الفصل العشرون

الشاهد

في كل ظهيرة، حين يدخل ريكاردو بانسيروتي إلى مقصف مركز جونسون لأبحاث الفضاء التابع لناسا في هيوستن بولاية تكساس، تتجول نظرته إلى الطاولة الصغيرة الموجودة في آخِر الزاوية اليسرى. في الواقع لم تكن سوى عادة، لا لزوم لها البتة؛ لأن الطاولة الصغيرة التي تتسع لشخص واحد فقط كانت دائمًا خالية، وكأنها محجوزة له، لكنه كان يحب أن يتأكد من جديد أنه سيجد له مكانًا هناك، خاصًّا به وحده، ليتخذ نفس الطريق إليه بالدوران من الخارج ليصل إلى قرب الحائط، ما يشكِّل خطورةً ما بالنظر إلى ظروفه، إلا أن الصينية الممتلئة كانت كفيلة بشغل يديه اللتين تريدان التجول بحرية.

ذاك اليوم من شهر أبريل من عام ٢٠٠٥ سيتحتم أن يعلِّم عليه لاحقًا في مفكرته، لكنه انتفض أولًا لمرأى الظرف غير العادي، ألا وهو أن الطاولة مشغولة، ما جعل خاطره الأول هو أن يعود أدراجه ويستغني عن الغداء. كانت مثل تلك اللحظات كفيلة في السابق بإغضابه، وكان يتعين عليه مغادرة المكان بأقصى سرعة حتى لا يخرج عن شعوره على الملأ. الآن يقف هو أمام منضدة الوجبات الجاهزة، في المنتصف تمامًا، يبعد نفس المسافة عن الشرائط المعدنية المعلَّق بها السير الفاصل، ويحملق في قائمة طعام اليوم. كان قد أوقف تناول الدواء منذ عدة أشهر لأنه يسبب له الخمول، كما لم يكن هو ذاك الشخص الذي يستمتع بتجرع الأدوية، ورغم ذلك لم تهاجمه أيٌّ من نوبات الغضب العارم تلك ثانيةً. كان يستمع لداخل نفسه غير مصدِّق، لكنه لم يجد ذلك الشعور الجامح الذي كان يدفعه سابقًا حتى هاوية فقدان الوعي. واضح أنه لم يَعُدْ بحاجة إلى الأقراص. صبَّ جل تركيزه على قائمة الطعام. قرأها مرة. كم مرة يتعيَّن عليه قراءتها؟ أثلاثًا، أم خمسًا أم سبع مرات؟ من فوق ومن تحت حتى يحافظ على التماثل، لكن أين ذهبت الأرقام التي تنبئه أن عليه تفويت بعض السطور حتى يتمكن من ملء صينيته والجلوس في مكانه؟ في العادة كانت تنبعث من أعماق لاوعيه فتُملِي عليه ما يفعل مثل البندول الذي يضبط الإيقاع، لكن رغم إنصاته الطويل، لم تُرِدِ الأرقام أن تفتح مغاليقها له، كما أن طاولته لا تزال مشغولة. كان قد تعلَّم أن يتعامل مع مثل تلك الأمور المزعجة. المقاطعات، سواء من داخل ذاته أو من خارجها، كانت تحدِّد مصيره. كان مستعدًّا لها. كان يستطيع أن يرتدي عباءة الممثل، وأن يتبع دفعات خياله، حتى لا تتكلس وظائف دماغه. كان عليه ببساطة أن يجدِّد تعريفه لذاته. مَن يا تُرَى يمكن أن يمثِّل دوره في هذا المكان؟ أي شخصية تسمح له أن يسيطر على علامته الخاصة، بل الأفضل أن ينساها تمامًا إلى أن يتناول وجبته ويمضي إلى معمله مغلِقًا بابه عليه.

ألقى بانسيروتي نظرة خاطفة على أنصاف الدجاج المشوي الموضوع في الصحون على منضدة العرض. كان يمكنه أن يأخذ نصفًا منها وأن يقطعه باحتراف المتخصص، أليس في نهاية المطاف طبيبًا شرعيًّا؟ حين يقوم بالتشريح ينسى أنه مريض. في الواقع كان مختلفًا فحسب، مفرط الحركة بشكل يفوق العادي، متقلبًا وأحيانًا شديد العاطفية. بدأ ذلك حين كان في الرابعة عشرة، وتمنى الجميع أن تتوقف هذه الأعراض بانقضاء فترة المراهقة. حقًّا كانت النوبات أخف من سنة لأخرى، وتوقَّف عن العويل مثل قطار سكة حديد يخترق البراري، واختفى التعطش للكلمات غير المعتادة، التي كانت تعود فتخرج منه في صورة شِعْر مطبوع. أغاني الراب الحديثة تذكِّره أحيانًا بما كان يبتدع آنذاك، إلا أن جبرية الملامسة، وجبرية عد الأرقام، والحاجة القوية إلى التناظر ظلت أعراضها على حالها معه، ولم يملك أحد تفسير المسألة، لكن ما إن بدأ دراسة الطب حتى اتخذ ذاك الكائن الآخَر بداخله اسمًا له. فحين تعثَّر بالصدفة في الصورة المرضية لمتلازمة توريت اعتبر هذه المعلومة هدية غلَّفتها له الحياة في كتاب تعليمي في علم الأعصاب. كانت مدعاة لراحة كبيرة؛ لأنه بدأ في تقبُّل سلوكه الجبري كجزء من ذاته. كان سلوكه ينتمي لكينونته.

مر إلى جواره شاب في بزة العمل، كان عملاقًا، عريض المنكبين وطوله متر وتسعون سنتيمترًا على أقل تقدير. كان في مقدور بانسيروتي أن يختفي وراءه بلا مشقة فلا يبين. لم يكن قد رآه من قبلُ قطُّ في المقصف. ربما كان واحدًا من عمال البناء الذين يعملون في الموقع المجاور لمعمله، حيث تعمل الحفارات بصوتها العالي منذ عدة أيام على حفر أساسات لمبنى جديد يفترس من مملكة الأرض. مثل ذاك الغريب دفع أيضًا بانسيروتي بحوضه نحو الأمام قليلًا تاركًا ذراعيه تتدليان بحرية. شعر وكأنه يقلد القرد. في النهاية قد قدَّر أنه أكبر من ذاك الشخص بما لا يقل عن ربع قرن من الزمان، لكنه وجد الإيقاع المفقود بعد عدة خطوات، وتبع الشاب الضخم مثل مقلد صامت عبر المنضدة الطولية، أمسك بالمعروض من الأطعمة، ملأ صينيته وجرى خلف قدوته بخطوات واسعة، إلى أن وصلا إلى مجموعات الطاولات. جلس بانسيروتي عند مكان يمكن من خلاله أن يظل الرجل في مرمى بصره. تردد لوهلة بسبب وجود السيدتين اللتين تتناولان وجبتهما عند نهاية الطاولة وتومئان إليه بودٍّ. كانتا قريبتين لدرجة منذرة، وهو لم يكن متأكدًا إن كان في وسعه مقاومة سحر أن يدوس بحذر بكلتا سبابتيه على أرنبة أنفيهما. كان يتخيل منظر وجهيهما المتلوي، لكن الأمر لم يحدث. ظلت يداه صامتتين. تأمل اختيارات الأطعمة والأشربة غير المألوفة بالنسبة إليه التي وضعها على صينيته. ألقى نظرة خاطفة على صينية جاره وَشَتْ له أنه ببساطة اختار ما اختار الرجل الآخَر، وإلا لكان أخذ من كل شيء اثنين بسبب جبرية التناظر، أليس له يدان في النهاية؟ في العادة كانت سبابتاه تطرقان من مدة على الغطاء الملون لكوب الزبادي؛ لأنه يحب صوت الطرق هذا كثيرًا. كان يمسك بالشوكتين، واحدة في كل يد، ثم يهوي بكلٍّ منهما في نفس الوقت على الطعام الموزَّع في الطبق على نحوٍ متماثلٍ، وكأن يمينه انعكاس لشماله. كان يستمتع بالقوة اللطيفة التي تضغط بها الشوك على الطعام، لكنه كان يُطِيل النظر إلى صينيته. لم يجد الأمر نافعًا؛ إذ لم يكن أي شيء مكررًا مرتين. هل كان ذلك هو السبب في عزوفه عن تذوق الطعام؟ تأمل السيدتين في النهاية الأخرى للطاولة، لكن ظلت يداه صامتتين في حجره، وكأنه قد منعهما الحديث، لهذا السبب تحديدًا كان دائمًا ما يرفض أدوية الأعصاب، وكان متأكدًا أنه لم يتناول أيًّا منها. لقد اختفت الضوضاء من رأسه، وفجأةً اعتراه يقين أن مرض متلازمة توريت قد رحل عنه تمامًا، ولن يتاح له حتى أن يودِّعَه لمرة أخيرة.

نظر بيتر سنايدر من النافذة. كان الشيء الوحيد المبهِج في هذا المكتب الجديد هو إطلالته الجميلة على نهر أوتاوا، ورغم أنه مولع بالطبيعة، ووهب حياته الجديدة لقضية حماية البيئة، فإنه كان سعيدًا بالسكن في هذه المدينة، فأوتاوا لم تكن تتطابق مع الصورة النمطية الشائعة عن العواصم الكبرى في شمال أمريكا؛ إذ لم يكن بها ناطحات السحاب التي ترسم صورة الأفق في تلك العواصم، وإنما متنزهات هادئة وشوارع نظيفة، بل ربما هي مكشوفة بزيادة. وحدها برودة الشتاء هي ما كانت تزعجه لكنها انقضت الآن بحلول شهر أبريل. كانوا قد انتقلوا لتوِّهم إلى المكتب الجديد في شارع نيكولاس، لكنه بدا ومن الآن أنه لن يكفي لتلبية احتياجاتهم لمدة طويلة. أخذ يقلِّب في سجلاته، ثم نحَّى كومة الأوراق جانبًا وسحب من تحتها لوحة مفاتيح الكمبيوتر. تراكمت صناديق المنقولات التي لم تُفتَح بعدُ على الجدار المقابل. هنا يتم جمع كل شاردة وواردة في هذه الصناديق، هو فقط كان من الغباء بحيث أعدم كل الوثائق بعد أن أدار ظهره لوظيفة الباحث العلمي بشكل نهائي، وباستثناء بضعة السجلات المنقوصة هذه التي لا تعينه كثيرًا، لم يبقَ شيء يُذكَر.

لم يكد ينقضي عامان منذ أن استبدل مكتبًا مؤقتًا لحماية البيئة بمعامل الجامعة المجهَّزة بأعلى التقنيات، ويبدو أن الانتقال إلى مكتب جديد لن يغيِّر كثيرًا من الحالة الانتقالية التي يعيشها. أطلق سنايدر أزيزًا خفيضًا. أضحى من الصعب عليه تذكُّر الأحوال في السابق، فقبل نحو العامين تخلَّى عن منحته، وبذلك خابت كل التنبؤات بمستقبله المتألق كعالم بِلَّورات من أجل أن يتبع قَدَره الجديد. لم يندم على قراره، وربما لهذا السبب لم يعاود التفكير في المسألة قطُّ، بل وأصبح مقتنعًا في بعض الأحيان أن هذا التحول لم يكن سوى إحدى أمنياته التي طالما تطلَّع إليها سرًّا، لكن هذا لا ينفي أن قَطْع الجسور مع الماضي على النحو الذي لا يمكن الرجوع فيه كان خطأً، والآن يلاحقه هذا الماضي في صورة المشروع الجديد الذي يعمل عليه الآن، ورغم كل جهوده المبذولة لم يتمكن من تذكُّر ذاك الاسم تحديدًا!

وقتها كانا يتحدثان بمزيد من الود. كان ذلك قبل عامين، قبل أن يتخلى عن وظيفته بفترة وجيزة. كانا قد حضرا ورشة عمل مشتركة في مدينة نيو مكسيكو. في شهر مايو من عام ٢٠٠٣. آنذاك كانت لا تزال أفكاره تتراقص في غابة من معدَّات الدي إن إيه الصناعية، متعلقة بالنهايات اللزجة للشريط الوراثي، حالمة بمصانع الحمض النووي ثلاثية البعد التي تنظِّم نفسها بنفسها. جلس ذلك العالم الآخر إلى جواره في الحافلة، وأعلن له بصراحة عن اهتمامه بأبحاثه. طرح عليه بعض الأسئلة الذكية وتحاورَا حوارًا مثمرًا؛ إذ كان الرجل مختلفًا عن معظم الآخرين، ثم حكى له عن نفسه وما الذي قذف بطبيب شرعي إلى مركز أبحاث فضاء بتكساس تابع لوكالة ناسا. نعم، هو ذاك. الذكرى تعود إليه بالتدريج، تحركت أصابعه على لوحة المفاتيح بتوتر يكاد يكون محمومًا. بنقرة واحدة على اللوحة جلب إليه محرك البحث الصفحةَ الرئيسية لمعهد رحلات الفضاء. في البداية بدت الصفحة وكأنها لن تدله على الكثير؛ إذ كانت حافلة بتقارير حول مهمات رحلات الفضاء، والتعريف برواد الفضاء، لكنه فجأةً قرأ هذا الاسم: ريكاردو بانسيروتي. كان الاسم على مقال قصير يدور حول أضرار الأشعة وتدخُّل مجصات جزيئات النانو في تيار دم رواد الفضاء. كان على المجصات أن ترسل إشارةً تحذيريةً بمجرد أن تبدأ إحدى خلايا الجسم في التصرف بشكل غير طبيعي. وبغض النظر عن معنى هذا الكلام فقد عرف اسمه الآن. بانسيروتي. أطلق سنايدر صفارة فَرْحة. كان جرس الاسم يذكِّر بوجبة إيطالية ويناسب مهرج سيرك. أمر غريب كان يتعلق بذلك الشخص، حيوية وطاقة زائدة لدرجةٍ قد تسبِّب بعض اللَّوْثة، وهو أمر غير معتاد بتاتًا بالنسبة لعالم. لقد كان دائم التحسس لنظارته، وكان يقلِّد الناس في الحافلة. لقد أمضيا وقتًا طيبًا معًا. تذكَّر سنايدر أيضًا أن بانسيروتي مدَّ ذراعيه مرة، بالطريقة التي يأتيها الأطفال حين يحاولون تقليد الطائرة، وأنه في أثناء ذلك كان دائم النظر إلى السماء، ودون هذه الحركات المعبِّرة التي أتى بها جاره في المقعد ما انتبه إلى وجود طائرتين تحلقان فوق رءوس الناس، وما تعثَّر في نبأ قديم عثر عليه صدفةً وهو يصنف الأوراق القديمة. كان عبارة عن رسالة بريد إلكتروني بعث بها إليهم أحدُ المراقبين المحنكين يوم ٢٣ مايو عام ٢٠٠٣:

رأيت اليوم قبل الظهيرة طائرات إطفاء بالقرب من لوس ألاموس، لكني لم أرَ حريقًا. لقد تم رش شيء ما، لكن ماذا؟ ربما تمكنتم من استكشاف الأمر.

في ذلك اليوم مضت الحافلة من سانتا فيه إلى لوس ألاموس حاملةً بشرًا متنوعين، آتين من كافة بقاع الأرض لحضور مؤتمر. كان سنايدر واحدًا من العشرين مختصًّا الذين حضروا هذا الاجتماع الدولي حول علوم النانو.

وبعد بضع نقرات سريعة على فأرة الكمبيوتر، استدعى على شاشة الجهاز قائمةَ الحضور التي كان قد أعدَّها بنفسه. وقبل السطر الذي يحمل اسم الدكتور أناتول بروبوف أدخل مسافة وكتب دكتور ريكاردو بانسيروتي. أخيرًا وجد أهم شاهد بالنسبة له. في آخِر القائمة وجد اسمه هو. اكتملت القائمة الآن. كان سنايدر يعلم أنه ليس من الذكاء بمكان أن يخلط بين مشروع وبين أمر شخصي، لكنه أراد أن يجرب رغم ذلك. ففي الاجتماع المقبل سيتم إقرار هذه المسألة. وهو يريد أن يقترح إرسال القائمة إلى مجموعات العمل المتعاونة معهم في أوروبا، وأفريقيا، وجنوب أمريكا وشمالها. سيتعيَّن عليهم التواصل مع العلماء وسؤالهم بحذر؛ إذ كان يأمل أن يجد شهودًا آخرين على الواقعة يكونون قد رأوا أكثر مما رأى هو. لكنَّ شيئًا ما في هذه المسألة كان يمنعه من الاندفاع في ذلك الاتجاه؛ لأنه يخشى أن يتسبب نشاطه المبالغ فيه في إحراج أي إنسان، خصوصًا وأنه يخطِّط للقيام برحلة إلى نيو مكسيكو بنفسه ليبحث في الموقع ويجمع عينات من التربة.

«أنتم تعملون أسرع من سلطاتنا الفيدرالية»، هكذا كان رد مصدر معلوماته من نيو مكسيكو الذي أبلغ عن الوقائع قبل قرابة العامين، حين أعلمه سنايدر بزيارته. أيضًا هذه المسألة من دواعي انهيار أعصابه. فهم على الأغلب قد وصلوا بعد فوات الأوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤