الفصل الرابع عشر

ارتباك على سطح الواجهة

شعرت فاندا أنها تدور مثل زنبرك صندوق موسيقى. لم تبرح رأسها المكالمة التي أجرتها مع رئيس القسم العلمي في الصحيفة المحلية. أخذت تبحث بلا هدف في الأوراق المتكومة على مكتبها، وتجاهلت محاولات الكمبيوتر التي تحثها لأن تكمل حديثها معه. لا، لم يعجبها بتاتًا أن يحدِّد سياسي — كائنًا من كان، حتى ولو كان رئيس الولايات المتحدة — المعيار الذي يتبعه العالِم. إلا أن الدول الصناعية كانت تضخ أموالًا طائلة منذ بداية القرن الحادي والعشرين في تكنولوجيا النانو، وفي هذه الأثناء تحصل المبادرة القومية لتكنولوجيا النانو في الولايات المتحدة سنويًّا على مليار دولار كاملة، وأيضًا حكومة ألمانيا رفعت ميزانية الاستثمارات إلى ٢٠٠ مليون يورو سنويًّا للأربع سنوات القادمة. إن السباق الدولي المحموم للحصول على براءات الاختراع يشمل أيضًا رءوس أموال جبَّارة في مضماره. ناهيك عن أن الإنجازات التكنولوجية تعكس مكانة الدولة بين الأمم.

ولكونها متخصصة في علوم السموم ففاندا تلعب في فريق الحرَّاس؛ لأن واجبها يكمن في تقدير المخاطر التي قد تنجم عن المواد الجديدة، ولا تغيِّر نظرتُها النقدية للأشياء من حقيقة أنها ترسٌ في ماكينة الأبحاث، وأنها تدعم المبادرات التكنولوجية التي تخصُّ العلوم الطبيعية بالأبحاث التي تجريها. ولم تستشعر فاندا أن بالأمر تناقضًا؛ فتكنولوجيا النانو سبَّبت ثورة في عملها المعملي. حتى لو جأر الناس بالشكوى من فكرة «إنسان ينكمش»، أو «غواصة تتقزم» ليدخلَا إلى عالم النانو متناهي الصغر، فلا ينبغي إنكار أن المعامل التي اخْتُزِلت إلى حجم بطاقة علاجية تعمل بكفاءة عالية. هذه المعامل التي تسمَّى «معامل على الشريحة» لهي حقًّا غُرَف سحرية تتم فيها عمليات الخلط، والضخ، والتنقية، والفصل، والاحتضان والتحليل، وهذا كله بشكل آلي على مساحة لا تتجاوز الأربعين سنتيمترًا مربعًا. لقد أسدت أماكن العمل هذه التي صُنِعت من البلاستيك خدمات جليلة للتحليل الجزيئي الحيوي للحمض النووي دي إن إيه، والبروتين والخلايا. ورغم أن سعرها باهظ الثمن، فإنها تخدم عمليات ميكنة المعامل. فالاستثمار في الإنسان — بحسب قول رئيسها — غير متوافر، كما أنه يكلِّف كثيرًا جدًّا، كما ستصبح الاستعانة بالعاملين المؤهلين أمرًا نادر الحدوث على المدى البعيد، بل حين يتمكن الكمبيوتر من القيام بمهام التفكير فلن تتم الاستعانة بالعلماء ثانية. شتورم نفسه يحاول تحقيق هذا السيناريو بالفعل، فهو يستعمل موظفيه وكأنهم مواد حشو، يمكن استبدالهم في أي لحظة. والعقود المؤقتة موائمة تمامًا لخطته في اللعب. ربما ستَسُود فترةٌ انتقالية كلُّ أبطالها مستقدَمون من الصين، نوع من حكم أسرة مينج، إلى أن تلتهم أخيرًا الآلات مملكة البشر.

لم يَغِبْ عن فاندا ما في هذه الأفكار من سخرية مريرة. كان يقلقها أن جزءًا منها بدأ في التكيف مع المعطيات المستجَدَّة بأكثر من قلقها من تعسُّف الرئيس الأمريكي. كانت هذه هي فاندا الصغيرة التي تتمنى أن تئول كل الأمور إلى ما فيه الخير، كما السابق حين كانت تجد أمها في القبو باكية. كانت تجلس على الأرض منكمشة على نفسها أمام جبل كبير من الملابس المتسخة ممسكة بمنديل غير نظيف أمام الوجه المبتلِّ. فاندا، التي كانت وقتها في العاشرة، كانت تريد أن تسرِّي عن أمها؛ لأنها تصورت أن العمل الشاق هو السبب في حزنها، فوعدتها بأن تساعدها وبدأت في تصنيف الثياب وفق فهمها الطفولي إلى ملابس فاتحة وأخرى غامقة، وكانت تقوم بهذا العمل بمهارة لم تتمكن من استعادتها أبدًا فيما بعدُ. أمي المسكينة، تنهدت فاندا.

ثم إن هناك بعدُ فاندا الوفية، التي كانت تفضِّل أن تدفن رأسها في الرمال حتى تتمكن من تحمُّل الطريق إلى المدرسة، حين عرف الجميع بأمر والدها. هي فقط لم تكن تريد أن تعترف أن والدها مدمن كحول. أحيانًا ما تهبُّ رياح تحرِّر رأسها المدفون من أَسْره، لكنها تعرَّفت على عينيه المحمرتين وريح الخمر في أنفاسه، فتُسارِع بإغلاق عينيها ثانيةً محبطة، وكانت تحمِّله هو الذنب في أنها لا تشعر بأنها على ما يرام. وحين بلغت التاسعة عشرة من العمر تركت كل ذلك وراءها.

هذه هي فاندا، المتهورة التي انطلقت بكل بساطة، المنجزة التي لا تتردد طويلًا إن كانت المسألة تتعلق بشيء جدير بالتجربة، بالبحث وبالتوضيح؛ ولهذا كان أسهل عليها ألف مرة أن تتسلل سرًّا للبحث عن المعلومات المثيرة للريبة بدافع الانتقام لصديقتها التي حتى لم تروِ لها كل شيء، من أن تتحدث إلى أخيها، فعند هذه النقطة كانت تجبن. لم يصدر عنها أي رد فعل بخصوص خطاب موثِّق العقود بعدُ، ولا بد أن روبرت يشعر بغضب عارم منها لأنها لا تهتم.

رن الهاتف وظهر رقم زابينة على شاشته.

ردت فاندا فرحة: «جميل أنك تتصلين.»

أجابتها زابينة متنهدة: «جميل أن أستطيع أخيرًا الوصول إليك.»

لم تعقِّب فاندا على ذلك.

«سأقول فقط الرقم خطأً.»

«ماذا؟»

«ربما نُشعر شخصًا ما بالملل في السنترال.»

اقترحت زابينة: «فهمت، سأتصل بك على هاتفك الخلوي.»

«الأفضل أن نلتقي.»

«كما تشائين.»

«أخ، بالمناسبة، يوهانيس كان أيضًا هناك مساء أمس.» حاولت فاندا أن تذكر الأمر وكأنه مصادفة، ثم أضافت: «ولم يكن يشعر بأنه على ما يرام.»

«أها»، وبدا أن زابينة ليس عندها ما تقوله. ألم تفهم شيئًا بتاتًا أم كانت تمثِّل؟

«ما رأيك فيه؟»

«تقصدين يوهانيس؟»

«أخ، انسَي الأمر عزيزتي»، فقدت فاندا الأمل.

«لا تجلبي على نفسك التعاسة يا فاندا؛ فهو لا يفضل السيدات.»

سمعت طرقًا على الباب، ثم ما لبث أن انفتح وأطلَّ يوهانيس بقوامه النحيل ووقف عند العتبة. كان وجهه محمرًّا. كان عائدًا من حظيرة الحيوانات، وكان شعره القصير لا يزال مبتلًّا من أثر الاستحمام.

«هل يمكن أن نتقابل مساء اليوم؟» سألت فاندا وهي تنظر بريبة نحو زميلها الذي ظل شاخصًا نحوها.

«في كايبيرينها تمام التاسعة»، ردت زابينة ثم أغلقت الخط.

•••

دخل يوهانيس الغرفة دون أن ينبس ببنت شفة، ثم وضع أمامها على المكتب ذاكرة اليو إس بي خاصتها منحنيًا انحناءة لا تليق به، ولم يَخْفَ عليها ما تشي به هذه الإيماءة من نصر. سحب الكرسي المعطوب من جوار الحائط، ودفعه ملاصقًا لفاندا، وأدار ظهره إلى الأمام ثم تطوح ليجلس عليه منفرج الساقين. كان يتحرك عليه كراعي بقر مصاب بتقلص في العضلات. رفعت فاندا حاجبيها اندهاشًا.

«صباح الخير جانجو.»

ابتسم يوهانيس، لكن لمعت في عينيه شهوة العراك.

«تستطيعين أن تخمِّني أين وجدته.»

رفعت فاندا منكبيها.

«كان لا يزال اليوم باكرًا عالقًا في منفذ الكمبيوتر. لا بد أنها كانت ليلة ساخنة.» كان يوهانيس يستمتع ببلاغته الملفوظة على النحو الذي يستمتع به الآخرون بشرب قهوة إسبريسو، أو تدخين السجائر، أو تناول الشوكولاتة وحلوى الهلام.

أكمل يوهانيس كلامه وكأنه يستطيع قراءة أفكارها: «من الممكن جدًّا أن تكون ذاكرة اليو إس بي هذه تخصُّ ذاك الشخص الغامض الذي حيَّانا بالأمس بضربتين على رأسينا. تشريح مفصل من مفاصل الجسم في موقف الهروب. قد يحدث أحيانًا، خصوصًا عند العناكب. ربما علينا ببساطة أن نرى ماذا يحوي.» لم يتوقف يوهانيس عن الكلام وتمنَّتْ فاندا لو أنها تزحف لتختبئ أسفل مكتبها.

«لا بد أنك فعلت هذا بالفعل.»

«لا، أنا لا أتشمم أقراص المعلومات هكذا ببساطة. صاحبها …» توقف قليلًا: «أو صاحبتها ممكن أن تكون من القسم. أَلَا ترتابين في الأمر يا فاندا؟» شعرت بضغط صندوق البخار الذي حبسها فيه، وكانت تريد الخروج من هذا الضيق.

«ليس عندي وقت أن أنظر فيه الآن.»

«اتركيه هنا ببساطة.»

رأت كيف ينظر بفضول من فوق كتفها إلى شاشة الكمبيوتر الذي بدوره لم يتوقف عن طرح سؤاله عن حالها. نقرت برشاقة على مفتاح الدخول، فظهرت في التو شاشة سطح المكتب.

«هل ذهبت إلى الطبيب حقًّا؟» اندهشت فاندا من السرعة التي غيَّر بها يوهانيس نبرته العدوانية إلى نبرة فيها اهتمام، كما تفعل الأمهات مع بناتهن اليافعات، وفي مكانٍ ما في عقلها الواعي شعرت بالطرقات المألوفة عندها.

«نعم بالتأكيد، أَلَمْ أَعِدْكَ بهذا؟ لم يكن بالمسألة ما يستوجب كل هذه الدراما.»

تنهَّد يوهانيس قائلًا: «على الأقل في هذه النقطة أنت لا تكذبين عليَّ.»

«أنا لم أمسَّ ذاكرة اليو إس بي خاصتك بالمناسبة، لكني رغم هذا أريد أن أعرف ماذا كنت تفعلين أمس مساءً في غرفة الكمبيوتر.»

تنفست فاندا بارتياح ثم قالت: «فلتبدأ بنفسك!»

«بل احكي أنت أولًا.»

فأجابت بحسم: «لاحقًا. عليَّ أولًا أن أعمل.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤