انتصار التكنولوجيا

اللورد: أليك برورز
ترجمة: أحمد مستجير
منذ أربعة آلاف عام، وعلى مسافةِ خمسةِ أميالٍ شمال مدينة ثيتفورد Thetford الحالية، بدأ أسلافُنا بالعصر الحجري الحديث عمليةً قد تكون هي أكبرَ صناعةٍ قديمة في هذه الجُزُر البريطانية. كان ذلك بالموقع الذي أطلق عليه الأنجلوسكسون اسم «جرايمز جريفز» Grimes Graves، وكان الموقع يضُم نحو أربعمائةٍ من مداخل المناجم، شُيِّدَت لاستخراجِ أحجارِ الصوان العالية الجودة، التي يمكن تثقيفُها لتُصبِحَ حوافُها حادة.

استطاع هؤلاء القدامى أن يَحفِروا إلى أعماقٍ وصلَت إلى ١٢ مترًا، حتى يصلوا إلى الحجر الصوان المدفون، ولم يكن لديهم من أدواتٍ سوى العظامِ والخشب، وربما أيضًا نفس هذا الحجر الصوان. ولقد قُدِّرَ أنْ قَدْ كان عليهم أن يُزيلوا ١٠٠٠ طنٍّ من الركام ليحصُلوا على ثمانيةِ أطنانٍ من الصوان. تبلغ مساحة الموقع نحو ٤٠ هكتارًا، والمشروع بأكمله مُذهِل.

صحيحٌ أن تكنولوجياتٍ أكثر تقدمًا كانت قد طُوِّرَت في أماكنَ أخرى — في الصين مثلًا — لكنَّ مهمةَ أسلافِنا لم تكن قَط سهلة. كانوا يحتاجون إلى الأخشابِ لتدعيمِ حفائرهم، وإلى السلالم للنزول إليها، وكانت الإضاءةُ مطلوبةً في الحُفَرِ الأعمق، كما احتاجوا إلى أدواتٍ صنعوها من قرونِ الغزال؛ ومن ثَم كان عليهم أن يرعَوا القطعان المحلية من الغزال الأحمر. تَطَلَّبَ الأمرُ صناعةً حاذقةً مستقلةً لمعالجةِ حجرِ الصوان المستخرج وتسويقِه وتوزيعِه. كان الصوانُ يُستخدم كرءوسٍ للفئوس، وكأدواتٍ زراعية، وكرءوسٍ للأسهم، وبلا شك، في مهامَّ أخرى لا تُعَد ولا تُحصى. شكَّلَت عمليةُ جرايمز جريفز الأساسَ لمجتمعٍ من نوعٍ جديد. المقياسُ الزمني كان يختلف تمامًا عن مقياسنا. استمرَّت عملية الحفر في جرايمز جريفز أكثر من خمسة قرون، بينما استغرقَت إلكترونياتُ الصِّمام، مثلًا، نحو خمسين عامًا.

منذ بداية الحضارة، كانت طريقةُ البشر في الحياة تعتمد على التكنولوجيا، بل الحقُّ أنك تستطيع أن تجادلَ بالقول إن الحضارة قد بدأَت عندما بدأ البشر في استخدام التكنولوجيا، لينتقلوا من عصرٍ يعتمدون فيه على الحدْس إلى عصرٍ بدَءوا يفرضون أنفسَهم فيه على البيئة، يتحركون فيه إلى أبعدَ من مجرد البقاء، إلى طريقةٍ في الحياة مَكَّنَتْهُم من الاعتماد المتزايد على عقولهم. إن زيارةً لجرايمز جريفز في عُنفوانها ستُثير من الدهشة قَدْر ما أثاره الطيرانُ أو التليفوناتُ عندما ظهرَت لأول مرة.

يصعُب أن نقارنَ أهميةَ تطوراتٍ مبكرة، مثل تقنياتِ استخراج الحجر الصوان، مع ما جاء بعدها من تطورات، مثل استخدام المعادن، لا سيما أن التكنولوجيات البدائية كانت تظهر مستقلةً في مجتمعاتٍ منفصلةٍ متباعدةٍ كثيرًا. إن مثل هذه المقارنة تكتنفُها الصعوبات، مثلما حدث في الاستفتاء الأخير الذي طُلب فيه من الجمهور أن يُرَتِّب أهمَّ الابتكاراتِ البريطانية حسبَ أهميتها؛ توليد الكهرباء (والكهرباء هي أساس كل التكنولوجيا الحالية تقريبًا)، ابتكار التطعيم (الذي أنقذ حياة الملايين)، اكتشاف الدنا DNA (الذي يُشكِّلُ أساسَ البيوتكنولوجيا)، وغير هذه من ابتكاراتٍ تبدو لا نهائية. حسنًا، لَمْ تَخْتَرِ الجماهير أيًّا من هذه، وإنما اختارت … الدراجة bicycle. ولقد كان هذا الخيار هو ما عضَّد موضوعي لهذه المحاضرات.

الدراجة بالطبع ابتكارٌ بارعٌ عَمَلي مُسْتَدَام، فَتَحَ إمكاناتٍ جديدةً أمام كلِّ طبقة من طبقات المجتمع، ولا يزال يُقَدِّمُ فوائدَه حتى اليوم، ولكنَّ وَضْع الدراجة في مكانةٍ تسبقُ الإنجازات الرئيسية لفاراداي، وماكسويل، وطومسون، وهويتل، وواطسون وكريك، هو في رأيي سوء تَفَهُّم فظيع لِمَا أسهمَت به التكنولوجياتُ المتقدمةُ في حياتنا، وللهرم الهائل من الإنجازات العلمية والتقنية التي تُشكِّلُ أساسَ هذه التكنولوجيات.

أن نتمكنَ من التحكُّم في الأوبئة، أن نقطعَ في ساعاتٍ الرحلةَ إلى مناطقَ من العالم كانت قَبْلًا تتطلب الشهور، أن تتمكَّن وأنت في مكتبك من الوصول إلى ملايين الكلمات المكتوبة، أن تستحضرَ على الفور صورًا واضحةً تمامًا لأشياءَ بعيدة ووقائع — هذه ليست إلا بعضًا من التكنولوجيات التي نأخذها أمورًا مسلمًا بها، وهي ترتكز على إنجازاتِ أجيالٍ وأجيالٍ من المهندسين والعلماء البريطان. أخشى أنني لا أستطيع أن أرى في الدرَّاجة ما يُنافِس هذه الإنجازات، لكن حقيقة أن الكثيرين من مواطنينا قد وجدوا في الدراجة مثل هذه الأهمية القصوى إنما تشير مؤكدًا إلى قصورٍ خطيرٍ في الاتصال والتفهُّم. وسأُحاول على الأقل، في هذه المحاضرات أن أعالِجَ هذا القصور.

لَدَيَّ اقتناعٌ بأن التكنولوجيا قد جُنِّبَت وبُخس قدرها — إِنَّا نجد أنفسَنا في موقف الدفاع عنها؛ ونود لو نتقهقر إلى الماضي، أو إلى العلوم الأساسية، لا أن نكافح حتى لا نستمر في السباق. سيكون ثمَن هذا القصور الاجتماعي الكبير هو أن تتزايدَ خسارتُنا جميعًا. إن التكنولوجيا تحدِّد مستقبلَ الجنسِ البشري. إننا نحتاجها لإشباع شهيتنا للطاقة — ربما عن طريق الطاقة النووية — لمساعدتنا في مواجهة الجوع عن طريق تربية النبات في كل مكانٍ بالعالم، لمساعدتِنا في رصدِ وسائلِ تجنُّب أو مجابهة ارتفاع حرارة كوكبنا، حتى ننقذَ الكوكبَ للأجيال القادمة. التكنولوجيا يمكنها أن تُحَسِّنَ صحتَنا وأن تطيلَ أعمارَنا. أريد أن تكونَ هذه المحاضراتُ صيحةَ تَنْبِيه. التكنولوجيا — وسأكرِّر — ستحدِّد مستقبلَ الجنسِ البشري. علينا أن ندرك هذا، وأن نعطيها ما تستحقه من تقدير ومكانة.

إن أكثر التفسيرات صراحةً يقول إن التكنولوجياتِ الحديثةَ أعقدُ من أن يفهمَها غيرُ الخبراء، لكن هذا صحيحٌ فقط إذا كان من الضروري تَفَهُّمُ التفاصيل. إن مهمة مَن ابتكر هذه التكنولوجيات من المهندسين والعلماء هي أن يشرحوا ما حقَّقوه بلغةٍ يُمكِن لغير الخبراء أن يفهموها. على عاتقنا يقعُ الكثيرُ من اللوم. أود أن أُذكِّرَكُمْ أن الأمور لم تكُن أفضلَ في سالف الأزمان، عندما كان المسئولون عن التطويرات يحجُبون اكتشافاتهم متعمِّدين. ضُبِّبَت الحدودُ ما بين العلم وبين ما نسميه — للتسهيل — «السحر». وحتى عندما أُنشئَت الجمعيةُ الملكية — الأكاديميةُ العلمية المرموقة في بريطانيا العظمى — في عام ١٦٦٢م، سنجد أهدافها وقد تَضَمَّنَت قضايا يمكن أن نُدرجَها الآن تحت اسم «السيمياء»، لا العلم. كانت المعرفة قوةً، وحرَص الحكام على أن يحدُّوا من انتشارها. أُدين جاليليو وحُدِّدَت إقامته في منزله في أواخر أيامه؛ لأنه حاول أن ينشر نظرياتٍ نعرفُ الآن أنها كانت — في شكلها العريض — صحيحةً. وربما كان الأسوأ من هذا أنه كتبها باللغة العامية (الإيطالية) التي يمكن لرجل الشارع أن يفهمها، ولم يكتُبها بلاتينية العلماء. بل ويبدو أن التعدين الرتيب في جرايمز جريفز — حتى هذا — كانت تصطحبُه طقوسٌ غامضةٌ وشعائر. إن فَكَّ إِلغَازِ العلم كان تغيرًا آخرَ للقرون القليلة الأخيرة، لكنَّ الواضحَ أنه تَغَيُّرٌ لا يزالُ غيرَ كامل.

من بين الأسبابِ التي جَعَلَت المُنْجَزَات القديمةَ المهمةَ قليلةً ومتباعدة، أنَّ تكنولوجيا الاتصالات لم تكن قد ظهَرَت بعدُ، وأن التحكُّمَ الشديدَ في الاتصال بأنواعه كان أمرًا ممكنًا. لا شك أن المعلومات كثيرًا ما كانت تضيعُ عندما كان الاتصالُ يتم فقط عن طريق الفم؛ ومن ثَمَّ كان على عملية الإبداع أن تُكَرِّرَ نَفْسَها المرةَ بعد المرة. لم يكن للإبداعِ أن يتقدمَ أُسِّيًّا كما يحدث الآن؛ فلم تكن ثَمَّةَ وسيلةٌ موثوقةٌ تُمَرَّرُ بها المعلوماتُ بين الأجيال أو بين مجتمعاتٍ تتباعد كثيرًا. ولقد عَقَّدَت صعوبةُ المواصلات المشكلة. كان الأثرياء وذوو السلطة هم مَن يستطيعون السَّفَرَ إلى المصادر البعيدة للمعلومات. كان حفظُ الثمينِ من المعارف، وتمريرُها بين الأجيال بصورةٍ موثوقٍ بها، يتم في البداية من خلال الرسوم البدائية والألواح الحجرية، ثم في نهاية المطاف من خلال المخطوطات اليدوية.

ظَلَّ التقدم بطيئًا؛ فقد كان إنتاجُ أكثر من نسخةٍ يعتمد على النَّسْخِ اليَدوي المُمِل، وكان من المستحيل إنتاجُ أعدادٍ كبيرةٍ من النُّسَخ. ولقد بدأ حَلُّ المشكلة بابتكارِ المطبعة. كانت الطباعة هي أول تكنولوجيات الاتصال، وربما أَعْظَمَهَا، وأَعْقَبَها — بعد أربعة قرون — التلغرافُ، ثم التليفون، ثم الراديو والتلفزيون، ثم الإعلام الإلكتروني، ولا سيما الإنترنت — وربما كان لهذا من الأثر قَدْرُ ما كان للمطابع الأولى. تُوَفِّرُ الشبكاتُ الإلكترونية إمكانيةَ الاتصالِ الفوري في أيِّ مكانٍ بالعالم، أما «شبكة العالم أجمع www» لتيم بيرنرز لي Tim Berners Lee، فقد جعلَت كلَّ المعلومات التي يمتلكُها أيُّ شخصٍ متاحةً لكل شخص — هذا من ناحية المبدأ.
هذه الرابطة التي لم يكُن يحلُم بها أحَدٌ قَبْلًا تُمَكِّنُ الناسَ من المساهمة في عملية الإبداع، أو تَجَنُّب أخطاء الآخرين — وقد يكون هذا هو الأهم. سوى أن كلَّ تقدمٍ في تكنولوجيا الاتصالات كان يُسهِّلُ نَشْرَ المعلومات ونَشْرَ المعلوماتِ المضلِّلة، كلما تقدَّمَت التكنولوجيا، ازدادت إمكانيةُ سوء استخدامها. والإنترنت على وجه الخصوص، عُرْضةٌ لسوء الاستخدام؛ لأنَّ التحكُّم فيه أقلُّ مما سَبَقَه. يكافح اتحادُ «شبكة العالم أجمع www» كي يبقيه هكذا، لأسبابٍ أُعضدها، لكنَّ النتيجةَ المحتومة هي أنه سيحمل وفرةً من الأكاذيب تكشفُها، وبسرعة، أيُّ زيارة للشبكة. لا بد أن نُحَصِّنَ أنفسَنا ضد هذه الأكاذيب — أن نُعَلِّمَ الناسَ أن يكونوا نُقادًا أذكياء، وأن نساعِدَهُم في أن يُقَدِّروا درجةَ موثوقيةِ المصدر.

إن الإتاحةَ المباشرةَ حتى للحقائق الموضوعية لا تعني أن الحقيقةَ الموضوعيةَ ستُصَدَّقُ أو تُسْتَوْعَب؛ فعلى سبيل المثال، تَتَزَايَدُ في عصر المعلومات اللانهائية، لا تَقِلُّ، الصعوبةُ التي يُقابلُها الجمهور في تفهُّم بعض نواحي العلم. إننا نحتشد اليوم هنا، في المعهد الملكي بلندن، وعمره ٢٠٥ سنوات، الذي أُنشئ — أساسًا على أيدي غير العلماء — كي «ننشُرَ المعرفة، ونُسهِّلَ تقديمَ الابتكاراتِ الميكانيكيةِ النافعة، وننقلَ إلى الناس تطبيقاتِ العلمِ في شتى مجالات الحياة.» هذه الجُمَلُ الطَّنَّانَةُ، التي كُتبَت في القرنِ الثامنَ عشر، تحملُ حقيقةً هائلةً ما زال علينا أن ننتبهَ إليها حتى في أيامنا هذه.

يتسارع التقدمُ في التكنولوجيا مع نجاحِ مجهوداتنا في تفهُّم العالم من حولنا؛ فعلى سبيل المثال، بدأ الفولكلور الطبي في الانهيار في ضَوء ما حدَث من تقدُّم في التفهُّم على يدَي ويليام هارفي W. Harvey وغيره — التفهُّم الذي بُني على الملاحظاتِ النظامية والتسجيل.
تَسَبَّب نيوتن Newton في القضاء على الكثيرِ من الأساطير حول الكون. قَدَّمَت «قوانين» نيوتن قواعدَ بسيطةً منهجية (على ما يظهر) ساعدَت في تفسير الكون، كما ساهمَت في حلِّ مشاكلَ كانت قَبْلًا مستحيلةَ الحل. كان هذا بدايةً لعصرٍ جديد. على أن التقدم العقلاني قد غدا هو الآخر عسيرًا حتى ليصبح تفهُّمه في آخر الأمر صعبًا على غير الاختصاصيين. سأتفحَّص في سياق هذه المحاضرات بعضَ الأَوْجُهِ التي غَدَتْ بها التكنولوجيات أكثر تعقيدًا، وكيف تضاءل تفهُّمها على الرغم من كل هذا التوسع الهائل في التعليم. إن فكرة التنمية في شكل خطٍّ مستقيمٍ فكرةٌ جذابة، لكنها للأسف زائفة. كانت هناك أخطاءٌ في التقدير، أخطاءٌ امتزجَت في بعض الأحيان بالسِّريَّة. هناك بشأنِ قضايا الصحة تراجيديا الثاليدومايد — إذا لم نذكر سوى مثالٍ واحد. ثم إن المهندسين، مع قفزاتهم الهائلة في شتى الاتجاهات، قد فشلوا دائمًا في التنبُّؤ بنتائجِ تشغيلِ نُظُمٍ كانت قَبْلًا مجهولة؛ لقد أُجهِضَت الطائرات البريطانية النفاثة الرائعة، الكوميت، وكانت تسبق كلَّ منافسيها في زمانها، أُجهِضَت بسبب التفهُّم القاصر للمواد وللضغط الناجم عن الإجهاد.

ولَّدَت مثلُ هذه الهفوات شعورًا من الريبة والشك في نفوس الجماهير، وغدَت ثمَّة حاجةٌ مُلِحَّة للغاية إلى أن يتواصلَ العلماءُ والمهندسون علنًا لينقلوا إلى الجمهور ما يفعلون، وأن يَتَّسموا بالصراحة حول النتائج المُحتمَلة لعملهم. وهذا موضوعٌ مما سأناقشه بتوسُّعٍ أكبر في المحاضرة الأخيرة، عندما أتفحَّص أيضًا مسئولياتنا تجاه العالم النامي.

ولقد وجدت أن تفهُّم التكنولوجيا يجلب معه راحةً شخصيةً هائلةً وسعادةً، تمامًا مثلما هو الحال مع تفهُّم الموسيقى والآداب والفن. ما زلتُ أتوقَّف لأتأمل إنجازاتِ البشرية، عندما أطير، مثلًا، سعيدًا على ارتفاع ٤٠٠٠٠ قدم، وأنظر إلى أسفل لأرقُب الأمواجَ والزَّبَدَ في بحرٍ صاخبٍ يرقُد بعيدًا في أسفل، ثم أُدرك الصعوباتِ التي كانت تواجهنا لعبوره منذ جيلَين لا أكثر. أعرفُ أنني أستطيعُ أن أشربَ بأمانٍ المَاءَ الذي ينسابُ من الصنبور في معظَم الأماكن التي أَزُورُها بهذا العالم، وأنني أستطيع أن أتحدثَ مع عائلتي، بل وأن أستدعي لأمسك بيدي صورةً لعائلتي أينما كنت. يا لَروعة أن أنظر إلى القمر والكواكب وأُدرك أننا قد مَشَيْنا على هذه الأجرام الكروية، وأننا قد أرسَلنا إليها آلاتٍ ذكيةً، بل وحتى إلى أقمارها، ووصلَتنا منها صُورٌ غاية في الجودة، وبياناتٌ عن أسطحها البعيدة!

يا لهذا الإحساس بالعرفان إذ أعلمُ ما يكفي لأُدرك كيف كان إنجازُ هذه الأشياء صعبًا! إذ أعرفُ ما يكفي لأُدرك ضآلة ما أعرفُه أنا شخصيًّا بعد حياة بطولها في العلم والتكنولوجيا. أتفكَّر في بعض الأحايين: كم يا تُرى يمكنني أن أُعيدَ اكتشافَه لو أن كارثةً اجتاحت العالم لم يَبْقَ بعدها سواي يعرف كيف أُنْجِزَتْ كل هذه الأعاجيب. أعرفُ أن ما أعرفُه لن يكونَ إلا قدْرًا ضئيلًا ومتخصصًا من الإلكترونيات.

وُلِدْتُ في كلكتا. كان والِدي يعمل في مهنة التأمين، لكنَّ عاطفتَهُ الكبرى كانت نحو التكنولوجيا، لا سيما اللاسلكي والتصوير. والحقُّ أنه قد أنفق من حياته الكثير على هاتَين الهوايتَين، حتى لتقترب خبرتُه من خبرة المحترفين. سجَّل اهتمامَه بالراديو في سلسلةٍ من المقالات كتبها لمجلة «كلكتا ستيتسمان» في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، ناقَش فيها الراديو، واستَعْرَضَ آخرَ أجهزةِ الاستقبال. كان مِن أوائل مَن استقبلوا اﻟ «بي بي سي» على الموجة القصيرة بالراديو، وكان يكتب تحت اسمٍ مستعار هو «سوبر هيت» Superhet. لا يزال الراديو والتلفزيون يستخدمان مستقبِلات السوبر هيتيروداين، لكن هذا قد يكون موضوعَ سلسلةٍ أخرى من المحاضرات.
في صُدفةٍ سعيدةٍ ليست مُسْتَغْرَبَةً، كَتَب مرتَين إلى السير جون ريث J. Reith، يصفُهُ في عام ١٩٣٨م (العام الذي وُلِدتُ فيه) بأنه «يبني اﻟ «بي بي سي» من بداياته، ليصبحَ هذه الآلةَ الجبارة التي تنقلُ اليوم الموسيقى والحفلاتِ والمعلوماتِ إلى ما لا يقل عن ٨٦٠٠٠٠٠ مَنزلٍ في بريطانيا العظمى.» ثم ليُشيرَ فيما بعدُ إلى أن سلوكه في الإدارة كان سلوك دكتاتورٍ حقيقي.

إنَّ تَمَكُّنَ كلِّ هؤلاء الناس من الاستماع إلى هذه المحاضرة اليوم، هو في حَدِّ ذاته نتيجةٌ لسلسلةٍ كاملةٍ من الابتكارات والمصادفات. صحيحٌ أن البعضَ من القواعد الأساسية للراديو كانت مفهومةً، لكنَّ الجذورَ الجوهرية للإذاعة قد جاءت جُزئيًّا عن طريق الصُّدفة، عندما تَحَوَّلَت تكنولوجيا ظُنَّ أنها مناسبةٌ «لرسائل بلا أسلاك»، تَحَوَّلَت عن غيرِ قصدٍ إلى نظامٍ للبثِّ إلى جماهيرَ متعدِّدة، كان تطويرُ الصمام الإلكتروني، «المصباح السحري للراديو» هو الخطوةَ الحاسمة، كما سأوضِّح في محاضرتي التالية، لكن كذا كانت أيضًا المواقفُ الحكومية والتنظيمية التي تلَت، والتي بدا يومًا أنها ستقتُل الإذاعة الناشئة.

لم يكن هناك مَن قد تَوَقَّع آثار الراديو على الكلمة المطبوعة، على السياسة، على السلوك الاجتماعي … على الإعلانِ عن السلع، حتى بعد ذلك اليوم الفاصل عام ١٩٢٢م، عندما أُذيع أولُ إعلانٍ تجاري بالراديو. عن هذا اليومِ قال هيربرت هوفر H. Hoover، الذي أصبح فيما بعدُ رئيسًا للولايات المتحدة: «كان أمرًا لا يُصدِّقه عَقْلٌ أَن نَسْمَحَ لمثل هذه الخدمة الهائلة … بأن تقتُلَها الثرثرةُ الإعلانية.» كلنا يعرفُ ما حَدَث لهذا الهدف السامي، لكن اﻟ «بي بي سي» على الأقل، وكذا «الراديو القومي العام» بالولايات المتحدة، قد صَمَدَا أمام هذه الثرثَرة.

لك أن تتأكَّد أنْ قد كان هناك من المُعلِّقين مَن تنبأ للإذاعة بأسوأ النتائج، وأنها ستُدمِّرُ المسارحَ والجرائد، وستجعل الثقافةَ مبتذلةً — وهذه أشياءُ ظهَر أنها غيرُ صحيحة، أو أن فوائدها تفوق المثالب؛ فمن خلال الراديو، والتلفزيون من بعده، ثم الإنترنت، وصلَت الموسيقى والآداب والدراما والمعلوماتُ والأخبارُ إلى مجتمعاتٍ خارج دائرة العاصمة — وخارج العالم «الثري» — بطريقةٍ كانت قَبْلًا مستحيلة.

ربما لأنه ما زال علينا أن نوطِّد أنفسَنا على تضمينات التكنولوجيا الحديثة واحتمالاتها، فإننا نجنح إلى أن نفكِّر في إمكانات هذه التكنولوجيا على أنها تَقَدُّم سيجيء عن الكمبيوتر والاتصالات الإلكترونية — وهي إمكاناتٌ في الحق مُرعِبة، ولكن، ألمْ يكن للتطورات في النقل، والطب، والطاقة والأسلحة أكبرُ الأثر على حياتنا؟

المؤكَّد أنَّ التطوُّرات في الطب قد أثَّرَتْ تأثيرًا مباشرًا على أعدادٍ هائلةٍ من البشر. كانت للتقنيات الجديدة للسفرِ نتائجُ اجتماعيةٌ ثورية، في العالم الأول على الأقل. بعضُ تقنيات توليد الطاقة تُهَدِّدُ النظامُ البيئي لكوكب الأرض (واستخداماتها المسرفة للموارد النادرة غير المتجددة تشكِّل أيضًا تهديداتٍ أكبر في المستقبل) … وأخيرًا، فإن الأغلب ألا نُغْفِلَ تضميناتِ صُنْع الأسلحة واستخدامها. لقد حوَّلَت هذه مِن مراكز القوى، وكانت لها — ولا تزال — أثارٌ غيرُ متوقَّعة، لم تكن في الحسبان، على قَدْرِ نجاح الدول والمجتمعات المختلفة. ثم إن القرنَ العشرين، مهَّد الكثير من العلوم المتقدمة، كان أيضًا قرنَ فظاعاتٍ لم تَرِدْ يومًا على خيال، فظاعاتٍ ترتكز على تقدُّم التكنولوجيا، وباقية لا تزال قُدرتُها على إنزال فظاعاتٍ أكبر.

على أنني أستطيع أن أُجادلَ بأن معظم التكنولوجيات الحديثة — باستثناء تلك المرتبطة بالأسلحة — كانت لها أثارٌ مفيدةٌ ضخمةٌ لمعظم الناس؛ إذ وَسَّعَتْ من قدراتنا، بل وحياتنا، إلى مدًى لم يكُن أبدًا لأسلافنا أن يحلُموا به، وأنا أعتقد أننا ما زلنا في البداية.

بدأنا هذه الأمسية بالحديث عن الريفِ الخالي لإيست أنجليا منذ أربعة آلاف عام. أُزيح الحجرُ الصوان، أساسُ أكبر إنجازات تلك الأيام، عن مكانه كتكنولوجيا جوهرية، لتحلَّ محلَّه معادنُ يتزايد تطويرها. لم تعُد الآن سوى آثارٍ تاريخية. ولقد سلَكَت نفسَ السبيل تكنولوجياتٌ أعقدُ كثيرًا، تسود في مرحلة، ويُعاد تشذيبها، لتصبح إرثًا، فَتَاريخًا. يأتي إلى خاطري المركبُ الشراعي، والقاطرة البخارية، وإن كانت نجاحاتُ إيلين ماكارثر E. MacArthur في الإبحار الشراعي تقترحُ أن التطوراتِ التكنولوجيةَ في الإبحار الشراعي لا تزال حيةً وفي خير. والحقُّ أن الكثيرَ من التكنولوجيات قد استُبدلَت به بدائلُ أفضل قبل أن يبلغ إمكانياتِه الكاملة، مثل المنطادِ ذي المحرِّك.

تتسارع دورةُ التغيُّر التكنولوجي. كم كانت قصيرةً حياة المحرك البخاري، مقارنةً بالمركب الشراعي، دَعْكَ من أسطوانة الحاكي (الفونوغراف). تُرى ماذا ستكون الدورةُ القادمة؟ وكيف ستبزُغ؟ أرجو أن يكون واضحًا الآن أنني مقتنعٌ بأن التكنولوجيا هي التي تُشكِّلُ حياتَنا، وأن أثَرَها هائل، وأن هذا الأثَر سيتزايدُ مع مرور الزمن. لقد حان الوقتُ لنا هنا في إنجلترا، ونحن المتميزون أيضًا في العلوم الأساسية، أنْ نُقَدِّر التحدِّيَ الذهنيَّ من وراء تطوير المنتج. يبدو أننا غَيْرُ قادرين، ثقافيًّا، على إدراكِ أن هذا قد يكونُ أكثر تحديًا من العلوم الأساسية، وأنه يتطلبُ أذكَى العقول. وفي رأيي أن الهندَ والصينَ قد استوعبتا هذا بالفعل، وذلك عندي أمرٌ طَيِّبٌ؛ لأن التكنولوجيا، رغمًا عن كل شيء، هي الوسيلة التي يمكن بها للعالَم النامي أن يرفعَ من مستوى الحياة فيه، لكنا إذا لم ننضَم إلى سباقِ تقدُّم التكنولوجيا، فسنواجه نتائجَ خطيرةً، ليس أقلُّها أننا سنتخلفُ في التنمية الذهنية والاجتماعية والمادية.

***

المحاضرة الأولى من محاضرات ريث لعام ٢٠٠٥م (أُلقيَت في الساعة الثامنة من مساء الأربعاء، ٦ أبريل ٢٠٠٥م بالمعهد الملكي بلندن). اللورد أليك برورز هو رئيسُ الأكاديمية الملكية للهندسة، ورئيسُ لجنة العلوم والتكنولوجيا بمجلس اللوردات. كان نائبًا لرئيس جامعة كمبريدج من عام ١٩٩٦م حتى عام ٢٠٠٣م، وهو واحدٌ من روَّاد النانوتكنولوجيا، وكان أَوَّلَ مَن استخدم الميكروسكوبَ الإلكتروني لابتداعِ تراكيبَ غاية في الدقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥