تلك الرائحة

من معسكَره الحربي، أرسل نابليون بونابرت رسالةً إلى الإمبراطورة جوزفين يقول فيها: «لا تستحمي، سأعود حالًا.» كان للقائد الألمعي إحساسٌ لا يُخطِئ بأن للأنف دورًا رئيسيًّا في الحب والجنس.

في العصر الفيكتوري كانت بعض النسوة يتَعيَّشْن من بيع مناديلَ مشبعة بعرَق إبطِهن، وكان الربحُ من هذه البضاعة يزدادُ إذا ما كانت لصاحبتها الرائحةُ «الصحيحة»، تُعتبَر رائحة الجسم على وجه العموم بغيضة، بل ومقرِفة عند البعض، لكن، لا بد إذن أنَّ بها شيئًا يثير الرومانسية والجنس. شيئًا يُباع ويُشتَرَى!

يبدو أن الأنف، عُضو الشم، لا يكشفُ فقط عن العطر المُسكِر أو رائحة الجسم الكريهة، وإنما هو يحمل أيضًا ما يُمكِّنه من رصدِ عواملَ للإغراء خفيةٍ غامضة، عوامل تُحدِّد مَن سيدخل القلب، ومَن يستحيل عليه ولُوجُه، عوامل تتسبب في «الحب من أول نظرة»، أو «الحب من أول نَشْقَة» — إذا أردنا الدقة. أثمَّة حاسةٌ سادسة تُوجَد في أنوفنا لا نعرفها؟ أثمَّة ما تُذيعه أجسادنا وتكشفُه هذه الحاسة السادسة دون أن ندري؟ نعرفُ أن للحشراتِ وللكثيرِ من الثدييات مثلَ هذه الحاسة، أمِن الممكن أن يكونَ لدينا مثيلٌ لها؟ أمَا يزال الإنسانُ «مجهولًا» إلى هذا الحد؟!

حديثُ الفَراشة

في سبعينيات القرنِ التاسعَ عشَر أدرك الحشَريُّ الفرنسي جين-هنري فابر أهميةَ حاسة الشم في التواصُل بين الحشرات. حبَس إناثًا من فَراشة إيجار في أقفاصٍ سلكية، ثم أحاط الأقفاصَ بكوكتيل من روائحَ متباينة (نفتالين، لافندر، كبريتات أيدروجين، بترول) — بجانب رائحة الطباق الذي كان يُدَخِّنُه! ورغم هذه الخلطة المُريعة من الروائح، إذا به يجد ذكورَ الفَراشاتِ تتدفَّق كالسيل تقطع أميالًا وأميالًا نحو أقفاص الإناث! اقتَرَح أيامها أنَّ إناث الفَراشة تُذيع رائحةً كيميائيةً خاصةً تجذب الذكور، لكنه لم يستطع إثبات ذلك، بل إن المؤسسة العلمية لم تأخذ تجربتَه مأخذَ الجد، ومضت تنتقدُ سماحَه للبنات بحضور دروسه العلمية!

وبعد نحو قرنٍ من الزمان، في عام ١٩٥٩م، أَدْخَلَنا الكيميائيُّ الألمانيُّ أدولف بوتينانت إلى عصر «الفيرومونات»؛ فبعد أبحاثٍ استمرَّت عشرين عامًا، شَرَّح فيها مليونًا من فَراشات دودة القَز، تمكَّن من عزل المادة الكيميائية الفعَّالة — «البومبيكول» — الفيرومون الذي يُغوي ذكور الفراشات. والفيرومونات رسائلُ طيارةٌ عاجلة مُلِحَّة تُحس بها خلايا عصبية متخصِّصة، وتعمل بتركيزاتٍ غاية في الضآلة، بكمياتٍ أقلَّ مما يُمكِن لحاسة الشم أن تكشفَه: تُطلِق الأنثى فيرومونًا يكفي جزءٌ واحدٌ منه ليقشعرَّ شعرُ أيِّ ذكَرٍ من نوعها، فينطلق على الفور — دون أن يدري — نحوها.

روائح بلا رائحة

الفيرومونات رسائلُ كيميائيةٌ كالهرمونات، سوى أن الهرموناتِ تحمل المعلومات داخل جسم الفرد، بينما تحمل الفيروموناتُ المعلوماتِ إلى أفرادٍ أخرى من نفس النوع (هناك أيضًا مركَّبات تُسمَّى الألُّومونات تنقل المعلوماتِ بين الأنواع المختلفة، وتُستخدَم مثلًا في إغراءِ الفريسة أو تخويفِ المفترسات). تُستخدم الفيرومونات لغةً للجدل بين أفراد النوع، في الحيوانات والحشرات، حول القضايا «المصيرية»؛ الغذاء، الهيمنة، الموطن، الجنس. بينها وبين الروائحِ الكثيرُ الشائع، سوى أن الروائحَ ذائعة، يُمكِن لكل حيوان أن يشمَّها إذا تَوفَّر لديه الجهاز الملائم، بينما لا يدرك الفيرومونَ إلا أفرادُ النوع الذي يبثُّه. وحاسةُ الشم تُكْتَسَبُ بالتعلم؛ فهي تعمل على مستوًى إدراكي؛ فهذه رائحةُ ياسمين، وتلك رائحةُ ثوم. نعرفُ أننا نشمُّ رائحةَ القهوة عندما نستيقظُ صباحًا ونشمُّ تلك الرائحة، لكن الفيرومونات تعمل على مستوى اللاوعي، وتمُر إلى المخ مباشرةً دون وعيٍ أو إدراك. الفيرومونات روائحُ بلا رائحة.

يستطيع ذكَر فَراشة الإمبراطور أن يلتقطَ فيرومونَ الأنثى من على بُعد خمسة كيلومترات؛ جزيءٌ واحد تُفرِزه هذه الأنثى من غُدَّةٍ خاصةٍ على بطنها، يصل إلى قرن استشعار الذكَر، فيُجَنُّ جنونُه يبحث عنها! تُفرِز أنثى فَراشة دودة ورق القطن فيرومونًا إذا ما بلغ الذكور توجهَت فورًا إليها، فإذا ما وصَلَها أول ذكَر أفرَز بدَورِه فيرومونًا آخر — «فيرومون الرومانسية» — يعمل على تشويش المُنبِّه فيعوقُ غيرَه من الذكور الطامعين. الرومانسية تعني: «واحد للواحدة»!

وكلمة فيرومون تعني «حامل الإثارة»، والفيروموناتُ في الحشرات والحيوانات تَحكُم السلوك بصورةٍ محدَّدة يمكِن التنبؤ بها؛ نَشْقَة واحدة فيقوم الحيوان بتنفيذ الأوامر أوتوماتيكيًّا، وعلى الفور. النحلُ في الخلية إذا هُدِّد، فسيُجيبُ النداءَ الفيروموني، تُصدِره نحلةٌ أو أكثر، ليتجمَّع فورًا ويلدغ المُعتديَ حتى يهربَ أو يموت. مَلِكَةُ النحل في خليَّتها تُذيع فيرومونًا يملأ الخلية طولَ الوقت، تلتقطُه أخواتُها من الشغَّالات لتؤجِّلَ تكاثُرها وتهتمَّ بتربية الجيل الجديد الذي تُنجِبه هذه الملكة وَحْدَها. بضعة جُزيئاتٍ من فيرومون تَسْبَح عبْر أنفِ ذكَرِ حيوان الهامستر (القارض) فينطلق مجنونًا إلى الأنثى المستعدَّة، بل ولقد تقع الحيواناتُ وهي تُنفِّذ أوامرَ الفيرومون في أخطاءٍ قد تُودي بحياتها. عندما تموتُ النملةُ يُطلِق جسدُها الميتُ فيرومون «الجنازة»، ليُنبِّه «حانوتية» النمل إلى التوجُّه مباشرةً لإزالة «جثَّة الفقيدة»، فإذا ما التقَط أحدُ «الحانوتية» فيرومونَ الجنازة أثناء انهماكه في التخلُّص من الجثة، فقد يجد نفسَه وقد تجمَّع حولَه زملاؤه يُحاوِلون دَفْنَه!

أصبحَت الفيروموناتُ بعد اكتشافها الشغلَ الشاغلَ للكثير من الباحثين. شاع استخدامُ الفيرومونات في اصطياد الحشرات، بإغوائها للتوجُّه إلى أماكنَ يُمكِن فيها أن تُقتَلَ دون رشِّ المبيدات على الحقول. إذا أردتَ أن تُثيرَ ذكورَ فَراشة الغجر، فما عليك إلا أن ترُشَّ فيروموناتِ الأنثى على بعضِ أوراقِ النبات في موقعٍ تختارُه، فتَصِلَك أفواجٌ وأفواجٌ من الذكور الشباب لتَلقَى حتفَها على يدَيك.

الحاسة السادسة

إذا كانت الفيروموناتُ موجودة، فلا بد من وجود جهازٍ لاستقبالها. إذا نظرنا إلى الحيوانات العليا، فسنجد أن بعضَ البرمائيات ومعظمَ الزواحف والثدييات تحمل جهازًا يُسمَّى «العضو الأنفي الميكَعي»، أو «جهاز جاكوبسون»، يختصُّ بتلقِّي الفيرومونات. يرتبط هذا الجهاز بالأميجدالة، وهذا جزءٌ من المخ له علاقةٌ بالغضَب والخوف والذاكرة. يمضي الاتصال بعدئذٍ إلى الهَيْبُوثَالَامَصْ، مركز القيادة بالمخ للاستجابات البدائية كالخوف والعواطف والتكاثر والسلوك الجنسي والطعام — بجانب ضغط الدم ونبض القلب وحرارة الجسم ومجموعة أخرى من الوظائف الفسيولوجية. وقد ثبت من الاختبارات التي أُجريَت حتى الآن أن الفيرومونات تؤثِّر في عشرينَ عمليةً أيضيَّة، وفي خلالِ جزءٍ من الثانية.

لكن هل نحمل نحن البشر جهازَ جاكوبسون هذا؟ هل نُصدِرُ فيروموناتٍ من أصله؟ هل نستطيعُ قراءةَ هذه الإشاراتِ الكيميائية مثلما تقرؤها الفَراشات والفئران؟ صحيحٌ أنْ قد كان هناك مَن أعلن، عام ١٧٠٣م، عن وجود مثل هذا الجهاز في أنفِ طالب، لكن رجال التشريح أنكروه — وجدوه في الأجنَّة، لا في البالغين.

مع تزايُد الأخبار المُثيرة عن الحشرات وغيرها من الحيواناتِ التي تستثيرُها الفيرومونات، بدأ بعضُ العلماء يبحثون في أنوف البشر — في أُنوفِ طلبة الدراسات العليا، طبعًا! كان البيولوجيون يعرفون من زمانٍ أن أنوفَ الحيواناتِ تحتوي بالفعل على وسيلتَين للحس؛ الأولى هي الجهازُ الشَّمِّيُّ المعروف، الذي يحملُه الإنسان أيضًا، أما الثانية فهي جهازُ جاكوبسون المزوَّد بأعصابٍ تتصل مباشرةً بالمخ. لكلٍّ من هذَين الجهازَين في الحيوانات عُضْوُه الخاص وأعصابُه ونُتوءُه بالمخ. ومهمَّة جهاز جاكوبسون هي كشف الفيرومونات. كان من المُعتقَد أن البشر قد نبَذوا هذا الجهازَ الحسيَّ فضَمُر على طول طريق التطور — مثلما حدث مع الزائدة الدودية التي غدت أثَرِيَّة.

وجَد العلماء كيسَين صغيرَين على جانبَي الحاجز الأنفي، يبلغ عمقُ كلٍّ منهما ملِّيمترَين على مبعدة سنتيمترٍ واحد داخل فتحة الأنف. يفتح كل كيس في نقرةٍ ضَحلةٍ لها فتحةٌ في الوسط قُطرُها نحو ملِّيمترٍ واحد. في دراسةٍ أُجريَت عام ١٩٥٨م اتضح أن هذا الجهاز موجودٌ في ٧٠٪ ممن اختُبر من البشر، ثم ثبت في عام ١٩٩١م أنه موجودٌ في كل البشر. بالفحص الدقيق وجَد بعضُ العلماء أن الخلايا داخل هذا العضو تشبه كثيرًا الخلايا المُستقبِلةَ في أجهزة حيواناتٍ أخرى (فهي تستجيب، بإرسال إشاراتٍ كهربائية، لنفَثاتِ هواءٍ مشبعةٍ بموادَّ يُقال إنها فيروموناتٌ بشرية). فجأة، تحوَّل الجدل إلى ما إذا كانت هذه الخلايا تعمل، وإذا كان الأمر كذلك، فهل يعني هذا أن للإنسان حاسةً سادسةً لا نُدرِك وُجودَها؟ هل يُطلِقُ البشر فيروموناتٍ حقًّا؟ ومن أين؟

عبيرٌ ولا رائحة

يبدو أن للبشر بالفعل حاسةً سادسة، وأنَّ كلَّ فردٍ منَّا تُغَلِّفه هالةٌ من عبيرٍ بلا رائحة — لا ليست الهالة المضيئة التي يقول بها الصوفيون، وإنما هي سحابةٌ من فيرومونات تؤثِّر في سلوكنا. يبدو أننا نتواصل كيميائيًّا بعضنا مع بعض طولَ الوقت، وهذا أمرٌ لا يعرفه معظم الناس!

جاء أوَّل دليلٍ على وجود الفيرومونات البشرية عن مارتا ماكلينتوك. كانت طالبةً في نحو العشرين من العمر عندما دُعيَت لحضور أحد المؤتمرات العلمية. كان العلماء يناقشون الفيرومونات، وكيف أنها تتسبَّب في أن يحدثَ التبويضُ في إناث الفئران جميعًا في نفس الوقت في أي مستعمَرة. استجمعَت مارتا شجاعتَها وتدخَّلَت في الحديث لتقول إن نفس الشيء يحدث في البشر. ألا يعرفون ذلك؟ كلا … كانوا جميعًا من الرجال! سألوها: «ألديكِ دليلٌ علمي على ما تقولين؟» قالت إن هذا هو ما يحدث في عنابر نوم الفتيات في جامعتها. قالوا إنه بغير دليلٍ علمي سيكون كل ما تقولينه لغوًا.

شَجَّعَتْها المُشرِفة العلمية على القيام بالبحث، ووافقَت كل الفتيات في عنابر النوم على المشاركة. كان عدَدُهن ١٣٥، وتتراوح أعمارُهن ما بين ١٧ سنة، و٢٢، يعِشْن معًا في حجرات تَضم الواحدة ما بين ٨ و٢٥ بنتًا. سُئلَت البناتُ أن يُحَدِّدنَ تواريخَ حلول الدورة الشهرية — كان ذلك في الفترة ما بين أواخر سبتمبر (عند بدء العام الدراسي) وأوائل أبريل. نَشَرَت نتائجها في مجلة «نيتشر» العريقة في يناير ١٩٧١م، لتقول إن ثمَّة تزامنًا يحدُث في حلول دورة الحيض بين فتياتِ نفسِ العنبر، لا بُد أنَّ هناك إشاراتٍ كيميائيةً بلا رائحة تُذيعها الأنثى تتسبَّب في مثل هذا التزامن، دون وعيٍ منهن أو إدراك.

في دراسةٍ لاحقةٍ تمَّت عام ١٩٨٨م جُمع عرَقُ الإبط من نساء في مراحلَ معيَّنة من الدورة الشهرية. عُوملَت العيِّنات لتُصبحَ بلا رائحة، ثم وُضعَت على الشَّفَة العليا (قُرب الأنف) لمجموعةٍ من المتطوعات في مراحلَ مختلفة من دورة الحيض، وكانت النتيجة أَنْ تَوحَّد بينهن موعدُ حلول الدورة وطولُها، لتتزامن مع صاحباتِ العَرَق.

ثم جاء دليلٌ آخر. منذ نحوِ ثلاثين عامًا كان الدكتور دافيد برلينر يَدْرس جِلدَ البشر. كَحَت خلايا الجلد من الجزء الداخلي لجبائرَ منزوعةٍ من حول أرجل البعض ممَّن كُسِرَت عظامُهم أثناء التزلُّج على الجليد. من هذه الخلايا استخلص الرَّجُلُ عددًا من المركَّبات الكيميائية. كانت هذه مركَّباتٍ بلا رائحة، ولقد تركَها بالمعمل في قواريرَ مفتوحة. لاحظ الرجلُ أمرًا غريبًا فعلًا. لاحظ أن كلَّ مَن كان يعمل بالمُخْتَبَرِ الذي تُرِكَت فيه القواريرُ قد أصبحوا أكثر دفئًا ومودةً مما كان يعرفُه عنهم. تحوَّلوا إلى فريقٍ مرحٍ متعاون يقضي فُسحة الغذاء في لعبِ البريدج. لم يُدْرِكْ لذلك سببًا. وبعد بضعة أشهر خَطَرَت بذهنه فكرة. أغلَق القوارير. فلاحظ للعَجبِ أن سلوكهم قد عاد إلى ما كانَه، نكديًّا كما طبيعتهم! ما السبب في تغيُّر السلوك؟ كان برلينر يعرفُ أن الحيوانات يتخاطب بعضُها مع بعضٍ عن طريقِ رسائلَ كيميائية (الفيرومونات). تَصوَّر برلينر أن القوارير لا بُد أنْ كانت تُذيع فيروموناتٍ بشرية بلا رائحة، ثم أثبتَ بالتحليل الكيميائي للمواد المُشتقَّة من الجِلد صحةَ فِكرتِه.

هناك إذن فيروموناتٌ بشرية، وهي على ما يبدو تخرج من الجِلد، أكبر أعضاء الجسم البشري وأكثرها تعقيدًا؛ يحمل السنتيمتر المربَّع منه في المتوسط نحو ستة ملايين خلية، وبه خمسةُ آلافٍ من المواقع الحسِّية، ومائةُ غُدةٍ عَرَقية، وخمسَ عشْرةَ غدةً دهنية، ويمدُّه بالدم مترٌ من الأوعية الدموية، وتَصِلُه أربعةُ أمتارٍ من الألياف العصبية.

تُفرَزُ الفيروموناتُ معظمُها من الغُدد الدهنية في الجِلد، المصاحبة دائمًا للشَّعر وللغُدَد العَرقية التي تتنامَى أثناء البلوغ، تُوجَد هذه الغُدَد في كل مكانٍ بسطح الجلد، غير أنها تتركَّز في ست مناطق؛ الإبط، حلمة الثدي (في كلا الجنسَين)، العانة، الشفاه، جفون العين، صوان الأذن، لكنَّ أهم «مصانع» الفيرومونات تُوجَد في منطقة الإبط؛ حيث تُفرز مع العرق وتتبخَّر من الجلد (وإن كانت هذه الإفرازاتُ تتوقَّف في النساء عند انقطاعِ الطمث). يقول أحد كبار علماء التشريح: «إن نقل الفيرومونات (البشرية) يحتاجُ بالضرورة إلى التلامس؛ فمجالُ انتشارِها لا يزيدُ عن بضعة سنتيمترات.» أَمِنْ هنا تأتي أهمية القُبْلة؟ القُبْلةُ على ما يبدو طقسٌ من الطقوس التي تخدمُ أساسًا في كشف الفيرومونات، في وجود الملابس الثقيلة التي تُغَطي ٩٠٪ من الجلد، وتُوقِف تدفُّقَ رسائل الحب، هذه التي ترقُد فوق الجِلد «كمثل الضباب في فصل الربيع يطفو فوقَ المُروج المُزهِرة»! التنظيفُ المستمر للجلد يخفِّف من الفيرومونات، أو يُبَدِّدُها تمامًا. ولقد كان هذا هو ما دفع نابليون إلى أن يطلبَ من جوزفين في رسالته ألَّا تستحم! ولا غَرْوَ أن نجدَ بين العلماء مَن يرى أنَّ الإنسانَ يفقدُ اهتمامَه بالجنس إذا فقَد حَاسَّةَ الشم! (وهذا ما يحدث فعلًا مع حيوان الهامستر).

رائحة الجين

في سويسرا، أجرى العالم كلاوس فِدكِينْد تجربةً عجيبةً ليعرفَ ما إذا كان هناك ما يدورُ بشأنِ الاتصالِ الكيميائي بين الرجال والنساء. أعطَى فِدْكِيند لكلٍّ من أربعة وأربعين رجلًا قميصَ تي شيرت، وطلَب منه أن يرتَديَه ليلتَين متعاقبتَين ليتشبَّع القميصُ برائحته. وفَّر لهم جميعًا صابونًا بلا رائحة، ومحلولًا لما بعد الحلاقة بلا رائحة، حتى لا تُخْفيَ الروائحُ الصناعيةُ رائحتَهم الطبيعية. كان فِدْكِينْد يقتفي منهجَ بحثٍ أوضَح أن الفأرة تفضِّل أن يُلَقِّحَها فأرٌ يحمل جيناتٍ مختلفةً للجهاز المناعي، جينات تُسمَّى «المركَّب الرئيسي للتوافق النسيجي» (م ر ت ن، أو، مرتون).

مُركَّب مرتون هذا هو ثُلَّة من الجينات لها وظائفُ مناعيةٌ (وغيرُ مناعيةٍ أيضًا) تُوجَد في كل الفقاريات التي دُرِسَت حتى الآن، اكتشَفها بيتر جورار في لندن أثناء إجراء دراساتٍ له على نقل الأعضاء في الفئران. ربما كان أشهرُ أدوارِ هذا المُركَّب هو دورَه في التوافق النسيجي (رفْض أو قَبول الأعضاء المزروعة) وفي تنظيم المناعة. تتدخَّل هذه الجيناتُ في منعِ التزاوجِ بين الأفراد المتشابهين وراثيًّا، لتَجَنُّب الآثارِ الضارَّة للتربية الداخلية (تزاوُج الأقارب)، وذلك عن طريق تأثيرها على اختيار القرين عند التزاوج، وعن طريق الإخصاب الانتقائي والإجهاض الانتقائي. المرتون يزكِّي اللاتشابُهَ الوراثيَّ بين الأزواج وبين الجاميطات (الخلايا الجنسية).

يُسَمَّى المرتون في البشر باسم هَلَا HLA (أنتيجينات كرات الدم البشرية البيضاء). تُوجَد هذه الجينات على الذراع القصيرة للكروموزوم السادس، وتحتل منطقةً فيه يبلغ طولها نحو ٣٫٦ ملايين زوجٍ من القواعد. من أهم خصائص جينات هَلَا أن لكل الألِّيلات (أي صُورِ الجين) نفسَ الإسهام في المظهر. تَنتَقل جيناتُ هَلا سويًّا، اللهم إلَّا من وقائعَ نادرة (١–٣٪ من الحالات) يحدُث فيها تبادلُ مقاطع دَنَاوِيَّة بين كروموزومَي الفرد. والحقُّ أن هذه المواقع تتميَّز بأعلى درجة من البوليمورفية (أي تعدُّد المظهر) في الجينوم البشري؛ فهناك ستةُ مواقعَ كلاسيكية يتراوح عدد الألِّيلات فيها ما بين ٢٤ و٣٩ — وهذا يعني نظريًّا أنه من الممكن أن يكونَ لكلٍّ منَّا طاقَمُه المتفرِّد من الألِّيلات بهذه المواقع.

وضع فدكيند القمصان بعد الليلتَين في صناديقَ مغلَقةٍ بكلٍّ منها فتحة، وسأل ٤٩ امرأة أن تُقَيِّم رائحتها، وكُنَّ في منتصف دورة الحيض الشهرية (في مرحلة التبويض)؛ حيث تكون حاسة الشم أقوى ما يمكن. كان على كلٍّ منهن أن تنشقَ سبعةَ صناديق؛ ثلاثة منها تحتوي على قمصان رجال لهم مرتون يناظر مرتونها، وثلاثة تحمل قمصانَ رجالٍ يختلفون عنها، وصندوقًا يحمل قميصًا نظيفًا للمقارنة. طُلِبَ من كلٍّ أن تحدِّد أيها الأطيب رائحةً، وأيها ليس كذلك.

كانت استجابة النساء هي ما يتوقَّعه عالم بيولوجيا التطور: كُنَّ يُفَضِّلن الرجال ذوي المرتون المختلف. هذه الجينات تُعطي لكل فردٍ رائحةً تميِّزه ويمكن أن تُكْشَفَ.

وكانت النتائجُ المثيرةُ للتجارِب على الفئران قد قالت إن تفضيلَ الأنثى للذكر ذي المرتون المختلف يتغيَّر إذا حملَت الفأرة؛ فهي عندئذٍ لا تميلُ إلى الذكَر الذي يختلف عنها، وإنما إلى الفأر الذي يماثلها. الفأرة الحامل تفضِّل الذكورَ ذاتَ جينات المرتون الشبيهة بجيناتها، وتكون هذه عادةً من أقاربها، وكأنها تُريد أن تُربِّي نسلَها في حماية عائلتها! تقولُ الفكرةُ الشائعة إنه كلما ازداد تنوُّع مرتون الفرد ازدادت مناعتُه، وإذا ما كانت جينات المناعة لدى الوالدين متباينةً، فالأغلب أن يكون مرتون نسلهما خليطًا.

هل لنا أن نتوقَّع نفسَ الشيء في البشر؟ أن تبحثَ المرأة عن القرينِ من خارج العائلة، ثم تعود عندما تحمل، لترعَى أبناءها بين أفراد عائلتها؟ اتَّضَح أن هذا قد يكون صحيحًا؛ فعلى الرغم من أن معظم النساء قد فَضَّلْنَ الرجال ذوي المرتون المختلف، فإن مَن كُنَّ يتعاطَيْن حبوبَ منع الحمل منهن قد فَضَّلن الرجال ذوي المرتونات الشبيهة. المعروف أن مستوياتِ هرمون الإستروجين ترتفعُ في دم المرأة عندما تحمل، ومن المحتمل أنَّ محتوى حبوبِ منعِ الحمل من الإستروجين قد جَعَلَهُنَّ — بمعنًى ما — حوامل!

إذا كان الإنسانُ يستخدم الأنفَ في العثور على الرفيق، وإذا كانت حبوب منع الحمل تَقلِب التفضيل رأسًا على عقب، فستكونُ لهذه الحبوب نتائجُ خطيرةٌ حقًّا؛ لأنها ستَخدَع مَن تستعملها لتقعَ في غرامِ الرجل الخطأ — وهنا سيُصبِح الإنجابُ أكثر صعوبة؛ فالخِصْبُ قد ينخفض عند الزواج بالشخص الخطأ! هل علينا أن ننصحَ مَن تستعمل هذه الحبوبَ إذا ما وقعَت في غرامِ أحدهم، أن تتوقَّفَ عن تعاطيها لفترة، ثم ترى إن كانت لا تزال تراه جذابًا؟

تقول نظرية التطور إن البشر قد طوَّروا آلياتٍ للتكيف تزيدُ من التباين الوراثي، عند البحث عن الرفيق أو الرفيقة. في أثناء لعبة التزاوج يبحثُ الفردُ عن إشاراتٍ صادقة تؤكِّد التباين والمرتون يقع تحت طائلة الانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي، وهو يوفِّر دلالاتٍ وراثيةً صادقة؛ فمهمَّته المناعية هي التمييز بين الذات واللاذات. وقد أثبتَت دراسةُ فِدْكيند أن جيناتِ هَلَا تؤثِّر في رائحة الجسم وفي تفضيل الفرد للروائح المختلفة عن رائحته.

لكن، هل ينخفضُ الخِصْبُ حقًّا إذا تزوَّجَت المرأة «بالتركيب الوراثي» الخطأ؟ قامت كارول أوبر بفحص القضية في مجتمع الهاترايت المغلَق، في ساوث داكوتا، الذي يتم الزواج فيه مِن داخل الجماعة، وأمكَنَها تتبُّع الأسلاف فيه إلى ٦٤ أوروبيًّا هاجروا إلى هناك في القرنِ السادسَ عشَر؛ الأمر الذي يعني انخفاض التباين الوراثي في العشيرة. هؤلاء الناس لا يستخدمون العطور ولا مزيلات الروائح — هم يُعَظَّمون المرتون! يتزوَّجون مرةً واحدةً فقط، والطلاقُ عندهم ممنوع. الزواجُ يتمُّ عن حب، وإذا ما تزوَّجوا اهتمُّوا بإنجابِ أكبرِ عددٍ من الأطفال. وهم لا يستخدمون حبوبَ مَنعِ الحمْل إلا فيما ندر.

هل يتزوَّج هؤلاء إذن بمن يحمل مرتونًا غير مثيل؟ فحصَت كارول أوبر ٤١١ زيجةً، فوجدَت شيئًا عجيبًا؛ فعلى الرغم من انخفاض التباين الوراثي في جينات المرتون في هذه العشيرة المنعزلة، فقد اتضح أن الاختلافَ في هذه الجينات يُوَجِّه اختيارَ الزوجِ فعلًا؛ كانت نسبة زيجات ذوي المرتون المتشابه أقلَّ مما تتوقَّعه الصُّدفة. لا ينجذب رجلٌ إلى امرأة ولا امرأةٌ إلى رجل إذا كانت جينات المناعة لكلَيهما متطابقةً — كذا فَسَّرَت أوبر نتائجها. ثم فَحَصَت الباحثة قضيةَ ما إذا كان الخِصْب منخفضًا عند زواجِ أصحابِ المرتون المتشابه، وكان ذلك على ١١١ امرأة، فاتضح أن معدَّل الإجهاض في المتزوِّجات من الشبيه المرتوني، أعلى منه في المتزوِّجات بذوي المرتون المختلف.

حاولَت أوبر — ومعها ماكلينتوك — أن تعرِفا ما إذا كانت النساء يستطعن بالشم تمييزَ الفروق في جينات المناعة للرجال. في تجربةٍ تُشبه تجربة فدكيند طَلَبَتا من بعض النساء أن يَنْشقْن قمصانَ تي شيرت ارتداها رجالٌ ليومَين متعاقبَين. وُضعَت القمصانُ في صناديقَ مغلَقة يمكن شَمُّها ولا يمكن رؤيةُ ما بها. كان السؤال هو: «أي صندوقٍ تختارين إذا كنتِ ستعيشين مع رائحته طولَ الوقت؟» لم يَعرِفْن أن الرائحة هي رائحة رجال. وكانت النتيجةُ غريبة. استطاعت النساء فعلًا بالشم أن يُميِّزنَ الفروقَ في التراكيب الوراثية للرجال. كانت المرأة تُفَضِّل رائحة الرجل الذي يقتربُ تركيبه الوراثي من جينات أبيها، لا جينات أُمها.

اقتُرح أن الانجذابَ إلى رائحة جينات الأب قد تكون مقامرةً مضمونة العواقب، تضمن بها المرأةُ أن يحصلَ نسلُها على جزءٍ من جهازه المناعي مُجرَّب ومُختبَر. من هنا يكونُ انجذابُ المرأة إلى رجلٍ له رائحةٌ تُقارِب رائحة أبيها — ولكن ليس كثيرًا — يُمثِّل حلًّا وسطًا جيدًا.

المرأة تُفَضِّلُ الرجل ذا المرتون الغريب، ولكن ليس الغريب تمامًا!

فيرومونات الفتنة

في ظرف خمس سنوات اكتُشف ما يزيد على ٢٥ فيرومونًا بشريًّا، بينها ستة فيرومونات «للفتنة»، ومن هذه فيرومون الأندروستينون الذكَري. عُرضَت على بعضِ النساءِ صُورٌ لرجال، دون أن يعرفنَ أن بعضَها قد رُشَّ بالأندروستينون وأن البعض لم يُرَش، فكان أن وَجدَت الغالبية العظمى منهن أن الصورَ المرشوشةَ هي الأكثر جاذبية (أهذا هو السبب في الحب من أول نظرة؟). رُشَّت بالفيرومون بعضُ المقاعد في حجرة الانتظار بعيادة أحد أطباء الأسنان، وتُرك البعضُ دون رش، فظهر أن النساء يفضِّلن الجلوس على المقاعد المرشوشة. في تجربةٍ شبيهة أُجريَت في ثلاث كابينات تليفون متجاورة، رُشَّت واحدةٌ فقط منها بالفيرومون، فاتضح أن النساء يفضِّلن استخدام تليفون الكابينة المرشوشة. وفي تجربةٍ أخرى اشترك فيها تَوْءَمان طبيقان (يُشبِهان بعضَهما تمامًا)، ضُمِّخَ واحدٌ منهما بالفيرومون وتُرك الآخر دون رش، فإذا بالنساء يجدن التَّوْءَمَ المرشوشَ أكثَرَ جاذبية!

زوج الأم

في دراسةٍ أمريكيةٍ مثيرة عن أثَر الطلاق على الأطفال، ظهَر أن البنتَ التي تعيش مع أمها المطلَّقة المتزوِّجة من رجلٍ غريب، تصل إلى البلوغ مبكرًا عمن تُرَبَّى مع والدها البيولوجي؛ فبينما تبدأ البنتُ في العائلة الطبيعية الحيض عند عمر ١١ سنة، فإن من تُربَّى في بيت زوج الأم تحيضُ قبل ذلك بتسعة أشهر. بيَّنَت دراساتٌ أخرى أن هذا الأثَر يزداد وضوحًا إذا بدأَت حياةُ الطفلةِ في بيتِ زوجِ الأم في عمرٍ مبكر. قد يرجع ذلك إلى البيئة العَدَائية في هذا البيت، وقد يرجع أيضًا إلى وجود «ذكَر» غريب في المنزل؛ فوجود مثل هذا الرجل الغريب، بما يُذيعه من فيروموناتٍ ذكرية، قد يُسرع من حلول النضج الجنسي للبنت، على عكس الوضع عندما تحيا مع أبيها البيولوجي.

مهام أخرى للفيرومونات

صحيحٌ أن إفرازَ الفيرومونات يعتمد على المزاج، والصحة، والعمر، لكنَّ لكلِّ فردٍ منا «عبيرَه» المُمَيز. تستخدم الكلاب البوليسية بصمةَ الرائحة هذه الوراثية في تعقُّب المفقودين أو المجرمين، كما يَسْتخدمها الوليدُ عندما يبحث عن حلمة ثدي أمه؛ ففي اليوم الثاني من عُمره يمكنه أن يُدرِك ثديَ أمه بالفيرومونات التي تبعثُها الحلمة.

هناك مهامُّ أخرى لا ترتبط بالجنس. الفيرومونات الاجتماعية مثلًا تُحسِّن العلاقات بين الأشخاص، وهناك منها ما يؤثِّر في النبض والتنفس وحرارة الجلد والتوازن الهرموني. إننا على ما يبدو «حيواناتٌ فيرومونية». ويرى البعض أن عضو جاكوبسون لدينا هو ثالثُ أهمِّ حواسِّنا — بعد البصر والسمع — وقبل اللمس والشم. وهو يستجيب للفيرومونات بسرعة البرق؛ إذ يمكن أن تحدُثَ التغيُّراتُ الفسيولوجية في ظرفِ واحدٍ على الألف من الثانية، مما يؤكِّد أن ثمَّة سُبُلًا عصبية تمضي من عضو جاكوبسون مباشرةً إلى المخ. ثم إن كاشفَ الفيرومونات في أنوفنا حسَّاسٌ غاية الحساسية، حتى لَيستجيبُ إلى ٣٠ بيكوجرامًا من الفيرومون (البيكوجرام واحد على مليون بليون من الملِّيجرام). ولقد عُثِر في عام ٢٠٠٠م، على جِين أُطلِق عليه اسم VIRJI، يُحتمل أن تكونَ مهمَّتُه هي تخليق مُستقبِلاتِ الفيرومون في عضو جاكوبسون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥