الهندسة الوراثية تُمثل الأمل للجوعى

أُجرِي هذا الحوار مع الدكتور أحمد مستجير في فرنسا، وكعادة الدكتور مستجير جاءت إجاباتُه محمَّلةً بالفائدة العلمية وبالمسئولية الوطنية التي تفرض عليه أن يُجاهِرَ بما ينفع الناس حتى لو خالَف الرائجَ والشائعَ وأصحابَ المصالح.

في هذا الحوار المنشور، بدون أسئلته (منعًا للتشويش على استرسال الدكتور مستجير) نعرفُ ما يجب أن يكونَ على قائمة أولويات الزراعة المصرية حتى يتحقَّق المشروعُ القومي الأجدر بالرعاية، وهو الاكتفاءُ الذاتي من الحبوب، والانتصار على الجوع الذي يُحاصِر ملايينَ المصريين.

«سطور»

– …؟

– عندما أتحدَّثُ أو أكتبُ عن أهمية الهندسة الوراثية (أو النقل الأفقي — لا الرأسي — للجينات بين الكائنات) وعن النباتات المحوَّرة وراثيًّا، فإنما أتحدثُ وأكتبُ عن أهميتها بالنسبة لمصر أولًا. نعم، من الصحيح أن إنتاج الحبوب في العالم يكفي كلَّ سكان المعمورة ويفيض؛ فلقد بلغ هذا الإنتاج، عام ٢٠٠٠م، مليونَي طن، فإذا كان تَعدادُ البشر هو ستة بلايين، فإن نصيب الفرد — أيًّا كان عمره — هو ثُلْث طن في العام، في المتوسط، أي نحو كيلوجرام يوميًّا، لكن، هل معنى هذا ألَّا نحاول أن نرفعَ إنتاجَ الحبوب في بلادنا ونحن نستورد نحو ٦٠٪ من استهلاكنا من القمح؟ إن المهمةَ الأولى لعلماء الزراعة في مصر الآن هي توفيرُ الحبوب، أما طريقةُ توزيعها فتأتي عندهم في المقام الثاني. نوفِّر الحبوب أولًا، ثم نبحث ونتحدث في وسائل توزيعها. والحقيقة هي أن الهندسةَ الوراثيةَ هي الطريقُ الأسرعُ للتحسين الوراثي للنبات، هي طريقُنا الواضحُ لمجابهة الزمن ومعه التزايد السكاني. المشكلة، مُلِحَّة، كما يعلم الجميع، ولم يعُد لدينا وقتٌ لانتظارِ استنباطِ سُلالاتٍ من المحاصيل الاقتصادية — عاليةِ الإنتاجِ مُقاوِمةٍ للملوحة والجفاف والآفات — بالطرق التقليدية. إن الربحَ الوراثيَّ الناجمَ عن هذه الطرق يقلُّ بكثيرٍ عن نسبة الزيادة السكانية. أنا لا أريد أن أُهَمِّشَ الطرقَ التقليدية؛ فهي لازمة حتى مع استخدام الهندسة الوراثية، وهي أولًا وأخيرًا ما جاءت عنه كل سُلالاتِ محاصيلِ الحقل المعاصرة. وإنما أقول إن الهندسةَ الوراثيةَ هي السبيلُ العلميُّ الجديد لاختصار الزمن. ولقد كتبتُ كثيرًا لأبيِّن بوضوحٍ خطأَ ما يُقال من أن هذه التقنية رجسٌ من عمل الشيطان، أكَّدتُ أن هذه الضجَّة الهائلة ضدَّها، جعجعةٌ بلا أساسٍ علمي، وأنها — الهندسة الوراثية — أمرٌ تعرفُه الطبيعة من زمان، وأن بحثًا واحدًا لم يقدِّم دليلًا على أنها تؤذي الإنسان، لكنني ببساطةٍ أدعو إلى أن تقوم الدولةُ — المؤسساتُ العلميةُ الرسمية — بإجراء البحث العلمي في تربية المحاصيل الاقتصادية الهامة بالنسبة لجماهير الناس، وأن تكون نباتاتُنا المهندسةُ وراثيًّا مِنْ صُنْع أيدينا نحن، لا يتحكَّم فيها إلا الحكومة، والمحاصيلُ الاقتصادية الهامة بالنسبة لنا هي عندي: القمح، الأرز، الذرة، القطن، بل إنني قد اقترحتُ مشروعًا يرتكز أساسًا على طُرق التربية التقليدية لرفعِ إنتاجِ الزيتِ في مصر — فنحن نستورد نحو ٩٠٪ من استهلاكنا منه، بعد أن اتضح لي قَدْرُ التباين الواسع في نسبة الزيت في بذور النباتات المُفرَدة داخل السلالة التي نزرعها بكُلِّيتنا (ك. الزراعة، ج. القاهرة)؛ فنسبة الزيت لم تَحْظَ بالاهتمام الواجب من مُرَبِّي القطن. ثم إنني اقترحتُ — إذا لزم الأمر — أن نستخدمَ الهندسةَ الوراثية في تعديل نِسَب الأحماض الدهنية في الزيت بحيث يصبح أكثر صحية — كما فعل الكنديون مع زيت الشلجم.

ليس لنا — نحن العاملين بحقل العلم — أن ننحرفَ عن طريقنا لنناقشَ قضايا الغذاء العالمية، واحتكارَ الشركات، عندما نُعالِج قضية الغذاء في بلادنا. أم تُرَانَا نبدأ في الجدل أولًا حول الطريقة التي سيجري بها توزيع «الإنتاج الفائض» الذي سنجنيه إن شاء الله عندما نستخدم الهندسة الوراثية أو غيرها؟! هدفُنا — كعلماء — واضح: لو أن إنتاجَ الفدان من القمح تزايد إلى الضعف لانتهت مشكلةُ رغيفِ الخبز التي تؤرِّقنا الآن. لو أننا توصَّلنا بالهندسة الوراثية لسُلالاتٍ من القمح تُقاوِم الملوحة لأمكَن أن نزرعَ مئات الآلاف من الأفدنة بالأراضي المالحة، ولزاد الإنتاجُ وتقلَّصَت الفجوة. مهمَّتُنا أن نبحثَ ونُجَرِّب أفضلَ الطرق وأسرعَها. والهندسة الوراثية عندي هي أفضلُ الطرق وأسرعُها. إنني مقتنعٌ تمامًا بأن الهندسة الوراثية تُمثِّل الأمل للجوعَى بالعالم الثالث.

الطعام وحقوق الإنسان

– …؟

– لا أعرفُ ماذا تعني بالضبط، لكني أعرف أنني كتبتُ أقولُ إن بول إيرليخ في كتابه «القنبلة السكانية» عام ١٩٦٨م يقول: «إنه لمن قبيلِ الخيالِ الجامحِ أن نتصورَ أن تتمكَّن الهندُ يومًا من أن تُغذَّي شعبها.» وعلى عام ١٩٧٤م كانت الهندُ قد اكتفت ذاتيًّا من الحبوب، بفضل «الثورة الخضراء» التي ارتكَزَت على طُرق تربية النبات التقليدية، بقيادة نورمان بورلوج، بل بدأَت الهند حتى في تصدير القمح، ولكنَّ الجوعَ لا يزال يقتُل آلافَ الأطفال هناك في كل عام. لم تجد الحبوبُ طريقَها إلى بطون الجوعَى. الجوع لا يمكن تخفيفه إلا بزيادة الإنتاج وبإعادة توزيع القوة الشرائية والموارد نحو مَن يعانون من سوء التغذية، إلا إذا عرفَت الحكومات أن الطعام بالفعل حقٌّ من حقوق الإنسان. الفقراء لا يمتلكون المالَ لشراء الطعام؛ فزيادةُ إنتاجِ الدولة لن تفيدهم. نعم، الفقير يدفع أكثر ويحصُل على أقل. الفلاحُ الفقيرُ لا يستطيع بيع محصوله بأفضلِ سعرٍ مثل كبار المزارعين. الفلاحُ الفقيرُ يقترضُ لشراء الأسمدة اللازمة للمحاصيل العالية الإنتاج كتلك التي تأتي بها الهندسة الوراثية، ثم هو يدفع من فوائد القروض أضعافَ أضعافِ ما يدفعه المزارعُ الثري، القروضُ التي تقدِّمها الحكومة مدعمةً تُفيد الكبار أكثر مما تُفيد الصغار. الحكومة تفضِّل إقراض الثري ليزداد ثراءً. المشكلةُ مشكلةٌ اجتماعيةٌ اقتصادية سياسية. إن استخدامَ المحاصيل المهندسة وراثيًّا في نظامٍ اجتماعي مُكَرَّس ضد الفقراء، دون معالجةٍ للقضايا الاجتماعية، سيقود مع الوقت إلى زيادة تركيز الثروة في أيدي الأغنياء، وتكون النتيجة التراجيدية هي «غذاء أكثر وجوعَى أكثر.» من هنا أقول دائمًا إن تربيةَ هذه النباتاتِ لا بد أن تكون على يدِ حكوماتِ الدول الفقيرة، وألا يُترك الأمرُ للشركات الكبيرة المُحتكِرة تتحكَّم في غذاء الناس، نتائجُ البحوث هنا ستصل بسهولة إلى صغار الفلاحين؛ فالحكومات تعرف المشاكل الحقيقية لشعوبها، والمفروضُ أن تعرفَ الاتجاه الذي يجبُ أن تسلكَه. دعونا إذن نرفع الإنتاج أولًا بأيدينا، ثم نتجادل في طريقة توزيعه! أنا لا أتصوَّر أن نقف عاجزين أمام الإنتاج المتدني، ولا نرفعه باستخدام تقنية الهندسة الوراثية؛ لأن الهندسة الوراثية تعادي الطبيعة، كما يقولون! ولماذا إذن نُحاوِل رَفْعَه بالطرق التقليدية؟ فيزيد الإنتاج بطيئًا بطيئًا وتبقى المشكلة وتتفاقم مع التزايد السكاني؟! على أنه لا بد أن نذكُر هنا أن كل هذه القضايا قد أُثيرت مع الثورة الخضراء، لكنَّ هذه الثورةَ قد أنقذَت بعضَ الدول من الإفلاس بسبب ما تستورده من غذاء، وأنقذَت ملايينَ البشر من سوء التغذية والموت جوعًا، ورفعَت الملايين من صغار الفلاحين إلى مرتبة الطبقة الريفية الوسطى، ثم إنها قد وضعَت الأساس لنُظُم البحوث الزراعية في دول الجنوب النامية.

إذا رجعنا إلى حقيقة الأمر فإن التزايدَ السكانيَّ نعمةٌ لا نقمة، هذا هو المفروض. العشيرةُ الكبيرة تحمل عددًا أكبر من المبتكرين في البيئة السياسية الملائمة، التي تُحَرِّر الأفراد من «الصراع من أجل البقاء» فيكرِّسون أنفسهم للإنتاج والابتكار، لا للبحث عن الطعام. الأيدي إذا تزايدَت يُفْتَرَضُ أن ترفعَ الإنتاجَ إذا كان ثمَّة سياسةٌ رشيدة. إذا حَدَثَت الأزماتُ الغذائية أُلقي باللوم على الفقراء — وهم بلا صوت — لأنهم يتزايدون، ولا يُوجَّه الاتهام إلى «المخطِّطين»، وكأنَّ المفروض — عند رسم الخطَط — ألا يتزايد السكان، وأنَّ هذا الأمر لا يدخل في الحساب عند «التخطيط»، وكأنهم قد اشترطوا على شعوبهم، قبل أن يتكرمَّوا بالتخطيط للمستقبل، ألا تتزايد أعدادُهم! يبدو الأمر وكأن مُخطَّطًا عالميًّا يُطبَّق الآن «للاستغناء» عن الفقراء، العلم قد تقدَّم كثيرًا كثيرًا، ومن المُمكِن به الاستغناء عن «الأيدي العاملة» مُعظمِها!

سياسات النهب

– …؟

– هذا أمرٌ يرجع إلى توجُّه الحكومات، وما إذا كانت تضَع الفقراءَ وحاجاتِهم في اعتبارها؛ فالتصدير أساسًا يُفيد الأثرياء، ويعني في حقيقة أمره استغلالَ الأراضي الزراعية لا لإنتاج الغذاء لمن يريدونه، وإنما معناه أن الأرضَ تُسرَقُ من أصحابها، هي ومياه الري وتُصدَّر إلى الخارج في صورة خضراواتٍ أو أزهارٍ أو ما شئت، معناه تقليصُ مساحاتِ الأرض ونهبُ المياه التي يُفترض أن تُستخدَم لتُغذِّي أصحابها الحقيقيين أولًا.

– …؟

– لا، بل إن «الزراعة» في حد ذاتها تُعادي الطبيعة. لقد كانت أول «اعتداء» على البيئة قام به الإنسان! ولقد بدأَت بها الحضارةُ البشرية. أليس كذلك؟ ولماذا ننسَى أن إنتاجَ الطعام قد تسبَّب خلال الخمسين سنةً الماضية في أنْ فَقَدْنَا خُمْسَ الأراضي الزراعية وثلثَ الغابات في العالم؟ ولم يعُد أمامنا لتوفير الغذاء لعالَم يفيض بسكانه إلا اللجوء إلى التكنولوجيات الحديثة، وأهمها الهندسة الوراثية، نرفع بها إنتاجَ الوحدةِ من الأرض! لم يعُد أمامنا إلا هذا السبيل، وعلينا أن نسلكَه قبل أن يقتُلَنا الجوع! نعم، كذا تقول التقارير: النمط الزراعي لزيادة حجم الكميات له تأثيرٌ بالغُ الضرر على الأرضِ، والبيئةِ عمومًا! يُفلس صغار المزارعين لأنهم لا يستطيعون توفير الأسمدة اللازمة لمحاصيلهم، ولا توفير المياه لها بالصورة المناسبة — فهم فقراء. المحاصيلُ الغزيرة الإنتاج تؤذي البيئة، وتؤذي أيضًا الإنسانَ الفقير! ولكنها لا تؤذي الإنسان الثري؟ تؤذي الفقيرَ لأن حكومتَه لا توفِّر له الأسمدة بالأسعار الملائمة، أو لا تشتري محصولَه بالسعر المناسب. يا سيدي إن خُرافة «البيئة» والمحافظة عليها تستشري أكثر من اللازم. دُولُنا الفقيرة تنهمك «تحافظ على البيئة» وتنساب إليها «المعونات الأجنبية» لتحافظ على بيئتها؛ لأن القضية تهمُّ الغربَ الثريَّ في المقام الأول، وهي تخشى أن تُفسِدَ الدولُ الفقيرةُ العالَم الذي يعرفونه؛ فالجهل ينتشر فيها، وهي تحتل أراضيَ واسعةً ثرية تكتظُّ بسكان (يمكن الاستغناء عنهم بآلةٍ متطورة)، ولا بد أن يُكبح جماحُ تكاثُرِهم وتدميرهم للبيئة التي يحتاجها هذا الغرب الثري. «الجات» تسمح بمرور البضائع بين الدول دونما معوِّقات، لكنها لا تَسْمحُ بمرور البشر. الغربُ يَسْمح لنا بسمكةٍ كمعونة، ولكنه أبدًا لن يسمحَ لنا بامتلاك «شبكة للصيد»، ولا حتى سنارة — فأسماكُ البحر لهم، وكنوز أراضينا، بل والبشر لدينا!

وَهْم الزراعة البدائية

– …؟

– لِنَعُد إلى الزراعة البدائية حتى يتوفَّر التوازنُ الغذائي وننقذ تدهور الأراضي الزراعية! وماذا عن غذاء الإنسان الذي يحيا على هذه الأرض؟ أليس هو الآخر جزءًا من «البيئة»؟ فَلْيَمُت جوعًا إذن حتى لا تتدهور الأراضي الزراعية؟ «البيئة» أهم من البشر؟ أتذكَّر قصة «فَراشة الملكة» الجميلة المحبوبة، عندما «اكتُشِف» أن هذه الحشرة تموتُ إذا تَغَذَّتْ على أوراقٍ نباتيةٍ معفَّرة بحبوب لقاح الذرة المهندسة وراثيًّا. كذا قالت تجربةٌ لا تُوصَف إلا بأنها بلهاء. هنا قامت قيامة الاتحاد الأوروبي ليعلن عن تعليق أي موافقة على دخول أيِّ محصولٍ مهندسٍ وراثيًّا. خافوا على الفَراشة الجميلة، فمن يخافُ على فقراء العالم الثالث؟ لكن الخوف على الأرض التي ستفسد، الأرض التي لا تعني عند الفقراء إلا مَصْدرًا للغذاء. فلنُحافِظ على الأرض، ولِمَن يحيا عليها ربٌّ يحميهم! ما هي بدعة هذه الزراعة البيولوجية؟ هي بدعةٌ روَّج لها البيئيون تقول بضرورة العودة إلى الوسائل البدائية للزراعة «من أجل صحة الإنسان وصحة البيئة». الأسمدةُ الكيماوية سيئة والوراثةُ أيضًا سيئة. علينا إذن أن نلجأ إلى «السماد البلدي»؛ حيث لا تُستخدم الأسمدة الكيماوية ولا البيوتكنولوجيا والنباتات المهندسة وراثيًّا، ولا المبيدات ولا المضادات الحيوية ولا هرمونات النمو. الأسمدةُ العضوية ستسُد النقصَ في خصوبة التربة، وتضمن زيادةً في الإنتاج الزراعي يصل إلى ٤–٦ سنويًّا، كذا «يقولون»! لكنَّ التجاربَ التاريخية تُثبِت عكسَ ذلك تمامًا. ثم هناك ذلك التقريرُ الذي قدَّمَتْه إحدى الجمعيات التعاونية البريطانية التي تقوم بالزراعات التقليدية والزراعة العضوية. ماذا يقول التقرير؟ يقول إن محصول القمح من الحقول العضوية يقل بنسبة ٤٤٪ عن الحقول التقليدية. يقول بورلوج قائد الثورة الخضراء في ستينيات القرن الماضي إننا لا نستطيع أن نُطْعِمَ سِتَّةَ بلايين فرد باستخدام الأسمدة العضوية، وإلا كان علينا أن نجتَثَّ معظمَ الغاباتِ لتُزرعَ بمحاصيلِ الحقل لنُنتِجَ نفسَ القَدْر الذي نُنتِجه من الطعام اليوم. لو أنَّا استخدمنا كلَّ ما يُنتَج على الأرض من أسمدةٍ عضوية (روث المواشي، مخلَّفات البشر، بقايا النبات) فلن نستطيع أن نُطعِمَ أكثر من ٤ بلايين شخص. يستخدم العالَمُ اليوم ٨٠ مليون طن من الأسمدة الأزوتية، ولتوفير هذا القَدْر من الأزوت عضويًّا يلزم أن نضيف ٥-٦ بلايين رأسٍ من الماشية. كم يا تُرى سنخصِّص لهذه الرءوس من الأرض نزرعُها لها بمحاصيل العلَف كي تقوم بتحويلها إلى رَوْث؟!

الغرب يتمتع بوفرة الغذاء، ونفهم أن يدفع الفردُ هناك ضعفَ السعر أو أكثر ليشتري غذاءً يقولون إنه «طبيعي»! أما في العالم الثالث عالم الفقراء، فالأمرُ جِدُّ مختلف، ولن تؤدي الزراعة العضوية إلا إلى زيادة إفقار الفقراء ونقص الغذاء.

– …؟

– يرى البيئيون أن الهندسةَ الوراثيةَ ستؤثِّر سلبًا على التنوُّع الطبيعي المطلوب لبقاء الحياة على الأرض. فهل كانت الطرقُ التقليدية في تربية النباتات تُحافظ على التنوع الوراثي الطبيعي؟ إن استنباطَ سُلالةٍ عالية الإنتاج يعني بالضرورة أن تسودَ على حساب غيرها. ماذا ستفعل الهندسة الوراثية أكثر مما فَعَلَتْهُ طرقُ التربيةَ التقليدية؟ هذا أمرٌ غريبٌ حقًّا. سوى أن الهندسة الوراثية مؤكدًا سَتَفْضُل التربيةَ التقليدية؛ فبها نستطيعُ أن نُولِجَ في سُلالاتنا الجديدة جيناتٍ من أقاربَ برية، أو حتى من نباتاتٍ لا علاقة لها بنَباتنا الذي نُحسِّنه، ونزيد بذلك من التنوع الوراثي داخل سُلالات التربية التقليدية. إن أهميةَ النباتاتِ البرِّية الأساسية بالنسبة لنا هي أنها تعمل كمُستودَعٍ للجينات نلجأ إليه عندما يلزم الأمر. والنباتاتُ المحوَّرة وراثيًّا بجيناتٍ أُولِجَت من هذا المستودَع تُعتبر إذن بديلًا (إن يكن غير كامل). المؤكَّد أن النباتات المعدَّلة وراثيًّا لن تتسبَّبَ في تقليل التنوُّعِ الطبيعي داخلَ أيِّ سُلالةٍ من سُلالاتِ محاصيل الحقل.

– …؟

– ما أُجري من بحوث على هذه القضية قليل، ونتائجه ليست مفزعة بالصورة التي يُضخِّمها مُعارِضو تقنية الهندسة الوراثية للنباتات، لكن دَعْنَا نتأمل الأمر. النباتاتُ المحوَّرة وراثيًّا هي نباتاتٌ أُولِجَت بها جيناتٌ نُقلَت من كائناتٍ حيةٍ أخرى موجودةٍ بالطبيعة، أعني أن المهندسَ الوراثي لا يبتكر جيناتٍ من عنده، هو لا يُخلِّق جينات. هو ينقلُ مثلًا جينًا لمقاومة مَرضٍ ما إلى القطن مثلًا، مأخوذًا من نباتٍ برِّي (لا يلزم أن يكون حتى من أقارب القطن) عُرف عنه أنه مُقاوِم لهذا المرض. يُصبِح قطنُنا المحوَّر إذن مُقاوِمًا للمرض، ما يتخوف منه المعارضون هو أن ينتقلَ هذا الجين من القطن إلى الحشائش، فتصبح هذه هي الأخرى مقاوِمةً للمرض، وكانت فرضًا غيرَ مقاومة له. سيرتفع محصولُ قطننا لأنه أصبح مقاومًا للمرض، لكن هذا لا يهم طالما أن هناك حشائشَ ستقاوِم المرض وتصبح «محصَّنة» ضده. دَعْنا نتفهَّم المعنى الحقيقي لهذا، لو افترضنا أنه سيحدث بالفعل، حتى ليثير كل هذا الضجيج، ألا يعني هذا صراحةً أن الهندسة الوراثية أمرٌ طبيعي يحدث في الطبيعة دون تدخُّلٍ من الإنسان؟ أن انتقال الجينات أفقيًّا، بين النباتات المختلفة الأنواع أمرٌ شائعٌ في البرية؟ أليس هذا هو المعنى الواقعي؟ أن الحشيشة قد أصبحَت مهندَسةً وراثيًّا؟! فيم إذن التخوُّف من أن نقومَ نحن بأيدينا بإجراء عملياتِ هندسةٍ وراثية نوجِّهها نحن لفائدتنا، وننقل بها إلى نباتاتِ محاصيلنا ما يهمُّنا من جينات؟ إن هدف المعارضين هو المعارضة ليس إلَّا، ينتحلون أسبابًا واهية يضخِّمونها أيَّما تضخيمٍ بحيث تبدو مشكلةً يتحدث عنها الناس ويتفكَّرون، ويتعمَّق تخوُّفُهم من الهندسة الوراثية!

– …؟

– أصحيحٌ أن جنونَ البقر قد نشأ حقًّا بسبب تغيُّر غذاء الأبقار إلى عليقةٍ تحتوي على مكوِّن حيواني، بدلًا من غذائها الطبيعي من الأعشاب؟! وأنه لم ينشأ عن «البريونات» التي اكتُشِفَت مؤخرًا؟ هذه فكرةٌ غريبةٌ حقًّا، خصوصًا إذا ما تذكَّرنا أن العِجْلة — التي ستُصبِح بقرة — تبدأ حياتها بتغذيةٍ حيوانيةٍ صِرْف؛ إذ تحيا حياتَها الأولى تشربُ اللبن! ثم لماذا ظهر هذا المرض الآن، والأبقار تتغذَّى على هذا الغذاء الحيواني من زمان؟ وكيف يا تُرى سيتغيَّر نوعُ غذائنا إذا أكَلْنا نباتاتٍ محوَّرةً وراثيًّا؟ مِن بين آلاف الجينات في النبات حوَّرنا جينًا أو اثنَين استَعرْناهما من كائنٍ آخر، هل يتغيَّر بذلك غذاؤنا؟ الذرة المحوَّرة وراثيًّا يأكلها الأمريكان كل يوم — كورن فليكس — ولم يُصابوا بعدُ «بجنون البشر»! افترِض مثلًا أنني نقلتُ جيناتٍ من الفجل إلى الجرجير، ثم أكلتُ هذا الأخيرَ المحوَّرَ وراثيًّا، كيف يجوزُ لنا أن نعتبرَ هذا تغييرًا في نوعية الغذاء، وأنا أستطيعُ أن آكل الفجل والجرجير في نفس الوجبة ليختلط دناهما كُلُّه داخل معدتي وأمعائي؟ إن السؤالَ غريب، ولكنه واحدٌ من ترسانة مهاجمي الهندسة الوراثية، وهو أغربُ من أن نبحثَ له عن تأكيدٍ علمي يدحضُه!

– …؟

– هذه مخاوفُ حقيقيةٌ فعلًا، وإن كانت مثل هذه الهوة موجودةً في شتى مناحي الإنتاج بين دول العالم الأول ودول العالم الثالث، لكنَّ الأمرَ هنا يتعلق بالغذاء، وهنا خطورته. والأخطرُ أن هذه الشركاتِ الكبرى بدأَت تدخل في مجال محصولَي القمح والأرز — الغذاء الأساسي لمعظم شعوب العالَم الفقير، وكانت عازفةً عن الولوج إليه قَبْلًا. عندما بدأَت هذه الشركاتُ تفكِّر في هذا السبيل الجديد أدركَت بالطبع ما ستُلاقيه من متاعبَ مع الشعوب الفقيرة؛ حيث الفلاح يستبقي بعضًا من بذور محصوله ويستخدمه كتقاوٍ للعام المقبل؛ أي إنه قد لا يلجأ للشركة مرةً أخرى بعد أول دُفْعَة بذورٍ يشتريها. كان على العلماء بهذه الشركات بكلِّ أسفٍ أن يحلُّوا المشكلة، فتَمَكَّنوا من تقنيةٍ رهيبةٍ ينمو فيها النباتُ حتى تكتملَ حبوبُه تمامًا، وهنا ينشطُ إنزيمٌ يقتل الجنينَ داخل الحبة فلا تستطيع أن تزرعَها ثانيةً، ويُضطَر الفلاح إلى شراء البذور الشيطانية هذه كلَّ عام، وتستطيعُ الشركة أيضًا في أي وقتٍ أن تحجُبَ بذورها عن الفلاحين، فيموتوا جوعًا! قامت مظاهراتٌ تضُم مئاتِ الألوفِ من الفلاحين في الهند تشجُب هذه التقنية ووَعَدَت الشركة بإيقافِ العملِ بها، ولكن مَن يدري؟ والحلُّ بالطبع في بلاد العالم الثالث هو أن تُستبقَى صناعةُ إنتاج البذور في أيدي الحكومات، أن تقوم هي بتوفيرها للفلاحين ومعها الأسمدة اللازمة، وأن تُجرِيَ هي التجاربَ اللازمةَ لتربية النباتات المحسَّنة، تمامًا كما كان يحدُث من قبلُ، دونما تدخُّلٍ من أيِّ شركةٍ من الشركات العملاقة العابرة القارات التي بدأَت تدخُل بعُنفٍ في هذا المجال الحيوي للغاية، مجال صناعة إنتاج البذور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥