعل كثيرًا عن تَحَكُّمِنَا في الكلام. يمكنك بسهولة أن تقول «ها … ها … ها»، لكن يصعُب أن تُطلِقَ الضحكة الحقيقية بالأمر. إنَّ الضحكةَ ليست «كلمةً» تُقال. إن هذا يقترحُ أننا لا نستطيع عامدين أن ننشِّط آليات الضحك بالمخ. إن المزاح، والوجودَ في وسط لمَّة، والنغمة العاطفية، تَسِمُ الوضعَ الاجتماعيَّ لمعظم الضحكات.

التشريح الصوتي للضحك

أُخذَت تسجيلاتُ الضحك إلى معمل الصوت لتُحلَّل بالمطياف الرسَّام spectrograph وهذه آلةٌ تُترجِم الصوتَ إلى رسومٍ تكشفُ ما يحدث من تغيُّر في تردُّدِ الصوت وحِدَّته.

أوضَح طيفُ الصوت البصمةَ المُميِّزة للضحك. الضحك سلسلةٌ من نغماتٍ قصيرة، طولُ كلٍّ منها نحو ٧٥ ملِّي ثانية، تتكرَّر على فتراتٍ مُنتظِمة يفصل بينها ٢١٠ ملِّي ثوانٍ. تَستَخدم نغماتُ أية ضحكة — نمطيًّا — أصواتَ حروفٍ ليِّنة محدَّدةٍ متشابهة؛ فقد تكون الضحكة (ها – ها – ها) أو (هُو – هُو – هُو) أو (هئ – هئ – هئ)، ولكنها أبدًا لا تكون (ها – هو – ها – هو). هناك صعوباتٌ حقيقية في إصدار مثل هذه الضحكة. حَاوِلْ أن تُجَرِّبها وستُحس بأنها غيرُ طبيعية، فإذا مُزِجَت النغماتُ، فسيكونُ المزجُ في النغمة الأولى أو الأخيرة — يمكنك مثلًا أن تضحك (تشا – ها – ها)، أو (ها – ها – هو).

ثمَّة تركيبٌ إيقاعيٌّ (هارموني) واضحٌ للانفجار ضحكًا. يتألفُ كُلُّ إيقاعٍ من تَكَرُّرٍ لِتَرَدُّدٍ رئيسيٍّ منخفض. يَظْهَرُ التركيبُ الهارمونيُّ على مطياف الصوت في صورة حُزمٍ متتابعة من خطوطٍ أفقيةٍ قصيرة، تكونُ منها الحزمةُ الأدنى هي التردُّد الأساسي، فإذا عَرَفْنَا أَنَّ للنساء طبقةَ صوتٍ عاليةً، فلن نستغرب أن يكون لضحكِ النساء تردُّدٌ أساسيٌّ أعلى من ضحك الرجال (٥٠٢ هيرتز مقابل ٢٧٦ هيرتز). وأيًّا كان نوع الضحكة — مسترسلةً مرتفعةً تهزُّ البطن، أو محبوسةً عالية الطبقة — فإن كلَّ ضَحكِ البشرِ تنويعٌ على هذه الصورة الأساسية. هذا التركيبُ الإيقاعيُّ هو الذي يجعلُنا نُدرِك أن ما نَسْمَعُه ضحكٌ رغم الفروق فيه بين الأفراد؛ فلكلِّ فردٍ منا بصمةٌ لضَحكِه تُمَيِّزُه!

إن محدوديةَ جهازِنا الصوتي هي السَّبَبُ في التركيب المُقولَب للضَّحِكة. من الصعب أن نَضْحَكَ في نغماتٍ طويلة جدًّا، مثل (هاااااه – هاااااه – هاااااه) أو في نغماتٍ قصيرةٍ جدًّا (أقل من ٧٥ ملِّي ثانية). وبنفس الشكل لن نجدَ نغماتٍ طبيعيةً تَفصِلها فتراتٌ بَيْنِيَّةٌ أطولُ كثيرًا من الطبيعي. حاوِل أنْ تَضْحَكَ ضحكةً تتخلَّلها بين النغمات فتراتٌ زمنيةٌ طويلة (ها ----- ها ----- ها) وستجدُ صعوبةً بالغة. للضَّحِك طرقٌ محدودة.

وبساطةُ تركيبِ الضحكة تقترح أيضًا إمكانيةَ أن نعكِسَها. إذا أخذنا مقطعًا قصيرًا من الضحك (ها – ها – ها) مسجلًا على شريط، ثم اسْتَمَعْنَا إليه معكوسًا، فسيُعطي تقريبًا نفس الصوت (ها – ها – ها). والحق أن طَيْفَ صوتِ الضحكةِ متشابهٌ سواء رصدناه من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين. لنغمةِ الضحكةِ درجةٌ عالية من السِّيمترية الزمنية. على أنَّ هناك ناحيةً من الضحكة ليست سيمترية. تلك هي ارتفاعُها. يتميز الضحكُ بالتخافت decrescendo؛ أي تكون فيه النغمةُ الأخيرةُ في تتابُع النغمات، عادةً، أقل اتساعًا.

السلوك الاجتماعي واللغوي للضحك

لِكُلِّ ما يفعله البشر وظيفةٌ، والضحك ليس استثناء، للضحك بالتأكيد دلالةٌ اجتماعية؛ فهو ليس تعبيرًا فرديًّا عن العواطف. أنت تضحكُ في صحبة الآخرين ثلاثين ضعفَ ضحكِك وأنتَ منفرد (إذا لم يكن حولك تلفزيون أو راديو أو مطبوعات). إذا كنتَ وحدك منفردًا، فالأغلبُ أن تَبْتَسمَ أو تُكَلِّمَ نَفْسَكَ، لا أنْ تَضْحَكَ. مهما كانت درجةُ سعادتِنا فإن الضحكةَ في الأصل هي إشارةٌ نرسلها للآخرين، وتكاد تختفي إذا لم يكن ثمَّة مَن يسمع. حتى الغَازُ الضَّحَّاك (أكسيد النيتروز) يفقد الكثير من قدرته على الإضحاك إذا كنتَ منفردًا. مع الآخرين أنت تضحكُ عندما تستريحُ إليهم ويستريحون إليك، عندما تُحس بأنك تقترب منهم وبأنك لا تريدُ أن تنعزل بعيدًا عنهم، عندما تُحس بأنك واحدٌ منهم. وعندما تضحك فإنك تُحِبُّ أن تتكلمَ أكثر، وأن تنظُرَ في عين مَن تحدثه أكثر، وأن تفعلَ ما من شأنه أن يزيدَ ما يربطك به. الضحكُ إشارةٌ إلى ثقتك فيمَن حولك. الضحك طقسٌ من طقوسِ استرضاءِ الآخرين.

اتضح أن الضحكَ معظَمه لا يأتي استجابةً لمحاولاتٍ هدفُها الإضحاك كإلقاء النكت أو القصص الهَزْلية. جاءت نسبةُ الضحك الناتج عن مثل هذه المحاولات أقل من ٢٠٪ من مجموع الضحكات. ظهَر أن معظَم الضحك يأتي عن ملاحظاتٍ عادية، مثل «انظر ها قد جاء فلان»، أو «هل أنتَ متأكد؟» أو «سعيدٌ أنا جدًّا بلقائك.» لم يكن ما يسبِّب عاصفةً من الضحك بالضرورة نكاتًا زاعقة وأشياءَ مضحكةً أو بلهاء، وإنما شيئًا مثل: «لا يلزم أن تأكل معنا، يكفي أن تدفع فاتورةَ الطعام!» — الأمر الذي يقترحُ أن المُنبِّه الحاسم للضحك ليس هو النكتة، وإنما الشخصُ الآخر: هناك من يقول الشيءَ المضحك، وهناك من يقول الشيءَ مُضْحكًا!

من بين الملامح الأساسية للضحك موقعُهُ من الحديث. الضحك لا يتناثر عشوائيًّا في الحديث. يندر أن يَقْطَعَ المتحدثُ أو المستمعُ تركيبَ الجملة بالضحك في عَيِّنة اﻟ ١٢٠٠ ضحكة التي رصدَها بروفاين وطلَبتُه، لم يجدوا إلَّا ٨ مقاطعات كهذه، وكانت جميعًا من المتحدث. أنت تقول: «إلى أين تمضي؟ … ها – ها»، ولكنك لا تقول: «إلى أين … ها – ها … تمضي؟» إنما نَضْحَكُ عند التوقُّف بعد نهاية الجملة؛ الأمرُ الذي يقترح عمليةً قد تكونُ أعصابيةً تحكُم موقعَ الضحكِ في الحديث، عمليةً يكون فيها للكلامِ الأولويةُ في السبيل الوحيد الذي نملكه لإصدار الصوت. الحديثُ يكسب. يَكْبحُ الضحك. هذه العلاقةُ المتينةُ بين الكلام والضحك تشبه التَّرْقِيمَ في الكتابة، وتُسمَّى «ظاهرة الترقيم» punctuation effect أنت تَكْتُبُ أولًا، ثم تُرقِّمُ.

اتضح أيضًا أن المتحدث يضحك أكثر من مستمعيه بنسبة تبلغ في المتوسط نحو ٤٦٪؛ الأمر الذي يعني أهمية ألَّا تقتصر الدراساتُ عن الضحك على سلوك المستمعين وحدهم.

النساء يضحكن أكثر من الرجال

جنسُ المسئول عن الضحك يلعب دورًا كبيرًا في تحديد قدْر ضحك المتحدث. وأيًّا كان جنس المتحدث أو المستمع فإن المرأة تضحك أكثر من الرجل، وتبتسم أكثر مما تضحك. ثمَّة تنوُّعٌ كبير في أصوات الضحك؛ فقد يُعبَّر عنه بشكلٍ مسموع؛ قهقهة أو ضحكة خافتة، وقد يكون الضحك صامتًا، كالهمهمة، لكنَّ انفجاراتِ الضحك المسموعة تتكرَّر من النساء أكثر مما تتكرر من الرجال. المتحدثات من النساء يَضْحَكْنَ ١٢٧٪ أكثر ممن يستمعُ إليهن من الرجال، فإذا كان المتحدثُ رجلًا فإنه لا يضحكُ أكثر من مستمعاته إلا بمقدار ٧٪ فقط. ثم إن جمهور المستمعين — رجالًا ونساءً — يضحك أكثر إذا كان المتحدثُ رجلًا لا امرأة.

هل يَدْخُلُ الضحك عاملًا في التلاقي والتوافق بين الجنسَيْن؟ بحَث بروفاين عن الإجابة بدراسة الإعلانات الشخصية بالجرائد. فحَص ٣٧٤٥ إعلانًا شخصيًّا ظهرَت يوم ٢٨ أبريل ١٩٩٦م، في ثمانِي جرائد. اتضح أن النساء يؤكِّدْن على «الضَّحِك» في إعلاناتهن بقَدْر يزيد ٦٢٪ عن تأكيد الرجال عليه. إنهن يتذوَّقن الفكاهة أكثر من الرجال، وحسُّ الفكاهة لديهن أقوى. الرجلُ، في كل الثقافات «يُؤدِّي» الفكاهة «ويُحرِّض» على الضحك، والمرأة تستمتع بالفكاهةِ أكثر. النساء يبحثن عَمَّن يُضْحكهن من الرجال، والرجالُ يتلهَّفون كي يقدِّموا لهن الفكاهة! إن وجود الكوميديانات أمرٌ ليس سهلًا. نغمة الضحك بين رجلٍ وامرأةٍ تشير إلى مدى اهتمام كلٍّ منهما بالآخر، لكنَّ ضحكَ المرأة لا الرجل هو الدليلُ الحاسمُ على العلاقةِ الصحيةِ بينهما. ثمَّة اختلافاتٌ مؤكَّدة في الضحك بين الثقافات، لكنَّ الضحكَ الصاخبَ والتعبيراتِ والحركاتِ المبالغَ فيها عند الضحك تُعْتَبَرُ في معظم الثقافات أمورًا «غير أُنْثَويَّة»، بينما نجدُها أكثر شيوعًا في الرجال.

على أنه من الضروري هنا أن نقول إن طريقة الضحك «مرنة»، وتتحول في اللاوعي مع الظروف الاجتماعية؛ فعلى سبيل المثال تقل قهقهة الأنثى، والذكر، مع الارتقاء على السُّلم الوظيفي. هل رأيتَ عمرك مديرًا أو وزيرًا يقهقه مع موظفيه؟

يُمكِننا أن نصل إلى تبصُّراتٍ في الوظيفة الاجتماعية للضحك، بدراسته في جماعاتٍ تختلف في المكانة الاجتماعية والجنس، إن استجابةَ المستمعين بالضحك توضِّح أثر الرسالة فيهم؛ الضحك «المؤدب» قد يكون محاولةً مفتعلةً من المستمعين تُعلِن اتفاقهم مع المتحدث، وهي عكس الاستجابة ﺑ «ها» ساخطة. ولقد يُلطِّف المتحدث ملاحظةً له عدوانيةً بضحكة، أو قد يقدِّم ملاحظتَه باستخدام هجينٍ ما بين الضحك والكلام.

الضحك المعلَّب

اكتشف التلفزيون قوة الضحك في استثارة الضحك؛ الضحك في حد ذاته — دونما نكتة أو تعليق — يمكن أن يستثير الضحك. الضحك كما ذكَرْنَا يُعْدِي. على فصلٍ يضُم ١٢٨ طالبًا قام بروفاين باستخدام «صندوق ضحك» لدراسة هذا الضحك المُعْدي. الصندوق عبارة عن جهازِ تسجيلٍ ذي بطارية يُصْدِرُ عند تشغيله دَفْقَةً من الضحك تستمر ١٨ ثانية. شُغِّل هذا الضحك المُعَلَّب عشر مرات، بَيْنَ كُلِّ مَرَّةٍ والتالية لها دقيقةٌ واحدة. في المرة الأولى استجاب نصفُ الطلبة بالضحك ونحو ٩٠٪ منهم بالابتسام، لكنَّ الأثَرَ أخذ يتضاءل مع كُلِّ تكرار، حتى وَصَلَ عَدَدُ مَن يضحك في المرة العاشرة إلى ٣ فقط — رأى الطلبة عندئذٍ أن ما يسمعونه من الضحك قد أصبَح أمرًا بغيضًا. النكتةُ إذا سمعتَها كثيرًا تصبح «بائخة»!

ما الذي في النكتة يُضحكنا؟

الفكاهة تقدحُ زنادَ الضحك. وهناك نظرياتٌ تفسِّر ما يُضحِكُنا في النكتة. تقول نظريةُ «التناقض» إن الفكاهةَ تكون عندما نَسْتَبْدِلُ بالمنطق وبالمألوف أشياءَ أخرى لا تتوافق مع بعضها. يقول توماس فيتش T. Veatch إن النكتة تصبح ظريفةً عندما نتوقَّع شيئًا ويحدُث غيرُه. تبدأ النكتةُ، فتتوقَّع ما تتوقَّعه بالمنطق وبالعاطفة وبخبرتك السابقة وبإعمال ذهنك، وإذا بكل هذا يتحول فجأةً إلى عواطفَ وفكرٍ آخر. هذا التناقُض هو ما يسبِّب الضحك. أنت تسمع صديقك يقول: «مَن يضحك أخيرًا …» فتتوقع من خبرتك السابقة أن بقية الجملة ستكون … يضحك كثيرًا، ولكنك تُفاجَأ به يقول «… إنسانٌ بطيء التفكير!»، فتضحك كثيرًا!

ثمَّة نظريةٌ أخرى، هي نظرية الاستعلاء، تقول إننا نضحك على النكتة إذا رَكَّزَتْ على أخطاءِ شخصٍ آخر، أو غبائه أو مِحنته. هنا نشعر بأننا أفضلُ منه، فنضحك.

وهناك أيضًا نظريةٌ تقول إننا نضحك إِذا وَجَدْنَا مَا يُفَرِّجُ عن تَوَتُّرٍ يجتاحُنا.

دَارةُ الضحك في المخ

في صباحِ أحدِ أيام الشتاء عام ١٩٣١م، وفي إحدى جَبَّانات لندن، كان ويلي أندرسون يحني رأسَهُ في خشوعٍ وهو يَرْقُبُ نَعْشَ أُمِّه يهبطُ إلى القبر. وفجأةً، ولدهشة الجميع ورُعبِهم، إذا به يَضْحَكُ، حَاوَلَ في البداية أن يكتم الضحكَ، فأخفَى فَمَهُ بِيَدِه، لكنه لم يستطع. ارتفع صوتُ ضحكه، فَتَرَكَ المكانَ على عَجَل. وبعد بضعِ ساعاتٍ كان لا يزالُ عاجزًا عن التحكُّم في الضحك، فأخذَتْهُ عائلتُه إلى المستشفَى. فَحَصَ الطبيبُ عَيْنَيْه، فلم يجد ثمَّة ما هو خطأ، لكنه رأى ضرورةَ أن يبقى ويلي تحت المراقبة في المستشفَى. وبعد يومَين مات الرَّجُل. فُحصَت جُثَّتُه بعد الوفاة، واتضح أن وَرَمًا في شريانٍ بقاعِ المخ قد انفجر، ليضغطَ على غُدَّةِ الهيبوثالامَصْ وأنسجةٍ أخرى قريبة منها. أثمَّة عضوٌ للفكاهة؟ أثمَّة دارةٌ للضحك؟

كان أحدُ الباحثين بجامعة كاليفورنيا يدرُس مُخَّ فتاةٍ تبلُغ من العمر ١٦ عامًا مصابةٍ بالصَّرع، فلاحظ شيئًا غريبًا؛ كُلَّمَا لَطَأَ بصدمةٍ كهربائيةٍ الفَصَّ الأيمنَ الجَبْهِي من المخ — في منطقة منه بالذات، لا تتعدَّى مساحتُها بوصةً مُرَبَّعة — بدأَت الفتاة في الضحك، فإذا سألها عن السبب في ضحكها، عَزَت السبب إلى أي شيء تَجِدُه حَوْلَها؛ «زُملاؤك دمهم خفيفٌ وَهُمْ يقفون حَوْلي هكذا.» أو «صورةُ هذا الحصان على الحائط تُثير الضحك.» التيار الكهربائي الضعيف يجعلها تبتسم، ومع زيادة قوة التيار تزداد الفتاة مرحًا، حَتَّى تكاد أن تنفجر في ضحكٍ هستيريٍّ مُعْدٍ، فلما أن نَبَّة مناطقَ أخرى من المخ بالكهرباء، لم تظهر نتائجُ مماثلة. أثمَّة عضوٌ للضحك؟ قال الباحث إنه قد وقَع على إحدى المناطق بشبكةٍ معقَّدةٍ للغاية؛ كانت منطقةً قريبةً جدًّا من مناطقَ لها علاقة بوظيفة الكلام، ومنطقتا الكلامِ والضحكِ قريبتان جدًّا بعضُهما من بعضٍ.

هناك تقنياتٌ حديثةٌ متقدمةٌ لتصوير المخ وهو يعمل، وقد ساعدَت هذه كثيرًا في معرفة مناطقِ المخ المرتبطةِ بالعواطفِ المختلفة، الطبيعيِّ منها وغيرِ الطبيعي. لدارة الضحك مكوِّناتٌ عاطفية وحركية ومعرفية، ولكلِّ مُكَوِّنٍ جزءٌ في مكانٍ ما من المخ يتحكَّم فيه. إن حسَّ الفكاهة الحقيقي يتضمَّن أكثر من مجرد قابلية البطن وباطن القدم أو الإبط للدغدغة. النكاتُ منها النوعُ اللفظيُّ (التلاعب بالألفاظ)، ومنها الدلاليُّ (المختص بمعنى الألفاظ)، ومنها غيرُ اللفظي (كالكارتون). يعتمدُ كل نوعٍ من النكات على سلسلةٍ من القدرات الذهنية، كلٌّ منها يقع في منطقةٍ مختلفةٍ من المخ، ويبدو أنها تحفِّز بعضها بعضًا. أُجريَت القياساتُ على المخ أثناء استجابة الأفراد لمادةٍ فكاهية. هنا شُوهد نشاطُ الموجات المخِّية وهي تنتشر إلى الفَصَّ الجَبْهِي من منطقة الفَصَّ القَذَالي — وهذه منطقة بمؤخر المخ تُعالِج الإشاراتِ البصرية. يبدو أن للفصِّ الجَبْهيِّ دورًا في إدراك أنَّ الشيءَ ظريف. الجانب الأيسر من هذا الفَصَّ الجَبْهِي يحلِّل كلماتِ النكتة وبنْيَتَهَا، بينما يقوم الجانبُ الأيمن بالتحليلات العقلانية اللازمة لتَفَهُّم النكتة وتقديرها، لينتشرَ النشاطُ إلى المناطق الحركية من المخ التي تتحكَّم في الوظيفة الجسدية للضحك. يمكننا أن نعرفَ هذه المسالكَ المعقَّدة بدراسةِ الأمراضِ العصبية والإصابات؛ أورام المخ، أو السكتة الدماغية، أو مرض باركنسون، التي يتميَّز حاملوها بما يُسمَّى «الوجه المتحَجِّر»؛ لأنهم لا يستطيعون الضحك.

الضحك خير دواء

إن فوائدَ الضحكِ أكثر من أن نتجاهلَها. هناك مَن يعتقد أن السبب في أن يبنيَ الإغريقُ مستشفياتٍ قُرب المسارح هو الاستفادة من الخصائص العلاجية للضحك. يمكنك أن تُغَيِّر حياتَك إلى الأفضل إذا تعلمتَ أن تضحكَ أكثر، وألَّا تأخذ الحياة بكل هذه الجدية — «لأنك أبدًا لن تخرجَ منها حَيًّا.» — كما يقولون. إن الحسَّ الفكاهيَّ يمكن أن يُضيفَ لمسةً إنسانيةً إلى حياتك وعملك. إننا لا نضحك لأننا سعداء، إنما نسعدُ لأننا نضحك. الضحكُ يُغَيِّرُ إحساسَك بذاتِك، بكيانِك، بعائلتِك، بأصدقائِك، بالعالَمِ كلِّه. إن تَذَوُّقَ الفكاهة يتضمَّن القدرة على اكتشافِها حتى في المواقف الحَرِجَةِ والمتوتِّرة، بل وفي المواقف التراجيدية، كما يتضمَّن القدرةَ على اكتشاف الظُّرَفَاء، مَن يستطيع أن يكشفَ النواحي المضحكة في المواقف الصعبة عادةً ما يكون أقلَّ عُرْضةً للاكتئاب والغضَب والتوتُّر. الضحك، مثل البكاء، يقلِّل الإحباط، ويسمح بتفريغِ العواطفِ المكبوتة. ثبت علميًّا أن الضحك يعمل كصِمام أمان؛ إذْ يقلِّل من هُرمونات الإجهاد. عندما نضحكُ تزدادُ مناعة الجسم بزيادةِ إفرازِ بروتين جاما إنترفيرون (لمقاومة الأمراض) وخلايا ت T cells وخلايا ب B cells (خلايا الدفاع ضد الأمراض)، كما يرتفع الأكسجين في الدم، وتتحسَّن الدورة الدموية، ويزداد تركيز جلوبيولين المناعة أ في اللُّعاب (ويعمل ضد عَدْوى الجهاز التنفسي)، وتزداد الإندورفيناتُ (القاتلاتُ الألم التي يُفرِزها المخ)، وتتعزَّز القدرة على تخزين المعلومات في المخ. الضحك إذن يخفِّف من ضغوط الحياة، ويخفضُ ضغط الدم، ويُعزِّز مناعةَ الجسم، ويُسكِّن الألم، ويُقلِّلُ القلق (أنت لا تستطيع بالفعل أن تضحك وأنت خائف)، ويُريح المخ، كما أنه يُشجِّع التواصلَ مع الآخرين، ويُلهِم الإبداع، ويُدعِّم المعنويات. عندما تضحكُ في مواجهة مشكلة، فإنك تَضَعُها في منظورٍ جديد، فَتَرَى النواحيَ السخيفةَ والتافهةَ فيها — الفكاهة تسمح لك أيضًا بأن تُعَبِّر عنها بشكلٍ غير مباشر. شعورُك الذي كان من الخطر أن تُعَبِّر عنه تعبيرًا مباشرًا، يُمكِن للفكاهة أن تُنقِذَك منه. من هنا كثيرًا ما تكون الفكاهةُ سلاحًا للمغلوبين والأقليات.

ثم إن الضحك يقلِّل من خطر الإصابة بنوبات القلب.

قد يكون للضحك «من القلب» مَرْدُودُه الطيب على القلب. في مارس ٢٠٠٥م أعلنَت جماعةٌ من الباحثين من جامعة ميريلاند، ولأول مرة، أنهم قد وجَدوا أن الضحكَ يتسبَّب بالفعل في تمدُّد البطانة الداخلية للأوعية الدموية؛ الأمرُ الذي يزيد من تدفُّق الدم، وهذا أمرٌ طيب لصحة القلب. «أنا أعتقد أنه من المعقول جدًّا لنا جميعًا أن نُفضفِضَ عن أنفسنا، وأن نضحك كل يومٍ ١٥–٢٠ دقيقة.» كان الدكتور ميشيل ميلر M. Miller رئيس هذه المجموعة البحثية، قد لاحَظ قَبْلًا أن مَرضَى القلب على وجه العموم يستجيبون لوقائع الحياة اليومية بقَدْرٍ من البشاشة يقلُّ عنه عند الأصحاء، كما لاحَظَ آخرون أن احتمالَ إصابة أصحابِ النظرة المتفائلة بمرضِ القلب أقلُّ من غيرهم.

قدَّر الباحثون تدفُّق الدم في الشريان العضدي لمائة وستين حالة، واتضح أن التدفُّق قد ازداد في ٩٥٪ منهم أثناء مشاهدتهم فيلمًا فكاهيًّا، وأن ٧٥٪ ممن شاهدوا فيلمًا حربيًّا قد انخفَض لديهم هذا التدفُّق. بلغ متوسط الزيادة في تدفُّق الدم أثناء الضحك ٢٢٪، وبلغَت نسبة الانخفاض ٣٥٪ في حالة الإجهاد الذهني، استمر الأثر ٣٠–٤٥ دقيقةً عقب مشاهدة الفيلم.

لا يزال السببُ في هذا غامضًا، لكن ميلر يقول: «تَحمِلُ البطانةُ الداخلية للأوعية الدموية مستقبِلاتٍ للإندورفين، وربما كان الضحك يتسبَّب في زيادة إفراز الإندورفين الذي ينشِّط المستقبِلات، ليتسبَّب في تفاعلاتٍ تؤدي إلى اتساع الأوعية.» ربما يتسبَّبُ الإجهادُ الذهني من ناحيةٍ أخرى، في إفراز هُرمونات الإجهاد مثل الكورتيزول cortisol الذي يقلِّل بدَورِه من إفراز أكسيد النيتريك من خلايا البطانة، والذي قد يؤدي إلى انقباض الوعاء. على أيةِ حالٍ فإن رسالة طبيب القلب لزملائه الأطباء واضحة: «إن علينا أن نقضيَ وقتًا أطولَ في الحديث مع المَرضَى عن الكرب والنواحي السيكولوجية للمرض، وهذا جزءٌ لا يقدِّره الأطباء حَقَّ قَدْرِه عادةً.»

رَبْو المرح

على أنَّا يجب أن نذكُر أن هناك حالات لا يكون فيها «الضحك خير دواء»؛ ذلك أن الضحك قد يقدَح زنادَ أزماتِ الربو في الأطفال بأكثر مما ينجم عن الضُّخَان smog أو الرياضة. في بحثٍ ظهر عام ٢٠٠٢م، حُلِّلَت فيه حالاتُ كلِّ من وَصَلَ قسمَ الطوارئ من الأطفال، خلالَ ستة أشهر، بإحدى مستشفيات نيوساوث ويلز، اتضح أن الثُّلثَ منهم كانوا يعانون من «رَبْو المرح» هذا. ظهر أن هذا الرَّبْو يشيع بين الأطفال الكبار، وبين مَن تتكشَّفُ فيهم أعراضُ الربو أثناء الليل أو في الصباح الباكر. لم يُعرف بالضبطِ السبَبُ في هذا، لكن يبدو أن الأمرَ يرجع إلى التنبيه الفيزيقي لمستقبِلاتٍ بالمسالك الهوائية.

الضحك والشيخوخة

عندما نتقدَّم في السن، فإننا نلحظ أن مخاخَنا لم تعُد تعمَل مثلما كانت أيامَ الصِّبا. وظائف المخ تتغيَّر بالفعل مع الهرم — المخ بالتأكيد ينكمش مع العمر. إنه لا يفقد حقًّا مليونَ خليةٍ كلَّ يومٍ كما كانوا يقولون، لكن الخلايا ذاتها تغدو أصغر. وخلايا مخ الرجل تنكمشُ أكثر مما تنكمشُ خلايا مخ المرأة، سوى أن خلايا الرجل تكون من البداية أكبر (بمقدار ١٥٪). وعلى عمر ٤٥ يصبح لمخ الرجل نَفْسُ حجم مخ المرأة. ليصبح مخُّ المرأة بعد ذلك أكبر. ويبدو أن الفصوصَ الجبهيةَ من المخ هي أول ما يتعرض للتدهور مع تقدُّم العمر في كلا الجنسَين.

على أن الكبارَ يمكنهم بالتأكيد أن يُمَتِّعُوا أنفسَهم بالضحك وأن يقدروه؛ فنحن لا نتوقفُ عن الضحك لأننا نهرم، إننا نهرم لأننا نتوقفُ عن الضحك. سوى أن القُدْرَةَ على تَفَهُّم الصور المعقَّدة من الفكاهة تقل مع العمر. تزداد الحكمةُ مع العمر، نعم، الكبار يصبحون أفضلَ وأسرعَ في تفهُّم الصورة العامة الكبرى، مقارنةً بأقرانهم الأصغر سنًّا، لكنَّ القدراتِ المعرفيةَ اللازمةَ لتَفَهُّم الفكاهة تتضمن الاستدلالَ التجريديَّ والمرونةَ الذهنيةَ والذاكرةَ النشطة، وهذه على الأغلب ترتبط بالفصوص الجبهية من المخ التي تتدهور مع السن.

•••

اثنان من أكَلَة لحوم البشر جلسا يتسامران بعد وجبةٍ شهيةٍ من اللحم المشوي. قال الضيف منهما لمُضيفه: الشكْرُ كل الشكر لزوجتك، لقد قَدَّمَت لنا وجبةَ لحمٍ رائعة!

تَنَهَّدَ المُضيفُ ثم قال: آه … آه … سأفْتَقدُهَا كثيرًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥