الجوع الكافر

لستُ هنا بصدد الحديث في موضوعٍ طويلٍ شاملٍ عن الوسائل الممكنة التي تستطيع أن تُسهِم في التنمية الزراعية في بلادنا؛ أولًا؛ لأنها — في خطوطها العريضة — معروفةٌ للكافة، وثانيًا؛ لأنني بالطبع لا أستطيع في مقالٍ أن أُعالجَها جميعًا، وأَعرضَها بالصورة المفيدة، ثم إن مثل هذا العرض — لو أمكن تحقيقُه — لن يعنيَ سوى تشتيتِ التفكير، في وقتٍ انتشَر فيه الجوعُ الخفي، وغَدَا فيه من الضروري أن نحدِّد توجُّهاتِنا البحثيةَ لسدِّ الفجوة الغذائية التي اتسعَت وتتسع بشكلٍ مرعبٍ غيرِ مسبوق.

لقد أصبح الأمر يتطلب أفكارًا غيرَ تقليدية جسورةً في بحوثنا الزراعية، نستعين فيها بأحدث ما ظهر عن الغرب من تكنولوجيات، أفكارًا قد لا يكونُ البعضُ منها جديدًا تمامًا، وإنما هي قد ظهَرَت، وربما أُهملَت، في الغرب لسببٍ أو لآخر — وكثيرًا ما تكون للغرب أهدافٌ غير أهدافنا — لكنها أفكارٌ قابلةٌ للتطبيق لدينا. إن تحسينًا وراثيًّا (مُستَدَامًا) يرفعُ إنتاجَ محصولٍ ما، مثلًا بنسبة ١٪ سنويًّا، لم يعُد يكفي حتى لسدِّ حاجة نسلٍ يتزايد بنسبةٍ تفوقُ كثيرًا هذه النسبة. الطرقُ التقليدية التي وفَّرَت لنا كلَّ ما ينمو في حقولنا اليوم من محاصيل، لم تعُد قادرةً على أن توفِّر ما يكفي حاجةَ مَن سَيُولَدُ من أفواه — التراث باقٍ، هو الركيزة التي عليها نبني، لكن لا بُد أن نلجأَ إلى أعماق المعاصَرة. أصبح على علمائنا أن يطرقوا مجالاتٍ تحمل وعودًا أكبر.

ما سأقترحُه هنا من توجُّهاتٍ بحثية لم يَحْظَ لحدِّ علمي بما يستحقُّه من عنايةٍ وموالاة في بلادنا، وهو يتعلَّق بمنابلة المادة الوراثية لخدمة هدفنا في زيادة الإنتاج الزراعي، وهو بالتأكيد يتطلب جهودًا بحثيةً جادة، وتضافرًا بين التخصُّصات المختلفة، وقد يحتاج إلى تجهيزاتٍ معمليةٍ مكلِّفة بعضَ الشيء، لكن ما يقدِّمه يجعلني أراه الآن ضرورةً تستحق أولويةً في التمويل؛ فالمردودُ عند النجاح سيفوقُ بكثيرٍ كلَّ ما نتوقَّعه من طرق التربية التقليدية، لكني قبل البداية أودُّ أن أحكي عن تجربةٍ صغيرةٍ قمتُ بها، وقادَتْني إلى التفكير في مشروعٍ يحتاج إلى طُرقِ التربية التقليدية هذه، وسيكون المردودُ منها بلا شكٍّ ضخمًا.

عن زيت بذرة القطن

هي «تجربة» لم تَستغرِق يومًا، وظهَرَت نتائجها لتقدِّم مؤشرًا هامًّا نحو تحسينٍ وراثي ذي شأنٍ في نبات القطن، فَخْرِ مُرَبِّي النباتِ في مصر. في أواخر سبتمبر الماضي (٢٠٠٣م) أخذتُ بذورًا من خمسةَ عشرَ نباتَ قطن (جيزة ٧٠) من حقلٍ واحدٍ بأرض الكلية بالجيزة. قام المعمل بتقدير نسبة الزيت في بذور كلِّ نباتٍ على حِدَة. كنتُ أريد أن أعرفَ ما إذا كان هناك تباينٌ بين النباتات المُفرَدة للسُّلالة في نسبة الزيت، وإذا كان ثَمَّةَ، فما قَدْرُه؟ — والقطن كما نعرف هو المصدر الرئيسي لإنتاج زيت الطعام بين محاصيلنا الزراعية في مصر. نعم، قُطْنُنا هو أفضلُ الأقطان الطويلة التِّيلة في العالم، لقد أجهد علماءُ تربية النبات المصريون أنفسَهم طويلًا يُحسِّنون في صفات تِيلَته وراثيًّا، حتى وصلوا بها إلى هذا المستوى الرفيع، لكن، ما لنا قد أهملنا صفة نسبة الزيت في بذوره فلم نُخضِعها لأساليب التربية التقليدية، في وقتٍ نستوردُ فيه أكثر من أربعة أخماس ما نستهلكُه من زيت الطعام. الصفة لا تزالُ بِكرًا — لحدِّ علمي — وتستحقُّ أن تُفحصَ جيدًا.

ثم جاءت نتائجُ هذه العيِّنة الصغيرة؛ تراوحَت نسبة الزيت فيها ما بين ٩٫٨ و٢٠٫٤، هذه الصفةُ صفةٌ كَمِّيَّة، قد تَصِل قيمةُ عمقها الوراثي إلى ٣٠٪ أو ٤٠٪، نعني أن التحسين الوراثي المتوقَّع عند الانتخاب الوراثي فيها بالطرق التقليدية العتيدة سيكون سريعًا؛ في ظرف بضعة أجيال قد يمكنُ أن نرفعَ الناتج القومي من زيت بذرة القطن بمقدار الخُمس أو الرُّبع مثلًا! دون أن نستبدلَ الأصناف، دون أن نستغلَّ أرضًا زراعيةً إضافية! ربحٌ صافٍ! ربحٌ صافٍ من الزيت يحتاج فقط إلى مشروعٍ قومي ضخم يكون هَمُّه الرئيسي الانتخابَ الوراثيَّ لنسبة الزيت في بذور سُلالاتِ القطن لدينا، ويرتكز على التباين بين النباتات المفردة داخل كل سلالة! وفي ثنايا هذا المشروع ربما تطلَّب الأمر أن تُستخدَم الهندسة الوراثية في تحوير نِسَب الأحماض الدهنية التي تُشكِّل الزيت لنجعلَه أفضلَ غذائيًّا.

دمج الخلايا النباتية (التهجين الخضري)

كلُّنا سَمِع عن نبات البطاطم (البوماتو pomato) الذي أعلَن عنه ميلشرز وزملاؤه عام ١٩٧٨م (Melchers et al., 1978)، الذي ظنَّ أيامها أنه يحمل معه الكثير من الآمال. كان هذا الفريقُ البحثي قد دمج خلايا البطاطس العارية (البروتوبلاستات protoplasts) في خلايا الطماطم (وكلا النوعَين من العائلة الباذنجانية)، وأنتَج نباتًا هجينًا يحمل الطاقمَين الوراثيَّين للنوعَين، وأمَلُوا أن يُثمِرَ الطماطمَ فوق سطح الأرض، ودرناتِ البطاطسِ تحتها، فنختصر بذلك نصفَ مساحة الأرض الزراعية! غير أن التجربةَ العمليةَ في الحقل بيَّنَت أن هذا النبات يُعطي فوق الأرض ثمارًا صغيرةً سامَّة، ولم يُقَدِّم تحت الأرض ما يَصْلُح من درناتِ البطاطس، لكنَّ التقنيةَ رغم ذلك سهلة بالفعل وتستحق. ولقد قُمنا في كلية الزراعة جامعة القاهرة بتجريب هذا التهجين الخضري بين خلايا نبات الغاب (البوص) Phragmites الذي ينمو طبيعيًّا في المياه المالحة قُرب الإسكندرية، وبين خلايا كلٍّ من نباتَي الأرز والقمح (والأنواع الثلاثة تتبع العائلة النجيلية). نجح التهجينُ ونُقلَت البادراتُ الهجينة إلى الصوبة حيث رُوِيَت بالماء المالح، لنَنتخِبَ منها، جيلًا وراء جيل، ما استطاع بالفعل أن يتحمَّل الملوحة، وما يُنتِج حبوبًا تشبه حبوبَ الأرز أو القمح — فقد ظهَرَت لنا سنابل وبذورٌ متعددةُ الأشكال والأحجام. عَرَّضْنا الهجنَ إذن إلى ضغطٍ انتخابي لإنتاج سُلالاتٍ من الأرز ومن القمح تتحمَّل الملوحة، تَحملُ الجيناتِ المطلوبةَ منقولةً من الغاب. فيما أطلَقتُ عليه اسم «الهندسة الوراثية للفقراء.» وقد نجحنا في ذلك، ولدينا الآن بضعُ سُلالاتٍ من الأرز ومن القمح، أمكَن زراعتُها في مساحاتٍ معقولةٍ بأراضٍ مالحة وأعطت محصولًا وفيرًا لم نكن في الحقِّ نتوقعه؛ ففي الموسم الماضي (مايو ٢٠٠٣–سبتمبر ٢٠٠٣م) زرعنا أفضلَ سُلالةٍ منتخَبة من الأرز الهجين في ٥٠ فدانًا بمحافظتَي بني سويف والفيوم، في أراضٍ نسبة الملح بها ٣٣٠٠٠ جزء في المليون، وكان متوسط إنتاج الفدان ٤٫٢ أطنان، ثم إن الحبوب قد تميَّزَت بنسبةٍ مرتفعةٍ جدًّا من الحديد بلغَت ٣٥ ضعفَ النسبة في سُلالة الأرز الأصلية (جيزة ١٧٦). ثمَّة سُلالةٌ هجينةٌ منتخَبة من القمح زرَعْنا منها في موسم ٢٠٠٢-٢٠٠٣م عَشْرة أفدنة في نفس الأرض المالحة ببني سويف والفيوم، وبلغَت غلتُها في المتوسط ٢٫٤ طن من الحبوب، وبلغَت نسبة الحديد في حبوبها أكثر من ٨ أضعاف نِسبَتِه في القمح الأصلي (سخا ٦٩). ولقد بدأنا مؤخرًا الآن نجرِّب نفسَ هذا التهجين الخضري بين الذرة والغاب.

نتائجُ الجيل الأول لتهجين الذرة (سُلالة «القاهرة») بالغاب تبدو مبشِّرة، حتى لقد فكَّرْنا (أنا والدكتور أسامة الشيحي) في أن نكتفي للزراعة بالجيل الأول دون أن نقوم بعملية انتخابٍ كتلك التي قُمْنا بها في هُجن الأرز والقمح. نباتات الذرة الهجين التي زُرِعَت بالحقل أعطت جميعًا كيزانًا ككيزان الذرة، ولم تظهر منها صُورٌ مختلفة، مثلما السنابل المختلفة الشكل والبذور التي ظهَرَت في الهُجن الأولى للأرز والقمح. وبتحليل بعضٍ مما جمعناه من حبوب الذرة الهجين اتضح أن نسبةَ الحديد بها تبلغ نحو ١٦ ضعفَ نِسْبَتها في الذرة، كما كانت نسبة حِمضِ المثيونين الأميني أكثر من عشرين ضِعفًا، وبلغَت نسبة حِمض اللايسين أكثر من عشرة أضعاف، وللحامضَين والحديد أهميتُها البالغة في تغذية الإنسان والحيوان، لكن، كيف إذن سنقوم بإكثار الذرة الهجين هذه، وهي تحمل الجينومَين الكاملَين للذرة والغاب؟ بذورُها لا تصلُح لأنها ستُعطي نباتاتٍ غيرَ متجانسةٍ على الإطلاق. سنلجأ هنا إلى نتائج الثورة البيوتكنولوجية؛ إلى ما يُسمَّى بالبذور الاصطناعية، وهذا تكنيكٌ واعد في التكاثر الخضري يُستخدَم في تكثير النباتات المُهندَسة وراثيًّا، والنباتات التي لا تُنتِج بذورًا (كالموز)، والنباتات المتعدِّدة الطاقم الكروموزومي، التي تحمل صفاتٍ ممتازةً خاصة، والسلالات التي تُعاني من صعوباتٍ في التكاثر بالبذور والتقنية تُنتِج أجِنَّةً خضرية (يمكن تخزينها حتى ستة أشهر) مشتقةً من أنسجةٍ مُستزرَعة، تُغلَّف بغِلافٍ جيلاتينيٍّ واقٍ مع إضافة المواد الغذائية التي تحتاجها الأجِنَّة للإنبات، وبعض مُبيدات الفُطر والآفات والمضادات الحيوية، وربما بعض الفحم النباتي.

الاستنساخ بالبذور (حُلم المُربِّي)

الاستنساخُ بالبذور، أو الأبومكسية Apomixis، هو عمليةُ تكاثرٍ غامضةٌ معقَّدة ومُراوِغة تحدُث في أكثر من ٤٠٠ نوعٍ نباتي، معظمها من العائلة النجيلية والمركَّبة والوردية، لكنها لا تُوجَد إلا في القليل من النباتات الاقتصادية — ربما كان أشهرها نباتات المانجو والموالح — وفيها يُنتِج النباتُ الأم بذورًا تحمل نفسَ تركيبه الوراثي، دون تدخُّل من المادة الوراثية لحبة اللقاح، وهي لا تنفي التكاثُرَ الجنسيَّ الطبيعيَّ للنبات؛ فقد يُنتِج النباتُ الواحد كلتا الصورتَين من البذور، الأبومكسية والجنسية. الواضح من الأبحاث حتى الآن أن هذه الصفةَ تتوقف على جين «سوبر»؛ أي مجموعة من الجينات تنتقل دائمًا سويًّا كحزمة. لو أمكن التعرفُ على هذا الجين «السوبر»، وتشريحُه جُزيئيًّا، ثم نقلُه بالهندسة الوراثية إلى نباتات المحاصيل المختلفة، فالمؤكَّد أنْ ستحدُث ثورةٌ في الإنتاج الزراعي تَتقَزَّم أمامَها نتائجُ الثورةِ الخضراءِ في ستينيات القرن العشرين. من الممكن بالأبومكسية أن ننتخبَ نباتًا واحدًا متميزًا من حقل، لنُنتِج منه سلالةً تُلائِم المنطقة التي ظهر بها هذا النبات. بالأبومكسية إذن نطوِّع التركيب الوراثي للنبات ليلائم البيئةَ الصغيرةَ التي يحيا بها، بدلًا من أن نطوِّع البيئةَ الزراعيةَ لملاءمة النبات، كما هو الحال الآن مع السلالات المختلفة من المحاصيل المنتخَبة بالطرق التقليدية، التي يلزم أن تُهيَّأ البيئة كي تلائمها؛ هذا يعني سهولة إنتاج سُلالاتٍ خاصة من كل محصول لكل محافظة مثلًا أو حتى مركز. ثم إننا نستطيع أيضًا أن نحفظَ السلالات الخليطة تتكاثر بالبذور جيلًا وراء جيل دون أن تفقدَ «قوة الهجين»: إننا نقتنص تركيبًا وراثيًّا متفردًا جاء بالصُّدفة، ونحفظه كما هو سليمًا ينتقل بالبذور عبْر الأجيال. يستطيع الفلَّاحُ الصغير هنا أن يحتفظ ببذوره الخليطة — التي أصبحَت بالأبومكسية صادقةَ التوالُد breeding true — يزرعها الموسم بعد الموسم، دونما حاجة إلى شرائها سنويًّا. ثم إن نباتاته بالحقل ستكون متماثلةً ممَّا يُسهِّل عملياتِ الميكنة والحصاد. كما يمكن أن نُكاثِرَ بالبذور بعضَ النباتات التي تتكاثر في العادة خضريًّا (كالبطاطس)، والبذور كما نعلم أسهلُ في النقل، ولا تحملُ معها عادةً الآفاتِ التي تنتقلُ بالأجزاء الخضرية.
نعم، لو أمكن أَسْرُ هذا الجين السوبر الخطير، فستنقلب الزراعة رأسًا على عَقِب في العالَم كلِّه، وسيرتفع الإنتاج بشكلٍ مذهل، وستتغيَّر طرقُ التربية. سيخدم هذا الجين مؤكدًا الفلاحَ الفقيرَ في دول العالم الثالث، في نفس الوقت الذي يُهدِّد فيه شركات البذور الكبرى. ليس من الغريب إذن أن تُعَتِّمَ الشركات على نتائجها لتصبح شبهَ سرِّيَّة، ولا تُتيحها لبرامج التحسين الحكومية في دولٍ مثل بلادنا. الشركاتُ العملاقة هي التي تعرف الكثير عن الأبومكسية، وهي التي تقوم بتسجيل براءاتٍ لما تكتشفُه عنها؛ إذ تدرك تمامًا أنها بهذا الجين تستطيع أن تُحوِّلَ الزراعة كما نعرفُها، نحو أهدافها الربحية. من هنا كان إعلانُ بيلَّاجيو Bellagio Declaration في مايو ١٩٩٨م، الذي حذَّر من أنَّ تركيز الحقوق القانونية للأبومكسية في يد عددٍ محدودٍ من الشركات سيَحرفُ هذه التكنولوجيا الواعدة بعيدًا عن معالجة حاجات فقراء الفلَّاحين. من الواجب أن تُلْقَى على عاتق الأجهزة البحثية العامة والدولية مهمَّةُ القيام بالبحوث الأساسية والتطوير في هذا المجال.

جينات التمثيل الضوئي

يتغير جوُّ العالم من حولنا، كما نعلم؛ فلقد دخلنا في عصرِ «ظاهرة الصوبة»، عصرٍ تزدادُ نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في جَوِّه، وترتفعُ فيه درجةُ الحرارة، ونتوقَّع فيه تقلباتٍ مناخيةً حادَّة، كما نتوقَّع أيضًا شحةَ المياه للزراعة، مع تآكل مساحات الأرض الصالحة للزراعة وتدهور التربة، بجانب تزايُد أعداد السكان وما تتطلَّبه من زيادة الإنتاج الزراعي. أصبح على مربِّي النبات أن يُنتجوا سُلالاتٍ من نباتات المحاصيل يكفيها أقلُّ قَدْر من مياه الري، وتتميَّز بكفاءةٍ أعلى في استخدام ضوء الشمس.

يبحث المُربِّي دائمًا عن الجينات المرغوبة في سلالته كي يُكَدِّسها أو يركِّزها، فإذا لم يجِد الجديدَ لأن سُلَالَتَه قد وصلَت أقصى ما تستطيع، بَحَث عن الجينات في السلالات البرِّية ينقلها بالتهجين وبالتلقيح الرجعي والانتخاب ليُضيفَ ما يستطيع من جيناتٍ جديدة. وإذا لم يعُد هذا ممكنًا بَحَث عن الجينات في نباتٍ آخر، أو في أي كائنٍ حيٍّ آخر، لينقلَها إلى سُلالته بالهندسة الوراثية. وبالهندسة الوراثية يستطيع أيضًا أن ينقل جيناتٍ لا تُوجَد أصلًا في سُلالته!

ثمَّة سبيلان معروفان لتمثيل ثاني أكسيد الكربون الجوي ضوئيًّا؛ أولهما هو السبيل ك٣ C3، وتستخدمه معظمُ نباتاتِ محاصيل الحقل، كالقمح والأرز، لكنَّ هذا السبيلَ ليس بالسبيل الأكفأ؛ فالنباتات هنا تُمثِّلُ ثاني أكسيد الكربون الجوي إلى سكَّر، لكنَّ جزءًا من إمكانات إنتاج السكَّر تضيع فيما يُسمى «التنفس الضوئي» في ضوء النهار، تُطلِق فيه ثاني أكسيد الكربون إلى الجو ثانيةً. عندما بدأ تطوُّر النباتات لم يكن هذا التنفُّس الضوئي مُهِمًّا. كانت نسبةُ ك أ٢ في الجو مرتفعةً وكانت نسبةُ الأكسجين منخفضةً. ومع ارتفاع نسبة الأكسجين في الجو — الناتجِ الثانويِّ للتمثيل الضوئي — بدأَت عملية التنفس الضوئي تتزايد، وهي تُخَفِّضُ من حصيلة التمثيل الضوئي بنسبةٍ بلغَت الآن نحو ٤٠٪، أما السبيل الثاني فهو السبيل ك٤ C4 للتمثيل الضوئي، الذي تَغَيَّر فيه تركيبُ الورقة ورُكِّز فيه ثاني أكسيد الكربون حول إنزيم التمثيل؛ ومن ثَمَّ ثُبِّط التنفسُ الضوئي، وازداد معدَّل التمثيل. تكونُ نباتاتُ ك٤ إذن سريعةَ النمو ذاتَ كفاءةٍ أعلى في استعمال المياه وتحمل الحرارة. وأهم نباتات ك٤ من محاصيل الحقل الذرة وقصب السكَّر.
يتحكم في عملية التمثيل الضوئي إنزيمٌ ذو وظيفةٍ ثنائية اسمه روبيسكو Rubisco، يُفضِّل تفاعلَ الكربوكسيليز في بناء السكَّر عند ارتفاع نسبة ك أ٢ في الجو، أما مع ارتفاعِ نسبة الأكسجين فإنه يزكِّي تفاعُل الأوكسيجينيز المؤدِّي إلى التنفس الضوئي. من المفيد إذن أن نُهَنْدِسَ صفة ك٤ في الأرز والقمح لرفع الإنتاجية. أمكَن التعرُّف في الذرة على ثلاثة الجينات الأهم للسبيل ك٤ (PEPC وPPDK وME)، وقام العلماء بنقل أول جينَين إلى نبات الأرز، كُلٌّ وحْدَه. بيَّنَت التجاربُ الحقليةُ الأولى التي تمَّت في الصين وكوريا زيادةً في محصول الأرز بلغَت ١٠–٣٠٪ عند نقل الجين PEPC، وزيادةً وصلَت إلى ٣٠–٣٥٪ عند نقل الجين PPDK. تمَّت هذه الزيادة بإضافة جينٍ واحدٍ فقط. كانت النباتات المُهندَسة وراثيًّا تَمْتَصُّ من ثاني أكسيد الكربون نسبةً تزيد بمقدار ٣٠٪ عن النباتاتِ غيرِ المهندَسة. إن الأمر يتطلَّب تضافُر البحوث الوراثية والتربوية والفسيولوجية الجادة لتحويل الأرز والقمح إلى السبيل ك٤ C4؛ فالمردود الوراثي المُستَدَام سيكون بلا شكٍّ هائلًا. هذا مجالٌ بحثيٌّ خطيرٌ علينا أن نطرقَه.

تطُوف بخيالي الآن فكرةٌ بسيطة سيكون مردودُها هائلًا لو نجحَت. ماذا لو سحَبنا نواةَ خلية من خلايا القصب ووضعنا مكانها نواة خلية أرز (أو قمح). سيكون الناتجُ خليةً جهازها الوراثي الأساسي هو جهاز الأرز وإنما معظم جينات التمثيل الضوئي (في سيتوبلازم) خلية القصب؟ أي إننا سنُحيل الأرز إلى نباتٍ من نباتات ك٤ دون إجراءِ عملياتِ الهندسة الوراثية المُتعارَف عليها! فكرة تستحقُّ التجريب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥