غموض العلم
ترجمة: أحمد مستجير
أودُّ أن أتوجَّه مباشرةً إلى موضوع أثر العلم على أفكار مَن لا يعملون به؛ فهذا هو الموضوع الذي طُلب مني أن أناقشه. سأتحدثُ في هذه المحاضرة الأولى عن طبيعة العلم، وسأُؤكِّد بالذات على ما يحيطه من شكٍّ وغموض. وفي المحاضرة الثانية سأُناقش أثر الآراء العلمية على القضايا السياسية — وبالذات على قضية أعداء الوطن — وعلى القضايا الدينية، أما في المحاضرة الثالثة فسأتحدَّث عن: كيف يراني المجتمع — كيف يراني أنا، لا كيف يرى العالِمَ — ثم عما قد يأتي عن الكشوف العلمية في المستقبل بشأن المشاكل الاجتماعية.
وماذا أعرف عن الدين أو عن السياسة؟ ضحك عددٌ من الأصدقاء بأقسام الفيزياء، هنا وفي أماكنَ أخرى، وقالوا: «أود أن أحضُر وأسمع ما لديك. أبدًا ما عرفتُ أنك تهتمُّ كثيرًا بهذه المواضيع.» وهم يعلمون بالطبع أنني أهتم، ولكنني لن أجرؤ على التحدث عنها.
عند التحدث عن أثر أفكار أحد المجالات على أفكار مجالٍ آخر، عادةً ما يُصبح المتحدث عُرضةً لأن يجعلَ من نفسه أحمقَ؛ ففي زماننا هذا، زمن التخصُّص الدقيق، لن نجد الكثيرين ممَّن يُلِمُّون إلمامًا عميقًا بمجالَين مختلفَين من المعارف لا يَبْدُون حمقَى عند التحدث في هذا أو في ذاك.
الأفكارُ التي سأعرضها أفكارٌ قديمة؛ فليس هناك، عمليًّا، فيما سأتحدث فيه الليلة ما كان سيصعُب على فلاسفة القرنِ السابعَ عشرَ أن يقولوه بسهولة. لماذا إذن أكرِّرها؟ لأن هناك أجيالًا جديدة تُولَد كل يوم؛ لأن هناك أفكارًا رائعةً قد تطوَّرَت في تاريخ البشرية، وهذه الأفكار لا تبقَى إلا إذا مُرِّرَت عن عمدٍ وفي وضوحٍ من جيلٍ إلى جيل.
لقد أصبح الكثيرُ من الأفكار القديمة معارفَ عامة حتى غدا من غير الضروري التحدُّث فيها أو تفسيرها ثانيةً، لكن الأفكار المتعلقة بمشاكل تطور العلم — حسب رؤيتي إذا ما نظرت حولي — ليست من النوع الذي يقدره الجميع، وإن كان من الصحيح أن عددًا كبيرًا من الناس يقدرونها، وفي الجامعة على وجه الخصوص، وربما كنتم الجمهورَ الخطأ بالنسبة لي.
في مهمتي هذه الصعبة التي أتحدث فيها عن أثر أفكار مجالٍ على أفكار مجالٍ آخر، سأبدأ من الطرف الذي أعرفه. أنا أعرفُ عن العلم، أعرفُ أفكارَه ومناهجَه، مواقفَه من المعرفة، مصادرَ تقدُّمه، نظامَه العقلي. وعلى هذا، ففي هذه المحاضرة الأولى سأترك الأغرب من التعبيرات للمحاضرتَين التاليتَين وأنا أفترض أن جمهور المستمعين بهما سيكون أقل.
ما هو العلم؟ تُستعمل الكلمة عادةً لتعنيَ واحدًا من ثلاثة معانٍ، أو مزيجًا منها. أنا لا أعتقد أننا نحتاج إلى أن نتوخَّى الدقة البالغة — ليس من حُسن الفطن دائمًا أن تكون دقيقًا للغاية. العلم يعني أحيانًا منهجًا معينًا لاكتشاف الجديد. وهو يعني أحيانًا كَمَّ المعرفة الذي ينجُم عما كُشِف. ولقد يعني الجديدَ الذي يمكن أن نقوم به عندما نكتشف شيئًا ما. وهذا المجال الأخير يُسمَّى عادةُ «التكنولوجيا» — لكنكَ إذا نظرتَ إلى باب العلم في «مجلة تايم» فستجد أن نِصْفَه يغطِّي الجديد الذي كُشِف، أما النصف الآخر فيغطِّي ما قد تكون عليه الأشياء الجديدة وما يُجرى بشأنها. وعلى هذا فإن التعريف الشائع في العلم يَعْتبر التكنولوجيا جزءًا من العلم.
أريد أن أناقشَ هذه النواحيَ الثلاثَ من العلم، إنما بترتيبٍ عكسي. سأبدأ بالأشياء الجديدة التي يمكن تنفيذها — أي سأبدأ بالتكنولوجيا. إن أوضح خصائص العلم هو تطبيقُه، هو حقيقةُ أن نتائج العلم تمنحُنا القدرةَ على القيام بأشياء جديدة. وأثَر هذه القدرة لا يحتاج إلى تأكيده. إن الثورة الصناعية بأكملها كانت ستغدو مستحيلة لولا تطوُّر العلم. وإمكاناتنا اليوم لإنتاجِ مقاديرَ هائلةٍ من الطعام تكفي لسد حاجة هذا العدد الضخم من السكان أو للتحكم في أمراضهم، هي في أغلبها نتيجة لتطويرِ وسائلَ علميةٍ للإنتاج.
وهذه القدرة على إنجاز الأشياء لا تحملُ معها تعليماتٍ عن كيفية استخدامها، عما إذا كانت ستعمل للخير أم للشر. إن حصيلة هذه القدرة قد تكون طيِّبة وقد تكون شرِّيرة، حسب كيفية استعمالها. إننا نفضِّل الإنتاج المُحَسَّن، لكنَّ أمامنا مشاكلَ الأتْمَتَة. نسعَد بتطوير الطب، ثم يُقلِقنا عدد المواليد وحقيقة ألَّا أحد يموتُ بالأمراض التي قضَينا عليها. بنفس معارفنا عن البكتريا هناك معاملُ سرِّية يعمل فيها رجالٌ بكل قُواهم لتطوير بكتريا لا يتمكَّن أحدٌ من أن يجد لها علاجًا. يُسعِدنا تطوير النقل الجوي، وتُذهِلنا الطائراتُ العملاقة، لكنا ندرك أيضًا الفظائع المهولة للحرب الجوية. تُسعِدنا قُدرتُنا على الاتصال بين الأمم، لكن تُقلِقنا حقيقةُ أنه من السهل أن يتطفَّل علينا الغَيْر. تُثيرُنا حقيقةُ أنه من الممكن الآن أن نَسْبُرَ أغوارَ الفضاء، حسنًا … ولكنا بلا شك سنُواجِه المصاعب هناك. أما تطوير الطاقة النووية فمشاكلُها واضحة.
هل للعلم أية قيمة
أعتقد أن القدرة على إنجاز الأشياء أمرٌ له قيمتُه. أما أن تكون النتيجة طيِّبة أو خبيثة فهذا يتوقف على طريقة الاستخدام، لكن القدرة ذاتها لها قيمة.
مرةً وأنا في هاواي، أخذني بعضُهم لأشاهد معبدًا بوذيًّا. رجلٌ في المعبد قال لي: «سأقول لك شيئًا لن تنساه أبدًا.» ثم أردف: «يُعْطَى كلٌّ منا مفتاحًا لبوابات الجنة. نفس هذا المفتاح يفتح بوابات جهنم.»
هكذا الأمر في العلم؛ فهو من ناحيةٍ مفتاح لبوابات الجنة، وبنفس المفتاح يمكن أن نفتح بوابات الجحيم. ونحن لا نملك أية تعليماتٍ تُرشِدُنا إلى البوابات التي نفتحها؛ فهل نُلقي بالمفتاح فلا نعرف لبوابات الجنة طريقًا؟ أم هل نجتهد لنجدَ أفضلَ الطرق لاستخدام المفتاح؟ هذا بالطبع سؤالٌ خطير غاية في الخطورة، لكنني أعتقد أننا لا نستطيع أن نُنكِر قيمةَ مفتاحِ بوابات الجنة.
كل المشاكل الكبرى للعلاقات بين المجتمع والعلم تقع في نفس هذا النطاق. عندما يُطلب من العالِم أن يهتمَّ أكثر بمسئوليته عن أثره على المجتمع، فإن المقصود هنا هو تطبيقاتُ العلم. إذا كنتَ تعمل لتطوير الطاقة النووية، فلا بد أن تدرك أيضًا أنها قد تُستخدم في الأذى. وعلى هذا فَلَكَ أن تتوقَّع في جدلٍ كهذا مع أحد العلماء أن يكون ذلك هو الموضوع الأهم، وأنا أعتقد أن القول بأن هذه مشاكلُ علمية، هو من قبيل المبالغة. صحيحٌ أنَّ تفعيلَ القدرة أمرٌ واضح — إن تكن كيفية التحكم فيها ليست كذلك — لكن هذه الحقيقة ليست أمرًا علميًّا بحتًا، وليست مما يَعْرف العالِمُ عنه الكثير.
دعني أوضِّح السبب في عدم رغبتي في التحدث عن هذا. منذ فترة — نحو عام ١٩٤٩م أو ١٩٥٠م — ذهبتُ إلى البرازيل لأدرسَ الفيزياء. في تلك الأيام كان هناك برنامجٌ للنقطة الرابعة، وكان مثيرًا للغاية — الكل يريد أن يساعد الدول النامية. وما كانت تحتاجُه هذه الدول بالطبع هو المهارة الفنية.
أقمتُ في البرازيل بمدينة ريو. هناك تلالٌ بهذه المدينة أُقيمَت فوقَها منازلُ من أخشاب اللافتات المكسورة. الأهالي فقراءُ فقرًا مدقعًا. لا تَصِلُهم مياهٌ ولا صرفٌ صحِّي. وللحصول على الماء، كانوا يحملون صفائحَ بنزينٍ فارغةً على رءوسهم، ويَمْضون بها إلى أسفل التل؛ حيث يتوجَّهون إلى مكانٍ أُقيم به مبنًى جديد يتوفَّر فيه الماء لخلط الإسمنت، فيملَئون صفائحهم بالماء ويحملونها إلى أعلى التل، لترى الماء بعد ذلك وهو يتسرَّب إلى أسفل التل في صورةٍ قَذِرة. إنه لأمرٌ يُرثَى له.
مباشرةً بجوار هذه التلال تُوجَد المباني المُستفِزَّة لشاطئ كوباكابانا، بشُقَقها السكنية الجميلة.
قلتُ لأصدقائي في برنامج النقطة الرابعة: «أهذه مشكلةُ مهارةٍ تقنية؟ هم لا يعرفون كيف يمدُّون ماسورةً إلى أعلى التل؟ ألا يعرفون كيف يمدُّون ماسورةً إلى قمة التل حتى يمكن للناس، على الأقل، أن يصعدوا إلى أعلى والصفائح فارغة، ثم ينزلون بها وهي ممتلئة بالماء؟»
المشكلة إذن ليست مشكلةَ مهارةٍ تقنية. ليست كذلك بالتأكيد؛ فهناك بمباني الشُّقَق المُجاوِرة مواسيرُ وهناك مضخَّات. أدرَكْنا ذلك الآن. إنها مشكلةُ معونةٍ اقتصادية، ثم إننا لا نعرفُ ما إذا كانت ستنجح. أما مسألة كم سيتكلَّف وضعُ مِضَخَّةٍ وماسورةٍ على قمة كلٍّ من هذه التلال، فهذه عندي ليست مما يستحقُّ أن أناقشه هنا. وعلى الرغم من أننا لا نعرفُ كيف نحلُّ المشكلة، فإنني أودُّ أن أُشير إلى أننا قد جرَّبنا شيئَين؛ المهارة الفنية والمعونة الاقتصادية، وكان نصيبنا التثبيط في كلتَيْهما، ونحن نُحاوِل شيئًا آخر. وكما سنرى فيما بعدُ، فقد وجَدتُ هذا أمرًا مشجِّعًا. أعتقد أن الاستمرارَ في تجريبِ حلولٍ جديدة هو الطريقُ لإنجازِ كل شيء.
هذه إذن هي النواحي العمَلية للعِلم، الأشياء الجديدة التي يمكنك أن تصنعَها هي واضحةٌ الوضوحَ كلَّه، ولا يلزم أن أستمرَّ في الحديث عنها.
•••
أما الناحية التالية من العلم فهي محتواه. هي ما تم الكشف عنه. هذا هو المحصول. هذا هو الذهب، هو الإثارة، ثمَن كل هذا التفكير المنظَّم والعمل العسير. العمل لا يجري من أجل تطبيقٍ ما، إنما يجري من أجل الإثارة التي نجدُها فيما نكتشفُه. ربما يعرف معظمُكم هذا، لكن، إلى مَن لا يعرفون منكم، أقول إنه يكادُ يكونُ من المستحيل عليَّ أن أنقلَ في محاضرةٍ هذا الوجهَ الهام، هذا الجزءَ المثير، هذا السببَ الحقيقي للعلم. وبدون تَفَهُّم هذا لن يمكنكم إدراكُ الأمر كلِّه. أنتَ لا تستطيع أن تفهمَ العلم وعلاقتَه بكل شيءٍ آخر إلا إذا فهمتَ وقَدَّرتَ مغامرةَ زماننا الكبرى. أنتَ لا تعيشُ عصرَك إذا لم تفهَم أن العلم مغامرةٌ هائلة، وأنه شيءٌ جامعٌ مثير.
هل تراه شيئًا مملًّا؟ هو ليس كذلك. يصعُب عليَّ كثيرًا أن أُعبِّر، لكن ربما استطعتُ أن أقدِّم فكرةً ما عنه. دعني أبدأ من أي مكانٍ بأية فكرة.
كان القُدامى على سبيل المثال يعتقدون أن الأرضَ محمولةٌ على ظهر فيل، يقف فوق سُلَحفاة، تسبح في بحرٍ بلا قاعٍ. طبيعيٌّ أنَّ ما كان يحملُ البحرَ ذاتَه يطرح سؤالًا آخر، لم يعرفوا له جوابًا.
كان اعتقاد القدامى هذا نتيجةً للخيال. كانت فكرةً شاعريةً وجميلة. أنظر إلى طريقة تفسير الأمر الآن. أهي فكرةٌ مملَّة؟ الأرض كرة تلفُّ، والناس مربوطون فوقها في كل ناحية، البعض منهم في وضعٍ مقلوب. ونحن نتقلب كَسَفُّود أمام نارٍ حامية. نحن نلفُّ حول الشمس. هذا أكثر رومانسيةً وأكثر إثارة. وماذا يربطنا إليها؟ قوة الجاذبية. وهذه ليست فقط خصيصةً للأرض، ولكنها ما يجعل الأرض تدورُ في المقام الأول، وما يحفَظ الشمس متماسكة، ويُبقينا نحن نجري حولها في محاولتنا السرمدية كي نظل بعيدًا. تحفَظ هذه الجاذبية سيطرتها، لا على النجوم وحدها، وإنما أيضًا على ما بين النجوم. هي تحفظُها جميعًا في المجَرَّة الكبرى لأميالٍ وأميالٍ في كل الاتجاهات.
وَصَفَ هذا الكونَ الكثيرون، وهو لا يزال معنا، بحافَتِه المجهولة كقاعِ ذلك البحر الذي بلا قاعٍ في الفكرة القديمة — في مثل غموض الصور الشاعرية التي كانت قَبْلًا، في مثل قدرتها على إثارة الذعر، في مثل نقصانها.
لكن، لاحِظ أن جمالَ الطبيعة أبعَد، وأبعَد كثيرًا، من خيال الإنسان. ليس لِمَن لم يَحْظَ بملاحظة الطبيعة أن يتصوَّر أبدًا معجزةً مثلها.
أو كالأرض. أو كالزمن. هل قرأتَ يومًا لأي شاعرٍ شيئًا عن الزمن يمكن أن يُقارَن بالزمن الحقيقي؟ بزمن عملية التطوُّر الطويلة البطيئة؟ كلَّا، كلَّا، لقد أسرعت في الحديث. في البدء كانت الأرض لا تحمل على ظهرها أية حياة. ظلت هذه الكرة تلفُّ بلايين السنين، بغروب الشمس، بالأمواج، بالبحار، بالضَّجَّة. لم يكن عليها كائنٌ حيٌّ واحدٌ يُدرِك هذا كله. أيمكنك أن تتخيَّل أن تقدِّر، أن يخطُر ببالك، ماذا يعني عالَمٌ كهذا بلا حياة؟ لقد تعوَّدنا أن ننظُر إلى عالمنا من وجهة نظر الأحياء، فلم يعُد في مقدورنا أن نفهم ماذا يعني ألا تكون ثمَّة حياة. ورغم ذلك فقد ظلَّت الأرضُ معظمَ الوقتِ ولا حياة عليها. ومن المحتمل أنَّ معظم الأماكن بهذا الكون لا تعرفُ الحياة.
أو الحياة ذاتها جميلة. ما أجملَها تلك الآلية الداخلية للحياة — كيمياء أجزائها! لقد اتضح أن كل صور الحياة مترابطة بعضها مع بعض. ثمَّة جزءٌ من الكلوروفيل في النبات يحمل حلقةً كيماويةً جميلةً تُسمَّى حلقة البنزين وبعيدًا عن النبات، هناك الحيوانات، في دمها سنجد الهيموجلوبين، وبه سنجد نفس الحلقة. وفي وسطها سنجد الحديد بدلًا من المغنسيوم، وبذا يكون لون الدم أحمر لا أخضر — ولكنها نفس الحلقة.
بروتينات البكتريا هي نفس بروتينات البشر. والحق أنه قد اكتُشف مؤخرًا أن آلية صناعة البروتين في البكتريا يُمكِنها أن تُنفِّذ تعليماتٍ من مادة البشر فتُنتِج بروتينات كرات الدم الحمراء. وشائجُ الصِّلة بين الأحياء متينة. إن شمولية الكيمياء الداخلية للكائنات الحية شيءٌ في الحقيقة رائعٌ وجميل. ولقد كنا نحن البشر نترفَّع دائمًا حتى عن الاعتراف بقَرابتنا للحيوان.
وهناك أيضًا الذرات. جميلة هي — أميال وأميال من كُراتٍ بعد كُراتٍ في نمطٍ مكرَّر، في البلورة. الأشياء التي تبدو هادئةً ساكنة — ككوبِ ماءٍ مغطًّى استقر في موضعه بضعة أيام — هي في الحقيقة نشطةٌ طولَ الوقت، الذرات تترك السطح، تَثِبُ بالداخل وتَرتَد. إن ما يبدو ساكنًا لأعيننا ليس سوى رقصةٍ مجنونةٍ ديناميكية.
ولقد اكتُشِف أن العالم بأَسْره قد صُنع من نفس الذرات، أن مادة النجوم هي نفسُ مادتنا نحن. يغدو السؤال هو: من أين أتت مادتُنا. ليس فقط من أين جاءت الحياة، أو من أين جاءت الأرض، وإنما من أين جاءت مادة الحياة ومادة الأرض؟ أنَجْمٌ قد انفجَر وقذفَ بها جميعًا. انتظَرَت هذه القطعة من الوحل، الأرض، أربعة بلايين ونصف بليون عام، تغيَّرَت فيها وتطوَّرَت، ليقف هنا كائنٌ غريبٌ مثلي ومعه معدَّاته، يتحدث إلى كائناتٍ غريبةٍ تُشكِّل هذا الجمعَ المُحتشِد. يا له من عالَمٍ رائع!
ثم الكهرباء، قُوى الجذب السالب منها والموجب قوية هي، حتى لنجد في أية مادةٍ طبيعيةٍ أن كل السالبات والموجبات تقع في اتزانٍ دقيق. كل شيءٍ منسجمٌ مع كل شيءٍ آخر. لفترةٍ طويلةٍ لم يلحَظ أحدٌ ظاهرة الكهرباء إلا بين الحين والآخر عندما يُدلِّك أحدُهم قطعةَ كهرمان فتلتقط قطعةً من الورق. أما اليوم فلدينا كل هذا القَدْر من الآلات والماكينات. ورغم ذلك فلا يزالُ العلمُ يفتقر إلى التقدير الكافي.
وكمثالٍ على ذلك قرأتُ لفاراداي مجموعةً من ستِّ محاضراتٍ للأطفال عنوانها «التاريخ الكيماوي لشمعة.» كان هدف فاراداي في محاضراته أن يُنبِّه إلى أنَّكَ إذا أمعنتَ النظر بالقَدْر الكافي في أي شيء، فَسَتُحيط بالكون كله، لكن مقدمة الكتاب — وهي تقدِّم لحياة فاراداي وبعض كشوفه — ذكَرَت أنه قد اكتشَف أن كمية الكهرباء اللازمة للتحليل الكهربائي للمواد الكيماوية تتناسب مع عدد الذرات التي تُفْصَل، مقسومًا على التكافؤ. ثم مضت المقدِّمة لتقول إن القوانين التي اكتشفها تُستخدم اليوم في الطلاء بالكروم وفي تلوين الألومنيوم وفي العشرات من التطبيقات الصناعية الأخرى. لم تُعجِبني هذه الجملة. إليك ما قاله فاراداي نفسه عن كشفه: «بطريقةٍ ما تتمتع ذرات المادة بقوةٍ كهربائية، وترتبط بها، وإليها يُعْزَى ما تتصف به من خصائصَ مدهِشة — بينها الألفة الكيماوية المتبادلة.» لقد اكتشَف أن ما يحدِّد طريقة تجاذب الذرات هو أن بعضًا منها موجب الشحنة الكهربائية والبعض الآخر سالبها، وهذه تجذب تلك بنِسَبٍ محدودة. اكتشف أيضًا أن الكهرباء تأتي في وحدات، في ذرات. كان هذان كشفَين مهمَّين، لكن الأكثر إثارةً هو أن تلك كانت لحظةً من أكثر اللحظات دراميةً في تاريخ العلم، لحظة من تلك اللحظات النادرة التي يلتقي فيها مجالان عريضان، ويتوحَّدان. فجأة اكتشف أن شيئَين يبدُوان مختلفَين، ليسا سوى وجهَين لنفس الشيء. الكهرباء تُدْرَسُ، والكيمياء تُدْرَسُ. وعلى حين فجأة أصبحا وجهَين لنفس الشيء. والقول إن القوانين تُستخدم في طلاء الكروم أمرٌ لا يُبرَّر.
إن محاولة تفهُّم طريقة عمل الطبيعة تتضمَّن اختبارًا رهيبًا لقدرة الإنسان على الاستنباط.
***