مقدمة

لا أظن أن من الأقوال التي صدرت عن حكماء الغرب وكتَّابه قولًا هو أبعد عن محجة الصواب من قول الكاتب «كبلنج»: «الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا.» فإنها كلمات أملاها غرور له مبرراته، واعتداد بالنفس له نتائجه ومقدماته. على أن هذا القول لا يدل على شيء بقدر ما يدل على ضيق في النظر وحرج في النفس، سببه حالات قامت في الشرق ناظرتها حالات ارتقائية قامت في الغرب، فقعدت حالات الأول به عن اللحاق بالحد الذي وصل إليه الثاني.

على أن محور هذا القول يدل على عقلية تُلزم صاحبها الاعتقاد بأن الشرق لن يستطيع أن ينتحل عقلية الغرب ليلتقي الاثنان في ميدان الجهد الإنساني. ولا جرم أن هذا خطأ كبير وتعميم خطير النتائج بعيد الأثر في الأذهان. وهو بعد ككل التعميمات الفلسفية والاجتماعية والأحكام العامة الرنانة، تطن بعيدًا ولكنك لا تجد لها من حقيقة مادية ترتكز عليها، ولعمرك كيف يمكن أن يُقبل حكمٌ كهذا الحكم ويؤخذ على أنه قاعدة ثابتة، وأنت لو رجعت إلى التاريخ القديم لوجدت أن اليونان كان لهم الحق في أن يقولوا نفس هذا القول عن الشرق، وأن الشرق قد مرت به أدوار لا دور واحد، كان من حقه أن يقول فيه أكثر من هذا في الغرب وفي أوروبا بالذات! إذن فهو تعميم لا قيمة له من جهة الواقع، وأنه كانت له مبررات زمانية، وظواهر لا يمكن نكرانها في هذا العصر، وأنت إذا رجعت إلى حالات اليوم والساعة التي قال فيها «كبلنج» هذا القول وقستها بحالات الشرق في هذا العصر، لوجدت أن مبررات هذا القول أخذت تتضاءل وتزول أهميتها شيئًا بعد شيء، ولا نبالغ إذا قلنا بأن هذه الكلمة التي طنت في أوروبا وتجاوبت بها أنحاء الشرق زمانًا كادت تصبح من الأقوال المنبوذة، بل أصبحت صورة حفرية لعقلية قامت في الغرب في الزمان الذي كان المريض العثماني ملقى فيه على فراش المرض، والإمبراطورية التركية آخذة في سبيل الانحلال، ومصر مستنيمة لحكم الغاصبين، والهند مشغولة بحزبياتها الدينية، وفارس خاضعة لنفوذ روسيا، والأفغان راتعة في جبالها منقطعة عن عمران الحضارة، وشمال إفريقية نهب للجشع الفرنسوي من ناحية، وسوء الإدارة التركية من ناحية أخرى، وسوريا وفلسطين والعراق مستنيمات في سبات عميق، كأن الفلك ما دار من حولهن، وكأن عجلة الزمان ما لفَّت على أهل هذه البلاد.

ولا شبهة في أن هذه الحالات قد تغيرت الآن فتغيرت معها تلك العقلية التي أملت هذه الكلمات. ويكفيك أن تعرف أن السلطات الاستعمارية أخذت تعترف شيئًا بعد شيء بحق الشعوب الشرقية في الحياة، مجبرة على ذلك بحكم المقتضيات التي تُلزم الناس والشعوب على تغيير عقلياتها وأساليبها خضوعًا لحكم الظروف، ابتغاء الموازنة بين الحاجات والضرورات.

ولقد مرت بأوروبا برهة من الزمان اعتقد فيها المفكرون أن الدين الإسلامي زائل يومًا من الأيام، وأن العقلية الشرقية لن تخرج من تلك الدائرة الضيِّقة التي رسمها الفقهاء خلال القرون؛ فظهر أثر هذه العقيدة الغربية في السياسة الدولية وعملت الدول الأوروبية على تقسيم الإمبراطورية العثمانية إلى مناطق نفوذ، تختص كل دولة بمنطقة منها وتكون من حصتها عند تقطيع أوصال الغنيمة، إذا ما حان لذلك الوقت الملائم. ولقد تمزقت الإمبراطورية العثمانية كما تمزقت الإمبراطورية النمساوية. ولكن مَن مِن الأوروبيين يستطيع اليوم أن يدَّعي أن الشعوب التي انفصلت عن الإمبراطورية العثمانية أقل شعورًا بحقها في الحياة، من الشعوب التي انفصلت عن الإمبراطورية النمساوية؟

لقد اعتُرف للشرق بحق الحياة، واعترف الأكثرون أنه قد يلتقي الشرق والغرب في ميدان الجهاد الإنساني، فلنعملْ إذن على تحقيق ذلك في أكبر دائرة من الإمكان.

•••

لا نكران مطلقًا في أن العقلية التي نشأت في الشرق — ونقصد به آسيا في الغالب — هي العقلية التي لا تلائم مزاج هذه الحياة. هي العقلية التي لا تتسق وحاجات هذه الحياة الدنيا. بل أنت إذا قلبت أوجه النظر في هذه العقلية ألفيتها تلائم من كل نواحيها الحياة الأخرى، نكران لكل مطاليب الحياة، وتواكل على القضاء والقدر، واستسلام صرف لما سوف يأتي به الغد، وإغفال محض لمواعظ الماضي وعظاته، هي عقلية توافق المزاج الإنساني في غرارته الأولى وبساطته وأساطيره، عندما أخذ فجر العقل يتنفس من خلال الظلمات الأولى. ولقد عيب على الشرق أن يكون هذا حال عقلية أهله! وفي الحق أن الشرق يجب أن يعاب عليه تواكله واستسلامه للمقادير وخضوعه لأمرائه من ناحية، ورجال الدين والفقهاء من ناحية أخرى. غير أن أخذ الشرق بهذه المناقض الكبرى من غير تعليلها تعليلًا يُظهر حقيقتها، غبن فاحش على الشرقيين، واستسلام الشرقيين لمثل هذه التهمة الشنعاء أمر يعابون عليه أكثر مما يعاب عليهم توارثهم لمثل هذه العقلية منذ أبعد عصور التاريخ.

كان الشرق مهد الإنسان، فيه ظهرت جماعاته الأولى، وفي وديانه الخصيبة نشأت الحضارات البدائية التي جاهد الإنسان في سبيل الفوز بها، وتناحر من أجلها مع وحوش الغابات وميكروبات الماء والهواء والطفيليات، وجالد العناصر الطبيعية وقواسر المناخات المختلفة، حتى استطاع في النهاية أن يستقوي عليها جميعًا، فيرث الأرض ومن عليها، ويشيد تلك الحضارات العجيبة تتلو إحداها الأخرى كأنها في ظلال التاريخ أشباح مردة من الجن أو جبابرة من الخيال تتصارع في أفق الروايات الإنسانية صراع الكواسر عضها الجوع، أو أخذتها غضبة الأنانية؛ فتلوح كأنها في ميدان حرب تتناوب فيه الغلبة حينًا والانكسار حينًا آخر. وأنت بين هذا وذاك ترى المدنيات تنشأ تدرجًا وتقوم لمامًا على المسرح الإنساني، ثم لا تلبث أن تراها تنهار وتتقوض دعائمها، كما لو كانت جدرانًا متداعية، وضع الفأسَ في أصولها جبارٌ قوي الأصلاب.

ترى هل كان غير الشرق من بقاع الكرة الأرضية ميدانًا لمثل هذا الصراع؟ وهل كان غير الشرق مسرحًا لتغالب هذه القوى وتفانيها؟ هل كان غير الشرق مهدًا للجماعات الإنسانية الأولى؟ كلا، ففي ذلك الوقت الذي جالدت فيه جماعات الإنسان الأولى الوحوش والعناصر؛ لتفوز بالغلبة عليها في أنحاء الشرق، كانت بقية الكرة الأرضية ملكًا لغيره من الحيوانات العليا من ذوات الثدي، غير أننا نتساءل وقد نشأ الإنسان نشأته الأولى ضعيفًا في القوة البدنية، بل حيوانًا شجريًّا بسيطًا من حيث القيمة الجثمانية، كيف استطاع أن يتغلب — مع هذا — على غيره من الحيوانات الكبيرة؟ استطاع أن يتغلب عليها بكفاءاته العقلية التي نشأت فيه على مر الأزمان واستطاع بها أن يتغلب على غيره، فلما احتاج إلى زيادة استعمالها، نمت وكبرت مع الزمان وتطورت نشوءًا على مدى الأحقاب. وفي هذا الطور، الطور الذي بدأ الإنسان يدرك فيه أنه سيد المخلوقات، وأنه يمتاز عليها بقوة العقل، بدأ طور الفلسفة على قدر ما استطاع الإنسان أن يدرك من حقائق الموجودات. وكانت النشأة الأولى بالضرورة من موضوعات تفكيره، فقد رأى الحياة يتلوها الموت، والموت تتلوه الحياة، على التعاقب والتواتر، ففكر في تخيل ثم استوى على الصورة اللاهوتية الأولى التي هي أول مدارج العقل الإنساني في تقسيم «كونت» لصور النشوء الفكري في الإنسان.

وكان من نتاج ذلك، أن يختص الشرق بوراثة متأصلة في تضاعيف فطرته، وحاجة لا شعورية جرى عليها، هي الحاجة إلى القيادة الروحية والاستسلام إليها، فنشأت عن ذلك صور متخالطة من صور الميثولوجيا، دارت كلها حول الخلق والعدم والحياة الأخرى. وكان من الضروري، ما دامت الحياة فوق هذه الأرض لا دوام لها، وكانت باقية في العالم الثاني، أن ينصرف اللاهوت في الشرق ناشئًا عن الميثولوجيا القديمة إلى الحياة الأخرى، وأن يبشر بهذه الأسطورة لأهل الشرق، ولكن العجب أن يظل الشرق عاكفًا عليها، في حين أن الغرب يتغلب ويستقوي عليها، فيفوز الغرب بالحياة ويفوز الشرق بخيال الآخرة. هذا مع اليقين بأن الغرب قطعة من الشرق انفصلت عنه، كما انفصل القمر عن الأرض منذ بداية التكوين.

لا شك في أننا نستطيع أن نعلل هذه الظاهرة تعليلًا طبيعيًّا؛ فإنك إذا تخيلت قبيلة من القبائل بدأت هجرتها من أواسط صحراء «التبت» مثلًا متجهة نحو الغرب، وأردت أن تعرف أي عناصرها الأقوى، على فرض أنها أخذت تهاجر، مستمرة في هجرتها إلى آخر مدى يمكن أن يبلغه أفرادها، فلا شك في أنك تحكم بأن أقل أفرادها قوة هم الذين يقفون عند حدود فارس وأوسطهم الذين يبلغون العراق وأشدهم الذين يجتازون مضيق البوسفور. تجربة طبيعية تدل على صفات كامنة. وهي إن دلت في أول ما تدل عليه على صفات جثمانية فائقة، فهي راجعة إلى صفات نفسية أيضًا، إلى صفات الإقدام والشجاعة والتغلب على المخاوف، تلك الصفات التي لا يمكن أن تبرئها من أثر القوة العقلية أو تبرئ القوة العقلية منها.

فإذا رجعنا إلى المستكشفات الحديثة في علمي الإنسان والشعوب، واعتمدنا على ما وصل إليه العلم فيهما، وفرضنا أن الإنسان نشأ في أواسط آسيا، استطعنا بنظرة واحدة في توزيع الشعوب البشرية في آسيا وأوروبا أن نثبت هذه الحقيقة؛ ففي الطرف الغربي من أوروبا أرقى أمم التيوتون والأنجلوسكسون، يناظرهم في الطرف الشرقي من آسيا أرقى أمم المغول، بريطانيا العظمى من ناحية، واليابان من ناحية أخرى. ولقد فازت الأولى في ثلاثة قرون بحكم الدنيا، ومن ذا الذي يعلم ما سوف ينجلي عنه مستقبل الثانية.

هذه الحقيقة التي لا يُنازع فيها هي السر في تقدم الغرب وتأخر الشرق. وإنك لتجد أن صفاء العقلية يتدرج من حدود روسيا إلى الجزر البريطانية، ومن حدود بغداد إلى اليابان، بل إنه يتدرج في سلسلة عجيبة من الحلقات المتتابعة.

إذا أدركنا هذه الحقيقة، عرفنا لماذا ارتقى الغرب ولماذا تُرك الشرق غارقًا في بحار الدينية مستسلمًا إلى الآخرة، مستنيمًا لحكم الفقهاء والأمراء المستبدين بأمرهم، الممثلين لله فوق الأرض. فكرات حملها المقدمون فصارت لهم تبعًا، وغرق في بحارها الجامدون فصاروا لها تبعًا، هكذا كل ما في الأمر.

ولكن هل يمكن لمن يظل جامدًا من شعوب الشرق وورث عن النشأة الأولى موحيات اللاهوت البدائي، أن ينتحل العقلية المرنة التي دفعت بأهل الشرق الأقصى إلى المحيط الهادي، ولولاه ما وقفت هجرتها، ورمي بأهل الغرب إلى بحر الظلمات، ولولاه لما صدها عن الإقدام صاد ولا حال دون هجرتها حائل؟ لا أعتقد أن هذا من المستحيلات، بل أعتقد أنه أهون الممكنات، ولكن بعد بضعة تجاريب بسيطة. هزاتٌ عنيفة تحرك الجمود، ودماء تراق في سبيل العتق، وثورات طاحنة، كانت ثورة الأتراك أولاها، وثورة الأفغان ثانيتها.

هذا هو التعليل الصحيح للمبررات التي جلعت لقولة «كبلنج» ذلك الصدى العميق، وهي على ما فيها من بساطة التركيب، مبررات على كل حال، ولكنها لا تقوى على مقاومة التحليل التاريخي على ما أرى.

ولست أريد أن أستعمق بعد هذا التحليل في البحث والتنقيب، فالحقائق بيِّنة والطريق ممهود، لولا بعض عقبات ليس تذليلها في حيز المستحيل؛ لهذا نترك البحث، لنمهد لك طريق الدخول لاستيعاب العقلية التركية الحديثة التي هي في معتقدي مثال العقلية السليمة، في الشرق الأوسط أو الشرق اللاهوتي، وارث الجمود والأساطير.

الخلافة

ما من شبهة تقوم في عقل المؤرخ فتورثه الحيرة والارتباك، أكبر من تلك الشبهة التي يحاول أن يتخلص منها في كل مَدْرَج من مدارج التاريخ البشري إذ هو مكب على رواية حوادثه، شبهة أن المدارك الإنسانية ناقصة، وأن النفسية الضمامية، أي نفسية الجماعات، نفسية بدائية، فيها غرارة الفطرة الأولى، وسذاجة الطفولة، وضعف الخنوثة، واستكانة الرق والعبودية.

هي لدى الواقع حقيقة ثابتة، تقوم في عقلية المؤرخ لابسة صورة شبهة أو شك مبهم غامض؛ ذلك لأن المؤرخ إن استطاع أن يدرك حقيقة البشرية على صورتها الصحيحة، فهو أول شيء مغلول الفكر بأنه أحد أفراد بني الإنسان، إن شكَّ في مداركهم فقد شك في مداركه، وإن أنحى عليهم بالنقد، فهو بديًّا ينتقد شيئًا هو جزء منه، وقطعة لا يمكن أن تنفصل عن أصلها إلا لمامًا؛ لتعود إليه مرة أخرى، بقوة جذب خفية عميقة الأثر في تصاريف الحيوان الناطق.

هو يعلم بأنه مكب على رواية سخافات جديرة بأن يكون الإنسان خالقها من العدم، وسفاسف ما قامت في عالم الحياة إلا بقيام الفكر البشري، مُسَوَّدًا على ما في الحياة من صور، ثم هو، بجانب هذا، يحاول دائمًا أن يستمد من الخيال قوة يستقوي بها على منازع النقد؛ ليخفي الحقيقة عن نفسه أولًا، ثم يحاول إخفاءها فيما بعد عن بقية الناس.

هو يعلم أن كثيرًا من النظامات البشرية نظامات بربرية وحشية، وأن خضوع الجماعات لهذه النظامات بحكم العادة أحد مناقص الطبيعة الإنسانية، وجزء لا ينفصل عن طبيعة الضعف الكامن في قلب الإنسان، ولكنه مع هذا يحاول أن يجد لهذا الضعف مبررًا، ولتلك المناقص أعذارًا واهية ساقطة، بله الدفاع عن نظامات إن دلت على شيء، ففي أول ما تدل عليه نقص في الفطرة، وميوعة في طبيعة الأشياء الإنسانية، هي لدى الواقع، إحدى المكونات الأولية التي استحدثت ما ندعوه بالتاريخ الإنساني.

هو يعلم أن الأوهام هي التي شيدت معابد الكلدان ومصر، وأنها هي التي ألهت بوذا وكونفوشيوس، وأنها هي التي أقامت الأهرامات، وأن هذه النظامات بعد أن استمدت من الأوهام أصلًا قامت عليه، أخذت تعمل على أن تمد من أجل الأساطير وتطيل من عمر الخرافات، ومع ذلك، فهو يحاول أن يدافع عن أشياء أساسها الوهم، وأصلها الخيال.

هو يعلم أن نظام الملكية، نظام مستمد من أصول وحشية أولى، ونظامات بدائية قيامها في العصر الحاضر، بمثابة الأحافير تقوم في باطن الأرض، برهانًا على أن صورًا من أمثالها عاشت على الأرض، في عصر من العصور، ومع ذلك تجد المؤرخ يحاول الدفاع عن هذا النظام، إن كان في نظام ملكي، كما يدافع عن الجمهورية إذا كان في نظام جمهوري، وعن الفوضوية إذا كان في نظام فوضوي، على سعة ما بين هذه النظامات من تباين واختلاف.

هو يعلم أن نظام الخلافة نظام فاسد، كما كان نظام البابوية في روما، ولكنه مع ذلك يحاول أن يستمد من التاريخ مبررًا له، أو يعمد إلى القول بأنه نظام ليس من روح الإسلام في شيء.

شبهات وشكوك وأبحاث ضائعة، فيها من المواربة واللهف ما تغني عنه كلمات وجيزة، وأسطر معدودة. شبهات وشكوك أول باعث عليها شعور عميق بما في النظامات الإنسانية من نقص، لا يبعد أن يكون في العقل الإنساني نقص يناظره، به يبعد الناس عادة عن رؤية الحقائق كما هي، أو كما هي واقعة.

صدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، فحاول صاحبه أن يثبت أن الخلافة ليست من نظام الإسلام في شيء، وعمد إلى أقوال المعاصرين في صدر الإسلام، وإلى الأحاديث وهي أقوال وأحاديث إن دخل الشك في شيء، فهي أول ما دخل فيه الشك، وإن تناوبت الشبهات على شيء، فهي أول ما تناوبت عليه الشبهات. يعمد إلى هذا ليبرر إلغاء الخلافة، فهو في ذلك مثال المؤرخ تشابهت عليه الحالات، وقامت في نفسه مشاعر ملؤها الاعتقاد بالنقص الإنساني وخضوعه للأوهام، فحاول أن يستمد من غير الواقع أوجه دفاع عن النفس الإنسانية أولًا، ثم عمد بعد ذلك إلى تقرير ما يخالف الواقع إرضاء لمنازع فئات هو يعتقد أنها مخطئة، وأنها على ضلال. ولو أنه ترك كل هذا وقال إن الخلافة نظام ورِث عن الإسلام، ولكنه لا يوافق روح العصر، ولا حاجات الزمان الحاضر، لوجد أنصارًا من نفس الذين يخالفونه في رأيه الأول مصبوبًا في القالب الذي صبه فيه، ولكان أقرب إلى الحقيقة، وأقرب لفضائل المؤرخ تخلص من شبهات الوهم التي تقوم في الذهن عادة لدى التفكير في نظام الجماعات.

ولسنا نريد أن نفتح بابًا جديدًا، يلجه المؤرخون ويأخذون بتلابيبنا كما يفعل الأدباء في مناقشاتهم الأدبية، قائلين أين الحجة التي تؤيد بها أن الخلافة أصل من أصول الإسلام؟ والحقيقة أن الخلافة ليست أصلًا من أصول الإسلام، ولكنها كما قلنا نظام ورث عن الإسلام في نشأته الأولى؛ فإن محمدًا كان نبيًّا ومشرِّعًا، وقائد جيش، ومقيم إمبراطورية، وملكًا غير متوج على معنى الملكية قديمًا وحديثًا، بل حُصرت في شخصه قوة السلطتين الروحية والزمانية، وعلى هذا النظام سار الخلفاء الراشدون من بعده، وعنهم ورثها معاوية في الشام، والعباسيون في بغداد، والفاطميون في مصر، والعثمانيون من بعدهم.

إذن فالخلافة «نظام» إسلامي مأخوذ من روح الإسلام، ومن تقاليده الموروثة التي قام عليها في نشأته الأولى، وكان لزامًا على الإسلام أن يحصر السلطتين في يد مُوجده أولًا، في عصر كثرت فيه الفتن وقام العرب يناوئون الإسلام والمسلمين، فلما مهدت الحروب الداخلية سبل الحياة بعد انتصارات أيدته ورث النظام وعليه سار الإسلام والمسلمون.

لهذا نعمد إلى مؤرخ ثبت ننقل عنه قِطعًا، نثبت بها أن الإسلام كلٌّ لا يتجزأ، ووحدة لا تفصم عراها، وأن الخلافة باعتبارها نظامًا إسلاميًّا، لا بد من أن تكون أحد أجزاء السلسلة التي تكوِّن عقد الإسلام.

نعمد إلى العلَّامة كارل ﻫ. بيكر Carl H. Becker وزير الفنون والعلم والتربية في ألمانيا (١٩٢٧)، وهو أحد مشهوري المستشرقين. أما أبحاثه الإسلامية فتعتبر من أدق المباحث وأطلاها، وأكثرها ابتكارًا، وأعمقها فكرة، وأصحها سندًا. ولقد تُرجم كتابه المعروف «فتوحات العرب» إلى الإنكليزية وضمته جامعة كمبردج إلى مجلداتها التي تخصصها لدراسة تاريخ القرون الوسطى (١٩١٢)، وله مجلة ذات شهرة واسعة اسمها الإسلام — Der Islam — تكاد تكون المحور الذي تدور من حوله كل الأبحاث المبتكرة في تاريخ الإسلام، ونبعًا فائضًا للتنقيب المنتج في أخص المسائل التي تتعلق بالمدنية الإسلامية. أما ما ننقله هنا، فمن مقالة له تحت عنوان «الإسلام في التاريخ» نُشرت في مجلة «الأمم» التي صدرت في شهر فبراير سنة ١٩٢٧، قال:

تُستعمل لفظة «الإسلام» عادة في كثير من المعاني المختلفة، فقد نستعملها لتدل على دين الإسلام، سواء أتكلمنا في تعاليم محمد الأصلية، أم في مجموع المذاهب القديمة التي هي شيء مختلف تمام الاختلاف عن تلك التعاليم، أو في دين المسلمين المعروف اليوم في آسيا وإفريقية، وسواء أوعينا في أذهاننا أوجه النشاط الديني التي يبديها الأتراك أو الزنوج، وسواءٌ أتكلمنا في الغزالي أم في المهدي السوداني، فإننا نستعمل اللفظ ذاته ونقول «الإسلام». وكلما كانت معارف الناس أقل، كانوا أشد نزعة إلى التعميم، فمن ذا الذي يجرؤ مثلًا على أن يصف الأوضاع الكنسية في بلاد الحبشة، بأنها ذات النصرانية، من غير أن يعرض نفسه للاستهزاء والسخرية؟ ولا جرم أن القول بأن هذه الأوضاع هي بذاتها البروتستانتية النصرانية، من غير تعديل أو تكافؤ بين الحالات، لأبعد عن أن يتورط فيه باحث يزن الأشياء بميزانها الصحيح.

ولم نكتف بهذا بل استعملنا لفظ «الإسلام»؛ ليدل على إحدى إمبراطوريات الشرق العظمى، أو على كل الحكومات المتفرقة التي كانت تنشأ عادة على الإمبراطوريات الكبرى وبقاياها، حتى لقد نطلق الاسم على الحكومات الفعلية، بل صرفناه على شيء أكثر من هذا خطرًا، فعرفناه على أنه نظرية سياسية، سواء أقامت تلك النظرية على مذهب سياسي أو مبدأ تنزيلي.

وكلما استعمقنا في بحث هذا الموضوع، ازددنا اقتناعًا بضرورة التفريق بين المدلولات. غير أنه ليس في وسعنا أن نقرر بصلابة أن تعريفًا جامعًا مانعًا يجب أن يوضع لتحديد ما يُعنى بلفظ «الإسلام» في كل حالة من الحالات الخاصة، وعلى الأخص إذا عمدنا إلى وضع تقديرات معينة للقيم المتناظرة، على أن الباحث الاختصاصي، مهما جهد نفسه في التحوط والحذر، ومهما بذل من عناية في استخلاص تلك التحديدات الضرورية؛ فإنه لا محالة يستعمل تلك اللفظة العامة — «الإسلام». على أنه يجب أن نتساءل! هل لهذا من مبرر؟ أو بعبارةٍ أخرى: هل كل المعاني المختلفة التي يجمع بينها هذا الاصطلاح تدخل حقيقة تحت مدلول «الإسلام» عامة، ذلك المدلول الذي لا يخرج بديًّا وتخصيصًا عن أنه دين؟ غير أن هذا السؤال قد أجبنا عليه مقدمًا وحددناه، إذ قلنا بأن اصطلاح «الإسلام» ومسألته في التاريخ، قد استعملناه من غير أن نضيف إلى ظاهره مدلولات أخرى.

أما وقد حللنا كلمة «الإسلام»؛ فإنا بذلك نكون قد جاوزنا النظر في العوامل الأساسية، التي إذا أُخذت في مجموعها، كونت ذلك الشيء الذي نحس بأنه التصور الوحيد الذي يمكن أن نكونه في «الإسلام»، أي ذلك الإيمان الكلي المتماسك الأطراف، وذلك المثل السياسي الأعلى المتآلف الأجزاء، وتلك المدنية المتناسقة التي تتمشى في أجزائها فكرة الوحدة والائتلاف، والتي فضلًا عما نجد فيها من الاختلافات الموضعية، نلمح في مجموعها وحدة المثل العليا، كما نقع فيها على شيء من الوحدة في العمليات.

وما من شك في أن «الدين» هو الذي يجمع بين هذه العوامل الشتيتة، وأن الفكرتين السياسية والمدنية، كليهما، لم يكونا لينتشرا ويثبتا مع الزمان لولا قيامهما على قاعدة الدين، وكذلك نجد في الوقت الحاضر أن «الإسلام» رابطة من الوحدة قوية، عادلت في كل عصور «الإسلام» قوة «القومية» الشديدة الأثر في النفوس، فجمعت بين الناس وكوَّنت منهم عصبًا أقوى وأشد مراسًا؛ فإن زنجيًّا من زنوج قبيلة «الونغيدو» Wangido في شرق إفريقية الألمانية، إذا أصبح مسلمًا فإنه لا يتسمى باسم قبيلته، بل يتسمى بالإسلام١ ويصبح العربي أخًا للزنجي المسلم. وبذلك تتماسك كل الخيوط المختلفة وتتفق كل النزعات المتباينة، من حول المركز الديني في «مكة». وفي مناوأة أوروبا على الأخص، تجد أن المسلمين يشعرون شعورًا عميقًا بأنهم وحدة متماسكة الأطراف؛ لهذا يحق لنا أن نتكلم، ما دام أن الدين يصبغ الحياة اليومية بصبغته الخاصة، إن قليلًا أو كثيرًا، في مدنية إسلامية موحدة الأجزاء تنقل إلى الذهن دائمًا، حقيقة أن هذه المدنية الدينية مؤثر فصل، يقطع بين حدين قطعًا تامًّا.

وهذه الحالات، التي لا نشك مطلق الشك في أنها لا تزال قائمة حتى اليوم، قد زادت إلى صعوبة الفهم لدى البحث في تاريخ نشوء الإسلام. وإذ نعرف أن الدين إلى الوقت الحاضر، ما يزال العامل الأقوى، الذي تقوم عليه كل الأشياء الأخرى مما يتعلق بالإسلام والمسلمين، وإذ نرى أن كل الظاهرات التاريخية الخاصة بالإسلام، يجب أن يرجع فيها إلى مؤسس الديانة، فأي شيء يمكن أن يكون أقرب إلى البديهة من أن نعتبر الدين، العامل الأساسي إن لم يكن العامل الأوحد، الذي تعود إليه حقيقة خلق مدنية إسلامية متلائمة الأطراف.

ولدينا عامل آخر، نتج عن العكوف على عادة النظر في الأشياء من وجهة النظر الكنسية، تلك العادة التي ورثناها عن القرون الوسطى، ولا جرم أن هذا الاتجاه لا يزال ثابتًا في نفسيتنا لدى النظر في الإسلام، حتى الوقت الحاضر، فقد اعتدنا في القرون الوسطى، حتى في أوائل العصر الحديث، أن ننظر إلى الإسلام بديًّا على أنه دين معاد، وضع حدًّا لانتشار المسيحية، وهددها فوق أرضها تهديدًا شديدًا، وكانت النظرة التي نُظر من ناحيتها في نشوء الإسلام قد انحصرت في الاعتقاد بأن الدين الجديد قد ملأ صدر العرب حماسة وأفعمها حمية، وأن المسلمين قد اندفعوا إلى الفتح الحربي، تحت تأثير الرغبة الشديدة في هداية أهل الأرض إلى الإسلام، وأنهم إنما يعملون على نشر دينهم بالسيف، وأن محمدًا كان نبيًّا ورجلًا سياسيًّا معًا، بل أعتقد بأن الثقافة العربية ممزوجة بالدين الجديد — «الإسلام» — قد كونت تلك الصورة التي تعرف بالمدنية الإسلامية العربية، وأنه على الرغم من أن عددًا من النظامات والفكرات الجاهلية، قد استمرت باقية ثابتة الأثر؛ فإن الدين وحده لم يكن السبب الذي خلق المدنية الجديدة، بل صورها ونظمها لا غير، إذن فالدين هو القاعدة، وكل الصور النشوئية الأخرى، لم تكن إلا نتيجة من نتائجه، فكان من الضروري على مقتضى هذه الفكرة، أن يدمغ الدين طابعه الثابت في جبين الوحدة الصورية والخلقية، ومن هنا نشأت الفكرة في مدنية إسلامية متلائمة الأجزاء، موحَّدة الأطراف.

ولا مشاحة في أن كل باحث يتصل بكتاب العرب وفكره مليء بمثل هذه الآراء، وبجانبها نظرة غير صحيحة تتكون حول تاريخ النصرانية يجد أنها آراء لها سناداتها ومبرراتها؛ ذلك لأن السلطات المحمدية لها قواعد كهنوتية مقررة مفروغ منها، كذلك تراهم يقررون جملة بأن نشوء الإسلام من خلق محمد، ومن ابتكار الخلفاء الراشدين في عصر الإسلام الذهبي، وعندهم أن الحكومة والمجتمع، وكذلك الحركتان العلمية والاقتصادية، جماعها تخضع للقواعد الدينية، وكان المتبع أن يخلع من هذه الأرض الدينية التي اعشوشبت بمختلف النظريات، كل نبتة طفيلية يمكن أن تنبت في جنب من جوانبها وتنبذ نبذًا. إذن فالعالم الإسلامي محكوم بالدين سواء أفي ماضيه أم في حاضره، ولو نظريًّا على الأقل.

غير أن النقد الحديث لم يتناول هذه المباحث إلا منذ عهد قريب، لا يتجاوز بضعة عقود من الزمان، وعلى الأخص بعد ظهور «تاريخ الثقافة» Kulturgeschichte — الذي ألفه العلامة الكبير «ألفرد فون كريمر» Alfred von Kremer. ولقد نجحت الأبحاث الحديثة تدرجًا وعلى مر الأيام في أن تتحرر من تقاليد الإسلام، وعمد البحاث وطلبة العلم، سواء أفي السياسة والشريعة، أم في الدين والحياة، إلى التفريق بين النظريات والعمليات. ولقد حققوا بهذه الوسيلة أن الانتصار في المعركة التي قامت بين مطاليب الدين ومقتضى العادات القومية، قد حالف الثانية دون الأولى، بل أثبتوا أنه في خلال الصراع الذي قام بين مختلف الآراء المتنابذة، لم يكن اللون الديني غالبًا إلا عبارة عن وضع أدبي، لا أقل ولا أكثر. ورأوا أن الشريعة الدينية، لم تنشأ متطورة عن الأوضاع التشريعية العملية التي كانت قائمة بالفعل، بل أتت منابذة لها. ومن ثم اتضح أن بناة الإمبراطورية العربية لم يكونوا يعملون على نشر الدين كسبب مباشر لفتوحاتهم على إطلاق القول، بل عملوا في أول ما عملوا له على تثبيت سلطة العرب الزمانية وتركيز سيادتهم فيما جاورهم من الإمبراطوريات، ولا جرم أن جماع هذا يزودنا بمادة واسعة تشبع نهم الفكر؛ لهذا يحق لنا أن نتساءل، حين نواجه هذه الحقائق: أليست فكرتنا التقليدية التي ثبتنا عليها في حقيقة الدور الذي لعبه الدين، كعامل من العوامل المكوِّنة في الإسلام، تحتاج إلى تعديل وتحتاج إلى إصلاح؟

وبعد، فإن هذه الشروح والتحليلات القيمة، لا تترك للمؤرخ الذي يريد أن يفهم الحقائق على صورتها الصحيحة، مجالًا للشك في أن الوحدة الإسلامية من ناحية، وأن بناة الإمبراطورية العربية لم يكونوا يعملون على نشر الدين كسبب مباشر لفتوحاتهم من ناحية أخرى، كلاهما دليل صادق على أن الخلافة نظام ورث عن الإسلام؛ لأنها من ناحية جزء من نشأته الأولى، ومن ناحية أخرى أساس قامت عليه الفتوحات، وتكونت من فوقه دعائم الإمبراطورية العربية. وهذه الحقيقة التي حاول مؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم» إخفاءها، نقررها هنا على الضد ما ذهب إليه، ثم نحكم من بعد ذلك بأن نظام الخلافة نظام فاسد لا يتفق وروح هذا العصر.

•••

لم يبق من حاجة لأن نثبت أن الخلافة نظام إسلامي ورث عن بدايته الأولى، ولكن بنا حاجة لأن نحلل نظام الخلافة، ثم نعقب على ذلك بالكلام في موافقة هذا النظام للروح الجمهورية الديمقراطية التي أصبحت طابع هذا العصر.

الخلافة نظام شاذ كل الشذوذ، ليس هو بسلطة روحية فقط، ولا هو بسلطة زمانية فقط. هو نظام يجمع بين السلطتين، ومزيج من قوتين يجب أن تظلا مفترقتين. هو نظام الدنيا والآخرة حُصِر في يد فَرْدٍ واحد، فكان الحاكم بأمره في الناس، وظل الله فوق الأرض معًا. خليط من حقيقة واقعة وأسطورة موروثة. سلطة لا مسلط لها، وقداسة لا سر فيها. وميراث عن بدايات كان لا بد للإسلام أن يقوم عليها، ظلت قائمة في عصور أصبح فيها ذلك الميراث عاملًا من عوامل الضعف في الإسلام. ومركز للتعصب لا مبرر له. وبؤرة تشع منها مفاسد الفقهاء، فكانت على الإسلام حربًا، وعلى المسلمين شواظًا من نار. قوة حُصِرَت في يد، وكان في الواجب أن توزع على أيد تتعاون على تسنم مدارج الحضارة، وفكرة تحجرت فتحجرت من حولها العقول وعميت البصائر. لقب في غير موضعه، وتاج مثل الأرض والسماء. وصولجان كانت كرته العالم الإسلامي وفيه ثلاثمائة مليون من النسمات البشرية، استعبدتهم الإماء والسراري، ومن ورائهن الفقهاء. جمود لا حركة فيه، والفلك يدور، وظلام لا ضياء فيه، والدنيا يتناوب عليها الليل والنهار. قمع للفكر، وإطلاق للشهوة. كبت للضمائر، وحرية للأوهام. تمثيل للإسلام ثم تمثيل بالإسلام؛ فناحية للبناء في الظاهر، وأخرى للهدم في الحقيقة.

والخلافة فوق ذلك نظام وُرِثَ ظاهره وتُرك لبه، فأصبحت ميراثًا، بعد أن كانت بالبيعة فرصة انتهزها الانتهازيون من الفاتحين، والمخاطرين من اللاعبين بمستقبل الشعوب، فحصروا في يدهم سلطتين بعد سلطة واحدة، ورموا بسهمين عن قوس واحد. ثم ورِث ما استولى عليه الانتهازيون المجازفون، فكان الميراث مقدسًا كأصل الفكرة، وكل مقدس معبود على كل حال.

ولقد أوسعت هذه الحال مجال النفاق والكذب والترهات، بل فتحت المجال لفَجَرةٍ آثمين أن يكونوا يومًا خلفاء يحملون اسم الملك واسم الله؛ فأبناء غير شرعيين بحكم الدين صريحًا، وقتلة آثمون منهم من قتل أباه، ومنهم من قتل أخاه، ومنهم من قتل أعمامه وأخواله، استطاعوا يومًا أن يمثلوا محمدًا — عليه السلام — فوق الأرض، وأن يمثلوا الله تعالى في السماء.

ولم يكن في هذا النظام من سر سحري جعل الناس يخضعون له خضوع العُمْي الذين لا يبصرون إلا هالة من القداسة حوَّطه بها فئة العلماء والأئمة والفقهاء؛ فإنهم بعد أن أقفلوا باب الاجتهاد في الشريعة، أقفلوا باب الاجتهاد في اختيار أصلح أنواع الحكم المساير لطبيعة الحالات. وبذلك تم لهم إخضاع العالم الإسلامي، ومضى المسلمون يتوارثون هذا النظام جيلًا بعد جيل، فلما علا مد الحرية على الشعوب الشرقية، بان لأهلها أن هذا النظام مهما يكن فيه من روح الإسلام، فإنه غير ملائم لطبيعة الحالات والمقتضيات السياسية والاقتصادية. لهذا أُلغي بثورة طاحنة، فكان لخير الشرق والشرقيين إلغاؤه، ولا جرم أن سلطة الفقهاء أخذت تتضاءل من بعد ذلك، ولن يمضي زمان طويل، قبل أن يتقلص ذلك الظل الكالح الذي حال معه لون الشرق، وحال بينه وبين الضياء، لولاه لقاد الشرق العالم إلى حضارات جديدة، وإلى صور من الرقي لم يألفها العالم حتى الآن.

وبعد، فليس لنا أن نتورط في البحث لأكثر من هذا؛ فإن العوامل التي أثرت في عقلية الشرقيين وحالت بينهم وبين الارتقاء معدودة معروفة. ولكن هذا لا يحول دون القول بأن الشرق قد خطا بالإنسانية من العصر اللاهوتي إلى العصر الميتافيزيقي، وكان لا بد دالف بقدمه يومًا إلى العصر اليقيني، لولا تلك العوامل السوداء.

إن هذه الأشياء نماذج عقلية فصَّلها «كونت» في فلسفته أحسن تفصيل، وهي فوق ذلك، نماذج لها تدرجاتها الدقيقة المتعاقبة، التي لا يمكن أن يبلغ الإنسان إليها فجاءة، بل تدرجًا وبتهيئة ظروف وحالات لا يمكن أن تدرك كيف تنشأ ولا كيف تتكون في تضاعيف الفكر البشري.

إن العقلية الأوروبية الحديثة، لم تكن نموذج الفكر قبل ثلاثة قرون، والدليل على هذا أن العقلية الآسيوية قد انتحلها الأوروبيون من أهل النصرانية إلى عصر كوبرنيكوس وغاليليو. نعم إنها لم تؤثر في الوارثات الاجتماعية، ولكنها أثرت تأثيرها البالغ في الفكر الأوروبي؛ لهذا نترك البحث في هذه العوامل لرسالة أخرى نعقدها في مثل العقلية القديمة في الشرق والغرب.

حرية الفكر

قد يخيل إلى الذين يمعنون في درس هذا الكتاب، والوقوف عند مراميه وقفات تأملية طويلة، أن الشرق قد تحرر فكره بالفعل، بقيام بعض زعماء يدعون إلى الحرية الفكرية، أو قادة قضوا على بعض التقاليد القديمة التي كانت حائلًا بين الشرق وبين الارتقاء.

نعم، لا ننكر أن الارتقاء أصبح معبود فئة من رجال الشرق، خُصوا بأرقى المميزات الإنسانية، وأنهم في ذلك قد جاروا الغرب وانتحلوا عنه أساليبه التي اتخذوها وسيلة للارتقاء، غير أننا لا يجب أن ننسى أننا، مع هذا، قد ورثنا عن الغرب جمود أهل المذاهب، والظاهر أنه من المستحيل على العقل البشري في حالته الحاضرة أن يتخلص من المذهبية على وجه عام.

فإذا كان الأتراك قد حرروا الحكومة ونظام الدولة من الخلافة، وإذا كانوا قد أنقذوا الأمة من مخالب الفقهاء والأئمة، ومن المدارس والتكايا والقبور، وعلى الجملة من المذهبيات القديمة؛ فإنهم لم يخلصوها ليتركوا لها الحرية واسعة مفتحة الأبواب مفهومة على قدر كاف، يجيز للفكر أن يكون حرًّا في جولاته المترامية، بل إنهم خلصوها من مذهبيات قديمة؛ ليلقوا بها في أحضان مذهبية حديثة هم ممثلوها، مذهبية القومية بالغة أقصى مبالغ التطرف والبعد عن الاعتدال. وفي سبيل هذه المذهبية أعيد الاستبداد القديم ليدافع عن مذهبية جديدة؛ فكان القتل والشنق وخنق الحرية باسم الحرية.

وكذلك الحال إذا رجعنا إلى روسيا الشيوعية؛ فإن في نظامها من المذهبية ما فيه! فضلًا عما تستشم فيها من روح الكثلكة الرسيسة في النفوس، والبعد عن مطاوعات الشك واللاأدرية الفائضة بصور المرونة الفكرية.

ولن تخلص من المذهبيات، لا في السياسة، ولا في الدين، ولا في النظام والمبادئ الاجتماعية؛ فكأن الاستناد إلى مذهبيةٍ ما صفة ملازمة لتطور الجماعات، وهي من النظم التطورية النشوئية، كلاهما ضروري لحماية ما يُخيَّل للناس أنه الأصلح والأتم نظامًا، والأفضل بقاءً في حيز الأشياء الإنسانية؛ فإن المذهبية والجمود يَحُولان لدى الحقيقة دون التطورات الفجائية، والطفرة في الانتقال من حالٍ إلى حالٍ بما يفسد نظام الاجتماع.٢

لهذا نقضي بأن الشرق قد وثب الوثبة الأولى، ولكنه لم يتحرر بعد تحريرًا يمكنه من مسايرة خطوات الحضارة الحديثة، تلك الخطوات التي تتطلب، على ما أعتقد، قدرًا كبيرًا من المران على الحرية واحترام الفكر مهما كان مصدره.

•••

تلك إحدى صور المذهبية، على أن هنالك صورة أخرى عكفت عليها المدارس القديمة، ولم تستطع المدارس الحديثة التخلص منها.

لقد عودتنا المدارس القديمة، تحت تأثير التقاليد، أن تقبل كل ما يقال على أنه الحق، وعلى الأخص إذا صدر من أئمة يُعلِّمون إلى صغار يتعلمون، فنشأت الأجيال خاضعة لهذه الضرورة، ضرورة تقبل ما يقال على أنه الحق وأنه الأصح وأنه الأولى بأن يعرف حالة عكفت عليها المدارس القديمة، ولم تتخلص منها المدارس الحديثة. خضوع للسلطة سواء أكان مصدرها فقهاء يدرسون شريعة الله، أم معلمين يلقنون مبادئ العلم. ولم يقتصر الخضوع لهذه السلطة على الأفعال، بل تناول الآراء والأفكار والمبادئ، على قاعدة أن الذين يلقنون الشرائع والعلوم، رجال أخلصوا العمل لله من ناحية، وللعلم من ناحية أخرى. وبذلك قتلت فضيلة الشك النفوس، فكان الذي يشك أو يسأل أو يحاول أن يفهم ما يقال، أو يحاول فهم ما لا يفهم، يعتبر مريض النفس والمنازع، فيعمل معلموه بكل جهد مستطاع لكي يشفوه من هذا المرض العضال، مرض الشك فيما يقال، والجدال فيما لا يفهم.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ فليس سلطان التقاليد مقصورًا على الأب في البيت، وعلى المعلم في المدرسة، بل يتعدى إلى الرفقاء في المدارس والمعاهد، وكلهم شبُّوا خاضعين لتقبل ما يقال على أنه الحق ولا حق سواه. وبذلك يفشو مرض «التصديق» منقولًا عن مجموع الرأي العام في المدرسة أو المعهد إلى عقل الشكوكين فيما يلقى عليهم، وبذلك لا يلبثون أن تتلقفهم العدوى، فيصبحون من أكثر الناس تقبلًا للتقاليد على ما نُقلت إليهم، وعلى الصورة التي قذفتها الأزمان. وكذلك لا يجب أن نغفل عن أن الإفلات من هذا القانون، له قانونه، ولكنه قانون صارم شديد، قلما يتفق لعقول ناشئة، أن تتمكن من تنفيذ مواده الخشنة التي تنوء بها أكبر العقول، بله الناشئة اللينة.

وهذه صورة أخرى من صور المذهبية، تحول بين الفكر وبين الحرية الصحيحة؛ ذلك لأن هذه المذهبية تقوم على السلطة. وعندي أنه لهذه المذهبية ثلاثة أركان:
  • الأول: الاعتقاد بأن الذي يلقننا إنما يلقننا الحق بقدر ما وصل إليه علمه.
  • ثانيًا: الاعتقاد بأنه أقصى ما وصل إليه علمه هو حد «المعرفة» الصحيحة.
  • ثالثًا: النزعة إلى العمل بمقتضى ما يلقننا، تحت تأثير الاعتقاد بأن ما يُلقي إلينا به صحيح.

وعلى الجملة تنحصر طرق التلقين في ثلاثة أشياء؛ في التصديق أولًا، وفي فهم ما يقال ثانيًا، وفي الطاعة لما يقال ثالثًا.

على هذا جرت المدارس القديمة. على أن المدارس الحديثة، إن عجزت عن التخلص من هذه المناقص، فإنها أجازت حرية الفكر، وأطلقت العنان للخيال، الذي هو أساس الوصول إلى الحقائق العلمية والقضايا المنطقية على وجه عام.

•••

بجانب هذه الصورة الكريهة، تقوم سلطة الحكومات تحمي الأساطير، وتصوب بنارها وحديدها شطر كل من يجرؤ على التشكك فيها أو الدعاية إلى ما يناقضها. على أني لا أعلم فيما يخرج عما يجب أن تنتهي عنده سلطة الحكومات من شيء هو أبعد عن بديهة العقل من حماية الحكومات للأساطير والتقاليد، تحت عنوان أن الحكومات وهي شخص معنوي صرف، دينًا تدين به وتتخذه على نفسها علمًا تنعت به، فيقال حكومة نصرانية، وأخرى وثنية، وثالثة إسلامية، ولغير سبب [و] لغير حاجة تدعو إلى ذلك.

ليس لهذه الحاجة التي تلجأ إليها الحكومات من سبب تعود إليه إلا الوراثة القديمة عن حكومات دينية، انتقلت باللقاح إلى الحكومات المدنية. وهي فوق ذلك، حاجة موهومة لا ضرورة لها في قيام الحكومة، ولا في احتفاظها بسلطانها وقانونها نافذًا في رعاياها. ومن أغرب الأشياء أن الحكومات قد تلجأ في بعض الأحيان إلى ضرورة التغيير في الأسس التي يقوم عليها الدين، فتلغي وتثبت، وتنفي وتضع، أشياء ليست من الدين الرسمي في شيء، ومع هذا كله تدعي الحكومات بأنها «دينة» وأنه لها دين رسمي يُحترم إزاء الرعية، ولا يحترم إزاء سلطانها الشامل كل شيء في حدود أرضها.

إن هذا العصر الذي فتح للناس أبواب الحرية، وأجاز العمل والتفكير في حيز القانون الوضعي، والذي جعل السوقي والسمسار في سوق الأعمال، وعلى الجملة كل فرد من الأفراد، يتطلع إلى كرسي الوزارة أو رئاسة الجمهورية، هذا العصر نفسه، لم يجز للناس أن يقولوا ما في عقولهم على الوجه الأكمل من الحرية؛ فإن نظريةً يُدلي بها شخص من الأشخاص كافية لأن ترفعه إلى أعلى مراتب الحكم، أو تكون قاضيةً عليه بالتسوُّل في الأزقة والطرقات. وفكرة قد تحمله إلى مصاف القديسين، أو تلقي به في غياهب السجون أعوامًا يكفِّر بها عن ذنب الخروج على التقاليد الثابتة الموروثة وراثة، لا الموضوعة وضعًا أساسه العقل والحقيقة.

وهذه الاعتبارات على ما فيها من صعوبة التحليل، بينة غير غامضة، بل هي جلية الغايات واضحة السبل. وما أتينا على ذكرها هنا إلا لنظهر على وجه الاختصار ما يعانيه الغرب، وقد أخذنا ندلف بقدمنا في مفاوزه الواسعة المترامية الأطراف.

١  Missions Blatter (Journal of the st. Benedictus—Missions—Genossenschaft, st. Ottilien) XIII, Heft 9 p. 130.
٢  راجع مقدمة كتابنا بين الدين والعلم المترجم عن ديكسون وايت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤