تقديم

بقلم  مصطفى ماهر

تعود بي الذاكرة عندما أتهيأ لكتابة هذه المقدمة إلى عام ٢٠٠٣، حيث أرسلت إليَّ أخبار الأدب الغرَّاء كلمةً عن نيرمين الشرقاوي، أرفقتْ هي بها ترجمةَ مختارات من شعر هاينريش هاينه. وقد سعدتُ بإعجاب جمال الغيطاني بها؛ ربما لأنني وصفتُ المادة المترجمة بأنها جزء من نسيجي الثقافي، وتمنيت أن تتاح لنيرمين الشرقاوي فرصةٌ متعاظمة لإظهار موهبتها في هذه النوعية الصعبة من الترجمة التي ربما حلا للبعض أن يسميها ترجمة أدبية، أو ترجمة شعرية، أو ما إلى ذلك. وكنتُ قد وصفت هذا النوع من التعامل بين مترجمٍ أديب شاعر ومؤلِّفٍ أديب شاعر وأطلقت على هذه النوعية من العمل الترجمي اسم «التفاعل الترجمي»؛ وأحببت جدًّا أن تظهر براعة المترجمة في مواجهة براعة هاينريش هاينه، وهو مَن هو. وحتى لا يطول بي الاستطراد في هذه النقطة يكفيني الإحساس بأنني في الترجمة التي طُلب مني كتابة مقدمة لها، «تأثير اللوتس»، وجدتُ فيها أمورًا كثيرة جديرة بالإشادة، أو لِنقُلْ بكل بساطة: جديرة بأن نلقي عليها الضوء ونتحاور معها حوارًا من حقه أن يطول.

•••

والرواية التي بين أيدينا رواية صعبة، محيِّرة، مستفِزَّة، وبهذه الصفات تستحق أن نقلِّب أوراقها عدة مرات ونضعها تحت أجهزة الفحص الحديثة التي قد يبتكرها العلماء ذات يوم، فنرى الغامض كما نرى الظاهر. ومن الممكن أن ننظر بداية إلى حجم هذه الرواية، ونؤجل النظر في العنوان واحتمالاته، فنجد أن الرواية تعتبر حجمًا من النوع الضخم. وكان أساتذة مبرَّزون في النقد الأدبي قد طرحوا على موائد البحث أن الأدب القصصي ستنكمش أنواعه الضخمة مفسحةً المجال للأنواع المقتضبة أو القصيرة. وتساءل البعض بحقٍّ: مَن الذي يستطيع في أيامنا هذه أن يقرأ روايات كُتبت في مئات الصفحات؟ وربما تذكر البعض محاولة اختصار الروايات المطوَّلة حتى يستطيع القارئ المتعجِّل المعاصر أن يعكف عليها ويستخرج منها ما يمتعه. ولكن الذي حدث أن كتَّاب الرواية الأدبية لم يشغل بالهم — على ما يبدو — تفضيل الاقتضاب على التوسع، وكنتُ قد أشرت إلى هذه القضية تفصيلًا في كتابي «ألوان من الأدب الألماني الحديث» الذي قدَّمت فيه — كما يظهر من عنوانه — باقةً من الأدب الألماني الحديث تمثِّل تياراتِهِ المختلفة منذ عام ١٩٤٧ إلى مطلع السبعينيات، وأعاد المركز القومي للترجمة إصداره في طبعة ثانية في سلسلة ميراث الترجمة عام ٢٠٠٩.

والخلاصة أن الكتَّاب الذين حلا لهم أن يكتبوا مطوَّلات كتبوا مطولات ولم يخطر ببالهم أن يقتضبوها، والأدباء الذين فضَّلوا أن يكتبوا أنماطًا مقتضبة كتبوا هذه الأنماط المقتضبة. والمبدع — كما هو معروف — حرٌّ في نفسه وفيما يفعل. بل إن هذه القضية تجرنا إلى قضية الأنواع الأدبية؛ ففي وقت من أوقات تاريخ الأدب الإنساني — على تنوع اللغات — كان المعلمون الأفاضل يحبون تبسيط الموضوعات لتلاميذهم فيتحدثون عن نوع مسرحي، ونوع قصصي، ونوع شعري، ونوع أضيف فيما بعدُ ينشغل بنقد الأنواع الإبداعية. ثم ظهرت محاولات في مجال الرواية — بمعنى القصة الطويلة — انطبعت بطابع التحديد المتعسف فتكون رواية غرامية، أو رواية سياسية … إلخ. وربما فكَّر المنظِّمون في تمييز الرواية التي تكتبها المرأة وتلك التي يكتبها الرجل. ولكنَّ كل هذه المحاولات المقتضبة لم تؤدِّ في حقيقة الأمر إلا إلى إطالة سلسلة التنوع في القوالب الشكلية لهذا الفن القصصي، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض هذه المحاولات لا تقتضي أن تكون الرواية القصصية بالضرورة رواية قصصية، فقد تكون رواية لا قصصية أو تكون لا رواية. ويظهر من هذا كله التوسع الموسوعي في الأنواع الذي من الشطط أن نسميه مبالغة. فعالم الإبداع لا يمكن أن يكون عالم إبداع إلا بلا حدود.

وفي خضم التنوع المتزايد في الأنواع الأدبية التي يهمنا منها في هذا المقام أن الرواية القصصية لم يكن لها وجود في بدايات الأدب الألماني — على سبيل المثال — أو الأدب الفرنسي، أو الإنجليزي. والغريب أن أول كلمة استُخدمت لوصفها هي roman التي عُرفت في الفرنسية، وأحبَّها الألمان، ولم يرتَحْ إليها الإنجليز. لكن تظل محاولة إضفاء صفة المواطنة الحقيقية على Roman في الأدب الألماني محاولةً مهزوزةً؛ فالألمان ليسوا حساسين لأي تفرقة في هذا المجال، فلتكن الرواية Roman أو لتكن كتابًا Buch. ويبدو أن الشيء الهام بالنسبة للمبدعين هو ألا يفقد الإبداع إبداعيته، بمعنى ألا يسير في دروب أو مدقات مطروقة إلا إذا كانت قابلة للتفرع والتقلب.

وقد حظيت بعض القوالب القصصية بإعجاب من النوع الذي يسمونه «جماهيريًّا»، ويلفت نظري من بينها القالب المعروف باسم الرواية البوليسية. ويلفت نظري هذا القالب لأنه تلوَّن بما لا يتصوره العقل من ألوان، ودخل في التاريخ والجغرافيا والعلوم الفلسفية والإنسانية، وأصبح مجالًا كبيرًا من مجالات الإبداع. ونقطة الانطلاق الشكلية فيه (الخميرة) هي أن هناك شيئًا يحدث، وأن هذا الذي يحدث يُسأل عنه بعض الناس؛ يُسألون بمعنى المسئولية. وتدور في خطوط الأسئلة احتمالات مختلفة. وكلما ظهر بين الناس في البلاد المختلفة والأزمنة المختلفة شيء يتسم بغرابة فلا بأس من خلطه بالرواية البوليسية.

ليست هذه التصورات غريبة بالنسبة للرواية التي بين أيدينا، وفي قراءتي لترجمتها لا أقول إن المترجمة حملت عبئًا ثقيلًا، بل كثيرًا من الأعباء. فأولًا: الرواية تتصورها المؤلفة أنتونيا فيرينباخ في صورة عمل علمي بالأساس. فالعنوان الذي اختارته الأديبة يجرنا إلى عالم اللوتس، أو إذا شئنا الحقيقة: عوالم اللوتس وتقلباتها الجغرافية والثقافية والإنسانولوجية. فكلمة اللوتس نفسها كلمة تظهر في سياقات كثيرة، بعضها واضح، وبعضها غامض، وبعضها يثير التساؤلات. والأديبة نفسها تصنف روايتها على أنها عن النانو، وهو مصطلح من مصطلحات العلوم القائمة على القياس المتناهي للجزيئات في مجالات البحث الطبية الأحيائية.

إذن هي رواية علمية؛ فالأديبة نفسها فيما ذُكر من قصة حياتها ليست من خريجي أقسام الأدب، وليست من المنضمات إلى المجتمعات الأدبية راضية أو ثائرة، ولكنها درست علم الأحياء في جامعات مختلفة، بل إن دراستها ظلت تتقلب بها في مجالات مختلفة مثل الأحياء البحرية والإعلام والصحافة، ناهيك عن التخصص في علوم الحيوان. وفي كل هذه التوجهات كان لها بصماتها التي ظهرت في مجالات كثيرة. ناهيك عن حرص أنتونيا فيرينباخ على التأكيد على أنها حاصلة على الدكتوراه من أهم المراكز البحثية في ألمانيا. ثم إن لديها رغبة كبيرة في تغيير المكان، وفي عرض الموضوع الروائي (اللاروائي) القصصي (اللاقصصي) على مدى ٤٩ فصلًا مضافًا إليها إضافات شارحة تقرِّبها إلى عالم البحوث العلمية.

•••

يشد الانتباه إذن أن رواية أنتونيا فيرينباخ تجمع بشكل صارم بين الأدب والعلم. الأدب بالمعنى المألوف؛ أي الظاهرة الأدبية المنتمية إلى علوم الجماليات، أما العلم فالمقصود به العلوم التي تختص بها المعامل والنظريات العلمية فيما يسميه الألمان Naturwissenschaften؛ أي العلوم الطبيعية. وهي ليست خاصة بالطبيعة فحسب، لكنها قريبة الشبه بها مثل الرياضيات والفلك، كما تشمل الفيزياء والكيمياء وما تطورت إليه هذه العلوم فيما بعد. وهذه الظاهرة — الجمع بين الصفة الأدبية والصفة العلمية — لها أهمية خاصة في نظرنا؛ لأن كثيرًا من النقاد حين يتحدثون عن برامج الترجمة التي توجَّه إلى القارئ العادي يلاحظون أن هذه البرامج تركز على الروايات وما في حكمها، بحيث إن النقاد ينتهون إلى أن الغلبة دائمًا للأدب وما في حكمه. وهذا شيء يمكن التأكد منه بمجرد النظر إلى قائمة مثل قائمة الكتب المترجمة الصادرة عن المركز القومي للترجمة أو الهيئة المصرية القومية للكتاب، بما يصور أن الأدب هو المقوِّم الأساس للثقافة. إلا أن العمل الذي بين أيدينا يمثل نموذجًا مغايرًا. فهو — كما تذكر المؤلفة — عمل مختص بأمور علمية توضع لها برامج بحثية في معامل علمية متخصصة، وتُنشر عنه بحوث في المجلات العلمية المتخصصة؛ أي إن الموضوع يدور في قالب علمي بحثي. لكننا لا نريد أن نطرق هذه النقطة دون أن نُدخلها في مكانها من الرواية البوليسية. فما يجري في المؤسسات البحثية وما يقوم به الباحثون من دراسات علمية واضح في الرواية أنه قد يكتنفه التزوير وما يُعرف بالسرقات العلمية. والأحكام والتقارير التي يكتبها المتخصصون لإبراز أهمية علمية لبحث ما قد تكون مفتعلة أو متكلَّفة أو في غير موضعها، فتكاد تكون الرواية من أولها لآخرها هدفها البحث عن هذا العمل «العلمي» وكيف يتم إنجازه وإخراجه في مجلات علمية مشهود لها بالدقة وما إلى ذلك؛ فإذا بنا نجد أن الموضوع يكثر فيه الكذب والاختلاق والتمويه وإلباس الحقائق والوقائع لباس الأحداث الإجرامية التي تهتم بها الروايات البوليسية بصفة خاصة. فيكاد يكون قارئ هذه الرواية مهتمًّا باكتشاف من هو صاحب الادعاء ومن هو صاحب الفكرة المكذوبة ومن يلعب بالألفاظ ومن يحاول استخدام تعبيرات مضللة ومن يستغل لغة الكمبيوتر وما إليها بهدف واضح جدًّا؛ هو التضليل.

•••

وما دمنا نتحدث عن التضليل فهناك جانب آخر نلقاه في مواضع كثيرة من الكتاب؛ وهو اهتمام أصحاب المشروعات العلمية بالمكاسب المادية والتفكير في كيفية افتعال مشروع علمي أو التشدق بإمكانية حدوث تطورات علمية لا وجود لها بقصد جذب شركات الدعاية والتأمين، لتتحول العملية إلى تحقيق منافع مادية تغلب على المتوقع من البحوث العلمية الرصينة. ويبدو أن الكاتبة لا تخفي نيتها؛ وهي إلقاء الضوء على ما يجري من جرائم في عالم البحث العلمي بكل مكوناته. وبطبيعة الحال فإن الشخصيات الكثيرة التي ترد في الرواية من الصعب تحديد هويتها من حيث الصدق والكذب. لسنا على بيِّنة من الصورة الحقيقية للرجال والنساء الذين يدور عنهم الحديث ويشاركون في العمل العلمي من مناقشات تُبطن ما لا تُظهر. فهناك ما يمكن أن نسميه رغبة قوية في النقد العنيف لما يمكن أن نسميه سوء الخلق في هذا العالم البحثي العظيم الذي يتصور الناس أنه أبعد ما يكون عن سوء الخلق. وبهذا دفعت الكاتبة هذا العمل الأدبي في صورته المبتكرة التي بين أيدينا إلى مجال الأخلاقيات وتراثها، وكيف يمكن أن تتقلب وتتغير وتعبر عن أشياء إيجابية وسلبية في نفس الوقت في إطار لغة الألغاز والتعبير بالرموز المستغلقة أو الصعبة. ومن ذلك الحديث عن اللوتس، ومعنى اللوتس في الثقافة المصرية وثقافة الصين؛ فنجد لفظة اللوتس تدور بنا دورات صعبة مليئة بالألغاز والغوامض التي تحتاج إلى جهود خاصة للخروج بمعلومات عن قيمة هذه العناصر الفكرية أو الأخلاقية الخفية وإظهارها على الواقع. وهذا النوع من الروايات التي ينشغل فيها مؤلفها الغربي بالعناصر الشرقية الصينية والهندية معروف في الأدب الألماني، نذكر منه على سبيل المثال اهتمام الأديب الشهير الحائز على جائزة نوبل في الأدب هيرمان هيسه. ويمكن مراجعة ذلك في رواية «لعبة الكريات الزجاجية» التي قمتُ بترجمتها والتقديم لها.

وبالعودة إلى روايتنا «تأثير اللوتس»، نجد أننا كلما أعدنا النظر والتأمل فيها، أدركنا الجهد العسير الذي تحمَّلته المؤلفة، التي يمكن أن نتصور أنها تقف إلى جانب الحق بقدر ما تقف إلى جانب الجمال والخير؛ لأنها كلها أمور مطروحة بشكل الأحاجي والألغاز والفوازير وما إلى ذلك من تراث الغوامض. فالقارئ سيتصور أنه منذ البداية سيجد نفسه في مواجهة موضوع يتعلق باللوتس. ولا غضاضة أن نقول إنه نبات — على الأقل في البداية — إلى أن تظهر المشكلات الأخرى المختلفة المتصلة بهذا الموضوع. وبعد أن نبَّهنا إلى تنوع القالب القصصي، لا مجال لقارئ مدقق أن يندهش من أن الرواية قريبة في هيكلها من الرواية البوليسية، رغم أن أحداثها تدور في عوالم البحوث العلمية التي سنجدها تتداخل بشدة مع الغش والاحتيال والألاعيب والعلاقات بين الناس. وقد ظهر في هذا العالم المتداخل أن الجزيئات المتناهية الصغر «نانو» من الممكن بتدابير إجرامية دسها إلى حيث تنفذ إلى المخ والجهاز العصبي وتُحدث أضرارًا بأناس لم يرتكبوا ذنبًا.

•••

فإذا كان القارئ يحب هذا النوعَ المتشعِّب والغني بالإبداع، والخروج عن المألوف دون اعتراف بأنه خروج عن المألوف، فسيجد ضالته في هذه الرواية، كما سيجد حركة بين بلدان مختلفة من أمريكا إلى الصين مرورًا بألمانيا حيث يتشعب الخط القصصي الأساسي. وإذا جاز لي أن أوصي، فإني أوصي القارئ أن يجهِّز نفسه ببعض المُعِينات الدالة على الأماكن والاتجاهات الجغرافية والأزمنة والخلفيات المرتبطة بعقائد أمم أخرى منها الصين ومصر القديمة والهند؛ ليستعين بها على تتبع الخطوط المتشعبة المتداخلة التي لا تهدف بالضرورة إلى الوضوح، بل تضع القارئ دائمًا أمام ألغاز تتطلب مناورات مختلفة لحلها. وهذه الخلطة الغريبة من المكونات الإبداعية تجد لها تربة خصبة في قالب الرواية البوليسية المبهمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤