الأميرة الفارسية

في أكتوبر ٢٠٠٠م، دَاهَمَ البوليس الباكستاني منزلًا في كراتشي، وقبَضُوا على إيراني اسمه الحاج علي أكبر، ومعه فيلم فيديو عن مومياء قديمة كان يريد بيعها لتُهرَّب إلى الخارج. بعد استجواب الرجل، قاد البوليسَ إلى بلدة «قِطَّة»، عاصمة مقاطعة بلوخستان، قُرب الحدود الإيرانية الأفغانية، ثم إلى منزل بأحد الشوارع الخلفية للمدينة؛ حيث تُوجَد المومياء — منزل كان يقطنه سردار والي محمد ريكي، مُربِّي الجِمال ورئيس قبيلة ريكي، التي يصل تعدادُها إلى ١٦٠ ألف شخص. كان يَعْرِضُ المومياءَ للبيعِ في السوق الدولية السوداء للآثار بمبلغ يصل إلى ١١ مليون دولار، سيقتسمه مع الإيراني شريف شاه باخي، الذي ادَّعَى أنه قد عثَر على المومياء عقب زلزالٍ في موقعٍ أركيولوجيٍّ بالصحراء.

كانت لقيَّةً مُذهِلةً مُدهِشةً؛ مومياءَ رائعةً لأميرة فارسية قديمة. ترقُد في تابوت من حجرٍ منقوش داخل ناءوسٍ خشبي، وهي ترتدي تاجًا ذهبيًّا رائعًا وقناعًا. جَسَدُها الملفوف بالقماش كان يحمل مصنوعاتٍ ذهبيةً. رأى البوليس أنه قد وقَع على كشفٍ هائلٍ سيهزُّ الدنيا. لا بُد أن يُذَاعَ الخَبَرُ على العالَم بأَسْره: «لقد عثرنا لأول مرة على مومياء في باكستان!» واقعةُ القَرن الجديد بلا شَك!

على الفور، أُرسلَت المومياء إلى المتحف القومي في كراتشي. قامت الصحافةُ المحلية والعالمية بإذاعة النبأ. وفي يوم ٢٦ أكتوبر ٢٠٠٠م، عقَد الأركيولوجي «أحمد حسن داني»، الأستاذ الجامعي في إسلام أباد، مؤتمرًا صحفيًّا. أعلن أن المومياءَ المُحَنَّطَةَ بالأسلوب المصري القديم، هي لأميرة عاشت منذ نحو ٦٠٠ سنة قبل الميلاد.

بدأَت الصحافةُ الجائعة تتعقَّب الأنباء. كانت المومياء ترقُد فوق حصيرةٍ معالجةٍ بالشمع والعسل، وكانت مُغَطَّاةً بلوحٍ خشبي عليه نقوشٌ مسمارية. اسم صاحبة المومياء هو «خور الجَيَان»، أو «تُندَال جَيَان»، وربما كانت ابنة «خاروش الكبير»، أول حاكم من أُسرة خَمَام النبشيان، لكن «داني» قال إن المومياء قد تكون لأميرةٍ مصريةٍ تزوَّجَت أميرًا فارسيًّا خلال حكم سيروس الأول (٦٤٠–٥٩٠ق.م.) ومن ثَمَّ فَقَدْ حُنِّطَت بالطريقة المصرية. طُرحَت نظرياتٌ مختلفة عن الطريقة التي وصلَت بها المومياء إلى مدينة قِطَّة. ربما تكون قد سُرِقَت من قبرٍ في منطقة همدان غرب إيران، أو من خاران، جنوب شرقي خاران الباكستانية.

واندلعت الحرب

بعد المؤتمر الصحفي أعلنَت منظمة التراث الثقافي الإيراني، التي ادَّعَت أن المومياءَ لأحدِ أفراد العائلة الملكية الفارسية، أنها ستتخذ الإجراءات القانونية، من خلال اليونسكو، لاستعادة المومياء. ردَّ «سليم الحق»، مدير هيئة الآثار الباكستانية، أن المومياء قد عُثِر عليها في خاران بمقاطعة بلوخستان «وهذه أرضٌ باكستانيةٌ مائة في المائة، وأن المومياء من ممتلكات باكستان.» هنا أعلنَت إيرانُ أنها ستتعاونُ مع الإنتربول لاستعادة المومياء. حذَّر وزير الخارجية الباكستاني من تسييس القضية، بينما طلبَت طالبان — وكانت تحكُم معظَم أراضي أفغانستان — أن يشترك علماؤها الأركيولوجيون بدَورٍ في تحديد ملكية المومياء.

حدث تباين في الآراء حتى داخل باكستان. أقيمَت دعوى أمام المحكمة العليا تطلب إعادة الأميرة إلى مدينة قِطَّة؛ فالغارة التي شَنَّها بوليس كراتشي واستولى بها على المومياء، كانت غير قانونية، ثم إن ما تَمَّ «قد أثار الذُّعْرَ بين أهالي بلوخستان، وأحسُّوا أنهم قد حُرِموا من تراثهم الثقافي والتاريخي الثمين.» طلبَت قبيلة عَوان البلوخستانية — بعد أن أكَّدَت أن النقوش تُثْبِتُ أن الأميرة تنتمي إلى عائلة عَوان الملكية — أن تعودَ المومياءُ على الفور إلى موطنها لتُوضعَ في مُتحَف كالار كاهار المحلِّي.

مع تصاعد النزاع بدأَت الصحافة تشير إلى أن الباكستانيين لا يعرفون بالضبط ما يحمله متحفُهُم القومي، وأن شركات التأمين عازفةٌ عن أن تُغَطِّيَ المومياء حتى تتأكد من قانونية وضعها. أصرَّ البروفسور «داني» على أنها من أصلٍ مصري؛ فالتحنيط لم يُعرف أبدًا في إيران أو العراق. قال إن النقوش المسمارية ربما كانت قد أُضيفَت من قِبل المهرِّبين بعد أن سرقوا الجثةَ من مصر.

هنا ثارت إيران، وادَّعَتْ أن آثاريًّا إيطاليا قد تَرْجَمَ النقوشَ المسماريةَ بعد فحص الصور، وأكَّد أن المومياء لواحدةٍ من أفراد العائلة الملكية الفارسية القديمة. ثم أكَّد «محمد زائيري أميراني»، قنصل إيران في كراتشي، أن المومياء قد هُرِّبَت من إيران.

في ٢٦ نوفمبر ٢٠٠٠م أعلن «قُدْرَةُ الله جمال»، وزير الإعلام والثقافة الطالباني، أن المهرِّبين قد اعترفوا بأنهم قد عثَروا على المومياء في مقاطعة نمروز بجنوب غرب أفغانستان على الحدود الإيرانية، وأنهم قد نقلوها من هناك إلى باكستان «فهي مِلكُنا ويجب أن تعود إلى الشعب الأفغاني.»

وفي ٣٠ نوفمبر وجَّه المحامي «خالد أحمد»، في محكمة بلوخستان العليا، نَقْدًا لاذعًا للبوليس؛ لأنه نَقَل المومياء من مدينة قِطَّة، عاصمة بالوخ، ووَجَّه اللوم للمتحف القومي، وللأركيولوجي في إسلام أباد، على ما صدَر عنهما من «تقارير طائشة» تدَّعي أن المومياء قد جاءت من خارج الحدود الباكستانية، وأنه من السهل جدًّا لأي «أركيولوجي محترف» أن يُثْبِتَ أن المومياء خرجَت من حفائر بمستوطنةٍ قديمة تُسمَّى جالوجا بمنطقة خاران، على بعد نحو ٤٠٠ ميل جنوب غربي مدينة قِطَّة.

ثم أُعلن في ٤ يناير ٢٠٠١م أن وفدًا من الخبراء الإيرانيين قد اتجه إلى باكستان لتحديد أصل المومياء، وأنه إذا ثَبَتَ أنها من أصولٍ إيرانية، فسيُجرى التفاوضُ بشأن إعادتها بالوسائل الدبلوماسية.

تُذكِّرنا هذه المعركة بما حدث من نزاعٍ بين النمسا وإيطاليا على مِلْكية جثة «أوتسي»، رجل الثلوج، بعد أن عُثر عليها في جبال الألب عام ١٩٩١م على الحدود بين البلدين، وكيف انتهَى الأمر بأن نُقلَت الجثة من النمسا إلى إيطاليا. كان أوتسي صائدًا من العصر الحجري دُفن في الثلج منذ ٥٣٠٠ سنة وهو يرتدي ملابسَه كاملةً ومعه أدوات الصيد، واعتبره البعضُ أهم لقيَّةٍ أركيولوجيةٍ بالقرن العشرين.

في متحف كراتشي

عندما وصل التابوت متحف كراتشي، كان مفتوحًا بالفعل، وبدأَت إزالة الغطاء الحجري المتكسِّر قطعةً قطعة. ثم ظهَرَت المومياء. ذُهلَت أمينةُ المتحف «أسماء إبراهيم» مما رأته. كانت المومياءُ أروعَ من كلِّ ما عرفَتْه قَبْلًا، لكنها «عشِقَت درعَ الصدر» بالذات، «كان شيئًا جديدًا تمامًا لم أرَ مثيلًا له في حياتي. لم نصادف شيئًا كهذا في باكستان. قطعة فنية بديعة. وكان عليه نَصٌّ مكتوب.»

كانت المومياءُ صغيرةَ الحجم، طولها ١٤٠سم مغلَّفةً بقماشٍ واق مُشَبَّع بالراتينج. كان نفسُ النَّص الغامض المكتوب على الصندوق الخشبي والتابوت الحجري مكتوبًا أيضًا على الدرع الذهبي فوق المومياء.

لم يَعْرِف أحدٌ من أين جاءت هذه المومياء. ومَن تكون. قال البروفسور داني إنها قد جاءت من الخارج عَبْر الحدود بين إيران وباكستان، لكن، ربما تكون قد بدأَت رحلةً طويلة من مصر؛ فليس ثمَّة من مكانٍ آخرَ مُحتمَل. طقوسُ التحنيط كانت تشي بطقوسِ مصر. كان قدماء المصريين يعتقدون أنه من الممكن أن تُنْقَذَ روحُ الميت إذا ما أمكن لَمُّ شَمْلها مع الجسد، وكان هذا يعني ضرورةَ حفظِ الجثث من أجل الخلود. من هنا ابتكَروا طريقتَهم المتفرِّدة لتحقيق هذا. كانوا يُزيلون من الجثث الأعضاءَ الداخلية. ثم إنهم كانوا يتخلَّصون من كلِّ الرطوبة بالجسم بِحَشوِه وتغطيته بمادةٍ مُجَفَّفَة طبيعية، تُسمَّى النَّطرون. كان الأمر يستغرق ٤٠ يومًا حتى يجفَّ الجسم، ليُغلَّف بعد ذلك بدقةٍ بالغة بقماشٍ كتَّاني، ويُوضَع في صندوقٍ يحمل من الخارج صورةَ المتوفَّى، ليُوسَّد في تابوت. كذا يتأكَّد لديهم أن الجسمَ سيكونُ مستعدًّا للحياة الأخرى. كانت المومياء الباكستانية قد جُهِّزَت بنفس الطريقة، ملفوفةً كانت بالقماش في تابوتٍ حجري داخل صندوقٍ خشبي، لكن، كان ثمَّة اختلاف، أبدًا لم يُلحَظ قَبْلًا وجودُ حُليٍّ على أية مومياء. ثم إن النقوشَ والكتابةَ كانت بالمسمارية التي تنتمي إلى إيران القديمة، مركز الإمبراطورية الفارسية. شَكَّلَت هذه لغزًا كبيرًا أمام البروفسور داني. لم يُعرف أن الإيرانيين يُحنِّطُون الجثث. والكتابة المسمارية لم تكن مستخدمةً لدى المصريين. كيف يُكتب بالمسمارية إذن على المومياء؟

الحل الواضح هو أن هذه المومياءَ فارسيةٌ حُنِّطَت على الطريقة المصرية. إذا كان هذا صحيحًا فلا بد أن الفُرْسَ قد نقَلوا تقنياتِ التحنيطِ من مصر، واستخدَموها على جُثَث نُبلائهم. هذا كشفٌ مُتَفَرِّد. ستكون المومياء واحدةً من أهم مومياوات العالم وأكثرها خطرًا. هل أرسل المصريون مَن يُحَنِّطُ الجنَّةَ إلى فارس؟

بَيْنَا كان هذا يدور، كانت «أسماء إبراهيم» وقد انكفأَت تتفحَّص المومياء بدقةٍ بالغة. إنها المومياءُ التي بها ستُعاد قراءة التاريخ. مَن هذه التي حنُّطَت بهذه الطريقة المبجَّلة الرائعة؟ تصوَّرَت أن تجد الإشارةَ فيما هو مدوَّن بالمسمارية، اللغة المكتوبة لبلاد الفُرسِ القديمة. مضت أسماء إذن تدرُس الخطَّ المسماري، لتُترجِمَ ما كُتب على التابوت الحجري والناءوس الخشبي.

«أنا ابنة زيرزيس الملك العظيم، مازيركا يحميني، اسمي رودوجون»

لم تكن المومياء لشخصٍ عادي. كانت لأميرةٍ فارسية. لم يكن المعروفُ عن «رودوجون» كثيرًا؛ فلا أحد يعرفُ كَم كان عمرها عندما تُوفيَت. لا أحد يعرفُ سببَ موتها. لم يكن قد عُثر على بقايا أيٍّ من العائلة الملكية الفارسية. الكشفُ مُذهِل! ثم ظهَرَت بعد أسابيعَ قليلةٍ شواهدُ تربط المومياء بالأُسرة الفارسية المَلَكية القديمة. كانت «رودوجون» من برسيبوليس، عاصمة فارس القديمة — وتبعُد ٣٠ ميلًا شمال شرقي مدينة شيراز الحالية — وفي هذه المدينة كان يُوجَد المئات من البنَّائين، بعضهم من مصر، يعملون في نقش الرسوم على القصور الملكية — لا سيما قصور الملك «زيرزيس».

في منتصف غطاء التابوت رُسمَت سبعُ أشجارِ سَرْو. ورُسمَت أيضًا على رأس الصندوق الخشبي. كان هذا الرسم هو رمز مدينة همدان، وكانت موجودةً في عهدِ «زيرزيس». هناك أيضًا ورديةٌ ضخمة، وكانت الوردياتُ منتشرةً في قصور بيرسيبوليس، وفي النُّصُبِ التذكارية بالمدينة. وكانت أهمُّ أيقونة في بيرسيبوليس منقوشةً على الصندوق الخشبي؛ الإله أهورا مازدا، كبير الآلهة للزرادشتية، الدين الذي تعتنقُه «رودوجون». وكانت الرموزُ الموجودةُ فوق جسد المومياء وعلى التابوت هي رموز العائلة المَلَكيَّة. وحتى القناع الذهبي كان يشبه نظيره الموجود بصالة العرض الفارسية بالمُتحَف البريطاني.

بَقِيَتْ قضيةٌ واحدة لم تجد لها «أسماءُ» حلًّا. ليس من دليلٍ على أن الفُرْس كانوا يُحنِّطُون موتاهم. اختفَى كل ما قد يُشير إلى ذلك. نُهِبَت كل القبور المَلَكية الفارسية من قرونٍ طويلة. لم يُعثَر على جثةٍ ملكيةٍ واحدة. وها هي «أسماء» وأمامها أوَّل جثة. ثم وقَعَت على كتابٍ للمؤرخ اليوناني «هيرودوت» يصف فيه رحلته من اليونان إلى بيرسيبوليس أيام حكم الملك «زيرزيس». وزار فيها القبور المَلَكية، ثم وَصَفَ بالتفصيل كيف كان الفُرْسُ يحفظون جثثَ أفراد العائلة المَلَكية بالشمع والنطرون، ثم يضعونها في توابيت، كالمصريين. هل حُفظَت «رودوجون» وقُبِرَت ثم أُغير عليها؟ هي أولُ دليلٍ يتكشَّف عن فارسيةٍ حُفظَت بالطريقة المصرية. عُثر في قبرٍ قديم بمصر على نقوشٍ لفارسيٍّ كُتب اسمُه بالهيروغليفية «جيدهيربيس» صُوِّر راقدًا على لوحٍ مصري يرعاه أنوبيس وإيزيس. كان هذا كاهنًا فارسيًّا عاش بمصر في عهد «زيرزيس». إذا كان هذا الفارسي قد حُنِّط، فلماذا لا تُحنَّطُ الأميرةُ الفارسية؟

أرسلَت «أسماء إبراهيم» إلى ألمانيا عيِّناتٍ من الحصيرة التي كانت المومياءُ ترقُد عليها، لتحديد عمرها بالكربون المُشع، كما أرسلَت ما كُتِبَ بالخط المسماري إلى واحدٍ من أكبر الخبراء في لندن.

بذور الشك

فُحصَت الجثة بأشعة إكس لمعرفة عمرها عند الوفاة، وأشارت عظام الحوض إلى أن عمرها يقع ما بين ٢١ و٢٥ سنة. كما اتضح أن الجسم قد فُرِّغَ من أعضائه الداخلية، وأن التحنيط قد تم بكل طقوسه ووُضعَت الذراعان متصالبتَين على الصدر دليلًا على أن المومياء مَلَكية. أُزيل المخُّ ومُلئ مكانُه بموادِّ التحنيط. كان استخراج المخِّ هو أصعب عملية في التحنيط عند قدماء المصريين، كانوا يستخدمون أداتَين؛ واحدةً تُمَرَّرُ داخل الأنف لتخترقَ الجمجمةَ خلال العَظمِ المُنْخُلِيِّ لتصلَ إلى المخ، فإذا ما فُتح هذا الثقبُ إلى المخ، دُفعَت إليه أداةٌ أخرى تدور كمِخْفَقة البيض حتى يصبح المخُّ سائلًا يسيلُ ليخرجَ من فتحة الأنف، لكنَّ العظمَ المُنْخُليَّ في مومياء «رودوجون» كان كاملًا لم يُثْقَب. لا بد أن المخَّ قد استُخرج بطريقةٍ أخرى. لقد اتَّخَذَ مَن حَنَّطَ الجثة طريقًا آخر كُسرَت فيه بضعٌ من عظام الحنَك أعلى الفم لتُفسِحَ الطريقَ إلى المخ — استُعْمِلَ «العنف» للوصول إلى المخ. بعد إزالة المخ كانت الخطوة التالية هي إزالة الأعضاء الداخلية الرطبة على الفور؛ إذ توفِّر هذه بيئةً صالحةً لبكتريا التعفُّن. كان قُدامى المصريين يشقُّون البطن بجرحٍ صغيرٍ لا يتجاوز طوله ٧٫٥سم. لكن الجرح في بطن المومياء الباكستانية كان أكبر بكثير، كان طوله نحو ٢٠ سنتيمترًا.

وكان قُدامى المصريين يتركون القلب — من بين كل الأحشاء — داخل المومياء ينزعون الكلْيتَين والرئتَين والكبد والأمعاء ويتركون القلب. كانوا يعتقدون أنك تفكِّر بقلبك. القلبُ هو بيت الذكاء، هو الذي سيستقبل الروح. كان من الضروري أن يُتْرَكَ بالجثة؛ إذ لا بد إذا ما وصلتَ العالَم الآخر أن تكون لديك القدرة على التفكير والكلام، لتَنْبِسَ بِالرُّقْيَةِ السحرية التي تُعيدُ تجميعَ جِسْمك.

مومياء الأميرة كانت بلا قلب! حُنِّطَت بالتأكيد بطريقةٍ تختلفُ عن الطريقة المصرية. مَن ذا الذي حَنَّطَ الأميرة؟ غَيْرُ مصريٍّ بالتأكيد!

•••

ثم وصل تقرير الخبير عن الكتابة المسمارية. وَجَدَ خَطَأً في كتابة جُملة: «أنا ابنة الملك العظيم «زيرزيس».» ثم كان هناك خطأٌ آخر كبير. كان اسم «رودوجون» هو الترجمة الإغريقية لاسم «وارديجونا»، الاسم الفارسي الأصلي لابنة الملك «زيرزيس». وكتابة اسم «رودوجون» الإغريقي بالمسمارية، بدلًا من وارديجونا أمرٌ عجيب كيف يتسنَّى أن يَكْتُبَ ملِكُ فَارس اسمَ ابنتِه باسمٍ أُطلِق عليها فيما بعدُ؟ باسمٍ لم يظهر إلا بعدَ أن هَزَمَ الإغريقُ بلاد فارس بعد موت «رودوجون» بزمانٍ طويل؟ هذه الكتابة زائفة!

•••

بعدما نَظَّفَت «أسماء إبراهيم» الصندوق الخشبي، وأعادت — بالعدسة المكبرة — اختبارَ ما عليه من نقوش اكتشفَت شيئًا عجبًا في الحنايا الدقيقة عند الرموز المنحوتة للَورْديَّة وللإله أهورا مازدا. وجدَت على خشب الصندوق خطوطًا بالقلم الرصاص نُسخَت، على ما يبدو، من نصب أن الأمر كله خُدعة! كانت مصنوعة في الخمسينَ سنةً الأخيرة. لقد لُفِّق كل شيء!

•••

لم تكن النقوش والحُلي على المومياء الرائعة سوى تزوير. لم تكن الجثةُ جُنَّةَ أميرة. لكن هناك بداخل التابوت يرقد جسدٌ ملفوف. تصوَّرَت أسماء أن المزيِّفين قد عثَروا على مومياءَ قديمةٍ حقيقية، فألبَسُوها وهَيَّئوها لتبدو كأميرة، فيزداد سعرها في السوق السوداء، لكن المدى الذي مضى إليه التزوير لم يَظْهَرْ إلا بعد تفحُّص أدقِّ تفاصيلِ المومياء. كان رجال الطب الإشعاعي قد لاحظوا أمرًا غريبًا بالأذن الوسطى؛ هناك عُظَيْمَتَان دقيقتان ترتبطان سويًّا بأوتارٍ وأربطةٍ غاية في الرهافة — يكاد من المستحيل أن تبقَى سليمة في الجثث القديمة. كانت هذه الأربطة والأوتار سليمةً تمامًا بمومياء الأميرة الفارسية، ومعنى ذلك أن الجثة لا يمكن أن تكون قديمة. هذه المرأة ماتت حديثًا ثم حُنُّطَت.

البعضُ ممن يعرفون تشريح الجسم البشري، ويفهمون تقنيات التحنيط، قد أخذوا جثة امرأة مؤخرًا، وأزالوا أعضاءَها الداخلية وحَنَّطُوها! أمرٌ لا يصدِّقه عقل! خدعة تحتاج إلى فريقٍ كامل؛ صائغ يقوم بصناعة القناع ودرع الصدر، نجَّار يصنع الصندوق الخشبي، حَجَّار ينقشُ التابوتَ الحجري، شخص يعرفُ اللغةَ المسمارية (لكن خبرته لم تكن كافيةً فوقع في بعض الأخطاء)، ثم عقل كبير مدبِّر، لأركيولوجي على الأغلب، له معرفةٌ وثيقةٌ بالتاريخ المصري والفارسي!

ربما قامت عصابةُ المزيِّفين هذه بشراء أو سرقة جثة حديثة، ثم قاموا على الفور بتحنيطها في ظرف ٢٤ ساعة. لا بد أن يكون كل شيءٍ قد تم إعداده مسبقًا؛ المعمل، نصف طن من الكيماويات المجفِّفة، الراتينج، اللفافات. أم تُراهم قد قتلوا امرأةً خصوصًا؟ لقد اتضح من الفحص الدقيق للهيكل العَظْمي أن العمود الفِقْري لم يكن مستقيمًا. لقد تلقَّت المرأة قبل قتلها ضربةً عنيفة في العمود الفِقري من أسفل. كان ظهرها مكسورًا!

القضيةُ قضيةُ قتل. أُوكِلَت مهمة معرفة سبب الموت إلى البروفسور «كريس مِيلرُوي». قامت السلطاتُ الباكستانية بدعوته لتشريح الجثة. كان على «مِيلرُوي» أن يَقْطَعَ الطبقةَ السطحيةَ الصلبةَ من الراتينج واللفافات دون أن ينتهك التقاليد الإسلامية لاحترام الجثة. استغرق الأمرُ ثلاثَ ساعات. كان أولُ ما ظهر من جسد الضحية خُصلةً من الشعر الأشقر. كل أطرافها، وكل إصبعٍ من أصابعها كان قد تم لفُّه منفصلًا، تمامًا كما كان يفعل قدماء المصريين. وعندما أُزيلَت كل اللفافات اتضح أن الشعر أسود — كانت أطرافه فقط هي الشقراء. عُومل الشعر بالكيماويات. اتضح أن الجثة قد جفِّفَت ببيكربونات الصودا وكلوريد الصوديوم (ملح الطعام). أُرسلَت عيِّناتٌ من العظام والأنسجة لتقدير العمر بالكربون، وقالت النتائج إن المرأة قد ماتت عام ١٩٩٦م.

ثم اتضح أن فِقرات العنق قد قُصِمَت إلى جزأَين، وكان هذا هو السبب في الموت. كانت المرأة قد كُسِرَت رقَبتُها عمدًا. ثبت أن القضيةَ بالفعل قضيةُ قتل. تُقام الدعوى ضد «علي أكبر» وضد «سردار والي ريكي». على البوليس أن يعرفَ القتيلة وأن يعرف القتَلَة — مهمةٌ مزدوجة أمكن بالكمبيوتر أن تُرسَمَ صورةُ وَجْه القتيلة. تقول ملامحُ الوجه إنَّ موطنها على الأغلب هو منطقةُ الحدود بين باكستان وإيران.

ظهَرَت بالسوق بعد ذلك مومياوان فارسيَّتان أُخريان. كان السعرُ المطلوب ستة ملايين دولار! يبدو أن هناك خطَّ إنتاجٍ للمومياوات الفارسية!

•••

قامت «أسماء إبراهيم» باكيةً، بدفن جثة المسكينة دفنًا إسلاميًّا تستحقُّه.

يرحمُها الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥