القاتل الصامت
أبدًا. كان منظرًا غريبًا وجميلًا. انطبع في ذهني، ولا يزال. كُنَّا قد توقَّفنا بالعربة عند إشارة مرور قرب مدخل كُلِّيتنا بشارع الجامعة. نَظَرْتُ، عَرَضًا، إلى الرصيف بجانبي. وهناك شاهَدْتُهما؛ طفلتَين؛ واحدة عمرها نحو سنة والأخرى سنتين أو أكثر شهورًا. كانتا تجلسان وحدَهما قبالةَ بعضِهما على خِرقةٍ قديمة (أين الأم؟).
ترتديان أسمالًا. وَجْهُ كُلٍّ منهما يحمل قَدْرًا من القَذَر قليلًا. قَدْرًا يُضفي شيئًا من شقاوة الطفل المحبَّبة. الكبرى تُمسِك بقطعةٍ من الحلوى، تُقَرِّبُها من فَم الصغرى، فتفتح هذه فَمَها، لتُبعدها الكُبرى بسرعة، ثم تنخرط الاثنتان تضحكان من القلب. وتتكرَّر المحاولة، وتُقهقِهان، وكأن العالَم من حولهما يضحك، سعادة الدنيا كلها، خُلق الكون لهذه الضحكة البريئة، خُلق من هذه الضحكة البريئة. الأطفال، الوجود مُكثفًا في قطراتٍ صغيرة تضجُّ بالحياة، بالحب. بالأمل. انتقلَت البهجة إليَّ، علَت الابتسامةُ قلبي، فَتَفَتَّح. فَتَحْتُ باب السيارة، نزلتُ، اتَّجَهْتُ إليهما، أخرجتُ من جيبي جنيهًا وأعطيتُه للكبرى، نظرةٌ في عينَيها تقول: ما هذا؟ قطعة الحلوى الصغيرة، عندها، لا شك، أَثْمَنُ، ما هذه الورقة؟ بدا في عينَيها شيءٌ من الخوف. تَرَكْتُها على الفور، ورجعتُ إلى السيارة، جلستُ، حَمِدْتُ الله أن في بلادي لا تزال مثل هذه الضحكة الطفلة، لا تزال، لكِ الله يا مصر. مضيتُ بالعربة في طريقي إلى الكُلِّية، عادت إلى ذهني رأيتُها كثيرًا، صُورٌ لأطفالٍ أنهكَهم الجوعُ حتى الموت، الحياةُ الغَضَّةُ تذبُل وتنطفئ، ويُحْرَمُ العالمُ من أن تتردَّد في جَنَباته مثلُ هذه الضحكات الصافية العذبة، مثل هذه الآمال الخضراء.
•••
يُقلِقني الجوعُ كثيرًا، وكثيرًا، ويُقلِقك أنت الآخر، لا شك؛ لأنه من صُنْع الإنسان. الجوع، هذا القاتلُ الصامتُ الذي يُحيلُ الإنسانَ إلى شبح، بعد أن يجرِّده حتى من جسده! هذا الجوع، يا للأسف، يصنعه البشر. يقول غاندي إن «بالعالَم ما يكفي حاجةَ الإنسان، لا جَشَعَ الإنسان.» يموتُ بالدول النامية ٩١ طفلًا من كل ألفٍ قبل بلوغ الخامسة. في كل يومٍ يموتُ بالعالم النامي أكثر من ٣٠ ألفَ طفلٍ لأسباب يمكن الوقاية منها والعلاج؛ الإسهال، وأمراض الجهاز التنفسي الحادة، والحصبة، والملاريا. تَفْتِكُ هذه بالأطفال الجوعَى بسهولةٍ بالغة. بسبب الجوع يحصُد الموت كلَّ عامٍ ستةَ ملايينِ طفل، يُحرَم عالَمُنا من ضحكاتهم، من سذاجتهم. وأرض الله تعطي من الطعام ما يكفي كلَّ سكانها، يكفيهم وزيادة. إن ما تُنتِجه الأرض من القمح والأرز وبقية الحبوب يمكن أن يوفِّر لكل فردٍ على ظهر البسيطة ٣٥٠٠ سُعرٍ في اليوم — بجانب الخضراوات والبقول والنُّقل والدرنات والفواكه واللحم والأسماك والبيض. هذا القَدْر من السُّعرات يحويه ٤٫٣ أرطال من الغذاء؛ ٢٫٥ رطل من الحبوب والبقول والنُّقل، ورطل من الفاكهة والخضراوات، ونحو رطلٍ من اللحم واللبن والبيض. هذا قَدْرٌ يكفي ليصبح سكان الأرض جميعًا بُدناء؛ فالحد الأدنى المطلوب للفرد هو ٢٣٥٠ سُعرًا في اليوم، كما تقول منظمة الأغذية والزراعة، لكن هناك بعالمنا ٨٤٠ مليونًا من الجوعَى، منهم ٧٩٩ مليونًا بالعالم الثالث، وهناك بجوارهم بعالمنا أيضًا، ١٫٢ بليون فرد يُعانون من السُّمْنَة!
يموت بسبب الجوع كل عام ١٥–٢٠ مليونًا من البشر. كم منهم يا تُرى يموت في بلادنا في صَمْتٍ لا نسمعه؟ إن المشكلة الحقيقية هي أن الكثيرين أفقر من أن يجدوا ثمَن القُوت، أفقر من أن يتمكَّنوا من أن يحفظوا أطفالهم يُذيعون البِشر بين البَشر (والفقير — حسب تعريف البنك الدولي — هو مَن يقلُّ دخله اليومي عن دولار). حتى معظم الدول «الجائعة» لديها من الطعام، أو تستطيع أن تُنتِج من الطعام، ما يكفي كلَّ سكانها، الآن. تقارير الأمم المتحدة تقول إن الحاجات الأساسية للصحة والتغذية لأفقرِ شعوبِ العالم، يمكن أن توفِّرها سنويًّا ١٣ بليون دولار؛ أقل مما يُنفَق بالولايات المتحدة وأوروبا كل عامٍ على الحيوانات الأليفة.
كيف تموت جوعًا؟
يأتي الموت جوعًا إذا لم يحصل الإنسانُ على حاجته من المواد الغذائية، أو إذا لم يُمكِنه تمثيلُ ما يأكلُه من طعام أو امتصاصُه. يحدُث هذا لأسبابٍ عديدة، كالصيام، أو القَمَه (انعدام الشهية للطعام)، أو الحرمان، أو السكتة الدماغية، أو الغَيبوبة، أو بعض أمراض الجهاز الهضمي. وأيًّا كان السبب، فإن آثار الجوع تتخذ سبيلًا واحدًا، من ثلاث مراحل؛ وما يحدث في أول مرحلتَين يحدث حتى خلال فتراتٍ قصيرة نسبيًّا من الصيام أو الرجيم، أما المرحلة الثالثة فلا تحدُث إلا بعد جوعٍ طويل، وقد تنتهي بالموت في غضون ٨–١٢ أسبوعًا.
في المرحلة الأولى ستقاسي من عَضَّة الجوع. لن تستمر هذه سوى أيامٍ قليلة تختفي بعدها الآلام. يحفظ الجسم مستوى سكَّر الجلوكوز في الدم بإنتاج هذا السكَّر من الجليكوجين والدهون والبروتينات. في البداية يتحلل الجليكوجين إلى جلوكوز. على أنَّ قَدْر الجليكوجين المخزون في الكبد لا يكفي إلا لبضع ساعات، ليحفظَ الجسم مستوى هذا السكَّر بعد ذلك عن طريق تحليل البروتينات والدهون. تتحلل الدهون إلى أحماضٍ دهنية وجليسرول. يمكن للجسم أن يستخدم الأحماض الدهنية كمصدرٍ للطاقة، لا سيما في عضلات الهيكل العَظْمي؛ ومن ثَمَّ يقلُّ استخدامُ الأنسجة (غير المخ) للجلوكوز. يستطيع الجسم أن يَسْتغل الجليسرول في صناعة قَدْرٍ ضئيلٍ من الجلوكوز، لكنَّ معظمَ الجلوكوز يأتي عندئذٍ عن الأحماض الأمينية التي يتألَّفُ منها البروتين، ثم إن بعضَ الأحماضِ الأمينية قد تُستغَلُّ مباشرةً لإنتاج الطاقة.
أما المرحلة الثانية — التي قد تستمر بضعة أسابيع — فيكون مصدر الطاقة الرئيسي فيها هو مخزون الجسم من الدهون. يقوم الكبد بتمثيل الأحماض الدهنية إلى أجسامٍ كيتونية يمكن أن تُستخدَم كمصدرٍ للطاقة. وبعد أسبوعٍ من الجوع يبدأ المخ في استخدام الكيتون بجانب الجلوكوز في توليد الطاقة، ومن هنا تقلُّ الحاجة إلى الجلوكوز، وينخفض — لا يتوقف — معدلُ تحليل البروتين، ويستخدم الجسم أولًا البروتيناتِ غيرَ الأساسية للبقاء.
تبدأ المرحلة الثالثة بعدما يستنزفُ الجسمُ مخزونَه من الدهون، فيتحوَّل إلى البروتينات التي تُشكِّل سيتوبلازم الخلايا، لتصبح هذه هي المصدرَ الرئيسيَّ للطاقة. تُسْتَنْزَفُ عندئذٍ، وبسرعة، العضلات، أكبر مصْدر للبروتين في الجسم. وعلى نهاية المرحلة تتحلَّل البروتينات الأساسية لحفظ وظائف الخلايا، فتَضمحِل وتتدهوَر وظائفُها. ثم يحلُّ الموتُ نتيجة العجز عن توفير حاجة المخ للجلوكوز؛ تَحلُّ صدمةُ السكَّر لتودي بالحياة.
تشمل أعراضُ الجوع الشديد بجانب الهُزال وفقدان الوزن (الذي قد يصل إلى ٥٠٪ من وزن الجسم في البالغين، وربما أكثر من ذلك في الأطفال)، البلادة والانسحاب وازدياد القابلية للإصابة بالأمراض المُعْدية، بل ويموت بعضُ الجوعَى لأنهم يُصابون أولًا بالأمراض المُعْدِية. يَصْغُرُ حجم القلب ويبطُؤ النبض وينخفضُ ضغطُ الدم ومعدل التنفس ودرجة حرارة الجسم. هناك غير هذه أعراضٌ أخرى، منها صعوبة التئام الجروح وتغيُّر لون الشعر، وتقَشُّر الجلد والاستسقاء (في البطن والرجلَين) بسبب نقص المحتوى البروتيني للدم.
لماذا نجوع؟
كيف يتأتَّى أن يُوجَد كل هؤلاء الجوعَى، وأن يكون الفلاحون هم الأكثر جوعًا؟ ربما وجدنا السبب في الهدف الذي من أجله تُزْرَعُ الأرض في زماننا هذا. يقول البروفسور «ريتشارد روبينز»: «لكي نعرف لماذا يجوع الناس، علينا أن نفكِّر في الطعام، لا كشيءٍ يزرعُه الفلاح ليأكل الآخرون، وإنما كشيءٍ تُنتِجه الشركات ليشتريَه الآخرون.» لقد أصبح الطعامُ سلعةً في السوق يَسري عليها ما يَسري على كل السلع. أصبح مسألةَ عرضٍ وطلَب، سلعةً متاحةً لمَن يمتلك ثمَنَها، وليس بالضرورة لمَن يحتاجُها. والطعامُ يختلفُ عن غيره من السلَع. إذا ارتفع سِعرُ التلفزيون أو الكمبيوتر فَلَكَ أن تمتنعَ عن الشراء، لكنك لا تستطيع أن تمتَنِعَ عن شراء رغيف الخبز إذا ارتفع سِعرُه. يمكنك فقط أن تقلِّل استهلاكك، أن توفِّر «طَقَّة» أو «طَقَّتَيْن»، أو أن تموتَ جوعًا! لُغَةُ المالِ هنا تُمْلِي وتَطْغَى. وإذا تحدَّث المال فلن تسمعَ للفقيرِ صوتًا. الدولُ الفقيرة التي تحتاجُ النقدَ الأجنبي تدفعُ به ديونها، تجد في المحاصيل النقدية الملجأ، تجد في محاصيل التصدير الحل. في الكاريبي يموت الفلاحون جوعًا وهم يجلسون أمام حقول الأزهار المزروعة للتصدير. الديون الأجنبية في الدول الفقيرة يسدِّدها فُقراءُ لم يستدينوا، ولم يُنْفَقْ عليهم الدَّينُ. يسدِّدون ١٣ دولارًا عن كل دولارٍ اقترضَتْه دُوَلُهم. الموارد تَتَحَوَّلُ لتُنتِج حاجاتِ مَن يَدْفَع أكثر (الأغنياء ودول الغرب) ولا تتحوَّل نحوَ متطلَّباتِ مَن يحتاجُها أكثر (الفقراء). إذا لم تكن تملكُ ما تشتري به الطعام، فلن يَزرَعَه لك أحد. للقضاء على الجوع لا بد أن تقضيَ أولًا على الفقر، أو أن تَضْمَنَ على الأقل دخلًا لكل مُواطنٍ يشتري به خُبزَه.
في يونيو ٢٠٠٢م عقدَت منظمة الأمم المتحدة مؤتمرَ قمة الأرض للغذاء، كي تتفحَّص السببَ في استمرار الجوع بالعالم، بعد بدء تنفيذ خطةٍ كانت هذه القمة قد وضعَتْها عام ١٩٩٦م، فشلَت الخطة في تحقيقِ أكثر من ٤٠٪ من أهدافها، وبدا من الواضح أنه من المستحيل أن تتحققَ الأهدافُ المرجوَّة لعام ٢٠١٥م، بل إن الجوع سيتفاقم.
جوعُ العالَم عرَضٌ رهيبٌ لفقر العالَم. هناك بعالمنا هذا أكثر من بليون شخصٍ يعيشون على أقل من دولارٍ يوميًّا، وثلاثة بلايين يعيشون على أقلَّ من دولارَيْن. وهناك في نفس الوقت بضعُ مئاتٍ من المليونيرات يمتلكون سويًّا ثروةً تُعادل دخلَ أفقر ٢٫٥ بليون فرد. إذا اتجهَت الجهودُ فقط إلى توفير الطعام أو تحسين إنتاجه أو توزيعه، فستَبقَى الجذور الأساسية التي ينشأ عنها الجوع والفقر والتبعية. إن معالجةَ الجوعِ بتقديم المعونات الإنسانية من الغذاء، أو حتى بزيادة الإنتاج، إنما يُعالِج أعراضَ الفقر، لا أَسْبَابَه. وهذا لا يعني أبدًا أن نُوقِفَ الأبحاثَ لزيادة إنتاج الطعام. إن الأمر يستدعي حلولًا سياسية لمعالجة الأسباب السياسية. محاولة حل مشكلة الغذاء بزيادة إنتاجه تُهمِل العلاقة بين الفقر والجوع. والفقر في أغلبه قضيةٌ سياسية. قد يبدو الجوع قضيةً اقتصادية، لكنَّ الأوضاعَ التي تؤدي إلى الفقر أسبابٌ سياسية، تنتهي إلى أن تصبحَ اقتصادية. الناس كما ذكَرنا جوعَى ليس لعدم وجود الطعام، وإنما لأنهم لا يستطيعون شراءه. السياسة تؤثِّر كثيرًا في إنتاج الطعام؛ مَن يُنتِجُه ومَن يستفيدُ منه. أيُزرع للتصدير أم لإطعام الجوعَى؟
تقولُ التقاريرُ إنه منذ عام ١٩٩٦م تآمَرَت مجموعةٌ من السياسات على تحطيم فقراء الفلاحين والتعاونيات الزراعية في الشمال وفي الجنوب. تضمَّنَت هذه السياساتُ تحريرَ التجارة، ووضَعَت المزارعين بالعالم الثالث في مواجهة مزارع الشركات المدعومة بالشمال. دُفعَتْ دولُ العالم الثالث إلى التخلِّي عن دعم أسعار الطعام، وإلى الترويج المُفرِط لِسلَع التصدير على حساب محاصيل الطعام، وإلى تشجيع الشركات على تسجيل البراءات للموارد الوراثية للمحاصيل — فتفرض ثمنًا يدفعُه الفلاح إذا استخدَمها — بجانبِ تحيزٍ في البحوث الزراعية تجاه تكنولوجياتٍ غالية وصِفاتٍ نباتية تهمُّ الشركات. كانت البحوث الزراعية تُجرى بأيدي الفلاحين ولمصلحة الفلاحين، وكانت كلها مكيفةً لظروف بيئتهم واهتماماتهم الثقافية. ثم حلَّ الاستعمار والتصنيع، وانقلبَت موازينُ البحث الزراعي، ليتحرَّك من المزرعة إلى المعمل تحت إمرة وتوجيه علماء الغرب، تحوَّلَت الزراعة لتصبح زراعةً مُصَنَّعَةً تخدم أهداف الشركات الكبرى — شركات المبيدات والبذور والأسمدة والأغذية والأعلاف — لتُحيلَ الطعامَ إلى سلعة.
في مؤتمر القمة هذا الأخير، وقف ممثل الولايات المتحدة، وحده بين ممثلي دول العالم، يُحاوِل أن يُنهيَ جدلًا حول مسوَّدة الإعلان الذي ستُوقِّعه قمة الغذاء. طلبَت الولاياتُ المتحدة أن تُحذَفَ كل إشارة إلى أن «الطعامَ حَقٌّ من حقوق الإنسان.» ثم طلبَت، وبقوة، أن يُضاف «أن المحاصيل المُهَنْدَسَة وراثيًّا هي الطريق الأساسي للقضاء على الجوع.» وفي النهاية قبلَت الولايات المتحدة صيغةً غير إلزامية وغير مباشرة، على أن يتم تطويرها خلال سنتَين، لكن الإعلان كرَّر أخطاءَ إعلانِ قمة ١٩٩٦م، التي أدَّت إلى الفشل في تحقيق هدف «تخفيف الجوع»، بأن صادقَت على حرية التجارة، والتعديل الهيكلي للدول الفقيرة، والدعوة إلى دورٍ أكبر لاستثمارات القطاع الخاص. قال «جاك ضيوف»، مدير منظمة الأغذية والزراعة: «إن العجز عن معالجة سوء التغذية الصامت للملايين من الأطفال والبالغين في زمن السلم، لا بد أن يُعْتَبَر انتهاكًا لمبدأ الحق في الطعام.»
يقولون إن هناك الكثير والكثير جدًّا من الناس، وإن هذا الانفجار السكاني الرهيب في دول العالم الثالث هو السبب في الجوع. ظهَرَت هذه الفكرة، كسببٍ للجوع، في إنجلترا القرن السادسَ عشَر، عندما بدأ «السادة» يطردون الفلاحين من أراضيهم. روَّجَت للفكرة «الصفوة» من المفكِّرين، التي تتحكَّم في المؤسَّسات الاجتماعية والتعليمية. كان من الطبيعي إذن أن يُلْقَى بالمسئولية على الفقراء، وأن تُبرَّأ الطبقة الأرستقراطية التي تُمسِك بزمام السلطة، والغريب حقًّا أن إنجلترا في ذلك الوقت، التي اعتُبرَت مكتظةً بالسكان، كانت تحمل من البشر أقلَّ مما تحمله مدينة لندن الآن! والحقيقة هي أن معدَّل التزايد السكاني يتناقص الآن في العالم كله، صحيحٌ أنه لا يزال مشكلةً خطيرةً في الكثير من الدول، لكنه أبدًا لا يفسِّر الجوع. بنجلاديش بلدٌ يكتظُّ بسكانه، وهو بلدٌ جائعٌ جائع. هذا صحيح، لكن نيجيريا والبرازيل وبوليفيا بلادٌ وفيرةُ الإنتاج، بها الوفرة، وبها الجوع أيضًا. يخصُّ الفردَ من المساحة المزروعة في كوستاريكا نصفُ ما يخصُّ الفردَ في هوندوراس، لكن كوستاريكا تفخر بأن متوسط العمر المتوقَّع بها (دليل حسن التغذية) يزيد ١١ عامًا عنه في هوندوراس. سرعة النمو السكاني، مثله مثل الجوع، إنما ينجُم عن ظلمٍ يحرِم الناس — والنساء بخاصة — من الفرص الاقتصادية والأمن. سرعة التزايد السكاني، والجوع، هما من الأمراض المتوطِّنة في المجتمعات؛ حيث تكونُ ملكيةُ الأرض والوظائف والتعليم والرعاية الصحية والأمان في العمر المتقدم، كلها أبعد من متناول معظم الناس.
الحق في الطعام
الحق في الطعام يعني أن يحصل كل فردٍ على ما يكفيه من طعامٍ مأمونٍ مُغَذٍّ مقبولٍ ثقافيًّا. وإقرار هذا الحق من قِبل الأمم المتحدة يعني أن تلتزم به الحكومات. ولقد عَيَّنَت الأمم المتحدة مقرِّرًا خاصًّا يعمل مع الحكومات والمجتمع المدني من أجل إعمال هذا الحق. وفي عام ٢٠٠٣م، قرَّرَت الحكومة البرازيلية أن تضع لنفسها هدفًا رئيسيًّا؛ «ثلاث وجباتٍ لكل برازيلي.» لقد آن الأوان لنقضيَ على الجوع، و«الحق في الطعام» قد يكون أداةً فعَّالةً لبلوغ هذا الهدف.