لون العلم

اتخذ العثمانيون في مبدأ دولتهم العلَمَ الأبيض ثم غيَّروه بالأخضر ثم بالأحمر وهو اللون الباقي إلى اليوم. ولكن يُلاحَظ أنهم لمَّا جعلوه أحمرَ لم يجعلوه في أول الأمر مُصْمَتًا — أي من لونٍ واحدٍ — كما هو الآن بل وضعوا في وسطه دائرة خضراء بيضيَّة بها ثلاثة أَهِلَّة وهو العلَم السلطاني، وكانت لهم أعلام أخرى خاصة بالوزراء وكتائب الجند مختلفة الألوان؛ منها الأحمر والأصفر والجامع بين الحمرة والصُّفرة أو الحمرة والخضرة أو الخضرة والبياض على ما سنبينه.

وقد بَيَّنَ لنا ابن إياس أن العلَم العثماني كان في زمنه من حرير أخضر وأحمر، ذكر ذلك في كلامه على قاسم بك حفيد السلطان بايزيد الثاني، وكان صبيًّا فرَّ به مربِّيه إلى مصر١ وهو في الثالثة عشرة خوفًا عليه من السلطان سليم، فأكرمه سلطانها الغوري، ثم لما خرج هذا السلطان إلى حلب لقتال العثمانيين رأى أن يخرج معه هذا الأمير ويعظِّم من شأنه طمعًا في استمالتهم إليه. قال ابن إياس (ج٣ ص١٥١): «وكان سليم شاه يخشى من أمر قاسم بك هذا أن يلتفَّ عليه عساكر الروم من عساكر جدِّه ويولُّوه مملكة الروم، وسافر قاسم بك هذا صحبة الأشرف قانصوه الغوري إلى حلب وصنع له برقًا وسنيحًا حافلًا، وجعل له صنجقًا من حرير أخضر وأحمر كما هي عادة ملوك الروم.» انتهى.

والذي يُفهم من قوله: «عادة ملوك الروم» أن هذا العلَم كان على مثال العلم السلطاني أي الأحمر ذي الدائرة الخضراء في وسطه. ويؤيد ذلك كون الغوري بالَغ في إعظام شأن هذا الأمير وإظهاره بمظهر السلاطين ليبلغ به مقصده فيبعد أن يكون اتخذ له عَلَمًا جامعًا بين الخضرة والحمرة من أعلام الوزراء أو الجند.

ولم تكن نهاية هذا الأمير بخالية من ذكر علَم آخر أيضًا؛ فإنه عاد إلى مصر بعد هزيمة المصريين وبقي مُعظَّمًا عند طومان باي ثم اختفى بعد القبض على هذا السلطان، وظل مختفيًا إلى أن حدثت حادثة اليَكيچرية٢ وجنوحهم إلى العصيان سنة ٩٢٤ في ولاية خير بك فأخذوا في البحث عنه ليبايعوه، فلم يوفَّقوا ثم ظفِر به خير بك فقتله خنقًا وأخرج لهم جثته ليفتَّ في عَضُدهم ثم جهزَّه ودفنه، قال ابن إياس: «فلما صلَّوْا عليه بالحوش حملت الأمراء نعشه على أكتافهم ثم نزلوا به من سلَّم المدرج ووضعوا عمامته على نعشه ورفعوا عليه علمًا أبيضَ، ثم توجَهوا به إلى تربة البجاسي٣ فدفنوه فيها على أقاربه، وكانت جنازته مشهودة، وكثر عليه الأسف والحزن من الناس فإنه كان شابًّا جميل الصورة حسَن المنظر له من العمر سبع عشرة سنة وقد قُتل ظلمًا بغير ذنب وقد تناحرت عليه العثمانيون بالبكاء.» انتهى.

ولعل رفع العلم الأبيض على نعوش الأمراء كان عادةً عند العثمانيين، غير أننا لم نَقِفْ على شيء عنها، ولا يبعد أن تكون آتية من اتِّخاذ البياض علامة للحزن في بعض الأزمنة ببعض البلاد الإسلامية.

وذكر ابن إياس علم العثمانيين في موضع آخر (ج٣ ص١٠٥) فقال في حوادث استيلاء السلطان سليم على القاهرة: «فلما هرب السلطان طومان باي وقُتِلَ من قُتِلَ من الأمراء والعسكر رجع السلطان سليم شاه إلى وطاقه٤ الذي في الجزيرة الوسطى ونصب في وطاقة صنجقَين أحدهما أبيض والآخر أحمر؛ وذلك إشارة عندهم لرفع السيف عن أهل المدينة، هكذا عادتهم في بلادهم إذا ملكوا مدينة وفتحوها بالسيف عنوة.»

قلنا: الظاهر أن العلَم الأبيض هو الذي كان علامة للأمان، وأما الأحمر فهو العلم السلطاني الذي يُرفَع حيث يكون السلطان، ولكنَّا لم ندْرِ أيعني بكونه أحمر أنه كان مُصْمتًا، فيكون غُيِّر في مدة سليم بإزالة الدائرة الخضراء من وسطه، أم أراد بذلك وصفه باللون الغالب عليه وهو الحمرة.

أما العلم الأبيض فلم يبتدعه العثمانيون بل كان عَلَمًا منحه السلطان علاء الدين آخر السلجوقيين٥ للسلطان عثمان الأول، فلما استقل جعله علَم مملكته ولم يغيره، واستعمله بعده السلطان أَرْخان، ثم بدا للسلطان مراد الأول تغيير لونه فجعله أخضر ثم جعله السلطان محمدٌ أحمرَ ذا دائرة خضراء في وسطه، ولكن لم يعيِّن مؤرخو الترك أيَّ المحمدَين صاحب هذا التغيير، وقد تقدَّم في قول ابن إياس أن علَم سليم كان أحمر، فالتغيير على هذا إما لمحمد الأول الملقب بچلبي أو الثاني الملقب بالفاتح، وهما اللذان كانا قبله بهذا الاسم. وفي خبر منقطع لم يُسند إلى مصدر معروف رواه حمدي بك الذي كان ناظرًا لدار الآثار بالقسطنطينية ونقله عنه يعقوب أرتين باشا في كتابه عن الشارات في الشرق الذي ألَفه بالفرنسية٦ أن العلَم العثماني وقت الاستيلاء على القسطنطينية كان أخضر اللون مطرَّزًا بحديثٍ يُروى في فتح هذه المدينة وفضل فاتحها. وإذا صحَّ هذا فالتغيير إذن لمحمد الثاني الفاتح بعد الفتح.
وكان للعثمانيين أعلام أخرى دون العلَم السلطاني خصوا بها الوزراء وفرق الجند؛ فكان لذوي لقب «باشا»٧ العلم الأبيض، ثم غيَّروه فجعلوه شقة خضراء مذهَّبة الأطراف في وسطها أخرى حمراء مستطيلة أصغر منها مذهَّبة الأطراف أيضًا مرقومة الوسط بكلمة التوحيد أو بآية قرآنية بدل الهلال. وكان لفرقة الفرسان المسماة «طوپراقلي سواريسي»٨ علَم شطره الأعلى أخضر والأسفل أحمر مصوَّر عليه سيف مُذهَّب على مثال ذي الفقار محاط بأربعة أَهِلَّة مذهَّبة. ولليكيچرية علَم مثله يجمع اللونين إلا أنه مُذهَّب الأطراف وبوسطه صورة مذهبة لذي الفقار ولكن بلا أهلَّة وهو عَلَمهم الأكبر، وكان لكل فرقة من فرقهم علَم خاصٌّ يميِّزها. وللمدفعية علَم أحمر مُصْمَت مذهب الأطراف بوسطه مِدفع مفضَّض قد صُوِّرت كرةٌ أمام فمه وثلاثٌ خلفه. و«للخمبره جيَّة» وهم مطلقو الخمبرة٩ من مدفع «الهاون» علم أحمر مُصمَت مُذهَّب الأطراف بوسطه صورة مفضَّضة لهذا المدفع. ولفرقة الفرسان «السپاه»١٠ علم أحمر مصمت بوسطه هلالان مفضَّضان، وللفرسان «السلاحدارية» علم مثله إلا أنه أصفر مصمت، ولفرسان «البلوكات الأربعة» علم مخطط عرضًا بالخضرة والبياض، وللفرقة المسماة «كوكللو١١ سواريسي» أي الفرسان المتطوعة علم شطره الأعلى أصفر والأسفل أحمر، وللدليل العسكري علم مثله إلا أن شطره الأعلى أخضر.
١  كذا في تاريخ ابن إياس والذي في السجل العثماني أنه فر إلى مصر مع أبيه علاء الدين بك.
٢  هي في النطق «ينيچرية» بالنون وبالجيم الأعجمية التي بين الشين والتاء، ومعناها العسكر الجديد؛ لأن معنى يكي «يني» الجديد وجري العسكر، وهي طائفة من الجند أحدثها السلطان أُرخان وأبادها السلطان محمود الثاني، والعامة تسميها الإنكشارية.
٣  التربة المذكورة في قرافة المجاورين بجهة تربة برقوق، وبها جماعة ممن تُوُفُّوا بمصر من الأمراء العثمانيين رجالًا ونساءً، وقبر قاسم بك معروف بها إلى الآن. وملخص ما جاء عنه وعن أبيه في كاتب السجل العثماني ج٦ ص٥٨ و٦٣ أنه من أحفاد السلطان بايزيد الثاني، وكان والده علاء الدين بك بن أحمد يزيد فر إلى مصر ومات بها سنة ٩٢٠ وبقي بها ولده قاسم بك إلى أن استصحبه قانصوه الغوري في حربه، وبعد الهزيمة اختفى بمصر، ثم أمسكه الوالي خير بك، وتوفي سنة ٩٢٦ ودفن بمصر. انتهى.
قلنا والصواب ما ذكره ابن إياس عن قتله سنة ٩٢٤، أما سنة ٩٢٦ فتحريف في نسخة السجل العثماني وما أكثره فيها.
٤  الوطاق محرف عن أوتاق أو أوتاغ، وهو في التركية الخيمة الكبيرة التي للعظماء.
٥  هو علاء الدين كيقباد الثاني ابن فرامرز بن كيكاوس آخر ملوك الفرع السلجوقي بالروم «الأناضول» وكان مقرهم في قونية. حكم من سنة ٦٩٧–٦٩٩ وبه انقرضت مملكتهم من هذه الجهة وانقسمت إلى إمارات استقل ولاتهم بها ثم اندمجت في المملكة العثمانية.
٦  انظر ص١٥٠ من هذا الكتاب، وأرتين باشا المذكور أرمني من رجال الدولة المصرية له تآليف وآثار، ترقَّى في المناصب إلى أن صار وكيلًا لنظارة المعارف، وتوفي بالقاهرة يوم الثلاثاء ١٩ ربيع الثاني سنة ١٣٣٧.
٧  الكلام في معناه وأصله طويل متشعب لا تحتمله الحواشي، وقد استوفينا ما قيل فيه في معجم العامية المصرية، أعاننا الله على إتمامه.
٨  معنى طوپراق في التركية التراب والأرض، ويطلق أيضًا على الأرض المغلة، ومعنى السواري الفرسان، وقد سمت هذه الفرقة بذلك؛ لأنها كانت ترتزق وقت السلم من الأراضي بنظام خاص مذكور في تاريخ الجندية العثمانية.
٩  الخمبرة أو الخنبرة بضم فسكون كلمة فارسية الأصل استعملها الأتراك للكرات النارية، وحرَّفها بعضهم بالقومبرة، واستعملها كُتَّاب العربية في العصور المتأخرة بلفظ قنبرة، ثم زادها كُتَّاب هذا العصر تحريفًا فقالوا قنبلة بضم القاف وإسكان النون وظنوها عربية، وإنما العربية القنبلة بفتح فسكون لجماعة الخيل لا الكرات النارية.
١٠  السباه أو السباهي بكسر السين المهملة وتخفيف الباء الأعجمية: لفظة فارسية معناها العسكر وقيل الفرسان منهم، ولهم في أصلها كلام لا يحتمله المقام، وكانت تطلق في الدولة العثمانية على صِنف من الفرسان لهم نظام خاص مذكور في تاريخ جنديتها، وكثيرًا ما يعبر عنه متأخرو المؤرخين في التواريخ العربية بالاسباهية أو الاصباهية.
١١  كوكللو أو كوكللي وينطق به جونللو أو جونللي بجيم مصرية ونون: معناه ذو الاختيار؛ أي الذي يفعل الشيء برغبته غير مجبَر، وكان يطلق في الدولة العثمانية على المتطوِّعة من الجند، ويُجمع اللفظان بإلحاق علامة الجمع في الآخر وهي «لر» التركية أو «ان» الفارسية المستعملة في التركية، ورأيناه مرسومًا في بعض التواريخ هكذا «ككللويان» أي بالواو والياء معًا قبل علامة الجمع. وقد تبين لنا أن لفظة «الكملية» أو «الجملية» أو «الجمليان» التي تَرِدُ ترد كثيرًا في التواريخ مراد بها فرقة من الجند محرفة عن «كوكللي» هذه لأن الكاف الثانية وهي نون في اللفظ يسهل إبدالها ميمًا. وقد ذكرها ابن إياس بلفظ «الكملية» في عدة مواضع منها (في ج٣ ص١٩٣ و١٩٨ و٢٠١) وذكرها الجزيري بهذا اللفظ أيضًا في درر الفرائد المنظمة (ج٢ص١٩ من نسختنا المخطوطة رقم ٩٢٦ تاريخ) وذكرها حسين أفندي في أجوبته عن مصر ونظامها سنة ١٢١٦ بلفظ «جمليان» بإلحاق علامة الجمع (ص١٢–١٨ من نسختنا المخطوطة رقم ٤٩٧ تاريخ)، أما الجبرتي فذكرها بالكاف في مواضع وبالجيم في أخرى وبلفظ ككلويان أيضًا (في ج١ ص٩١) فقال: «ومات الأمير حسن آغا بلفية الفقاري آغات كلكلويان وأصله رومي الجنس.» إلى أن قال: «وتقلد آغات ككلويان سنة ثلاث وتسعين وألف.» إلخ، ولكن كان له الفضل في بيان ما طرأ على هذا اللفظ من التحريف بقوله (في ج٢ ص٢٢٤ في وفيات سنة ١٢٠٥): «ومات الصنو الوجيه والفريد النبيه محمد أفندي بن سليمان أفندي بن عبد الرحمن أفندي بن مصطفى أفندي ككلويان، ويقال لها في اللغة العامية جمليان.» انتهى، غير أن اللفظة حرفت في النسخة بككليويان وهو خطأ مطبعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤