اكتشافات خادعة
الخُدَع جزءٌ من التاريخ البشري. لأسبابٍ مختلفة في أزمانٍ مختلفة اختلَق البعضُ وقائعَ زائفة، وحاولوا أن يُقنِعوا الآخرين بصحَّتها، تعوَّد الناس أن يصدِّقوا قصصًا لا تُصدَّق. بعض الخدَع كان طريفًا، وكان البعض الآخر جادًّا.
من بين الخدَع الطريفة خدْعةٌ حدثَت عام ١٨٣٥م، عندما نشَرَت جريدة «نيويورك صن» مقالاتٍ عن كشوفٍ موثَّقة قام بها العالِم الكبير السير جون هيرشِلْ في أفريقيا بتلسكوبٍ جديد. كان السير جون في أفريقيا بالفعل في ذلك الوقت؛ ومن ثَم لم يقرأ القصص التي تُحكى عنه.
وصفَت الجريدةُ المحيطاتِ الموجودةَ على سطح القمر، والشواطئَ والحياةَ البرية والطيور! قالت إحدى المقالات إن هذا التلسكوب الجبَّار قد أمكنه أن يُمَيِّزَ هناك ١٤ رَجُلًا مُجنَّحًا يلبَسون الفِراء. يا تُرى ما حجم مثل هذا التلسكوب الذي يُمكِنه أن يرى أجسامًا في حجم البشر على سطح القمر؟ يبدو أن هذا السؤال لم يخطُر على ذهنِ أحد، وإلا لما انتشرَت قصة رجال القمرِ هذا الانتشارَ الذي فاقَ الخيال، وتوالت الحكايات تصفُ تضاريسَ القمرِ وتفاصيلَه، حتى جاء يومٌ ادَّعَت فيه الصحيفة أن التلسكوبَ قد تُرِك خطأً في مواجهة الشرق، وأن أشعة الشمس قد دمَّرَتْه تمامًا. اعترف شخصٌ اسمه «ريتشارد لوك» فيما بعدُ بأنه قد كتب هذه المقالات، واعترفَت الجريدة بالخدْعة. لم يغضَب الناس. رأى معظمُهم أن الموضوع كان طريفًا. وازداد توزيع جريدة «صن.»
ومن الخدَع الحديثة جدًّا خدْعةُ قبيلة تاساداي.
قبيلة تاساداي
في ٨ يوليو ١٩٧١م، أعلن ماندا إليزالدا، وزير الثقافة الفيليبيني، عن اكتشاف قبيلة من ٢٦ فردًا من العصر الحجَري، تحيا منذ مئات السنين بعيدةً عن العالم، منعزلةً في غابة مَطَريَّة بجزيرة ميندانو. كان أفراد قبيلة تاساداي هذه يتكلمون لغةً غريبة، لا يعرفون الزراعة، يجمعون طعامهم من البَرِّيَّة — الموز ولُب النخيل والدرنات والحشرات والضفادع — يستخدمون الأدوات والفئوس الحجرية، يسكُنون الكهوف، يستُرون عوراتهم بأوراق نبات الأوركيد، ويَحسِمون مشاكلهم بالإقناع الهادئ. كانوا لا يستطيعون حتى اصطياد القردة والغزلان والخنازير البرِّية التي تملأ الغابة من حولهم، لم يعرفوا الفَخَّار أو النسيجَ أو المعادنَ أو الفنَّ أو المنازلَ أو الأسلحة. ولا حتى الكلاب. كانوا يعيشون بالحب، ولغتُهم لا تحوي كلمة «حرب.» كانوا رمزًا للبراءة — بقايا من الزمن الماضي الجميل.
احتلُّوا نشرات الأخبار في التلفزيون. ظهَرَت على غِلاف مجلة «ناشيونال جيوجرافيك» الشهيرة (عدد أغسطس ١٩٧٢م) صورةٌ لصبيٍّ منهم يتسلق كَرْمةً، أسَرَت خيالَ الأمريكيين والعالَم بأسْره. أصبحوا في عام ١٩٧٥م، موضوعَ كتابٍ («قبيلة تاساداي الوديعة»، من تأليف جون نانس) وزِّعَت منه أعدادٌ خيالية، زارتهم الممثلة جينا لولو بريجيدا. حاول الأنثروبولوجيون الاقترابَ منهم، لكن الرئيس ماركوس رفض، كان يريد أن يحفظَهم بُرَآء كما هُم، ذِكْرى حية لعالَم الإنسان البدائي القديم الذي لم تلوِّثه المدنية. خَصَّص لهم مستعمرةً مساحتُها ٤٥٠٠٠ فدان أغلقَها عليهم. في ١٦ ديسمبر ١٩٧٢م غدَت زياراتُهم ممنوعةً تمامًا، اللهم إلا من قلَّةٍ من الصحفيين يَسمَح بهم إليزالدا، الذي أصبح «حامي حِمى القبائل المفقودة»!
ثم عُزل ماركوس في فبراير ١٩٨٦م، وفي أبريل من نفس السنة دخل المستعمَرة صحفيٌّ سويسري، فوجد أفراد العشيرة يسكنون المنازل، يتاجرون في اللحم المدخَّن، يأكلون الأرز، يلبسون الجينز والتِّي شيرت، ويتكلمون اللهجة المحلية المعروفة (كاتابوتو مانوبو). قالوا إنه كان عليهم، تحت ضغط إليزالدا وأمواله ووعوده بحمايتهم، أن يلعبوا دور سكان الكهوف، وأن يرتدُوا أوراقَ النبات، وأن يُمَثِّلُوا أمام كاميرات التلفزيون كلَّ ما طلبه منهم. وبعد أسابيعَ قليلةٍ وصل المستعمَرة فريقٌ من مجلة «دير شبيجل» الألمانية، يقودهم مكتشفُ تاساداي الأصلي، فوجدوهم يرتدون أوراقَ النبات! كان الأمرُ كله خدْعة. كان إليزالدا قد هرب من البلاد عام ١٩٨٣م ومعه ملايينُ الدولارات التي جُمعَت لصندوقٍ أُنشِئ خصوصًا لحماية القبيلة!
خدْعةٌ قام بها إليزالدا لتشجيع السياحة في بلده، وانطلت على العالَم كله. صحيحٌ أنْ قد كان هناك حقًّا مجتمعٌ صغيرٌ من التاساداي، لكنه لم يكن منعزلًا؛ فقد كان يختلط بالمزارِعين في القرية المجاورة التي لا تبعُد أكثر من خمسة كيلومترات، بل ولقد كان منذ قرنٍ مضى مجتمعَ مزارعين من سُلالة من فلَّاحي مانوبو، هجَر القرية في القرنِ التاسعَ عشر، إلى أعماق الغابة المَطَرِيَّة، قُربَ المكان الذي يعيش فيه اليوم.
كان عالَمًا قلقًا صاخبًا ذلك الذي «اكتُشفَت» فيه قبيلة تاساداي، حرب فيتنام المدمِّرة، الدكتاتوريات المتوحِّشة في كل القارَّات، شبابٌ ناقمٌ غاضب يتساءل، الهيبيز والمخدِّرات والثورة الجنسية تجتاح العالم. في هذا المناخ اليائس كانت قبيلة تاساداي تلمسُ القلبَ وتقدِّم رؤيةً بهيجةً لما يُمكِن أن يتحلى به البشر؛ الوداعة وحب السلام. نشَرَت مجلة «ناشيونال جيوجرافيك» صورةً لأبٍ وابنِه من هذه القبيلة وتحتها تعليق يقول: «في براءةٍ عارية، صبيٌّ من التاساداي يلهو بزهرةٍ جميلةٍ اقتطفَها من البرِّية في جنة عدْن البدائية!» كان الناس، معظم الناس، يبحثون سُدًى عن جَنَّةٍ فُقدَت. كانوا مُهَيَّئينَ نفسيًّا لقبولِ وتصديقِ أيَّة خُدْعةٍ جميلة. في مثل هذا الجو نجدُهم يستسلمون هانئين دونَ إعمالِ فِكر، يتقبَّلون كُلَّ أسطورة تُريحهم!
وكذا كان الإنجليز عندما اكتُشف «إنسان بِلْتداون.»
إنسان بِلْتداون
في عام ١٨٥٩م، نَشَر العالمُ الإنجليزي تشارلس داروين كتابه «عن أصل الأنواع» ليُذيع به فكرة التطور. وبعد اثنتَي عشْرة سنة، في عام ١٨٧١م، نشَر كتاب «أصل الإنسان»، وفيه طبَّق فكرة التطور على الجنس البشري، واقترح أن الإنسانَ قد جاء عن أسلافٍ من القردة العليا. وبحلول القرن العشرين لم يكن قد اكتُشف من أحافير أسلاف الإنسان إلا القليل. كان إنسان نيانديرتال قد اكتُشِف قبل «أصل الأنواع» بثلاثِ سنوات (عام ١٨٥٦م)، وظل الاعتقاد سائدًا بأنه نوعٌ بدائي يصل بيننا وبين القردة العليا، وبعده اكتُشِف «إنسان كرومانيون» عامَ ١٨٦٩م، وفي عام ١٨٩٠م اكتُشِف «إنسان جاوة» ليؤجِّج الجدَل حول تطوُّر مُخ الإنسان.
على هذه الخلفية ظَهَرَ على المسرح عام ١٩١٢م، إنسان بلتداون — دخل المسرح على أنه «الحلقة المفقودة» بين القِرَدَة العليا والإنسان. عُثر على بضع شظايا حفرية لجمجمةٍ بشرية في مزرعةٍ قديمة قرب بلتداون بجنوب شرقي إنجلترا، وكان معها فَكٌّ يشبه فَكَّ القِرَدة العليا، لتقدِّم دليلًا على أن زيادة حجم المخ كانت هي أول الملامح البشرية المميِّزة ظهورًا.
بدايات الكشف
كانت بداياتُ كشفِ إنسان بلتداون غامضة. عثَر عليه تشارلس داوسون المحامي والأركيولوجي الهاوي. يقول الرجل إنه ذاتَ يومٍ في عام ١٩٠٨م، كان يمُر بمزرعة في بلتداون عندما شاهد عمالًا يَحفِرون في موقعٍ كان في الأصل قاعَ نهرٍ قديم. عَرف أنهم قد عثَروا على شيء يشبه «جَوْزة الهند»، لكنَّ معاولَهُم هَشَّمَتْه على غير تعمُّد، وتبعثَرَت أجزاؤه بالحفرة التي كان يرقُد بها. أبدى اهتمامه بصفته أركيولوجيًّا هاويًا، فأهداه إياه أحد العمال، ليدرك على الفور أنه أمام قطعةٍ من جمجمةٍ بشرية، ويسألهم أن يبحثوا علَّهم يجدون قطعًا أخرى، لكنهم لم يجدوا شيئًا. غيرَ أن البحثَ في العام التالي أسفَر عن شظايا جديدة. عرضَ داوسون هذه العظام على آرثر سميث وودوارد، رئيس قسم الجيولوجيا بالمتحف البريطاني في لندن، في أوائل عام ١٩١٢م، فأثارت اهتمامه؛ كانت الشظايا لأحفورة جمجمةٍ بشريةٍ حديثةٍ سميكة العظام بشكلٍ يلفتُ النظر.
بدأ وودوارد وداوسون في البحث المكثف بموقع بِلْتداون، وانضَم إليهما في أول أيام الحفر (السبت ٢ يونيو ١٩١٢م) كاهنٌ فرنسيٌّ زائرٌ اسمه بيير تيلهارد ده شاردان، كان متحمسًا لعلم الباليونتولوجيا (علم الأجيال القديمة). وقد ظل هذا الرجل على اتصالٍ متقطعٍ بالأنشطة التي يقوم بها الرجلان.
في نفس هذا اليوم الأول عثَروا على شظيةٍ لجمجمةٍ أخرى، ولم تَمضِ إلا أسابيعُ قليلة حتى عثَروا على اللَّقيَّة الكبرى. لا، عثَر عليها داوسون وحده؛ فبينما كان يعمل في منطقةٍ لا تبعُد كثيرًا عن مكان الشظية الأولى (جَوْزة الهند) وقعَت مِطْرقتُه على جمجمةٍ مدفونة، فطارت منها قطعةٌ من العظم، اتضح أنها عظْمةُ فَك (فقَدَت ذَقنَها) لها مظهرٌ يُشبِه فكَّ القِرَدة العليا، وكان ثمَّة ضرسان مغروسان في هذا الفَك.
وقبل أن يتوقَّف التنقيبُ لمدة سنة، كانوا قد عثَروا على شظيةٍ صغيرةٍ من مؤخرة الجمجمة، ثم ثلاث قطعٍ أخرى منها، كما وجدوا أسنانًا أحفورية من حيواناتٍ قديمةٍ مختلفة، مثل المَسْتَادون والقندس وفرس البحر والحصان والفيل البدائي، بل وقطعة من قرن وعلٍ برِّي أحمر منقرض. وُجدَت الأحافيرُ الحيوانية جميعًا في نفس طبقة الأرض التي كانت ترقُد بها الأحافيرُ البشرية؛ الأمر الذي يُشيرُ إلى قِدَمها هي الأخرى.
الإعلان عن الكشف
في اجتماعٍ عُقد بالجمعية الجيولوجية في لندن، مساء الثلاثاء ١٨ ديسمبر ١٩١٢م، عرض وودوارد وداوسون أمام جمهورٍ غفيرٍ كشْفَهما الخطير؛ أول تقريرٍ موثَّق عن فترةٍ مجهولةٍ من تاريخ البشرية القديم. أعلن وودوارد أن تِسع شظايا الجمجمة البشرية تَخُصُّ إنسانًا حديثًا له مخٌّ كبير وجبهةٌ رأسية وحاجبان بارزان قليلًا، أما الفَك فيُشبه فَك القِرَدة العليا، وكان الضرسان به قد بَلِيا بالاستعمال، بطريقة تميِّز ضروسَ الإنسان أكَّد وودوارد أن الجمجمة والفَك هما لفَرْدٍ واحد، لفَرْدٍ لا بد أنْ كان يقع ما بين القِرَدة العليا والإنسان. دار الجدلُ فيما بعدُ، معظمُه، حول عُمْرِ العِظام (الذي قُدِّر بنحو ٥٠٠ ألف عام) وحول صحة إعادة تركيب الجمجمة. لم يشُكَّ أحد في صحة أو موثوقية اللَّقِيَّة. وأصبحَت شجرةُ عائلة الإنسان في كل الكتب المدرسية تحمل إنسان بِلْتداون في موقعٍ له محدَّد.
ظهَر إنسان بِلْتداون في وقتٍ لم يكن يُعرف فيه الكثير عن تطور الإنسان في جاوة، كان قد اكتُشف عامَي ١٨٩٠م و١٨٩١م ضرسٌ وقمةُ رأس وعظمة فخذ أشعلَت جدلًا حامي الوطيس. كانت هذه الأحافير لفرد (أُسمِيَ إنسانَ جاوة) له جمجمةٌ بدائية، لكن عظْمة الفخذ كانت تشبه عظْمة فخذ الإنسان الحديث. مما يقترح أن تكيُّفات جسد الإنسان — كالوقفة المُنتصِبة — قد جاءت أولًا، وأن المُخ الكبير كان هو آخرَ ما ظهَر من خصائص الإنسان الحديث — بينما أصَرَّ المعارضون على أن المخ لا بُد أنْ كان أول ما تطوَّر من الملامح البشرية. ثم اتضح أخيرًا أن ما عُثِرَ عليه من «إنسان جاوة» هذا ليس سوى جمجمةٍ لقردٍ من القِرَدة العليا، وأن عظْمة الفخذ إنما وُجدَت مع الجمجمة بالصُّدفة البحتة.
وفي أواخر مايو ١٩١٣م، استُؤنفَت عمليات الحفر مرةً أخرى، ليعثُر داوسون في أغسطس على قِطَع من العظام ظهر فيما بعدُ أنها أنفُ إنسانِ بِلْتداون. وفي ٣٠ أغسطس عثَر الأب ده شاردان، وكان قد عاد ثانيةً، على لَقيَّةٍ خطيرة؛ ناب يشبه أنياب القردة العليا — وهذا ملمحٌ تشريحي توقَّعه وودوارد عند إعادة تركيب الجمجمة.
وفي يونيو ١٩١٤م، عثَر وودوارد على شيءٍ غريبٍ مصنوع؛ عثَر على ما يبدو وكأنه أداةٌ منحوتة من عظْمةٍ أحفورية لحيوانٍ ضخم، تُشْبه مضرب الكريكيت، بدا وكأنها كانت تُستعمل في الحفر. وفي نفس هذا العام عُثر على سنَّتَين؛ واحدة من كركدن والأخرى من مَسْتَادون.
كشف جديد
تُوفِّي داوسون في أغسطس ١٩١٦م، ومعه أسرارُ كشفٍ جديد؛ ففي عام ١٩١٥م كان قد أسَرَّ إلى وودوارد بأنه قد عثَر على بقايا بشرية في حقلٍ قرب شيفيلد بارك، على مبعدة ميلَين غرب موقع بِلْتداون، لكنه لم يذكُر له مكانَ الموقعِ بالضبط، ولم يُخْبِره بأية تفاصيلَ عنه. قامت أرملة داوسون بتسليمِ هذه البقايا إلى وودوارد؛ شظيتَين من جماجم، وضرس، بجانب ضرسٍ سفلي لكركدن قديم. وفي فبراير ١٩١٧م، أعلن وودوارد عن كشف إنسان بِلْتداون جديد — بِلْتداون٢ — الأمر الذي رفع من مصداقية بِلْتداون الأول لدى الكثيرين من العلماء. ها عيِّنة أخرى من نفس السلَف البشري القديم وقد اكتُشِفَت. انمحت الشكوك حول عظام إنسان بِلْتداون، لا بد أنها قد جاءت فعلًا عن فردٍ واحد.
ثمَّة قصةٌ جانبية. كان داوسون قد كتَب إلى وودوارد، في يوليو ١٩١٣م، عن كشفٍ آخر؛ فلقد عثَر — على بُعد بضعة أميال من حفرة بِلْتداون، في حقلٍ قُرب باركومب ميلز — على شظيةٍ أحفوريةٍ لم تكن عظامها في مثل سُمك جمجمة بلتداون١، وتوقَّف الموضوع عند هذا الحد حتى تُوفي داوسون وسلَّمَت أرملتُه هذه المجموعة لوودوارد؛ شظيتَين من جماجم، قطعتَين من العظم الوجني، وضرس. لم يعلن وودوارد عن هذه اللَّقِيَّة — ظَنَّ أنها غيرُ مهمة. ومثل إنسان بِلتداون، ظلَّت الظروف المحيطة بكشف باركومب مجهولة.
في السنين التالية، عُثر على الكثير من البقايا البشرية بعيدًا هناك في آسيا وأفريقيا، وكانت جميعًا تقول بوضوح إن المخ كان آخرَ ما تطوَّر في جسم الإنسان الحديث؛ الأمر الذي جعل إنسان بِلتداون يبدو خطأً تطوريًّا شاذًا، لكن آرثر سميث وودوارد ظل يعتقد في حقيقة إنسان بِلتداون حتى وفاته، بل وظهر له عام ١٩٤٨م، بعد أربعة أعوام من الوفاة، كتابٌ عنوانه «أقدَم الإنجليز.» لو أن عمره طال تسعةَ أعوامٍ لشهد فَضْحَ أكبر خدْعةٍ علميةٍ في التاريخ الحديث.
كشف الخُدعة
كانت بداية النهاية لقصة إنسان بلتداون في مأدبةٍ أقامها المُتحَف البريطاني في يوليو ١٩٥٣م، في هذه الأمسية حدث أن وجَد جوزيف وينر — أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة أكسفورد — نفسَه جالسًا بجوار كينيث أوكلي الجيولوجي بالمتحف. كان أوكلي قد قام قبل بضعِ سنين بإجراء بعض الاختبارات الكيماوية على أحافير بلتداون. انتهز وينر الفرصةَ ليسأل بعض الأسئلة. سأل عن الموقع المضبوط الذي عُثر فيه على أحافير بلتداون٢، وتعجَّب لمَّا أجابه أوكلي: «كل ما نعرفه عن الموقع جاء من بطاقة بريدٍ أرسلَها داوسون إلى وودوارد في يوليو ١٩١٥م، وفي خطابٍ قبلَه في نفس العام، ولا يمكن من أيهما أن نحدِّد موقع بلتداون٢.»
كان وينر يظن أن الموقع قد حُفِظ كسِرٍّ لحمايته من صائدي الأحافير. لماذا لم تُوَثَّق مثلُ هذه اللَّقيَّة الخطيرة؟ لعب الفأر في عبِّه، وقاده فُضولُه إلى سلسلة من البحوث. فَحَصَ بادئ ذي بدءٍ قوالبَ جمجمة بلتداون١ المصنوعة من الجبس. بدا الضرسان في الفَك وقد بَلِيَا بطريقةٍ تُبيِّن طريقة المضغ في الإنسان. كان هذا هو المَلْمحَ الفيزيقيَّ الوحيد الذي يقترح أن الفَك والجمجمة ينتميان إلى فردٍ واحد.
بعدسةٍ مكبِّرة تفحص قالبَ الفَك. لاحَظ أن أحرُفَ السطح المنبسِط للضرسَين الخاصةَ بالقضم حادةٌ وليست مستديرةً في نعومة بسبب البِلَى. وكان للضرسَين نفسُ الدرجة من البِلَى، والعادة أن يكون البِلَى بالضرس الأقرب إلى مقدَّم الفم أكثر بكثيرٍ منه بالضرس الخلفي؛ لأن الأول يُستخدَم لفترةٍ أطول إذ يظهر مبكرًا عن الثاني. كما لاحظ أن البِلَى بالجزء الداخلي من الضرس (الأقرب إلى اللسان) أكثر منه في الجزء الخارجي، والعكس هو الصحيح في الإنسان والقِرَدة العليا والقِردة. فحَص الناب، وكان يبدو سِنَّةً نبتَت حديثًا، فوجد أنه قد بَلِيَ أكثر من الطبيعي.
هنا عاد وينر يقرأ ثانيةً بحثًا عن الاختبارات الكيماوية التي أُجريَت على بِلتداون كَتَبَهُ أوكلي عام ١٩٤٩م، فلاحَظ أمرًا مثيرًا؛ ذاك أنه عندما ثقَب الأسنان ليأخذ عينتَهُ وَجَدَ عاجَ الأسنان النقيَّ مباشرةً تحت السطح، فإذا كانت الأحفورة قد رقدَت قرونًا طويلةً في حفرة بِلْتداون ذات التربة الغنية بالحديد، فَكَيْفَ للصبغة ألَّا تنتشرَ إلى أعماق العظم؟
تمكَّن منه الشك. الموضوع كله خدْعةٌ واحتيال. حاول أن يصنع ضرسًا مُزيفًا لبِلْتداون ليرى ما إذا كان هذا أمرًا سهلًا، واتضح أنه من اليسير جدًّا أن يَبْرُدَ ضرسًا حديثًا للقِرَدة العليا، وأن يصبغَه بالبرمنجنات ليخلُق «أحفورة»!
أدرك وينر خطورةَ ما يقوم به، فأسَرَّ بهواجسِه إلى ويلفريد ليجروس كلارك بأكسفورد. قال له إن الأمرَ كلَّه يبدو تزويرًا. هاتَفَا كينيث أوكلي بالمتحف في لندن، وحكَيا له شكوكَهما، وطلَبا منه أن يفحصَ ضرسَ بِلْتداون الأصلي بعدسةٍ مكبِّرة قويةٍ ليرى ما إذا كان به كَحْتٌ نشأ عن استخدامِ مِبرَد. وفي مساء نفس اليوم، ٦ أغسطس ١٩٥٣م، أكَّد لهما بالتليفون صحةَ شُكوكِهما.
أُعيد عندئذٍ اختبار بلتداون١ وبلتداون٢، وفي ٢١ نوفمبر ١٩٥٣م، منذ خمسين عامًا بالضبط، صَدَرَت نشرة للمتحف عنوانها «حل مشكلة بلتداون»، كتَبها وينر وأوكلي وليجروس كلارك تعلن أن إنسان بلتداون ليس إلا عمليةَ تزييفٍ حاذقةً للغاية. اتضح أن الفَك والضرسَين لا ينتميان إلى البشر وإنما إلى أحد القِرَدة العليا، وأنه قد تمَّ بردُ ضرسَي القرد ليُحاكيا البِلَى بالاستعمال المميِّز لضروس البشر. كذا كان ضرسَا بلتداون٢ وقد بُرِدا بمبردٍ معدني. أمكن تحت الميكروسكوب تمييز خدوشٍ دقيقة على أسطُح المضغ بالضرسَين والناب، والواضح أن شخصًا ما قد استخدم مِبْردًا.
استُخدمَت التحاليل الكيماوية الحديثة لتحديد عمر الفك والجمجمة، وأوضحَت أن عظام بلتداون كانت حديثةً للغاية ولم تكن قديمةً من فجر التاريخ! أما الصبغة التي سَوَّدَت مظهرَ الناب، والتي افْتُرِض أنها من مركبات الحديد المُتسرِّب من التربة فقد ظهر أنها صبغةٌ غير معدنية، كما اتضح أن الفَكَّ وشظايا جمجمة بلتداون، قد عُوملَت كيماويًّا من قِبل المُزيِّف. ثم أكَّدَت النشرةُ أن شظايا جمجمة بلتداون١ وبلتداون٢ قد جاءت جميعًا عن جمجمةٍ واحدةٍ لا اثنتَين!
لم تتوقَّف الاختباراتُ على أحافير بِلْتداون ليتأكَّد أن كل ما عُثر عليه من أحافيرَ بشرية وغير بشرية، في بِلْتداون وشيفيلد بارك وباركومب ميلز قد زُرِعَت في مواقعها عمدًا، وأن تربة بِلْتداون كانت لا تحوي الجبس والكروميوم اللذَين وُجِدا في العظام. أما أحافير الحيوانات المنقرضة التي وُجدَت مع عظام بلتداون لتُثبت قِدَم البقايا البشرية التي كانت ترقُد معها، فقد اتضح أنها جُلِبَت وزُرِعَت في أماكنها. الناب كان على الأغلب من تونس، سِنَّة الكَرْكَدَن كانت على الأغلب من أحد بلاد حوض البحر المتوسط، أما «مضرب الكريكيت» فكان عظْمةَ فخذٍ فيلٍ نُحتَت بنصلٍ معدني وصُبِغَت لتبدوَ قديمة. أثمَّة سخريةٌ مقصودة أن يُعثر على «الإنجليزي الأول» وبجانبه «مضرب كريكيت»؟
وفي أواخر الخمسينيات أوضَح اختبارُ الكربون المُشع أن عمر الجمجمة يبلغ ٦٢٠ عامًا، أما الفَك فعُمره ٥٠٠ سنة، وهو فَك أورانج يوتان من بورينو أو سومطرة (كانت أورانج الجمجمة لِذَكَر والفَك لأُنثى).
عندما انكشفَت الخدْعة بالكامل، كان إنسان بلتداون قد تضاءلَت أهميتُه لدى المؤرخين والأنثروبولوجيين. صحيحٌ أنْ قد كانت له في البداية أهمية استمرَّت بضع سنين؛ فقد كان السِّجل الحفري فقيرًا، لكن الأمر كان قد اختلف في الخمسينيات، ولم يعُد لبلتداون سوى دورٍ ضئيل للغاية في دراسات أحافير الإنسان.
مَن الجاني؟
انكشفَت الخدْعة إذن، ولكن، مَن فَعَلها؟ ولماذا؟ الجاني لا بد أن يكون على علمٍ بتشريح الرئيسات والأحافير. لا بد أن يكون على بيِّنة بالأنشطة في مواقع الحفر حتى يمكنه زرعُ أحافيره المُلفَّقة في الوقت المناسب، ولا بد أيضًا أن يكون على معرفةٍ قويةٍ بالباحثين. اشتُبِه في كلِّ مَن كانت له علاقة بكشف بِلْتداون. طاردَتْهم الشبهة جميعًا. لم تثبُت التهمةُ تمامًا على أي واحدٍ بعينه، ولا تزال الخدْعة تُثير حتى الآن جدلًا صاخبًا في المقالات والكتب والمجلات العلمية، وحتى على الإنترنت. كان أهم المشتَبَه فيهم هم: الكاتب الشهير آرثر كونان دويل (مبتكر شخصية شرلوك هولمز)، آرثر كيث الأنثروبولوجي الذائع الصيت، الكاهن الفرنسي بيير تيلهارد ده شاردان، مارتين هينتون بقسم الحيوان بالمُتحف البريطاني في لندن، آرثر سميث وودوارد، ثم تشارلس داوسون الذي عثَر على الجمجمة.
كان دويِل يعرف داوسون ويسكن قريبًا منه، وكان في الأصل طبيبًا يعرف الكثير عن التشريح والكيمياء، وكانت رحلاتُه كثيرةً يمكن أن توفِّر له وسائلَ الحصول على الأحافير، ولكن ما الذي يدفعُه إلى ارتكاب هذه الجريمة؟ ادَّعَى جون وينسلو في مجلة «ساينْس»، عام ١٩٨٣م، أن دويل كان منغمسًا في الحركة الرُّوحانية التي ذاعَت أيامه، والتي تقول بوجود قوًى خارقةٍ للطبيعة، كالأشباح. وكان رئيسُ المُتحَف البريطاني راي لانكستر — رئيس وودوارد — معروفًا بعَدَائه الشديد لهذه الحركة، فهل كان دويل يُريد إحراجَه؟ لكن الواقع أنهما كانا صديقَين، كما أن دويل كان مشغولًا تمامًا بالكتابة ولم يكُن ليجد الوقت لتنسيق كل هذه التفاصيل، ثم لماذا لم يفضَح الخدْعةَ للعالَم؟
أما السير آرثر كيث، الأنثروبولوجي الشهير، والشخصية البارزة في دراسة أحافير بلتداون، فقد كان واحدًا من القلَّة الذين سُمح لهم بمعاينة العظام قبل الإعلان عنها رسميًّا، وقد اعترف بموثوقية إنسان بِلْتداون على الرغم من اختلافه مع وودوارد بشأن طريقة إعادة تركيب الجمجمة، لكن المؤرِّخ الاسترالي إين لانجهام لاحظ أنه بعد الإعلان عن بلتداون بثلاثة أيام ظهَرَت بإحدى المجلات مقالةٌ مجهولةُ الكاتب تصفُ الكشف، وتحملُ تفاصيلَ لا يمكن أن يعرفَها سوى مَن قام بالحفر. وقد ثبَت من دفتر يوميات كيث أنه مؤلف المقال، وأن المقال قد سُلِّم للنشر قبل يومَين من الإعلان. كيف كان لكيث أن يعرف كلَّ هذه التفاصيل قبل أن يُعلَن عنها؟ ثمَّة مدخل في اليوميات بتاريخ ٤ يناير ١٩١٣م، يحكي عن رحلةٍ طويلةٍ غريبة قام بها كيث مع زوجته إلى موقع بلتداون، انتهَت بقوله إنه لم يجد موقع الحفر، فهل كان هذا تمويهًا ليعطي الانطباع بأنه لم يكن يعرف شيئًا عن الحفرة؟
كان بيير تيلهارد ده شاردان، الكاهنُ الفرنسي عاشقُ الأحافير، موجودًا في موقع الحفر أثناء اكتشاف العديد من الأحافير الرئيسية. وقد كانت له فيما بعدُ علاقة بكشف إنسان بكين وتجميعِ أحافيرَ بشريةٍ كثيرة في الصين. ثمَّة سِنَّة في أحافير بلتداون قد جاءت بالتأكيد من إشكول في شمال تونس، وكان ده تيلهارد قد زار هذا الموقع مبكرًا، أما عظْمة الفيل فقد جاءت على الأغلب من دوردون في فرنسا أو من مصر، وقد وُلد هو قُرب دوردون، وكان يُدَرِّس في القاهرة، كما أن لون الفَك القديم المزيَّف يتطلب تقنيةً عاليةً من المعاملات الكيماوية، وكان ده تيلهارد يُحاضِر في الكيمياء والفيزياء في جامعة القاهرة، ثم كان هناك خطابٌ كتبه إلى أوكلي بعد كَشْف الخدْعة به جُملة يقول فيها إن داوسون قد اصطحبه إلى موقع بلتداون٢ عام ١٩١٣م، والواقع يقول إن وودوارد لم يُبلَّغ عن هذا الموقع إلا عام ١٩١٥م، هل خطَّط الكاهن الخدْعة إذن مع داوسون؟
كان مارتين هينتون عندما اكتُشف إنسان بلتداون موظفًا صغيرًا بقسم الحيوان بالمتحف البريطاني، وليس من المعقول أن يخاطر بوظيفته وسُمعته كي ينفِّذ الخطة، لكن حدث أن عُثِر في برج المتحف في أوائل السبعينيات على «بقجة» من القماش المُقوَّى عليها الحروف الأولى لاسمه، واتضح بعد عشرين سنة (!) أنها تحمل قِطعًا من العظام مُعالجةً كيماويًّا ومنحوتةً بطريقةٍ تشبه ما تَمَّ في أحافيرِ بلتداون (ثم نُبذَت «البقجة» تمامًا «فليس بها ما يُهِم»)؛ فهل قام بالخدْعة لينتقمَ من رئيسِه وودوارد، وقد كان معروفًا أن بينهما خلافًا حادًّا؟
أما آرثر سميث وودوارد، الشريك الفعال في مواقع الحفر، الذي لم يُسمح لغيره من الباحثين بالاقتراب من الأحافير، فقد كان في مقدوره أن يحصُلَ بصفته الوظيفية على العِظَام القديمة التي زُرِعَت بالموقع، وبصفةٍ خاصةٍ تلك الجمجمة البشرية السميكة العظام التي قد تكون لشخصٍ من عشيرة باتاجونيا بجنوب أمريكا؛ ففي عام ١٨٩٩م، تلقَّى وودوارد عددًا من هذه الجماجم من زميلٍ له أرجنتيني، وربما كان قد تمكَّن هو من جَمْع البعض منها أثناء رحلةٍ قام بها إلى باتاجونيا. هل كان يرنو إلى المقام الرفيع الذي كان له أن يحتلَّه لو أنه أذاع كشفًا هائلًا كهذا؟ هل كان هذا الكشف سيوفِّر له المؤهِّل لرئاسة المتحف البريطاني؟
كان تشارلس داوسون هو الشخص الوحيد الذي اشترك في كل الوقائع المحيطة بإنسان بلتداون، ولم يكن من الغريب أن يكونَ أولَ من تُشير إليه إصبع الاتهام. كانت لديه الوسيلة والدافع والفرصة. كان بالنتولوجيًّا، ممتازًا، هاويًا، يعرف الكثير في الكيمياء والتشريح والجيولوجيا. وكانت كشوفُه قد جعلَتْه مرموقًا وشهيرًا في عالم البالنتولوجيا والأنثروبولوجيا. من بين الأحافيرِ التي جمعَها هذا الرجلُ كانت سِنَّة لنوعٍ مجهول من الثدييات أُطلق عليه الاسم العلمي «بلاجيولاكس داوسوني» تكريمًا له، وقد انتخب زميلًا بالجمعية الجغرافية عام ١٨٨٥م، وكان عمره ٢١ عامًا. ثم توالَت كشوفُه فانتُخِب عام ١٨٩٥م عضوًا بالجمعية الآثارية. ومضى يكتشف ويكتشف، لكن شُهْرته بلغَت الذروة عندما اكتشف الحلقة المفقودة «إنسان بلتداون» الذي أطلق عليه اسم «يوأَنْثروبَص داوسوني» تخليدًا لاسمه، ليتضح أنه الخدْعة الكبرى للقرن العشرين. كما اتضح أن هناك، على الأقل، ٣٨ كشفًا من كشوفه مزيَّفة، حتى سِنَّة ب. داوسوني! ثمَّة واقعةٌ موثَّقة جيدًا تُعتبر واحدةً من أسوأ ما بتاريخه؛ إذ نشَر عام ١٩١٠م، مقالًا عن قلعة هاستنجز، اتضح أنه مقالٌ منشورٌ لمؤرِّخٍ آخر سبقه. ولقد كان موجودًا بشخصه وقتَ كلِّ اكتشافٍ هامٍّ في موقع بلتداون. وكانت له حرية الوصول إلى الموقع دونَ إثارة الشبهات، وكان على بيِّنةٍ كاملةٍ بمخطَّط التنقيب ليتمكَّن من زرعِ الأحافيرِ المُزَوَّرة لتُكْتشَف، كما لم تظهر بعدَ وفاته أيةُ أحافيرَ أخرى في المواقع التي عَمِل بها. كان يتطلع إلى الحصول على الجائزة الكبرى؛ «زمالة الجمعية الملكية»، وحصولُه عليها يتطلَّب كشفًا كبيرًا، ولكن هل قام بالخدْعة وحده؟
يعتقد هاريس ماتيوز أن داوسون قد زرَع الجمجمة، ثم أقنع صديقَه وودوارد بموثوقيتها. أما ده شاردان وهينتون فقد كانا يعرفان أن إنسانَ بِلْتداون خُدْعة، ولكنهما خَشِيا أن يُعارِضا وودوارد؛ ومن ثَم حاولا أن يتملَّقاه، آملين أن يفضَحا الخدْعة بان يدُسَّا أحافيرَ مُنافِيةً للعقل يسهُل كشفُها — كان من بينها عظْمة الفيل «مضرب الكريكيت»، الأداة التي يجب أن تُرافِق «الإنجليزي الأول»! ثم صُعِقَا عندما قُبِلَت على أنها موثوقةٌ فآثَرا الصمت!
كيف مرَّت الخُدعة بهذه السهولة؟
في مطلع القرن العشرين كانت فكرةُ قِدَم تطوُّر الإنسان لا تزال فكرةً طازجة، وكان السباق قد بدأ حاميًا للعثور على بقايا أسلاف البشر. الفرنسيون عثَروا على إنسان نيانديرتال الهولنديون عثَروا على إنسان جاوة في مستعمراتهم، الألمان عثَروا على النيانديرتال وعلى فَك هايدلبيرج، حتى البلجيك عثَروا على النيانديرتال، ولكن الإنجليز كانوا خارج اللعبة تمامًا، في عصرٍ كانت إمبراطوريتُهم فيه لا تزال تتسع، هم يعرفون أن في بلادهم أدواتٍ حجريةً قديمة، لماذا إذن لم يَعثُر علماؤهم على صانعيها؟ بريطانيا تُحب دائمًا أن تكون منبعَ الحياة وقَلْبَ الثقافة في العالم. من أرضِها جاء نيوتن وجاء داروين وجاء شيكسبير. وفجأةً، ظهر إنسان بلتداون ليشفيَ غليلَهم، يُلبِّي حاجةً نفسية. ظهر في الوقت المناسب بعد طول تلهُّف. إنسانُهم الإنجليزي القديم كان هو الأقدمَ بين كل ما قد عُثِر عليه من أحافيرَ بشرية. هو فخر العِلم البريطاني. فإذا ما تشكَّك البعض وقالوا إن الجمجمةَ والفَكَّ لحيوانَين مختلفَين وُجِدا معًا بمحضِ الصُّدفة، فلن يجدوا أذنًا مُصغية. قَبِل المجتمع العلمي البريطاني الخدْعة بنفسٍ راضيةٍ دونما تمحيص، وكان إنسانُ بلتداون الخدْعةُ يعضِّد أيضًا الفكرةَ التي كانت قد ذاعت بوجود حلقةٍ مفقودةٍ بين القِرَدة العليا والإنسان، كما يُعضِّد فكرةً كانت قد لقيَت قبولًا واسعًا بين الأنثروبولوجيين آنذاك، وهي أن المخَّ الكبيرَ للإنسان هو السبب الرئيسي للمركز السامي الذي يحظى به في عالَم الأحياء، هو الملمح الإنساني الأساسي الذي جعل الإنسان قادرًا على تطوير بقية الخصائص التي تميِّزه. أخذ إنسانُ بلتداون إذن طريقَه إلى مراكز البحوث والجامعات، وليس من قَبيل المبالغة أن نقولَ إننا نستطيع أن نملأ حجرةً واسعة بالمقالات والكتب التي وُضعَت حوله — كان من بينها ٥٠٠ رسالة دكتوراه!
هل العلم هُراء؟
اتخذ البعضُ من مُعارِضي العلم قصة بِلْتداون دليلًا دافعًا على أن العلم هُراء، أما مَن يعتقدون في العِلْم وحدوده، فلم يجدوا فيها أكثر من انحرافٍ خاطئ تَكَفَّل العِلمُ بتصحيحه، لكن أعداء العِلْم يتشكَّكون في التفسيرات العلمية؛ لأن جدل العلماء أحيانًا ما يمضي حسب ما تُمليه عليهم أهواؤهم، كما أنهم قد يُخْفُون البيانات التي لا تُوافِق هواهم، أو يتجاهلونها، ثم إن نظرياتهم العلمية لا تستطيع دائمًا أن تُفَسِّر ما قد يظهر من نتائجَ شاذَّة، بل إنهم قد أقاموا لأنفسهم كهنونًا علميًّا مقدسًا لا يجوز الاقتراب منه. العلماء إذن — كما قال واحدٌ من كبار كارهي العلم — «مهرِّجون، متعجرِفون يُذيعون ادِّعاءاتٍ كثيرًا ما يتضح زيفُها»، وعلمهم «نشاطٌ أبدًا لا يتوصلُ إلى حقائقَ لا ريبَ فيها»، وفي قصة بلتداون ما يُثبِت ذلك، لكن مَن قال حقًّا إن هذه هي مهمَّة العلم؟ إن ما يقولونه يُناقِض طبيعة العلم ذاتها. إنما المهرِّج حقًّا هو مَن يطلبُ اليقينَ المطلَق حيث لا يُمكِن اليقين. إنما المهرِّج هو مَن لا يفهم القيمة والجمال في تعدُّد الاحتمالات التي يطرحها العلم. المتعجرف هو مَن يتصوَّر أن العلم ليس بأكثر من تأمُّلات، لا لسبب إلا لأن العلماء يُخطِئون أحيانًا أخطاءً فظيعة، ولأن البعض منهم قد يلوي تفسيراته ليزكِّي آراءً له شخصية. المتعجرف هو مَن لا يعرف الفرقَ بين النظرية التي يمكِن اختبارها وبين تلك التي لا يمكِن اختبارها. العلماءُ والعلماء المزيَّفون والخَلْقَويون يضعون النظريات، لكن هذا لا يعني أنهم جميعًا في نفس القارب. إن أهم ما يميِّز العلم هو قابليَّتُه للتكذيب. وما يقع فيه العلماء من أخطاء سيكتشفه على الأغلب علماءُ آخرون. ونحن لا نستطيع أن نقول نفس هذا الشيء عن «نظريات» المشعوِذين والعلماء المزيَّفين الذين لا يمكن كشفُ ادِّعاءاتهم لأنها لا يمكن أن تُختبَر، الذين إذا كَشَفَ النقاد أخطاءهم تجاهلوا النقد وأهملوه. نعم، العلم ليس معصومًا من الخطأ؛ فالعلماء بشر، وليس من بشرٍ معصوم من الخطأ. نعم، قد يحرِّكهم التحيُّز ليقوموا بصياغة نتائجهم في صورةٍ تعزِّز ما يؤمنون به من نظريات، أو ليَقبَلوا أفكارًا دون تمحيصٍ إذا كانت تُوافِق أهواءهم، لكن أكذوبة بلتداون لا تدخُل في نطاق العلم لكي تُستخدم ضده؛ فَمَن قام بها لا يمكن أن يُوصَف بأنه عالِم، بل الحقُّ أن المفروضَ أن تُتَّخذَ حُجةً في صف العلم. لقد كان العلماء هم مَن كشَفوا الخدْعة، لا غيرهم. إنها شهادةٌ تزكِّي العلم أسلوبًا للتفكير.