الفصل الثلاثون

الفرضية

بعد أسبوع من الانتظار الطويل وصلت أولى النتائج من أوتاوا. كانت المادة التي جلبتها شركة بي آي تي لتُختبَر في ماربورج خارجةً بشكل قاطع من مصانع السلاح الأمريكية؛ إذ إن لها ذات الجزيئات. التقرير الذي وصل بعد ذلك باثنتي عشرة ساعة حمل تفاصيل أكثر.

في البداية، أكد التقرير على الأخبار الأولية لكن مع تحفُّظ، أَلَا وهو: أن الجزيئات ليست متطابقة بشكل كلي، ورغم أن صورها على الميكروسكوب الإلكتروني كانت تشبه بعضها بعضًا، مثل أي بيضة تشبه أختها، فإن حركتها كانت مختلفة. قام فنِّيُّو المعامل الكنديون بحقن أجزاء صغيرة من العينة بالنقاط الكمومية (وحدات الطاقة)، حتى يتمكنوا من ملاحظة نموذج حركتها بصورة أفضل تحت مجهر الفلورسنت.

في المساء، قبل أن تعود فاندا إلى منزلها بقليل، اتصل سنايدر بها. كان صوته غاضبًا:

«تخيَّلِي أنك واقفة في كازينو قمار بين طاولتي بلياردو. على كل طاولة عشرون كرة، كلها متشابهة. في كل الأحوال، لا يمكنك التفريق بينها، وعليك أن تقرري على أي طاولة ستلعبين، ولهذا تدورين حول كل طاولة وتضربين كرة عبر الملعب. تتحرك الكرات ويصطدم بعضها ببعض، لكن على الطاولة التي إلى يسارك سرعان ما تعلق الكرات بعضها ببعضٍ، فتنشأ كومات متفاوتة الحجم، ثم لا يتحرك شيء. تتجهين نحو اليمين، فتجدين كل شيء يتحرك. الكرات تدور بعضها حول بعض ويصدم بعضها بعضًا. إحساسك يدفعك للإبقاء على اللعبة. القرار لك.»

ردت فاندا بحزم: «لن ألعب في أي مكان.»

«أعترف أن النموذج ميكانيكي أكثر مما ينبغي، لكن هكذا نفكر.»

«لا أقصد هذا، أعني أني ما دمت لا أفهم هذه الكرات العجيبة القادمة من بوسطن، فلن أجازف باللعب بها، الكرات التي يصدم بعضها بعضًا هي تلك المادة في الدراسة الخاصة بشركة بي آي تي. هل أنا على حق؟»

«نعم ولا. تذكرين أن الطرد الذي حصلنا عليه منكم كان يحوي ثلاث أمبولات؟ واحدة منها كانت تحمل جزيئات النانو، والثانية تحوي مُركَّزًا للمادة المذيبة، عندما نقوم بإذابة المادة فيها تتصرف جزيئاتها فعلًا مثل الكرات التي على الطاولة إلى اليمين. لاحقًا أضفنا إليها محتوى الأمبولة الثالثة في طردكم، فتكتلت الجزيئات فورًا بعضها مع بعضٍ، تمامًا كما تفعل الجزيئات في العينة التي تركَتْها لنا وزارة الخارجية الأمريكية. لا بد أن لهذا علاقة بسطح الجزيء. نحن لا نزال في انتظار نتائج البيولوجيا الجزيئية وصور الأشعة للتحليل الهيكلي.»

أخذت فاندا تفكر. الأمر يبدو وكأن شركة بي آي تي أخذت مادة خامًا من مصانع السلاح بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم تمكَّنت من تعظيم قيمتها بإضفاء خواص غير عادية عليها. جزيئات نانو لا تتكتل لتتوزع بخفة في قنوات التنفس، هذه لم توجد بعدُ، وهي في الواقع التي يمكنها أن تمثل اختراقًا تقنيًّا لأشكال من العلاجات جديدة تمامًا.

أخطرت فاندا زابينة ويوهانيس سريعًا بالبريد الإلكتروني، ورد الاثنان من فورهما. كانا مقتنعين مثلها أن كرات بلياردو النانو غير منضبطة الحركة هي التي أمرضت فئران زابينة.

تواترت لقاءاتهم هذا الأسبوع، مرة عند فاندا، ومرة في منزل زابينة، وتناقشوا في فرضية عملهم. في الوقت ذاته زاد اهتمام سنايدر بحالة جونتر هيلبيرج. ولم تستغرب فاندا ذلك. كان الطيار قد تحدَّث عن مادة مسماة «نانوباكت-إن بي ٢٧٠١»، وكانت المادة التي حصلت عليها شركتا بي آي تي، وسي آر دبليو سي من الجيش الأمريكي تشتركان مع هذه المادة — لنَقُلْ — في اسم العائلة. لا يمكن أن يكون هذا الأمر من قبيل الصدفة. هنا يكمن قطب الرحى التي تتقاطع فيها تحرياتهما. في كل الأحوال لم يكن من الممكن التخلي عن فكرة أن هناك رابطة بين تحريات سنايدر في نيو مكسيكو ووفاة هيلبيرج. هاجمتها صور مخيفة. كانت تتقلب في فراشها من صور فئران تنفق من التشنجات المميتة، وهيلبيرج يضحك ثم يسقط رأسه فجأةً، وعيون دكتور جليزر التي تخترقها اختراقًا. لم تكن تريد لحياتها أن تنتهي مثل نهاية جونتر هيلبيرج. لا، وحاولت أن تحتفظ بهدوئها؛ لأن كل مخاوفها لا أساس لها بالمرة، ستثبت بنفسها أن الأحداث في نيو مكسيكو لا علاقة لها بوفاة طبيب الأعصاب في ميونخ. فليس ثمة تلوث. كانت تهدِّئ من روعها بقول إن الصداع الذي كان ينتابها صار نادرًا ما يداهمها، أما ما يخص رعشة يديها فقد تعودت أن تضم قبضة يدها في حضور الآخرين وتضعها في حجرها، وهكذا لم يكن أحد يلاحظ الأمر، ولأن أحدهم لم يشاهد المسألة كانت تتمكن من تنحيتها جانبًا.

لم يكن من الصعب على فاندا أن تُقنِع زملاءها بسبب اهتمامها بتحريات سنايدر، وأنهم يدينون له بما وصلوا إليه من معلومات. وهكذا بررت لهم في لقائهم قرارها أن تتابع «حالة جونتر هيلبيرج» بنفسها.

كانت مادة البحث محفوظة في قسم علم الأمراض بمستشفى ميونيخ الكبير، كما عبَّر زميل أندرياس السابق عن رغبته في مساعدتها للوصول إليها. لقد كان الطريق الرسمي مليئًا بالمخاطر، كما أن الروابط بين المعاهد لا يمكن سبر غورها، ولا ينبغي لشتورم أن يعرف بأمر التحريات التي تجريها. كانوا قد اقتربوا من هدفهم، وهو الكشف عن لغز المادة التي تستخدمها شركة بي آي تي، وإذا ساورته شكوك بشأنهم فسيمنعهم من مواصلة عمليتهم ويطردهم جميعًا، وستضيع كل مجهوداتهم هباءً.

«لا تراجُع»، قالت لزملائها «لقد توغلنا في المنطقة العميقة لدرجة أننا مضطرون لمواصلة البحث.»

«حقًّا؟» بدت زابينة مترددة فجأةً.

فحذرت بيترا: «لو فشل الأمر فأنا لم أكن معكم، أتمنى أن يكون ذلك واضحًا لكم جميعًا.» كان يوهانيس يعض على أسنانه بلا توقف. نظرت زابينة إلى فاندا متفحِّصة.

«ما الذي يدفعك للمواصلة؟»

هزت فاندا كتفيها وبدت فاترة فجأةً: «أستطيع أيضًا أن أسقط الموضوع.» قالتها وهي تحاول أن تبدو غير مبالية قدر الإمكان.

«إذن؟» تأملتها زابينة متفرسة.

«ماذا تريدين؟» لم تتمكن فاندا من إخفاء ثورتها، «ففي النهاية، أنا التي تحملت الورطة التي تسببت فيها.»

تدخلت بيترا: «هذا يكفي. بالتأكيد علينا أن نكمل المشوار، ونحن لا نستطيع الآن أن نقرر كيف سنستخدم كل ذلك. فالمعلومات التي لدينا ببساطة لا تزال منقوصة.»

لم تشأ زابينة أن تستسلم وقالت: «أريد أن أوضح أمرًا ما هنا. أنا لم أطلب منكم شيئًا، كل واحد منكم لديه أسبابه الخاصة للاشتراك في العملية.» أحست فاندا بنظراتها التي تخترقها فقالت: «أنا أريد معرفة الحقيقة.»

«أي حقيقة؟»

لم تُحِرْ فاندا جوابًا.

•••

وفعلًا في عصر يوم الجمعة كانت تجلس مع أندرياس في القطار السريع المتجه إلى ميونيخ. كان لا يزال الغضب ظاهرًا عليه، مرت ثلاثة أسابيع منذ لقائهم الأخير. وكانت فاندا قد انسلت بهدوء وسرية من شقته ذاك المساء بعد أن وجدت قائمة الأسماء، ومؤخرًا حدَّثها على الهاتف بكلمات مقتضبة. كانت فاندا تريد أن تعرف المزيد عن موت والده. لماذا إذن أراد أن يشترك في هذه العملية بميونيخ؟ هذا ما ظل لغزًا عليها، لا بد أن فكرة سنايدر في البحث عن جزيئات نانو لدى هيلبيرج قد أقنعته، بخلاف ذلك لم تستطع أن تقتنع أنه يصاحبهم في هذه الرحلة بلا تحفظات. أما مسألة شركة بي آي تي فقد احتفظت بها فاندا لنفسها؛ إذ لم يكن أندرياس ضمن فريق التحريات.

بدءًا من مدينة شتوتجارت جلَسَا بمفردهما في المقصورة.

قالت وكأنها تعتذر: «سيتعيَّن عليَّ أن آخذ بعض العينات من مخه.» أدار أندرياس رأسه نحو النافذة ولم يجبها، زفرت فاندا بصوت خفيض، وفكرت: لا أستطيع أن ألومه. الخطة جيدة، لكن هذا هو كل ما في الأمر. لا يزال الشق الأيسر من مخ هيلبيرج محفوظًا في الفورمالين في ثلاجة عيادة قسم الأمراض، عرفوا ذلك من رايموند — ذاك الشخص من معارف أندرياس القدامى أيام دراسته للطب — وهو أمر مستغرب أن لا يزال محفوظًا هكذا رغم مرور ستة أشهر كاملة. في الحالات العادية يتم تشريح العضو بأكمله. جال ببال فاندا أن ذاك أفضل بالنسبة لنا لو أعماهم عنه النسيان. كانت تقلب صفحات أطلس التشريح في حجرها. هل سأتعرف أصلًا على بنيته؟ كانت مناطق النظام اللمبي التي أرادت أن تأخذ منها العينات ملوَّنة على الرسم. فذكرتها بالصور الملوَّنة التي تُوضَع في كتب رسوم الأطفال ليلوِّنوها، وكذلك كان ملوَّنًا ومنظَّمًا وسهل التفكيك ذاك النموذج الصناعي للمخ البشري الذي أحضره لها يوهانيس ليريها عليه كيف يمكن أن تستخرج أجزاءً صغيرة من الوطاء (تحت المهاد)، وأخرى من القنوات الشمية من أسفل عبر الفص الصدغي، ثم الحصين؛ إذ يخمن سنايدر وجود جزيئات النانو في تلك المناطق. وهو يتكهن أيضًا أن جزيئات النانو التي تم رشها من الطائرة لا بد وأنها تسللت عبر فتحة جهاز التكييف إلى داخل الحافلة، وقام الركاب باستنشاقها. شعرت فاندا بالبرودة تسري في أوصالها، فالراجح أنهم كانوا يجلسون مثلهم مثل أرانب التجارب في ذلك القفص المتحرك، وحسبما يقول سنايدر فإن الكوكتيل الذي تم رشه في نيو مكسيكو تضمَّن مادة «إن بي ٢٧٠١»، وهي التي أعطتها له معامل إدارة السلاح الأمريكية لمقارنتها بالتحاليل الأخرى، وهي أيضًا المادة الموجودة آثارها في نانوسنيف، وكان عليه أن يَعِدَ الأمريكيين بإعطائهم إيضاحات غير منقوصة حول النتائج. لقد كان لدى سنايدر من الذكاء ما يكفي ليعرف أن ذراع سلطات دولة الجوار كانت ستطول بالدرجة التي تمكنها من مصادرة العينات برمتها، لو لم يوافق على اتفاق التعاون مع الأمريكيين. كان رفضه ليودي به وراء الشمس منذ مدة طويلة. ومن جانبه كان قد تعمَّق في المشروع بدرجةٍ يصعب معها المجازفة بعدم معرفة المزيد عن «إن بي ٢٧٠١». كانت وجهة نظر سنايدر هي أن جزيئات النانو وصلت إلى دماغ هيلبيرج عن طريق قنواته الشمية، وأحدثت التأثير الضار الذي أحدثه نانوسنيف في الفئران بمعامل ماربورج، وكان سنايدر يستند في فرضياته إلى الأعراض العصبية مثل الرعشة واضطراب الحركة التي لوحظت على هيلبيرج وعلى حيوانات التجارب على حد سواء. فرضية تتسم بمزيد من الجرأة برأي فاندا، في حين ثبت أن جميع تحاليل عينات التربة المستجلبة من نيو مكسيكو في غاية الصعوبة. لقد كانوا يتلمسون طريقهم في الظلام. ربما كان السبب يرجع لبعد المسافة الزمنية. ثم أَلَا تُصاغ الفرضيات من أجل دحضها؟ وهذا تحديدًا ما ستقوم هي به.

كلَّفها يوهانيس أن تنتبه لعلامات النخر والضمور. رائع. أنا أصلًا لا أعرف الشكل في الحالة الطبيعية الأصلية، وكان الأفضل أن تطلب من زميلها أن يرافقها، لكنه أفهمها أن الأراضي الغريبة مناطق محرَّمة عليه، لكنه سيؤازرها عبر الهاتف، فأخذت معها السماعات في حقيبة الظهر.

لا يزال أندرياس ينظر من نافذة المقصورة: «ماذا تعرفين عن هذه الجزيئات؟» يبدو أنه وجد لغةً للحديث من جديد.

«هي بلورات دقيقة تبدو تحت المجهر الإلكتروني ذات زغب رقيق مهوش يحيط بها من كل الاتجاهات. ثمة فيروسات تكاد تتخذ نفس الشكل تمامًا.»

«وكيف تعرفون أنها ليست فيروسات؟»

«سؤال وجيه. لأن معظم الفيريونات مكعبة.»

«فيريونات؟»

«هذا هو جسم الفيروس، إنه الهيكل الذي تجده عندما تقوم بإعادة بناء ثلاثي الأبعاد بمساعدة تحليل الأشعة السينية. جزيئاتنا تتكون من عشرين مثلثًا متساوية الوجوه؛ لذلك اسمه عشروني الوجوه المنتظم.»

«جسم أفلاطوني.»

«ماذا؟»

«سيَّان. كيف تكونين متأكدةً تمامًا أنه ليس فيروسًا؟»

«قشرتها، لا عليَّ أن أقول قفيصتها. هذه القشرة المكعبة هي في الحقيقة تقليد مثالي لفيروس شلل الأطفال بقطر يصل إلى عشرين نانومترًا إلا قليلًا، وهو فارغ من الداخل.»

قطَّب أندرياس جبينه.

أوضحت فاندا: «إنها لا تحمل الجينوم. من الممكن القول إنها فيروس شلل الأطفال بلا دماغ.» ثم هزت كتفيها وأكملت «أو بلا روح؟»

إنهم يعرفون منذ الأمس، فقد أرسل سنايدر نتائج تحاليل الجزيئات الحيوية. لنقل إن «إن بي ٢٧٠١» ما هو إلا سرقة علمية. لقد نجح العلماء في معامل مصانع الأسلحة في الولايات المتحدة عمليًّا في تقليد بنية فيروس شلل الأطفال في أنبوب الاختبار، وقاموا بذلك بنفس البديهية التي يقوم بها الصينيون بتقليد السيارات الغربية، ولكن على خلاف الصينيين كان يمكنهم الحصول على براءات اختراع على منتجهم المقلَّد. وقامت شركة بي آي تي بإدخال بضعة رتوش عليه وزوَّدته ﺑ «جين»، لكنها لم تشأ أن تخبر أندرياس بذلك؛ إذ كان عليها أن تستوضح الأمر مع نفسها أولًا حول معنى هذه المعلومات الجديدة بالنسبة لها.

حين وصلا محطة آشافينبورج دخل مقصورتهما زوجان شابان، فيما حاولت سيدة بدينة وراءهما أن تشق طريقها بأمتعتها الثقيلة. عرض أندرياس عليها المساعدة، لكنها أصرت أن تترك الحقيبة الكبيرة في الممر، وحين تحرك القطار ربطت منديلًا حول رأسها. تناثرت رائحة ماء كولونيا في الهواء وغثت نفس فاندا التي كانت تتنفس بصعوبة. لم تكن الرائحة أفضل في الحمام، كانت فقط مختلفة. لم يكن ثمة مفر؛ فقد كان القطار محجوزًا بالكامل بعد ظهيرة يوم الجمعة.

•••

استقبلهما رايموند هالر في المحطة واصطحبهما إلى شقته التي كانت عبارة عن جحر متواضع في منطقة مظلمة. لم تكن فاندا تعرف ميونيخ جيدًا، ففقدت الاتجاه بمجرد أن صحبتهما. كان هالر يتحدث بلا توقف، وحينما سلَّم لأندرياس مفاتيح قسم علم الأمراض، لمعت حبات عرق على أنفه. كان شِق دماغ هيلبيرج موجودًا في دلو أبيض يحمل رقم ١٧٣ /  ٠٥، كان عليهما أن يحفظا الرقم، ثم أعطاهما خريطة للمبنى، ورداءين مخصصين للاستعمال مرةً واحدة، وصندوقين من قفازات لاتيكيس، وكيس قمامة رماديًّا. وعلى أحد الصندوقين كُتِب حرف «إم» بالخط العريض، وعلى الآخر كتب رقم «٧»، ثم توجَّه إلى أندرياس وسأله: «هل كل شيء على ما يرام هكذا؟»

أومأ أندرياس إليه بالإيجاب. كان عليهما أن يرتديا الرداءين قبل أن يدخلا إلى مبنى علم الأمراض، ويغيراهما عند اللزوم، لكن من الضروري ارتداء القفازات دائمًا، ثم يلقيا بالمخلفات في كيس القمامة، والأفضل أن يتخلصا منها عندما يعودان إلى ماربورج، لقد فكَّر في كل شيء، ثم وضع يده على كتف أندرياس قبل أن يذهبا. كان بينهما ثقة جعلت فاندا تشعر أنها خارج نطاقها. كان أندرياس غريبًا عليها حين عاد إلى السياق البافاري.

قُرْب العاشرة استقلا مترو الأنفاق إلى محطة جروسهادرن.

«لماذا يساعدنا؟» أرادت فاندا أن تعرف.

ابتسم أندرياس وقال متوترًا: «كنا صديقين حميمين.» ها هو يبتسم من جديد رغم التوتر.

حين سارا أسفل شارع ماركيونيني غامت أعينهما بالدموع بسبب الرياح الثلجية. كان الطريق إلى مبنى علم الأمراض يمر في خط مستقيم عبر منطقة ضخمة مخصَّصة لوقوف السيارات، وقد بدت المساحة بالأماكن الفارغة بين السيارات الفرادى كمنطقة أقفرت بعد أن تم إخلاؤها، وعلى جانبي الطريق تمدَّد بساط ثلجي هو كل ما تبقَّى من الثلج الذي هبط ليعلن بداية الشتاء، فأفزعه ارتفاع درجات الحرارة المفاجئ في ماربورج. يسارًا لمعت نوافذ المبنى الرئيسي الذي بدا بكتلته الحجرية الضخمة وكأنه المركبة الفضائية أوديسا ٢٠٠١ سقطت وسط الأرض المنبسطة. كان مبنى علم الأمراض يقع على الجانب الأيمن. ومض ضوء الطوارئ في المدخل عبر الواجهة الزجاجية للمبنى. قال رايموند إن المبنى يصير وحيدًا مساء أيام الجمعة، وبهذا تقلُّ فُرَص أن يراهما أحد. كانت فاندا ترتجف؛ فقد تذكرت رغمًا عنها حادث مداهمتها في مركز الأبحاث. كان الرعب قد استقر في عمقٍ لم تشأ الاعتراف به، وكانت سعيدة أنها ليست بمفردها. فتح أندرياس باب المدخل كأمر مفروغ منه بعد أن ناولها قفازًا ومصباح جيب، ثم سار نحو هدفه عبر الممرات المظلمة، فتبعته. توقفا أمام باب مزدوج، وسادت الظلمة وراء نوافذ الباب المستديرة، ثم تقدَّم أندرياس. كان أطلس التشريح القابع في حقيبة ظهر فاندا ثقيل الوزن، كما أن القاعدة الضخمة لمصباح الطاولة كانت تضغط على عمودها الفقري. أم هل كان ذلك مقبض سكين التشريح؟ كلا، لقد لفَّتْ أدوات التحضير جيدًا بالسيليلوز، كما وضعت العلب البلاستيكية المخصَّصة لعينات الأنسجة في كيس مبطَّن. ذاك الشيء الذي على ظهرها صرف انتباهها قليلًا. وفجأة تعثرت وانحنت ثم سقطت على ظهرها، فانعكس ضوء مصباح الجيب على السقف بسرعة. لقد كان وزن حقيبة الظهر من الثقل بأن جعلها تترنح إلى الوراء. يا إلهي المشرط. ظلت تترنح وهي تفكر: لا أريد أن أموت، ليس هنا. لكنها سقطت، لقد سمعت الصوت، ليس ثمة توقُّف، ولا شيء يمكن عمله. وفجأة أمسكت بها يد قوية من ورائها حملتها فوق ذراع. في حين وُضِعت اليد الأخرى على فمها، وبين جسديهما علقت حقيبة الظهر مثل أكمة تملؤها النفايات.

همس أندرياس في أذنها: «ششش، ستوقظين الجميع هنا.»

انحنت فاندا قليلًا إلى الأمام، وهي تتصبب عرقًا.

«ماذا كان ذلك؟»

أسقَطَ ضوء المصباح على الأرضية، في مكان ما كانت تغطية الأرضية بارزة قليلًا. واصل أندرياس سحبها إلى الغرفة. أصدر الباب طقطقة منخفضة الصوت بمجرد أن أغلقه وراءهما، فتنفست فاندا بعمق.

قالت فاندا وقد تملك منها الخوف: «هيا، لنُكْمِلْ.» أسقط أندرياس ضوء المصباح على وجهها، فانعكس على عينيه بعض الضوء الشاحب.

«هل أنت متأكدة؟» سألها بقلق بادٍ، ازدردت ريقها ثم أومأت إليه برأسها. أعطاها إشارةً بأن تبقى في مكانها، ثم اختفى عبر باب على الجانب المقابل.

كانت الغرفة تعبق برائحة الفورمالين، فتركت فاندا ضوء مصباح الجيب يدور في الغرفة التي بدت جرداء. فومضت طاولات مصبوبة من الفولاذ الأبيض المقاوم للصدأ. لا جثث، ولا توابيت. اكتشفت طاولة عمل مرفوعة في أحد أجزاء الغرفة، كما وجدت على أحد الحوائط الجانبية مقبسًا لسلك التوصيل مثل الذي معها في حقيبة الظهر، فتركتها تنزلق من فوق كتفيها على إحدى طاولات القسم وفتحتها. كانت أدوات التحضير بما فيها السكاكين قد انزلقت من لفتها وتوزعت في الكيس، لكنها وجدت كل شيء على ضوء مصباح الطاولة. وضعتِ السكين ذا الحد الطويل المزدوج على يمين حافة اللوحة البلاستيكية البيضاء التي كانت ستشرِّح عليها، إلى جوارها المشرط، ثم الملقاط الجراحي. دست نفسها في واحدٍ من الأردية التي تُستعمَل مرة واحدة، وأخرجت صندوق القفازات ووعاء العينات، ثم وضعت كيس القمامة إلى جوارها، وضعت كل شيء في متناول يدها، ثم السماعات على رأسها. نجح الاتصال بالهاتف المحمول، وكان رقم يوهانيس يومض بالفعل على خانة استدعاء الرقم المطلوب. انتظرت فاندا، وأمسكت يديها في ضوء المصباح. كانتا ترتعشان ارتعاشًا خفيفًا، وترتفعان وتهبطان مع كل شهيق وزفير، وبالتدريج بدأت فاندا تهدأ.

عاد أندرياس يحمل وعاءً أبيض، كُتِب رقمه على الغطاء بطرف قلم أسود. فناول فاندا الوعاء صامتًا، ثم اتَّخذَ موقعه أمام فتحة المدخل حسبما اتفقا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤