الفصل الثالث والثلاثون

خزف مايْسِن

وقفت فاندا أمام مطعم ألتر ريتر بعد الثامنة بقليل. كانت قد جلست عدة مرات في فصل الصيف في الحديقة المجاورة له مع زابينة تراقبان الناس في المطعم الراقي. وكانت قادمة من المعمل، لا غيَّرت ملابسها ولا عدَّلت زينتها، وإنما ارتدت السترة الرمادية التي تعلِّقها دومًا في المعهد. مؤخرًا صار من الممكن غلق أزرارها دون أن تبدو مشدودةً عند البطن. وحين وقفت على الطريق الحجري بالأسفل تقرأ شاردة الذهن قائمة الطعام في المطعم الراقي، خطرت ببالها ثانيةً نتيجةُ البحث التي جاءتها من قسم علم الفيروسات. فيروس الفئران غير مؤذٍ حسبما كتب الزميل، شعرت بالارتياح إزاء تلك النتيجة، إلا أن هذا معناه أن تواصل البحث لتجد السبب وراء موت الفئران. ستبدأ في ذلك من الغد. نوت أن تقرأ التقرير في اليوم التالي مرة أخرى بعناية، فلربما تأتيها فكرة تدلُّها كيف تواصل البحث.

كان الرجال قد جلسوا فعلًا إلى الطاولة. قفز شتورم واقفًا حين رآها وشدَّ على يديها مرحِّبًا. بدا على وجهه المحمر لمحات لوثة من فرط الحماسة، ثم وضع يدًا على كتفها مرحًا، في حين أشار بالأخرى إلى الكرسي الشاغر إلى جوار تيمي — المحاضر الزائر — حسبما سمى ضيفه غامزًا. إذن كانا قد تجاوزا مرحلة التكلف في الخطاب، وبلغا مرحلة الصداقة، على الأقل بالطريقة التي يصفها الأمريكيون، وربما هم وحدهم الذين يفهمونها. كانت هذه إذن تقدمة مجانية للأستاذ تيم بيكر الذي أهداها شدقيه المبتسمين عن آخرهما. ولا عجب في ذلك، فشتورم قدَّم له مساعِدَته في العمل على أنها سيدة المائدة. إن طقوسه لتشي مرة أخرى باختلال في عقله.

رفعت فاندا شفتها العليا، أوليس الابتسام في الأساس هو إظهار الأسنان؟ حاولي أن تفكري في شيء لطيف حتى تتمكني من التبسم! لم يخطر ببالها شيء. إلى جوار شتورم جلس ميشائيل فالاخ. كان به سمنة الأطفال، ذو شعر مدهون ووجه شاحب وكاريزما تلميذ. هز رأسه بحماس، إلا أن عينيه تعلقتا بزر سترتها السفلي الذي صار يُغلَق دون أن يشد القماش. ما رأيك في غراميات مع هذا الرجل الذي لا يُقاوَم؟ أخيرًا استطاعت أن تبتسم. لم يقدِّم لها الرجالَ الأربعةَ الآخرين على المائدة. فهمت أن عليها فقط أن تتولى الاهتمام بذاك المهم، واتضح أنها أصابت الفهم.

«فيمَ تبحثين الآن؟» سألها تيم بيكر.

المدخل المعتاد للكلام. لم تكن في حالة تسمح بإجابات لائقة؛ إذ كانت مشغولة بالنظر في قائمة الطعام. كان طبق لحم كبش بالتوت البري هو أغلى الأطباق جميعها. يوهانيس كان ليصر عليه إلا أن فاندا لم ترغب في أكل لحوم، خصوصًا لحم حيوان كهذا. بالتأكيد قتلوه بعد أن كُسِرت ساقه وهو يهرب إلى حريته فوق خندق الماء. كانت تفضِّل رؤية الكباش في أفلام هاينز زيلمان، وكانت تعد نفسها من معجبي شفايجر وأريندت. لا، لن أتناول طبقًا من أفريقيا. قررت أن تطلب كانيلوني محشوًّا بمزيج من الجبنة الطازجة والجبن الريكوتا، وأجَّلت طلب الحلوى لوقت لاحق.

بالتأكيد لم يكن السبب هو النبيذ؛ لأنها لم تشرب سوى كأس واحدة، وكذلك ليس تأثير كرات عيد الميلاد المذهَّبة المعلَّقة على شجر الصنوبر وما تشيعه في الجو من بهجة. لم تتمكن فيما بعد من معرفة أيِّ عفريت ركبها حين بدأت تتحدث عن أكثر موضوع يشغل بالها الآن.

«حان الوقت لتحرير علم السموم. أَلَا ترون هذا؟» رفعت فاندا كأسها وأرسلت نظرة تقول الكثير للسيد الجالس قبالتها.

«نعم، وأرى أيضًا أن علينا أن نجتذب المزيد من السيدات للعمل في هذا التخصص.»

«أوافقك الرأي، لكني أعني شيئًا آخَر.»

نظر إليها الأمريكي بانتباه.

«أنا أفكر في مهامنا، في القضايا التي تشغلنا، علم التخلق مثال جيد على ذلك.» استطاعت بطرف عينها أن تلاحظ كيف تصلَّب شتورم، أكد لها رد فعله صدق حدسها هذه المرة. إن إمكانات «إن بي ٢٧٠١» أكبر بكثير جدًّا مما جرؤت على التفكير به. في الغالب إن هذا الجين الذي تم تسريبه إلى مخ الفئران قد شغل مفتاحًا أو عدة مفاتيح في نفس الوقت، لقد كان العلاج واسع المدى وينتشر مثل التهاب، ولا يبدو أنه كان محدَّدًا. نجحت المناورة باستخدام عنصر قيادي عالمي يستطيع أن يتكيف في كل الأماكن، فهو يشبه بطاقة الهوية التي تدخل في ماكينات الصراف الآلي الخاصة بالبنوك وتتناسب مع أجهزة قراءة أخرى، وهناك يغيِّر الحالةَ رقمٌ كوديٌّ في مكان ما بنظام البيانات فيمهد الطريق للدخول على الحساب البنكي. يتطابق الرقم الكودي مع المعلومات التي يحملها الجين المتسرب إلى المخ، والخلية هي النظام الذي يترجمه إلى إنزيم — على سبيل المثال — يستطيع أن يفتح الجينوم، أو الحساب البنكي، ثم يعيد غلقه. وإذا افترضنا أن الرصيد في هذا الحساب البنكي مثله مثل الحمض النووي دي إن إيه لن ينفد أبدًا — وهذا تصور رائع — إذن فلن يمكن عرقلته إلا من الخارج. علاوةً على ذلك فإن وحدة شيخوخة متكاملة من شأنها أن تمنع أيضًا أن تعيش الوديعة أطول من مالكها؛ لأن حساب المال كان مربوطًا بحساب الوقت الذي كان يمثِّل الوقود بالنسبة للنظام. وكل حجز للمال كان يستهلك جزءًا من ميزانية الوقت، ومع مرور السنوات توقفت الحجوزات. في البداية لم تتأثر سوى المبالغ القليلة، لكن سرعان ما توقفت أيضًا تحويلات المبالغ الكبيرة. كانت ممنوعة. كان النظام يشيخ. ليس فقط بسبب أنه مع الزمن ظهرت على العملات المعدنية شروخ، والعملات الورقية شقوق، فالمال لا يزال يوفي الغرض منه. لكن التدخل في الموارد ظل يمنع في اطراد، وهذا ما حدث للجميع، بعضهم عاجلًا، والبعض الآخر آجلًا. بعضهم نفدت طاقته سريعًا، صار مريضًا أو معسرًا، والبعض الآخر استمر في ممارسة أعماله حتى النهاية. لماذا هذه الاختلافات؟

أكملت فاندا: «في هذه اللحظة تُكتَب سيناريوهات قصص أمراض المستقبل. إن ما يحدث الآن في نوى خلايا الأجيال الحديثة من شأنه أن يؤثر على جودة الحياة بالنسبة لأولادهم ولأحفادهم، ألا يقع في نطاق مسئوليتنا أن نبحث في أسباب ذلك؟»

«أنتِ تتحدثين عن الفرضية التي تقول بأننا نمرض بسبب خطايا التغذية التي ارتكبها أجدادنا.» لقد كان تيم بيكر ينصت لها حقًّا.

«أنا أفكر أكثر في المستقبل، في العدد الكبير من المواد الضارة بالبيئة، في كميات الكربوهيدرات المفرطة التي يتناولها صنَّاع أجيال المستقبل. وبغض النظر عن هذا، هي ليست فرضية فحسب، بل توجد دراسة من السويد …»

«تقول بأن السمنة في الأجداد تزيد من نِسَب إصابة الأحفاد بداء السكري، وأمراض القلب والجهاز الدوري.» بدت أمارات الريبة على وجه الأمريكي. «هذا الزميل في الأغلب قرأ في علم الأنساب وتعثَّر في بعض النتائج التاريخية وبنى عليها، لكن ليس ثمة دليل تجريبي على ذلك.»

«هذا من دواعي البؤس.» تدخَّل أحد الرجال في الحديث، كانت جبهته مقوسة وكأنها هضبة جدباء، في حين تدلَّت على أذنيه وياقة بدلته خصلات صغيرة من شعره الأشقر الضارب للحمرة. «أخيرًا صببنا الخرسانة فوق الأساس الذي وضعه داروين ظانين أن لامارك العجوز آمن في تربته، في حين أنه يتقلب يمينًا ويسارًا في تابوته.» كان وجهه يبتسم بكل ما فيه من ثنيات لا تُعَدُّ، وأطل الشر من عينيه. «نعم، ألن ينتهي هذا أبدًا؟» بدا مستاءً وخبط بيده على الطاولة.

«ليس غريبًا.» كان هذا هو رد جاره، رجل أسمر ذو شعر قصير كثيف، بوجهه تجعيدتان حادتان تمتدان من أنفه حتى زاويتَيْ فمه مهدِّدتين بسحب الأنف إلى العمق معهما. كانت نظراته الحادة تطل من عينين ضيقتين. «لقد أساءوا معاملته على الدوام، جان بابتيست أعني، ذاك الرجل الذي عُنِي بالحقيقة دائمًا.» كان نطقه لكلمة بابتيست يتشبه بالفرنسيين إذ مد الياء عن آخرها. «المذكور عنه في كتبنا التعليمية ليس جيدًا، لقد استهزأنا به طويلًا، ويومًا ما سيثأر منا.» وضع يديه على يمين الصحن ويساره. كانت أظافره مقلَّمة ولامعة. «إنها تلك الأرواح المسفوكة التي تُبقِي عائلات بكاملها معلَّقة حين لا ننجح أخيرًا في تكريمها.»

«ربما لدى طبيبكم النفسي تفسير لهذا.» غمغم الرجل الثالث الذي لا تعرفه الذي كان يجلس قبالة الأمريكي ولم ينظر لفاندا.

«هكذا هي الحال.» أجابه المخاطب بإيماءة خفيفة. انزلقت الأظافر المقلَّمة أسفل الطاولة؛ إذ قدم الحساء مشيعًا جوًّا ألطف. تأمَّل تيم بيكر الخزف. كان يظنه مصنوعًا في مايسن، لكن الرجل الرابع الغريب هزَّ رأسه بالنفي. كان العميد، ويبدو أنه كان يفهم في أنواع الخزف والصيني الرقيقة.

«هل كنت تعرف أن فيليب روزنتال هو مَن حمل فالتر جروبيوس على بناء مصنعين للخزف؟»

رد شتورم بحماسة، في حين تحركت كسرة خبز تائهة في زاوية فمه: «هذا مثير للاهتمام. هل تعرف فورو؟ إنه فريق يبني طُرزًا معمارية. يغامر برصِّ الفناجين. يصنع منها أبراجًا.»

«ومنها أيضًا برج بيزا؟» سأل جاره الكوميدي ذو الشعر الذي يشبه فراء الثعالب. اتضح أنه أستاذ كرسي في تاريخ الطب، وسرعان ما دار الحديث حول شكاوى التربويين، ومشكلات الأجيال الجديدة من الباحثين، وخطط إسراع العملية التعليمية. اختار معظمهم مثل الصيادين القدامى تناول الحيوان البري الأفريقي كطبق رئيسي. هل كان هذا أفضل من سمك القرش أو ربما من التمساح؟ اقترحت فاندا طبقًا من القواقع، إلا أن السادة الرجال لم يكن لهم رغبة في تناول اللحم الرخو. ما هي القواعد التي تجري وفقها المحادثات؟ سألت نفسها. لقد علقت موضوعها وكانت تفكر منذ برهة كيف يمكن لها أن تستأنف بمهارة الحديث فيه.

«سواء تناولنا الكبش، أو القرش أو التمساح، فلن يُجْدِينا ذلك نفعًا.» قالت فاندا بوجه نادم وأكملت «فنحن لسنا سوى نتاج ما أكلته أمهاتنا.»

«حبة بطاطس؟» كان أستاذ تاريخ الطب الأشقر المحمر هو مَن ردَّ عليها.

«أَعِدْ النظر بدقة.» قال الرجل الجالس إلى جوار تيم بيكر الذي لم تكن فاندا تتطلع إليه رافعًا سبابته. «هذا الزميل هو المثال الحي على أنه لا يوجد ما يُسمَّى بنظرية لامارك في النشوء، وإن أنكرتم ذلك الآن فسيشعر بالإهانة.»

«لكنَّ نوعًا ما من علم الوراثة وفق نظرية لامارك لم يَعُدْ مستبعَدًا بعد أن أصيبت دوللي بالتهاب المفاصل.» بهذه الكلمات وزَّع العميد النبيذ المتبقي وأردف: «رغم تطابقهما الوراثي، لكن أمها كانت صحيحة معافاة.»

«إن النعجة المستنسخة ما هي إلا منتج صناعي»، عارضه جاره. «تم تصنيعها من خلية الضرع التي تحمل طبعًا حقيبة التخليق الجينية خاصتها، وفي الجيل التالي قامت نوى الخلايا بالتخلي عنها لبدء بداية جديدة.»

«هذه حال الفن.» قال أستاذ تاريخ الطب متفكرًا. «أنا أرى أن كل فنان يتوفى هو خسارة لا يمكن تعويضها. إني أطالب بقائمة حمراء. ففي الأسبوع الماضي كنت في هامبورج. عند الجسر. لا بد من ضم كيرشنر إلى القائمة، وكذلك رولفس.»

«… وماذا عن السلالة الجرثومية.» رفع تيم بيكر كتفيه عاليًا.

«نحن نعيش أوقاتًا عصيبة. أقول إن كل شيء ممكن.»

«هكذا هي الحال!» علَّق المؤرخ ضاغطًا منديل المائدة على فمه.

«أَلَا يُعَدُّ أنصار داروين اليوم في الحقيقة هم الأنصار السرِّيين للامارك؟ لكن مَن يريد الاعتراف بهذا. ماذا نمارس أصلًا حين نمسك بيدنا صندوق الإرث إن لم يكن ممارسات لامارك؟»

فجأةً تحركت كل الرءوس في آنٍ واحدٍ. من الإيماءات الموافقة، والتردد بين هنا وهناك، وبين هز الرأس بالنفي، كانت كل الحركات متوافرة مصحوبة بأصوات متداخلة وضحكات، مثل الأوركسترا الصغيرة التي أعطتها قائمة الحلويات فرصة سانحة لإعادة التناغم فيما بينها. طلبت فاندا موس الكستناء بالنوجة المقدَّم مع كمبوت البرتقال.

«كلام في الفن.» علَّق الطبيب النفسي تاركًا ملعقته تتأرجح بين أظافره المقلمة فوق الحلوى. «هل تابعتم المناقشات التي دارت حول لوحة «النظرة الأولى» لجيرهارد ريشتر؟» سأل متفرِّسًا في الحضور. «كان هذا منذ فترة. أنا أرى أن هذا العمل يحركنا نحن العلماء خصوصًا للتفكير في البصر وفي اللغة التي نوصل بهما الحقائق المرئية.»

«هل تقصد الصورة الملتقَطة بالمجهر الذري لإحدى ذرات السيليكون؟ ألَمْ تُنشَر قبل عدة سنوات في مجلة ساينس؟» بدا أن شتورم يعرف ما يتحدث عنه. «إن لم تَخُنِّي الذاكرة كان المؤلف يُدعَى جيسيبل. أما جريدة «فرانكفورتر ألجيماينه تسايتونج» فكتبت تحت عنوان: النظرة الأولى في داخل الذرة.»

«نعم، وقد قام ريشتر بتحويل الصورة في طابعة أوفسيت.» أكمل الطبيب النفسي. «وعليها يرى علماء الفيزياء سحابة الإلكترونات الموجودة في ذرة السيليكون. أما الفنان فيتحدث عن نبات عيش الغراب المستلقي ذي القبعة والساق. إن هي إلا نتيجة قابلة للقياس تلك التي نحاول تفسيرها حين نستخدم الصور المألوفة لدينا. أحدهم يتحدث عن عيش الغراب بينما يتحدث الآخَر عن سحابة، ولعل هذه التشابهات تساعدنا في فهم هذه الظواهر الجديدة، لكننا في نهاية المطاف لن نتمكن من فهمها أيضًا.»

«نستطيع أن نحيط بها رياضيًّا.» تحدَّث الآن الرجل الجالس قبالته. هذه المرة أدار رأسه قليلًا في اتجاه فاندا بحيث تتمكن من التعرف على وجهه. تذكرت الآن. لقد رأته من قبلُ في إحدى الحلقات النقاشية بالمستشفى، لقد كان رئيس قسم الأعصاب.

«لكن علاقتنا بالعالم تتشكل من خلال حواسنا ومشاعرنا.» عارضه الطبيب النفسي، «إننا نريد أن نرى، ونسمع، ونلمس، ونشعر. إن صور هذه الذرات ليست مكبَّرة. إنها مستنسخات. ليس في وسعنا سوى تفسيرها. وعلينا، سواء رضينا أم أبينا، أن نُعمِل عقلنا الميكانيكي مع عكازاتنا المكتسبة من خبراتنا المجهرية، وبرأيي هذه هي الطريقة الوحيدة التي يجب أن نتعامل بها معها، وإلا فنحن نخادع أنفسنا، فهذه الصور آتية منَّا نحن، ونحن نفسر. فالظواهر الآتية من ذاك العالم المتناهي الصغر، عالم النانو، لا يمكن حقًّا إدراكها كما هي في الواقع.»

«لكن بشكل أو بآخر لا بد من الإمساك بهذه الذرات من أجل قياسها، أم ماذا تَرَون؟» تدخَّلَ أستاذ تاريخ الطب.

أجابه طبيب الأعصاب: «إن هذا الأمر باهظ التكلفة، لكنه إجراء في منتهى الأناقة. إن المجهر الذري هو برأيي أهم اختراع في عقد التسعينيات، وكان أحد مطوِّريه السويسريين قد قال ذات مرة: الأمر مثل أن تقلب جبل الماترهورن رأسًا على عقب من أجل أن تتفحص حبات الرمل. الماترهورن في هذه الحالة ما هو إلا عتلة ذراع معلَّقة ومتحركة مكونة من ذرات السيليكون، حيث بين ذراته وبين ذرات الأرض توجد سلسلة من التأثيرات المتبادلة، ووفقًا للتجاذب أو التنافر بين الذرات ترتفع أو تنخفض عتلة الفحص. والعملية برمتها مرتبطة بالتتبع بواسطة أشعة الليزر وتكنولوجيا الكمبيوتر بشكل يسمح بحساب السطح الذي يظهر كصورة.»

فعلَّق العميد: «إذن إن شئنا الدقة نقول إنها طاقات، تلك التي نراها في الصور.» فضحك الطبيب النفسي.

لا بد أن الأمر كان ذا صلة بالحلوى التي تناولوها حين آذنت الأمسية بالانتهاء؛ إذ علا الأنفسَ الشبعى تثاقل. كان الطبيب النفسي يتحدث الآن عن الفن الحديث المشكل من العظام والرءوس المقطوعة.

«إن الموت ليستفز لحظات داخلية حميمة في الذات. هل سنقوم في النهاية بالقضاء على أنفسنا؟» كان وَقْع السؤال يشبه الأسئلة البلاغية، وقد سقطت زاويتا فمه إلى أسفل، بينما هو يجول بنظره بين الحضور من واحد لآخر. لم يحصل إلا على همهمة، وهزات رءوس، وسعال مكتوم. لماذا يصيب الاكتئاب كبار السن حين تكون المعدة ممتلئة والأمسية توشك أن تنتهي؟ سألت فاندا نفسها. هل كانت هذه أعراض الامتلاء؟ أم لعلها برمجة تخليقية جينية؟

«هل من الممكن للعلاج الجيني المستخدَم لمقاومة خرف الشيخوخة أيضًا أن يرفع عمر الأفكار المرضية؟» هكذا فلت السؤال من فاندا ليصير محور الحديث بقية الأمسية. قال أحدهم: «هذا مقياس جيد»، بل وتطوَّع أن يجرِّبَ على نفسه.

مد تيم بيكر يده إليها مودِّعًا وقال: «أحييك أيضًا بالنيابة عن ريك.» ماذا يقصد بذلك؟ وماذا حكى له ريك؟ ردت التحية وحاولت أن تبدو فرحة، لكنها كانت تشعر بالضآلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤