الفصل الخامس والعشرون

فلفل وبسكويت الحظ

أشرقت الشمس صبيحة الأحد على أسطح المنازل المنثور فوقها الصقيع مثل مسحوق أبيض كثيف. كانت السماء شاحبة الزرقة واعدة بصباح خلَّاب. غادرت فاندا شقتها حين اقتربت الساعة من العاشرة. ركضت على الجسر المطل على مقهى روزينبارك المؤدي إلى ضفة نهر اللان وانحنت عند طريق الدراجات الذي يتجه نحو الجنوب مارًّا بمحطة القطار. بدا كل شيء مختلفًا عما علق بذاكرتها. كانت قد ركضت هنا آخِر مرة في الربيع قبل أن تستلم عملها بالمستشفى التعليمي، مرت ستة أشهر منذ ذلك الحين. كان عليها أن تفكر في مسارها الجديد القصير عبر الغابة التي حل عليها فصل الخريف. بدت الأشجار وكأن أحدهم كنس كل أوراقها، بينما تمطى النهر عن يمينها متخذًا انحناءة كبيرة. ما زالت بعض قطع الملابس التي جرفها الفيضان عالقة بالأغصان السفلية للأشجار، في حين أبعد نباح الكلاب بعض الإوز على صفحة الماء الشاحبة. قررت فاندا أن تمنح اليوم نفسها إجازة؛ وسيكون هذا هو اليوم الأول لها منذ عدة شهور. سيفيدها ذلك؛ فهي تقاوم منذ عدة شهور إحساسها الدائم بالإنهاك، لن تتمكن من مواصلة تلك المقاومة إلى الأبد. كان للآخرين أسرهم وأصدقاؤهم وهواياتهم، أما هي فلم يكن لديها سوى عملها.

كانت تنتظر مكالمةً من ماري كامبل قرب الساعة الثانية. أعطتها فاندا رقمها الخاص ليتمكنا من الحديث في المنزل دون إزعاج. كانت ماري قد أرسلت لها الاستبيان الخاص ببيتر سنايدر بالبريد الإلكتروني، لكن فاندا أيضًا لم تتذكر أحداثًا خاصة وقعت في أثناء رحلة الحافلة إلى لوس ألاموس؛ كان الأمر قد وقع منذ مدة طويلة، بدلًا من ذلك فإن مسألة الزر الأحمر لم تكن تفارق ذهنها، إلا أن شيئًا ما منعها من أن تسجل نفسها على الصفحة الرئيسية لجماعة «والدن أربعة». صحيح أن وجه الجماعة يبدو مسالمًا، إلا أن العملية التي نفذوها في جيسن أيقظت حذرها، وهي لم تُرِدْ بأية حال أن تدخل إلى دوائر مناهِضة للدستور، وأرادت أولًا أن تستعلم من مصادر أخرى. كان إحساسها ينبئها أن يوهانيس لا بد وأنه يعلم المزيد عن هذا الأمر. ما زالت تذكر جيدًا شكل وجهه حين عرضت عليه الشارة الحمراء بعد المداهمة التي تعرَّضَا لها في غرفة الكمبيوتر. كان يبدو لا مباليًا على نحوٍ غير عاديٍّ، كما أن الأمر الذي يثير ريبتها الآن، هو أنه لم يكن فضوليًّا على الإطلاق. كيف لم تواتها هذه الفكرة من قبلُ: أن يكون يوهانيس ناشطًا متنكرًا في مجال حماية البيئة؟ لكنه هو نفسه كان ضحية ذاك المجهول المشئوم. لماذا تفكِّر دائمًا أنه لا بد أن يكون ذاك المجهول رجلًا؟ رغم كل شيء عليها أن تجد طريقًا لمواجهة يوهانيس. الأفضل هو مفاجأته أمام شهود بالمعلومات التي تعرفها حتى الآن.

كما أنها لم تتمكن من جمع كثير من المعلومات من أندرياس؛ إذ كان لا يزال غاضبًا منها لأنها تركته وهو يعِدُّ شاي اليوجي. لم يتمكن من استيعاب الصدمة التي ألمَّتْ بها بعد رؤية القائمة، وحكى لها بتردد عن الأسابيع الأخيرة من حياة جونتر هيلبيرج. كان الأمر يبدو وكأن روحًا شريرة سكنت عقل والده. كان ميل أندرياس للتفسيرات الغيبية يُلقِي ظلالًا سوداء على مسار الأحداث التي أدت إلى انهيار جونتر هيلبيرج المفاجئ، حتى توقفت فاندا في وقت ما عن محاولات اقتحام نفسه. لم يكن أندرياس قد ابتعد عن الأحداث إذ كان لا يزال أسير أحزانه، كما أن نتيجة التحليل الباثولوجي لم تظهر بعدُ. لقد استغرق الأمر أمدًا أطول مما ينبغي في رأي فاندا، الأمر الذي دعاها إلى نصح أندرياس بأن يسافر إلى ميونخ لمعاودة استطلاع المسألة.

أخيرًا أصبح حي المحطة وراءها. سعدت فاندا أن انتهت تلك المرحلة من سيرها التي تغطيها أكوام من زجاجات البيرة والويسكي الفارغة، ليبدأ الجزء الجميل من نزهتها، فالطريق يسير بمحاذاة نهر اللان في اتجاه الجنوب. كان البخار الخفيف المنبعث من فمها يتكاثف في الهواء البارد كالجليد ويضفي سحرًا فضيًّا على منظر الجسور، والمدينة القديمة وقصر اللاندجراف. وفي فايدنهاوزن، عبرت الجسر الخشبي القديم ثم أخذت الطريق الصاعد عبر شارع جوتنبيرج، ومن مخبز كلينجيلهوفر ابتاعت لنفسها قطعة من تورتة بلاك فوريست بالكرز، وتمهلت وهي تتأمل نوافذ المحلات في طريق العودة إلى منزلها.

في تمام الثانية دق جرس الهاتف. حيَّتْها ماري بحماسة متدفقة، فتسربت سعادة ماري إلى فاندا، فأخذتا تتحدثان لبعض الوقت عن الجو وتتبادلان أخبار مشروعاتهما البحثية، وفيما عدا بعض التشويش كانت جودة الاتصال الهاتفي مُرضِية بدرجة مثيرة للدهشة. كانت فاندا تستمع بانتباه كي لا تقاطع زميلتها الأكبر سنًّا بردود مستعجلة.

وأخيرًا حوَّلت ماري مسار الحديث نحو السبب الرئيسي من اتصالها: «هل وصلتك رسالتي الإلكترونية؟»

«نعم شكرًا لك، لكني اضطررت للإجابة على كل الأسئلة بالنفي.» ردت فاندا «وقمت بإعادة إرسالها إلى بيتر سنايدر.»

«إن موت البروفيسور هيلبيرج …» شرعت ماري تقول مترددة: «كان صدمة. إنني أفكر فيه طوال الوقت.»

«سألت ابنه عن ذلك. لا بد أن الأمر كان سريعًا، لقد سقط في غيبوبة فجأةً في بداية مارس، ثم تُوُفِّيَ في الثاني عشر من أبريل.»

«هل يعرفون ما السبب في ذلك؟»

«لقد تُوُفِّيَ بسبب عفونة في الدم، لكنه كان مصابًا بداء آخَر؛ إذ كان مريضًا بأحد الأمراض العصبية التي يبدو أن الأطباء لا يعرفون لها اسمًا. كل شيء يبدو غامضًا، ونتائج التحليل الباثولوجي لم تظهر. لا أستطيع أن أقول المزيد في هذه المسألة، فالابن ليس طبيبًا مع الأسف.»

ران الصمت عليهما برهة.

التقطت ماري طرف الحديث مرة أخرى: «هل تذكرين عشية رحيلنا عن سانتا فيه؟ كنَّا نأكل معًا في ذلك المطعم الصيني.» نعم، تذكرت فاندا، لم تكن فاندا مستمتعة بتلك الأمسية.

واصلت ماري الحديث: «أنتِ، وأناتول، وبانسيروتي، وسنايدر، وهيلبيرج، وأنا. ربما — برأيي — يكمن بهذا مفتاح حل اللغز لكل الأحداث الغامضة.»

«لا أفهم …»

«أعلم أن الأمر يبدو عبثيًّا. لكن هل تذكرين الرسالة التي ظهرت لك في بسكويت الحظ؟» سكتت فاندا؛ إذ لم تكن تريد أن تسمع مثل تلك الفرضيات الخرافية. هل يمكن أن تكون خُدِعت كثيرًا في هذه الزميلة؟ ردَّت عليها: «كلا، ذاكرتي لا تحتمل هذه الأشياء.»

«لن يبقى شيء على حاله. هذا ما كُتِب على ورقتي.»

غضبت فاندا، في الواقع لم تكن تريد سوى بعض النصائح التي تساعدها في تحسين مسوَّدة البحث، أما الآن فصار عندها مشكلة جديدة.

«هذه الروائح الغريبة … في الحقيقة أتخيل أن كل ذلك سقيم على النفس.»

«أرجو ألَّا تعتبريني مجنونةً؛ فأنا عالمة من السكان البيض في جنوب أفريقيا، وأعلم ما أتحدث عنه.»

«إذن، هلا أوضحت إلامَ ترمين؟»

«لقد شُفي بانسيروتي من متلازمة توريت، بينما أصبحت الهواجس تتحكم في أناتول، وأنا صرت ضحية اضطرابات في حاسة الشم. وهيلبيرج … أَلَا ترين الرابطة في ذلك؟ إنها كلها حالات عصبية، أو نفسية لو أعدنا النظر في حالة أناتول.»

«وماذا عن سنايدر وعني؟»

«ننتظر لنعرف.»

«… وماذا عن بقية الأسماء على القائمة؟»

«انسي القائمة. نحن الستة فقط ذهبنا إلى المطعم الصيني.»

تنهدت فاندا، وأخذت تفكر في البداية كانت العرافة العجوز والآن حكاية بسكويت الحظ، كان عليَّ أولًا أن أتحرى جيدًا عنها. ثم سألت في استسلام: «والآن؟»

«الآن نهتم في الوقت الحالي بنشر بحثك.» ها قد عادت لها ماري التي تعرفها، ماري الموضوعية التي لا تبخل بتقديم حلول عملية لها. «أستضيف حاليًّا زميلًا أمريكيًّا، ريتشارد مانزفيلد، من الممكن أن تذكريه في كلمة الشكر، وبهذا تكونين قد أوفيت مطالب الأستاذ المقرر، كما لن يكون بوسع أناتول أن يشتكي من اللغة الإنجليزية الركيكة، فقد أدخلنا من جانبنا بعض التصويبات اللغوية، وسأرسل لك في الغد كل شيء.»

قدَّمت فاندا الشكر لها وشعرت بالراحة، فهذه كانت حقًّا ماري كامبل التي أعجبت بها كثيرًا آنذاك في نيو مكسيكو. لا بد أن مسألة اضطراب الشم تضايقها.

قالت ماري مودِّعةً: «أعلميني بما ستئول إليه أمورك.» كانت نبرتها ملزمة كما توقعت منها فاندا، لكنها لم تفهم، كيف يمكن لإنسان أن يكون على هذا القدر من الاضطراب، ثم يكون في نفس الوقت عمليًّا على هذا النحو. لكن الآن، بعد انتهاء المكالمة، شعرت فاندا بهدوء مدهش. كانت ماري سيدة استثنائية، كانت آنذاك متفتحة وطيبة القلب، وكانت لها ضحكة مرحة تبعث السعادة في الجميع. كانت بتصفيفة شعرها المهوشة وجونيلاتها التي طرَّزتْها بنفسها أقرب إلى غجرية منها إلى عالمة، وعلاوةً على ذلك فقد كانت ماري تتمتع بسمة تميزها عن زميلاتها؛ فهي لم تكن تخشى الرجال، وأكثر من ذلك كانت تقاطع حديثهم لو دَعَتْها الضرورة، لكنها كانت تفعل ذلك بلباقة وبلمحة من أمومة ممزوجة بسخرية من الذات، ورغم أنها كانت تتوازن على حبل رفيع، لكن لم يكن ليُخشى عليها. كانت دائمًا ما تتحرك في صحبة عدد من الرجال الذين يتبدلون فجأةً فيصبحون أكثر حيوية، ليعودوا فيضحكوا عليها من وراء ظهرها، لم يكن ذلك يضايقها؛ إذ كانت تتجاهله ببساطة. وماذا عن بروبوف؟ ما الذي أصابه؟

•••

في ذات المساء وصل رد بيتر سنايدر إلى فاندا، كان رسالة إلكترونية طويلة بشكل غير عادي:

«مرحبًا فاندا، كيف حالك؟ لم أتوقع أنك ستردين عليَّ؛ فقد علمت من روتشيستر نبأ أنك عدت إلى ألمانيا، لكن عليَّ أن أعترف أني لم أواصل البحث عنك، فقد كنتُ جد مشغول هنا. أين تقع ماربورج أصلًا؟ كنت واثقًا أن جماعة «والدن أربعة» ستتمكن من العثور عليك.» لم تخطئ القراءة، نعم مكتوب «والدن أربعة». إذن بيتر سنايدر يعرف هذه المجموعة، لكن كانوا يبحثون عني، لماذا؟، ثم عادت لتقرأ: «كنا قد أرسلنا إليهم القائمة في الربيع، وكان عليهم أن يتصلوا بالعلماء المتحدثين بالألمانية الذين حضروا ورشة العمل التي أقيمت في نيو مكسيكو، لم يكن العثور عليك بالأمر السهل، لكن من الواضح أنهم نجحوا في ذلك. وفي هذه الأثناء أحرزنا تقدمًا طيبًا في تحرياتنا حول المسألة.» بالطبع، فهي قد نسيت أن تسجِّل نفسها في مكتب السجل المدني التابع لماربورج، فرسميًّا هي لا تزال تقيم عند والدَيْها. لكن ما هي المسألة التي يتحرَّون عنها؟

•••

«أنا أعمل الآن في مؤسسة متخصصة في حماية البيئة. لا أعلم كيف حدث هذا على وجه التحديد، لكنه حدث بعد لقائنا في سانتا فيه بمدة وجيزة. ربما كان الفلفل حارًّا أكثر من المعتاد؟ هاها! على أية حال وجدت خطواتي ذات صباح لا تقودني إلى معمل الكيمياء في مبنى الأبحاث التابع للجامعة. ذهبت إلى مكتب مجموعة إي تي سي، وظللت عندهم. تستطيعين أن تقرئي عنَّا المزيد على الإنترنت، فنحن نعمل في أغلب الأحوال في مجال الزراعة، والتنوع البيولوجي للمحاصيل … إلخ. كما نبذل مجهودات في مجال التوعية بالتقنيات الحديثة المستخدَمة في التربية، وتجهيز التربة والماء، وحديثًا بدأتُ في قيادة مجموعة مصغَّرة تهتم بتكنولوجيا النانو، وتم تكوينها في إطار المشروع الذي أعمل عليه الآن، فنحن قد تتبعنا إشارةً في بداية العام … أخ … هذه حكاية طويلة … دَعِيني أحدِّثك مباشرة عن نتائج تحرياتنا. أما زلتِ تذكرين يوم ٢٣ مايو ٢٠٠٣؟ (أعترف أنه قد مرَّ وقت ليس بالقصير)، في ذلك اليوم توجَّهت جماعةٌ التقت في مؤتمرٍ مكوَّنةٌ من عشرين مختصًّا عالميًّا في مجال علوم النانو، لتقوم برحلة جماعية إلى المعامل المشهورة، أو لنَقُلْ سيئة السمعة الواقعة في لوس ألاموس. أَقَلَّتْهم الحافلة من سانتا فيه على الطريق الجنوبي عبر الهضبة.» عادت فاندا بذاكرتها فرأت نفسها جالسة مرة أخرى في تلك الحافلة، وهي تنظر من نافذتها إلى طبيعة لوَّحتها الشمس فضربت لونها إلى الحمرة البُنِّيَّة، ثم قرأت: «قبل الحادية عشرة والنصف بقليل وصلنا إلى الحدود الشمالية عند «باندلير ناشونال مونيومنت». إلى الغرب من ذلك لكن على نفس الارتفاع كانت طائرة إطفاء تقوم برش مبيدٍ من الجو. وبحسب سجلات الطائرة فقد تلقَّت أمرًا في الساعة الحادية عشرة وأربع وعشرين دقيقة بفتح خزَّاناتها. المادة المسجَّلة كانت «نانوباكت-إن بي ٢٧٠١». هذا ما كان مكتوبًا على الحاويات بحسب رواية قائد الطائرة الذي نفَّذَ العملية. لم أكن أعرف كل هذا بالطبع حين كنتُ وقتها أنظر من النافذة وأشاهد الطائرتين. أما الاستبيان فكان يساعدني في العثور على شهود آخرين، لكنه لم يَقُدْ لشيء، فيما عداي وعدا ريكاردو بانسيروتي، ولم يتمكَّن الآخرون من تذكُّر أيِّ شيء، وكان من حسن الطالع أن عثرتُ سريعًا على قائد الطائرة. قال إن مَن كلَّفهم بهذه المهمة هو شركة أبحاث كاليفورنيا وودلاندز في أوريكا إلى الشمال من سان فرانسيسكو، ويبدو أن الشركة غطاء لأمر ما، وقيل إنها مسألة خاصة؛ فالأرض التي رُشَّ فوقها المبيد مملوكة لأفراد، والمسئول الذي أصدر أمر الرش غادر الشركة. لقد عُدْتُ لتوِّي من رحلة ثانية إلى نيو مكسيكو جلبت منها بضع عينات من التربة، لكن لا فكرة عندي عمَّا نبحث تحديدًا.» بدا لها سنايدر كمجنون، أو مهرج، كانت قد صنَّفته في ذاكرتها على أنه شخص غير مغامر. إلامَ يرمي الآن؟ «تحدَّث الطيار عن تنقيةٍ للتربة بعد تلوثها بالزيوت المعدنية؛ لو أن هذا الأمر حقيقي، إذن فإن مجموعة من الهواة هي مَن تقوم بالعمل، لكن توصيف «نانوباكت» يشي باستخدام إجراءات ميكروبيولوجية. في كل الأحوال فإن التربة هناك غير صالحة لإجراءات ميدانية؛ فهي جافة أكثر من اللازم، كما أن الأرض ينبغي إعادة تهيئتها بعد إجراءٍ كهذا من أجل أن يصل الأكسجين إلى الميكروبات. ليس هناك مادة سحرية يمكن أن تُصَبَّ عليها فتنتهي المسألة. لم أرَ بعيني في الموقع سوى أرض بور. لم يهتم أحد في العامين الماضيين بهذا الأمر. لا يمكننا سوى التكهن. هل كانت مضادات حيوية؟ أسمدة؟ كائنات دقيقة معدَّلة وراثيًّا؟ دائمًا وأبدًا نفس اللعبة. الآخرون يخادعون، أما نحن فنلتزم بالقواعد لنثبت تلاعبهم، ولحسن الحظ تعرفنا على معمل جيد يقوم بكل التحاليل الميكروبيولوجية والجزيئية الحيوية لنا، بلا مقابل.»

بدأت فاندا تنزلق باضطراب على كرسيها صاعدة هابطة، هذا هو. معمل كهذا هو بالضبط ما نحتاج إليه. واصلت القراءة: «لا بد أنكِ تتساءلين عن السبب الذي يدفعنا لتكبُّد كل هذه المشقة. هناك شيء إضافي يضفي على المسألة برُمَّتها لمحة شائكة. كالعادة نحن نعرض المشروعات التي نتحرى عنها على الإنترنت. وأمسِ تلقَّيْنا اتصالًا من وزارة الخارجية الأمريكية، وفي الغد سيقوم بعض الشباب من الوزارة بزيارتنا لبحث مجالات التعاون، حسب زعمهم. لم نتمكن من أن نفهم الموضوع تمامًا، لكننا نشعر بالخطر. من الجيد أننا كلنا قرأنا أعمال كينكي فريدمان (إياك والكذب على وزارة الخارجية، والأفضل دائمًا هو الإجابة عن أسئلتهم بأسئلة). أما عينات التربة فقد أخفيناها بحسب وصفة كينكي المجرَّبة في مرحاض القطط. لكن أرجو أَلَّا تشي بالسر!

يكفيك هذا الكلام للوقت الحالي. أرجو أن نسمع أخبارك.»

بيتر

دار رأس فاندا، إذن فقد بحثت عنها جماعة «والدن أربعة» بتكليف من بيتر سنايدر. الشرطة الفيدرالية الأمريكية تبحث سُبَل التعاون مع منظمة عاملة في مجال البيئة، بسبب عملية تمَّتْ قبل عامين استُخْدِم فيها مركب نانو غير معروف، أصيب به مجموعة من خبراء النانو في طريقهم إلى لوس ألاموس. كم يبدو الأمر برمته سخيفًا! صحيح أن الطريقة التي وصفه بها بيتر لا تشي بأنه يمزح، لكنه أيضًا لا يأخذ المسألة بجدية صارمة. لقد كان المعمل الذي تحدَّث عنه يهمها أكثر من أي شيء آخَر ذكَرَه. فالكفاءة المجانية هي بالضبط ما تحتاجه الآن. لا بد أن تسأل بيتر عن عنوان المعمل، لكن هنا تظهر مشكلة أخرى، كيف يمكن تمرير مائة عينة مجمَّدة من نسيج الحيوانات دون أن تلاحظ الجمارك الأمريكية أو الكندية؟ إلا أن تلك المادة الغامضة التي طالبتها دراسة شركة بي آي تي ببحث سُمِّيَّتها في المعمل، لا بد أنه من الممكن تهريبها ببعض المهارة. يا تُرَى أي نوع من المواد تلك التي لا يريد الرئيس أن يكتشف آثارها طويلة المدى؟ كانت في حاجة ملحة لأخذ عينة من هذه المادة. لقد حاولت أن تربط بين هذه الرسالة الإلكترونية وبين ما وجدت على كمبيوتر زابينة. ماذا فعلت زابينة فعلًا يا تُرَى؟ تنهدت فاندا، إذ كانت تأمل أن تكون المواد المتبقية كافيةً لإجراء التحاليل. لقد حان وقت البوح بكل المسكوت عنه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤