خيال العالِم وخيال الفنان
ريتشارد فينمان
ترجمة: أحمد مستجير
هذا المقال هو المحاضَرة الثانية لريتشارد فينمان، يُفسِّر فيها العِلمَ باعتباره منهجًا لاكتشاف الأشياء، وقد نُشرَت المحاضرةُ الأولى بترجمة الدكتور أحمد مستجير في العدد ٩٤ من سطور تحت عنوان: «غموض العلم»، وفيها عالَجَ المُحاضِر أثَر العلم على أفكارِ مَن لا يَعْملون به وطبيعته وما يُحيط به من شك وغموض.
وقد ركَّز فينمان على جانبَين في محاضرته الأولى؛ الجانب الأول يتعلق بقدرة العلم على إنجاز الأشياء، وقيمة هذه القدرة، بصرف النظر عن النتائج، طيِّبة كانت أم شرِّيرة، أما الجانب الثاني الذي ركَّز عليه، فتعلَّق بمحتوى العلم، وكيف أن التفكير المنظَّم والعمل البحثي الشاق لا يُجرى بهدف التطبيق، وإنما من أجل الإثارة القائمة فيما يتم اكتشافه.
أمَّا الناحيةُ الثالثة من موضوعي فتختصُّ بالعلم كمنهجٍ لاكتشاف الأشياء. يرتكز هذا المنهج على مبدأ يقول إن الملحوظة هي الفيصلُ، فيما إذا كان الشيء كذلك أو ليس كذلك. من الممكن أن نفهَم مباشرةً كلَّ نواحي وخصائص العلم الأخرى عندما نُدرِك أن الملحوظة هي الحَكَمُ النهائي والأخير على صحة الفكرة. وفي هذا الصدَد فإن معنى كلمة «يُثبِت» عندما تُستخدَم بهذه الطريقة هو في الحق «يختبر». ويجب أن نُترجِم الفكرة للناس اليومَ على أنَّ «الاستثناء يختبرُ القاعدة»، أو، بصورةٍ أخرى، على أنَّ «الاستثناء يُثبِت أنَّ القاعدة خَطَأ.» هذا هو مبدأ العلم. إذا كان هناك استثناءٌ لأية قاعدة، وأمكَن بالملاحظة إثباتُه، فإن القاعدةَ خطأ.
والاستثناءاتُ لأية قاعدة، في حدِّ ذاتها، مثيرةٌ غايةَ الإثارة؛ لأنها تُبيِّن أن القاعدة القديمة خطأ. ومن المثير حقًّا أن نبحثَ عن القاعدة الصحيحة، إنْ وُجدَت. يُدرَس الاستثناء ومعه الظروف الأخرى التي تُعطي آثارًا مشابهةً. يحاول العَالِمُ أن يجد استثناءاتٍ أكثر، وأن يُحدِّد خصائصَ الاستثناءات. وهذه عمليةٌ تزدادُ فيها الإثارةُ مع تقدُّمها. هو لا يُحاول أن يتجنبَ توضيحَ أن القواعدَ خاطئة. هناك تقدُّمٌ وإثارةٌ في الجانب النقيض. العالِم يُحاول أن يُثبِتَ أنه مخطئ، وبأسرعِ ما يمكن.
يفرض المبدأ القائلُ إنَّ الملاحظة هي الفيصلُ، حدودًا لنوع الأسئلة التي يُمكِن الإجابةُ عليها. تقتصر الأسئلةُ على تلك التي يُمكِن أن تُصَاغَ في الصورة التالية: «ماذا سيحدُث إذا فعلتُ هذا؟» هناك طرقٌ لكي تحاول وترى. أمَّا الأسئلة من قبيل: «هل يجب أن أفعلَ هذا؟» أو «ما قيمة هذا؟» فليست من نفس النوع.
فإذا ما كان الشيءُ غيرَ علمي، إذا لم يكن مما يُمكِن أن يخضعَ لاختبار الملاحظة، فإن هذا لا يعني أنه ميِّتٌ أو أنه خطأ أو أنه غبي. إننا لا نُحاوِل أن نُدلِّل بطريقةٍ أو بأخرى على أن العلم طيِّب وأن ما عداه — بطريقة ما — ليس كذلك. يُعالِج العلماء كلَّ الأشياء التي يمكن تحليلُها بالملاحظة، وبذا تُكتشَف الأشياء التي تُسمَّى العلم، لكنَّ هناك أشياء أخرى لا يعمل معها منهج العلم. هذا لا يعني أن هذه الأشياء ليست مهمة. هي في الحقيقة — وبطرقٍ شتَّى — الأكثر أهمية، في قرارك للشروع في عمل، عندما يكونُ عليك أن تقرِّر ماذا ستفعل، سيكون هناك دائمًا «وُجُوبٌ»، وهذا لا يمكن أن يحلَّه السؤال «ماذا سيحدث إذا فعلتُ هذا؟» وحده. أنت تقول: «مؤكدًا سترى ما سيحدث، ثم تقرِّر ما إذا كنتَ ترغبُ في أن يحدث أو لا يحدث»، لكن هذه هي الخطوة التي لا يستطيعُ العالِم اتخاذَها. يمكنك أن تتخيَّل ما سيحدث، لكن هنا عليك أن تقرِّر ما إذا كنتَ تُحب الأمر هكذا أم لا.
هناك بالعلم عددٌ من العواقب التقنية ينشأ عن مبدأ أن الملاحظة هي الفيصل؛ فعلى سبيل المثال، لا يصح أن تكون الملاحظةُ غيرَ مصقولة. علَيكَ أن تكونَ في غاية الحرص. ربما كان بالجهاز بعضُ القَذَرِ تَسَبَّبَ في تغيُّر اللون؛ لم يكن هذا ما فكَّرتَ فيه. علَيكَ أن تُراجِع الملاحظةَ بحرصٍ بالغ، ثم أن تُعيدَ المراجعة، لتتأكَّد من أنك تُدرِك كل الظروف، وأنك لم تخطئ في تفسيرِ ما فعَلْتَ.
من المشوِّق أن هذا الكمال — وهو فضيلة — كثيرًا ما يُساء فهمُه. عندما يقول أحدهم إن شيئًا ما قد تمَّ علميًّا، فكثيرًا ما يعني أنه قد تمَّ على أفضل وجه. سمعتُ من يتحدث عن الإبادة «العلمية» لليهود في ألمانيا. لم يكن ثمَّة ما هو علميٌّ في ذلك. كل ما هناك أن العمليةَ قد أُنجزَت كاملة. لم يرِدْ أمرُ تسجيلِ الملاحظات ثم التحقُّق منها لكي يُقَرَّر شيء. وفي هذا المعنى كانت هناك إباداتٌ «علمية» للناس في العصور الرومانية، وفي فتراتٍ أخرى لم يكن العلمُ فيها قد تطوَّر إلى ما وصلَه اليوم، ولم يكن مَن سجَّل الملاحظات. في مثل هذه الحالات يجب أن نقولَ إنها عملياتٌ «متقنة» أو «كاملة»، ولا نقول إنها «علمية».
هناك عددٌ من تقنياتٍ خاصة تُرافِق لعبةَ صناعة الملاحظات، والكثير مما يُسمَّى فلسفةَ العلم يهتَم بمناقشة هذه التقنيات. وفي تفسير النتائج المثال على ذلك. خُذْ هذه الواقعةَ التافهة. هناك نكتةٌ معروفة عن رجل يشتكي لصديقه من ظاهرةٍ غامضة؛ الخيلُ الأبيض في مزرعته تأكل أكثر من الخيل الأسود. أقلقَه الأمرُ ولم يستطع أن يعرف لذلك سببًا، حتى اقترحَ صديقُه أن بالمزرعة من الخيل الأبيض عددًا أكبر مما بها من الخيل الأسود.
يبدو الأمر مضحكًا، لكن تَذَكَّرْ كَمْ من مثل هذه الأخطاء البسيطة يحدث عند الحكم على الأشياء. تقول: «أختي أُصيبَت بالبرد، وفي ظرف أسبوعَين …» إذا تأمَّلتَ الأمرَ فستجدُ أن هذه حالةٌ من الحالات التي يزيدُ فيها عددُ الخيل الأبيض. الاستدلال يتطلب نظامًا معينًا، ويجب أن نحاولَ تدريسَ هذا النظام؛ لأن مثلَ هذه الأخطاء غيرُ ضروريةٍ اليوم حتى على أدنى مستوًى.
ثمَّة خصيصةٌ أخرى هامةٌ للعلم، هي موضوعيتُه. من الضروري أن تنظر إلى نتائج الملاحظات نظرةً موضوعية؛ لأنك كمجربٍ قد تحب نتيجةً أكثر من أخرى. أنت تكرِّر التجربة بضع مرات، وبسبب الظروف غير المحكومة — قطعة من القَذَر مثلًا تسقط في الجهاز — تختلف النتائجُ من آنٍ لآخر. أنت لا تتحكَّم في كلِّ شيء. أنت تُحب نتيجةً معينة، فإذا جاءت النتيجةُ كما تَهوَى قلتَ: «أترى؟ إن النتائج تتفق مع رؤيتي.» فإذا ما كرَّرتَ التجربة مرةً أخرى جاءت النتيجة مختلفة. ربما كانت هناك قطعة من القَذَر في المرة الأولى، لكنك تجاهلتَها.
تبدو هذه الأشياءُ واضحة، لكن الناس لا يُولُونها ما تستحقُّ من اهتمامٍ عند تقرير قضايا العلم أو القضايا المحيطة به. قد يكون هناك قَدْرٌ معيَّن من الإدراك، مثلًا في الطريقة التي تُحلَّل بها قضية ما إذا كانت قيمةُ الأسهُم سترتفع أم ستنخفض بسبب ما قاله الرئيس أو ما لم يقُلْه.
هناك نقطةٌ تقنيةٌ أخرى غاية في الأهمية، وهي أنه كلما كانت القاعدةُ أكثر تحديدًا ازدادت أهميتها. كلما كانت القاعدةُ أكثرَ صرامةً ووضوحًا ازداد الولَع باختبارها. إذا كان لأحد أن يقترحَ أن الكواكبَ تدور حول الشمس؛ لأن كلَّ مادة الكواكب تَنْزعُ إلى الحركة، إلى نوعٍ من الحركة دَعْنا نسمِّيه «أوومف»، فإن هذه النظرية يُمكِنها أن تُفَسِّر أيضًا عددًا آخر من الظواهر. هذه نظريةٌ جيدة، أليس كذلك؟ نعم. إنها ليست بأفضلَ من اقتراحٍ بأن الكواكب تدور حول الشمس تحت تأثير قوةٍ مركزيةٍ تتباين بالضبط عكسيًّا مع مُربَّع بُعدها عن المركز. النظرية الثانية أفضلُ لأنها أكثر تحديدًا؛ فالواضح أنه من المُستبعَد أن تكون نتيجةً للصدفة. هي محدَّدة بلا لبس، وأَقَلُّ غَلَط في الحركة سيُبيِّن أنها خطأ، لكنَّ الكواكبَ قد تتذبذبُ في كل مكان، وأقصَى ما ستقوله النظرية الأولى هو: «حَسَنًا، هذا هو السلوك العجيب للأوومف.»
وعلى هذا، فكلما ازدادت دقةُ القاعدة كانت أقوى، وكانت أقلَّ عُرضةً للاستثناءات، وأصبحَت أكثَر إثارةً وأكثر قابليةً للاختبار.
قد تكون الكلماتُ بلا معنًى إذا استُخدمَت بطريقة لا تؤدي إلى استنباط حاسم — كذلك المثال الذي قدَّمتُه عن «الأوومف» — فهذا المقتَرَحُ الذي تقوله الكلماتُ يكاد يخلو من المعنى؛ لأنك به تستطيع أن تفسِّر كلَّ شيءٍ بتأكيدك أنَّ للأشياء نزعةً إلى الحركة. تحدَّث الفلاسفة كثيرًا في هذا، قالوا إن معنى الكلمات لا بد أن يُحَدَّد بصورةٍ بالغة الدقة. والواقع أنني أختلفُ مع هذا بعضَ الشيء. أنا أعتقدُ أن الدقة المتناهية في التعريف لا تستحق كلَّ هذا الاهتمام، وهي تكون أحيانًا مستحيلة — بل الحق أنها تكون على الأغلب مستحيلة، لكنني لن أدخل في هذا الجدل الآن.
والواقع أن معظمَ ما يقوله الفلاسفة عن العلم يختص بالنواحي التقنية، التي تكتنفُ محاولةَ التأكد من أن المنهج يعمل على خيرِ ما يُرام. أما قضيةُ ما إذا كانت هذه النقاط التقنية تُفيدُ في مجالٍ لا تكون فيه الملاحظة هي الحَكَم، فهذا أمرٌ لا رأي لي فيه. لن أقولَ إن كل شيء لا بُد أن يُجرى بنفس الطريقة إذا كان منهجُ الاختبار المُستخدَم يختلف عن الملاحظة. قد لا يهمُّ كثيرًا أن نعتني بمعنى الكلمات، أو بأن تكون القواعدُ واضحةً محدَّدة، إذا كنا نعمل في مجالٍ مختلف. أنا لا أعرف.
أهملتُ في كل هذا شيئًا غاية في الأهمية. قلتُ إن الملاحظة هي الحَكَمُ على صحة الفكرة. لكن من أين تأتي الفكرة؟ إن التقدم والتنامي السريع للعلم يتطلب أن يبتكر البشر شيئًا يُختبَر.
كان من المعتقَد في القرون الوسطى أن الناس ببساطةٍ يلاحظون الأشياء، وأن الملاحظاتِ ذاتَها تقترح القوانين، لكن الأمر لا يعمل هكذا. إنه يتطلَّب خيالًا أكثر من هذا. وعلى هذا فإنني سأتحدث الآن عن قضية: من أين تأتي الأفكارُ الجديدة؟ والواقع أن هذا أمرٌ لا يهم ما دامت الأفكار الجديدة تأتي. إن لدينا طريقةً نفحصُ بها صحتَها من خطئها، طريقةً لا علاقة لها بقضية «من أين جاءت؟» إننا ببساطةٍ نَختبِرُها بالملاحظة. وعلى هذا، ففي العلم لا يهمُّنا من أين تأتي الفكرة.
ليس ثمَّة سلطةٌ تقرِّر ما هي الفكرةُ الجيدة. لقد فقَدْنا الحاجةَ إلى الرجوع إلى سلطة لنعرفَ ما إذا كانت الفكرةُ جيدةً أم لا، يُمكِننا أن نقرأَ ما يقولُه الثقاتُ ليقترحوا شيئًا؛ يمكننا أن نجرِّب الثقات فنعرف ما إذا كانت الفكرةُ صحيحةً أم خاطئة، فإذا لم تكن صحيحة، فالأمر أسوأ — سيفقدُ الثقاتُ بعضَ ثقتِنا.
كانت العلاقاتُ بين العلماء في البدء جدَليَّةً للغاية، مثلما هو الحال بين معظم الناس. كان هذا صحيحًا في الأيام الأولى للفيزياء مثلًا، لكن العلاقات الآن جيِّدة حقًّا؛ فالأرجح أن يتضمَّن الجدل العلمي قَدْرًا كبيرًا من الضحك والغموض من كلا الطرفَين — كلاهما يفكِّر في تجربة ويُراهن على النتيجة. هناك في الفيزياء الكثير من الملاحظات المتراكمة، حتى ليكاد يكون من المستحيل أن تخرج بفكرةٍ جديدة تختلفُ عن كل الأفكار التي طُرحَت قَبْلًا، ثم تتفق أيضًا مع كل الملاحظات التي رُصدَت قَبْلًا. وعلى هذا، فإذا ما وقعتَ على شيءٍ جديدٍ من أي شخصٍ في أي مكانٍ فإنك سترحِّب به، ولن تجادلَ حول السبَب في أن يقول الآخرُ إِن الأمرَ هكذا.
لكنَّ الكثيرَ من العلوم لم يتطور إلى هذا المدى، ولا يزال الوضعُ فيها كوضع الفيزياء في أيامها الأولى، عندما كان ثمَّة جدلٌ صاخب؛ إذ لم يكن هناك من الملاحظات قَدْرٌ كبير. أعرضُ هذا الآن لأنه من المشوِّق أن نرى أن العلاقاتِ الإنسانيةَ يمكن أن تصبحَ غيرَ جدلية إذا ما وُجدَت طريقةٌ مستقلة للحكم على الحقيقة.
يُدْهَشُ معظمُ الناس من أن العلمَ لا يهتم بخلفيةِ مؤلِّفِ الفكرة أو دافِعِه إلى تقديمها. أنت تستمع إلى شخصٍ ما، فإذا وجدتَ فيما تسمع ما يستحق، وجدتَ به ما يصلُح للتجريب، وجدتَ أنه مختلف، وأنه لا يُعارِض بوضوحٍ شيئًا لوحظ قَبْلًا، فهنا ستجده مثيرًا جديرًا بالاهتمام. لا داعي لأن تهتم بالفترة التي قضاها يدرُس الفكرة، أو بالسبب في أنه يريدك أن تستمع إليه. بهذا المعنى لا يهمُّ من أين تأتي الأفكار. إن مصدَرَها الحقيقيَّ مجهول، نُسمِّيه خيالَ العقل البشري، الخيالَ المبدعَ — بل إنا نعرفُه، هو مجرَّد واحدةٍ من تلك «الأوومفات»!
من المدهش أن نجد أن النَّاسَ لا يصدِّقون أنَّ بالعلم خيالًا. إنه نوعٌ مثيرٌ جدًّا من الخيال، لا يُشبِه خيالَ الفنان. إنما تكمُن الصعوبة في محاولة أن تتخيلَ شيئًا لم تُشاهده قَط، شيئًا يستقيم في كل التفاصيل مع ما قد شُوهِد فعلًا من قبلُ، شيئًا يختلف عما فكَّر الناس فيه قَبْلًا؛ ثم إنه لا بد أن يكون محدَّدًا وليس مجرد افتراضٍ غامض. هذا أمرٌ في الحقِّ صعب.
وعلى الذِّكْرِ، إن حقيقة وجود قواعد، من أصله، يمكن مراجعتُها، هذه الحقيقة ذاتها ليست سوى معجزة؛ إن حقيقةَ أنه من الممكن أن نجد قاعدةً — مثل قانون التربيع العكسي للجاذبية — هي نوعٌ من المعجزات. القاعدة ليست مفهومةً على الإطلاق، لكنها تقودُ إلى إمكانية التنبؤ — نعني أن القاعدةَ تُخبرك بماذا تتوقَّع أن يحدث في تجربةٍ لم تقُم بها بعدُ.
من المشوِّق، ومن الضروري تمامًا، أن تكون القوانينُ المختلفةُ للعلم متناغمةً فيما بينها، فلما كانت الملاحظات جميعًا هي نفس الملاحظات، فمن المستحيل أن يُعطيَ قانونٌ تنبؤًا ويعطيَ قانونٌ آخر تنبؤًا مختلفًا. وعلى هذا فإن العلم ليس شُغلَ المتخصص؛ إنه كونيٌّ بالكامل. تحدَّثتُ عن الذرات في الفسيولوجيا، وتحدَّثتُ عن الذرات في الفلك، والكهرباء، والكيمياء. إنها كَوْنيَّةٌ، لا بد أن تكون متناغمةً فيما بينها. أنت لا تستطيع أن تؤسِّسَ شيئًا جديدًا ليس مصنوعًا من الذرَّات.
من المشوِّق أن العقل يعمل في تخمين القوانين، وأن القواعدَ — في الفيزياء على الأقل — تُخْتَزَل. قَدَّمْتُ مثالًا للاختزال الجميل لقوانين الكيمياء والكهرباء في قانونٍ واحد، لكنَّ هناك أمثلةً أخرى كثيرةً جدًّا.
يبدو أن القوانين التي تَصفُ الطبيعة قوانينُ رياضية، لا يأتي هذا عن حقيقة أن الملاحظة هي الحَكَمُ. ثم إنه ليس ضرورةً تُمَيِّزُ العلم أن يكون رياضيًّا. إنما قد اتضح أنك تستطيع — في الفيزياء على الأقل — أن تضع القوانينَ الرياضيةَ التي تُقَدِّمُ تنبؤاتٍ فعَّالة. لماذا تكون الطبيعة رياضية؟ مرةً أخرى، هذا لغز.
وصلتُ الآن إلى نقطةٍ هامة. قد تكون القوانينُ القديمةُ خاطئة. كيف يمكن أن تكون الملحوظة خاطئةً؟ إذا كانت قد رُوجعَت بدقة، فكيف تكون خطأ؟ لماذا يكون على الفيزيائيين دائمًا أن يغيِّروا القوانين؟ الإجابة هي أولًا أن القوانين ليست الملاحظات، وثانيًا أن القائمين بالتجارب دائمًا ما تُعوِزهم الدقة. تأتي القوانينُ عن التخمين عن الاستقراء. هي ليست شيئًا تُصِر عليه الملاحظات. إنما هي تخميناتٌ جيدة استطاعت حتى الآن أن تمُر من ثقوب المُنْخُل. ثم يتضح فيما بعدُ أن ثقوب المُنْخُل الآن قد غدَت أضيق من ثقوب المُنْخُل القديم. هنا يقع القانون في الشَّرَك. القوانين إذن تخمينات؛ هي استقراءاتٌ للمجهول. أنت لا تعرفُ ماذا سيحدث؛ لذا فإنك تُخَمِّن.
على سبيل المثال، كان من المعتقَد — بل ولقد اكتُشف — أن الحركة لا تؤثِّر في وزن الجسم — أنك إذا وزَنتَ نحلةً تلفُّ، ثم وَزَنْتَها بعد التوقف، فستجد أن الوزن لم يتغيَّر. هذه نتيجة ملاحظة، غير أنك لا تستطيع عند الوزن أن تصل بالدقة إلى الرقم العشري التاسع (الواحد في البليون)، لكنَّا نعرف الآن أنَّ وزن النحلة التي تدور أكثرُ من وزنها وهي ساكنة ببضعة أجزاء من البليون، فإذا كانت النحلة تدور بسرعة تقرب عند حَوافها من ١٨٦٠٠٠ ميل في الثانية فإن زيادة الوزن ستكون محسوسةً — إنما فقط إذا اقتربَت السرعةُ من هذا الرقم. أُجرِيَت التجارب الأولى على نحلات تَدُورُ بسرعةٍ أقلَّ كثيرًا من ١٨٦٠٠٠ ميل في الثانية. بدا عندئذٍ أن كتلة النحلة الدوَّارة تساوي بالضبط كتلتها وهي ساكنة، وخمَّن أحدُهم أن الكتلة لا تتغير أبدًا.
يا للحماقة! يا له من أحمق! إنه قانون تخميني، مجرد استقراء. لماذا يفعل شيئًا كهذا غير علمي؟ ليس ثمَّة ما هو غيرُ علمي في هذا. إنه فقط غيرُ أكيد. إنما يكونُ الأمرُ غيرَ علمي إذا لم نخمِّن. كان من الضروري أن يحدثَ هذا؛ لأن الاستقراءات هي الأشياءُ الوحيدةُ ذات القيمة الحقيقية. إن ما يستحق أن نعرفَ عنه هو فقط مبدأُ أن تتصوَّر ما سيحدث في واقعةٍ لم تجرِّبها من قبلُ. ليس للمعرفة أية قيمةٍ حقيقيةٍ إذا كان كل ما ستقوله لي هو ما حدَث بالأمس. إنما المهم هو أن تحكي لي عما سيحدث غدًا — إذا كان لك أن تفعل شيئًا — هو ليس فقط مهمًّا، إنما هو أيضًا بهيج. فقط لا بُد أن تكون مستعدًّا لأن تُغامِر.
كل قانونٍ علمي، كل مبدأ علمي، كل تقريرٍ عن نتائج ملاحظة، هو مُختصَرٌ يُهمِل التفاصيل؛ فليس من شيء يمكن أن يُعرضَ بدقة. الرجلُ ببساطة قد نسي — كان من الضروري أن يضع القانون هكذا: «الكتلة لا تتغيرُ «كثيرًا» إذا لم تكن السرعة «مرتفعةً جدًّا».» إن اللعبة هي أن تَضَعَ قاعدةً محدَّدة، ثم ترى إذا ما كانت ستمُر من ثقوب المُنخُل. وعلى هذا كان التخمين المحدَّد هو أن الكتلة لا تتغيَّر على الإطلاق. احتمالٌ مثير ولن يضيرَ إذا ثبت أن الأمر ليس كذلك. كل ما في الأمر أن التخمين كان غير مؤكَّد، وليس ثمَّة من ضررٌ في ألا يكون أكيدًا. لأن تقولَ شيئًا وأنت غيرُ متأكد خيرٌ من ألَّا تقولَ شيئًا بالمرة.
من الضروري، ومن الصحيح أن يكون كل ما يقوله العلم، كل استنباطاته، غيرَ مؤكدة؛ لأنها ليست سوى استنباطات. هي تخميناتٌ عما قد يحدث، وأنت أبدًا لن تستطيعَ أن تعرفَ ما سيحدث؛ لأن تجاربَك لم تَصِل إلى غاية الكمال.
من الغريب أن أَثَرَ الدَّوَران على كتلة النحلة ضئيلٌ للغاية حتى ليمكنك أن تقول: «حسنًا، إنه لن يغيَّر في الأمر شيء.» لكنْ للوصول إلى قانونٍ صحيح — أو قانونٍ يمكنه على الأقل أن يمُر خلال المناخل المتعاقبة، ويمضي ليضُم ملاحظاتٍ أكثر وأكثر — فإن الأمر يتطلب ذكاءً خارقًا وخيالًا، وتجديدًا كاملًا لفلسَفتِنا، لتفهُّمنا للفضاء والزمن. أنا هنا أُشير إلى نظرية النسبية. لقد اتضح أن الآثارَ الضئيلةَ التي تأتي دائمًا من غير تَوقُّع هي أكبر التحويرات ثوريةً في الأفكار.
لهذا السبب تعوَّد العلماء أن يتعاملوا مع الشك واللايقين. كل المعارف العلمية غير أكيدة. وهذه الخبرة بالشك واللايقين مهمة. وأنا أعتقد أن قيمتَها كبيرةٌ للغاية، وتتعدَّى نطاقَ العلم. إنني أعتقد أنه لحل أية مشكلة لم يسبق حلُّها، لا بد أن يُتْرَكَ الباب إلى المجهول «مواربًا.» لا بد أن تسمحَ باحتمالِ ألا يكونَ حَلُّكَ هو الصحيح تمامًا، وإلا — إذا كنتَ بالفعل قد اتخذتَ القرار — فإنك لن تحلَّها.
إذا أخبركَ العالِم أنه لا يعرف الإجابة، فسيكون جاهلًا، فإذا قال لك إن لدَيه شعورًا حدْسيًّا عن كيفية عمله، فسيكون متشككًا. أما إذا كان متأكدًا تمامًا من طريقة العمل ليقول: «هذه هي الطريقة التي سيَعمَل بها، وأراهن على ذلك.» فسيكون لا يزالُ لديه بعضُ الشك. لكي نُحرِز التقدمَ علينا أن نُدرِكَ هذا الجهلَ وهذا الشك، إن هذا أمرٌ غاية في الأهمية؛ فلأننا نَشُكُّ سنقترحُ النظَر في اتجاهاتٍ جديدة بحثًا عن أفكارٍ جديدة. إن مُعَدَّلَ تطوُّر العلم ليس فقط هو معدلَ رَصدِك للملاحظات، وإنما الأهم كثيرًا أنه مُعَدَّل إبداعك أشياءَ جديدةً تُختبَر.
إذا لم نكن نستطيع، أو لم نكن نرغبُ في أن ننظر في أي اتجاهٍ جديد، إذا لم يكن لدينا الشك أو لم ندرك الجهل، فلن نتمكَّن من أية أفكارٍ جديدة. لن نجدَ ما يَستحقُّ عَناءَ التحقيق؛ لأننا لا نعرف ما هو الصحيح. وعلى هذا فإن ما نُطْلِقُ عليه اسمَ المعرفة العلمية هو كيانٌ من تقاريرَ على درجاتٍ مختلفة من اليقين — البعضُ منها قليلُ الموثوقية، والبعض يكادُ يكون موثوقًا، لكن ليس فيها ما هو مؤكَّد تمامًا. تعوَّد العلماء على هذا. إننا نعرفُ أنْ ليس ثمَّة تعارض في أن تحيا وألَّا تعرف. بعضُهم يقول: «كيف تعيشُ دون أن تعرف؟» أنا لا أعرف ماذا يعنون بذلك. إنني أعيش دائمًا دون أن أعرف. هذا أمرٌ يسير. أما كيف تَعْرف، فهذا ما أريدُ أن أعرفَه.
حرية الشك أمرٌ هامٌّ في العلوم، وفي مجالاتٍ أخرى على ما أعتقد. إنني ابنُ صراعٍ. كان صراعًا من أجل أن يُفتح لي باب الشك، من أجل أن أَكُونَ غير متأكد. وأنا لا أودُّ أن ننسَى أهميةَ هذا الصراع، فنتركه بالإهمال يَذْوي. أُحِسُّ بمسئوليةٍ كعَالِم يعرفُ القيمةَ العظمى لفلسفةٍ للجهل مُرْضِية، ويعرفُ التقدُّم الذي سيغدو ممكنًا بمثل هذه الفلسفة، التقدُّم الذي يأتي ثمرةً لحرية الفكر. أُحِسُّ بمسئوليةٍ أن أُعلِنَ قيمةَ هذه الحرية، وأن أُدرِّس أنَّ هذا الشكَّ لا يُخيف، وأن علينا أن نُرحِّب به على أنه إمكانيةٌ لقدرةٍ جديدةٍ للبشر. إذا عرَفتَ أنك لستَ متأكدًا، فستتوفرُ لك الفرصةُ لتحسين الموقف. أودُّ لو أطلبُ هذه الحرية للأجيال القادمة.
الشكُّ، مؤكَّدًا، قيمةٌ من قيَم العلوم. أمَّا أن يكونَ كذلك في مجالاتٍ أخرى، فهذه قضيةٌ مفتوحةٌ مشكوكٌ فيها. أرجو أن أناقشَ هذه النقطة بالذات في المحاضرتَين التاليتَين، وأن أحاول أن أوضِّح أنه من المهم أن تَشُكَّ، وأن الشكَّ ليس مخيفًا، وإنما هو شيء له قيمةٌ ما أرفعَها!