الفصل الحادي والأربعون

حمى الصيد

أطل العام الجديد بجانبه المشرق. انخفضت درجات الحرارة انخفاضًا ملحوظًا إلى ما تحت الصفر، تمدَّد الصقيع على أسقف المنازل وأسطح السيارات. بلغت البرودة حدًّا لا يسمح بسقوط الثلج.

عاد معظم الزملاء من إجازة عيد الميلاد مع بداية الأسبوع الثاني من العام الجديد، ما عدا الرئيس الذي مدَّ إجازته التي يقضيها في التزلج عدة أيام قبل نهايتها بمدة قصيرة، وبالتالي ألغيت مناقشات يوم الاثنين أيضًا قبل موعدها بمدة قصيرة. لم يعترض أحد.

شعرت فاندا بخيبة أمل لأن نتائج الفحوص الفيروسية لم تصلها بعدُ، وحين اتصلت هاتفيًّا أُبلغَت أن الزميل المختص سافر لإلقاء محاضرات في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يُتوقع عودته قبل بداية الأسبوع المقبل. شيء ما أزعجها في ذلك الخبر؛ إذ كانت تظن أن الدكتور كانتيرات أكثر التزامًا. هل أخطأت خطأ كبيرًا في فهمه؟

وفي مساء التاسع من يناير ذهبت إلى مقهى جورنال لتلتقي زابينة. اقترحت فاندا هذا المكان لقُرْبه الكبير من شقتها، وكانت زابينة تريد أن تستعيد جوسي بعد ذلك؛ فمنذ عدة أيام تتصرف الفأرة على نحوٍ غير طبيعي. تتحرك كثيرًا في قفصها بعصبية، ولم تَعُدْ تنام في حضن فاندا إلا فيما ندر. ربما كان حالها مثل حال فاندا التي تصرخ فجأةً ثم تتملكها رغبة هستيرية في العمل، لكنها في المساء لن تكون وحيدة وهي تفتح باب الشقة. هدَّأت الفكرة من روعها. فبعد التعدي عليها في شقتها ليلة رأس السنة صارت لا تحب العودة إلى المنزل. ولدهشتها، لم يَضِعْ شيءٌ من منزلها، لكن هذا الأمر تحديدًا كان يشعرها بالخوف. ورغم غرابة هذا الأمر، فإنها كانت ستشعر بارتياح أكبر لو أن المقتحم حمل معه جهاز التليفزيون ذي الشاشة إل سي دي، وكذلك الكمبيوتر المحمول. لم يترك لها ثغرة تنفذ منها لتفسر الدافع وراء جريمته؛ ولهذا لم يبقَ لها سوى انقباض قلبها جرَّاء الحادث البشع. وفي الأسبوع الأول مباشرةً قامت بتغيير الكالون ووضعتْ سلسلةً على الباب، لكن هذا لم يخفِّف من الاضطراب الذي كان يعتريها كلما دخلت إلى شقتها. أقنعت مدير المنزل مؤخرًا أن يصحبها إلى أعلى حيث ادَّعت ببساطة أن الشرخ القديم في جدار الحمام زاد طولًا، وبينما كان يفتح المسطرة المطوية لقياس الشرخ، نظرت هي سريعًا خلف الأبواب وتحت السرير. غام وجه جارها الذي رأته وهي مستلقية على الأرض لا تستطيع أن تحرك ساكنًا. هل كانت هلوسة؟ أم هل كان بالفعل موجودًا في شقتها؟ هزَّ مدير المنزل كتفيه وعلت وجهه أمارات الاشمئزاز حين أخذت تستفسر عن الجار.

دخلت فاندا المقهى قبل الموعد بربع ساعة، ولم يكن بالمكان أُنَاس كثيرون. سحبت صحيفة من حامل الجرائد وجلست على طاولة قريبة منه. ومن هناك حظيت بإطلالة شاملة على المكان. كانت النادلة مستجدة، لكن مثلها مثل كل زميلاتها كانت شقراء ذات شعر طويل. ذكَّرتها بالشرطية ليديا فازا. تُرَى هل عملت ملكة جمال الخبز المقرمش هنا كنادلة يومًا ما؟ كانت تستلطف الشرطية. مرت فاندا بعينيها على عناوين الصحيفة وكان أحدها: منع المرور لا يكفي. كان الخبر يدور حول زيادة نسبة الجسيمات الملوثة في مراكز التجمعات السكانية، لدرجةٍ لم يَعُدْ معها حظر مرور السيارات كافيًا. واصلت تصفح الجريدة وهي شاردة الذهن.

ظلت زابينة ويوهانيس يلحان عليها بلا توقف للإبلاغ عن حادث اقتحام شقتها. لكن ماذا عساها أن تقول للشرطة؟ فلا هي تلقت ضربات ولا ببدنها آثار جروح، كما أنه لم يغتصبها ولم ينقص شيء من شقتها؛ لهذا لم تتوقع فاندا الكثير من وراء البلاغ، اللهم إلا أكوامًا من الأوراق السخيفة وأناسًا غرباء يعبثون بأشيائها. وفي كل الأحوال، لقد نظفت المكان مرةً ثانيةً، ثم خطر ببالها أن تبوح بسرها للشرطة. لكن ثقل عليها أن تضطر إلى أن تدافع عن نفسها من أجل الوصول إلى أي شيء. شعرت أنها في طابور انتظار طويل. كانت تحتاج نتيجة تحليل الأنسجة لتقرر ماذا ستكون الخطوة التالية، تعرف مدى جنون هذه الفكرة، رغم ذلك صمَّمت عليها؛ إذ اعتبرتها مفتاح المرور من الباب السري التالي الذي تختبئ وراءه مهمتها الجديدة. يتعيَّن عليها أن تأخذ خطوة تلوَ الأخرى، ولم تكن حرة في كسر القواعد التي تضعها لذاتها.

حين رفعت فاندا ناظريها وجدت زابينة أمامها تخلع لتوها القلنسوة النرويجية عن رأسها، ثم هوشت بأناملها شعرها الذي سوته القلنسوة. بدت مسترخية. تعانقتا سريعًا، وكان لزابينة رائحة الرياح المنعشة. بدأت تحكي لها عن إجازتها على شاطئ بحر الشمال شتاء، وعن أصدقائها القدامى الذين قابلتهم، وعن الطعام الطيب في بيت والديها.

«لماذا لم تمكثي هناك مباشرة؟» لم يفت زابينة نبرة المرارة في صوت فاندا. مطت وجهها وأجابت بحدة: «هل نسيت أن عليَّ التزامًا بالحضور. سيتعيَّن عليَّ في الغد أن أسجِّل نفسي مرة أخرى في مكتب العمل. إجراء جديد.» ثم خفضت صوتها وقالت: «ثم هناك أمر لا يزال يتعين عليَّ الانتهاء منه.» أنصتت فاندا بانتباه إذ كان لديها حس قوي للحظات الثمينة، وكانت تشعر أن هذه واحدة منها، وأنها ستسمع اعترافًا لم تحسب حسابه من قبلُ. بدت لها زابينة متغيرة، أكثر حسمًا من تلك الأسابيع البائسة في العام الماضي، وكان من الواضح أن تغيير الجو أفادها كثيرًا، وفجأةً وصلت بيترا محمرَّة الوجه. فكت الشال الطويل عن رقبتها، طلبت كأسَيْ نبيذ بصوت عالٍ، وتركت نفسها تسقط على كرسي.

كانت زابينة هي أول من بدأ الحديث: «كنت أعرف طوال الوقت. المثبتون في وظائفهم لا يستطيعون الفكاك بسهولة.» انسلت بيترا من معطفها وشدت كميها.

«أنتن فتيات في غاية الذكاء، لكن هذا لا يجديكن نفعًا.» تفرست نظراتها المستهينة في كلتا العالمتين «أسأل نفسي إن كان يصح أن أحكي لكما ما شهدناه اليوم. يوهانيس ما زال يبحث عن مكان لصف سيارته، فَلْننتظره.»

•••

حين دلف يوهانيس إلى المكان رفع كثير من الزبائن رءوسهم وتطلعوا إليه؛ بدا في معطفه الكشمير ذي اللون الرمادي الداكن وشال رقبته الأزرق مثل زهرة ندى العنبر، ووجهه الذي لوحته شمس الجبال مضفية على مظهره سمت الموسرين، فلكأنه أبٌ ثريٌّ اضطر لترك سيارته الجاجوار في مكان ممنوع الانتظار حتى يستعيد ابنته المراهِقة. على الأقل لم يرتدِ ربطة عنق، هكذا فكرت فاندا حين فك أزرار المعطف وألقاه بلا اكتراث على الكرسي إلى جواره. حيَّاهم يوهانيس ببرود وكأنهم لا ينتمون حقيقة إلى عالمه.

برق شريط مبيض بين الذقن وياقة القميص العالية، فبدا وجهه المسمر وكأنه يرتدي قناعًا، ورغم ضحكه بدا متوترًا. أحضرت النادلة الشقراء كأسَيْ نبيذ، فوضعت بيترا واحدة أمام يوهانيس.

صاحت زابينة فجأةً: «فوانيس. هذا هو اسم الفيلم.» تلفتت حولها باحثة عن مساعَدة من فاندا. «إنه المشهد بالفيلم الذي تعترف فيه لوالدها أنها حامل.» مثل طفلة صغيرة تبحث عن مؤيد لها، لمحت بريقًا في وجوه بيترا ويوهانيس. «هل حزرت صوابًا؟» هزت بيترا رأسها بالنفي.

«كان أكثر تشويقًا.» وأحاطت الكأس الساخنة بيدها، رشفت وقالت: «لقد رأيته اليوم، في كروبكيه بهانوفر.» وضعت الكأس على الطاولة «وبعد ورشة العمل أُتِيحتْ لنا ساعة من الوقت قبل أن يغادر قطارنا. جلسنا في مقهى كروبكيه، يوهانيس وأنا ليحكي لي للمرة الثالثة حكاياته عن الأمريكيين المجانين على الزحافات، وكنت أنظر من النافذة المطلة على الميدان الكبير، وفجأةً رأيته.»

«مَن رأيتِ؟» سألت فاندا التي لم تفهم شيئًا، إلا أن زابينة وضعت يدها على ذراعها في رجاء أن تلزم الصمت.

زفرت بيترا وقالت: «بدا شكله تمامًا مثل تلك المرة في الديسكو. أنا أتحدث عن مايك الوسيم، مَن كانت معه الأزرار الحمراء. خرجتُ وتوجَّهتُ إلى الكشك الذي كان يشتري منه الجريدة.» تهدج صوتها: «كنت غبية، ما كان يجب أن أركض هكذا، ربما أدرك وجودي لهذا السبب. على أية حال، لقد نظر تجاهي، استدار ثم فر هاربًا، ركض هكذا ببساطة. يا له من أحمق!» زمجرت غاضبة. «وأنا طبعًا ركضت خلفه. لكن كانت هناك تلك الحافلة اللعينة. فريق احتفالية ما وقف بحافلته في منتصف الميدان. وهكذا اختفى مايك وراء الحافلة وهرب. ثم رأيت يوهانيس قادمًا نحوي. وحينئذٍ رأيت الرجل يثب هابطًا سلالم ممر التسوق وراكضًا في اتجاه المحطة الرئيسية. أعطيت يوهانيس إشارة وانطلقنا في إثره.»

«لقد لاحظت من الطريقة التي انتفضت بها خارجة نحو الكشك أن للأمر علاقة بالشاب الوسيم هناك.» غمز يوهانيس للأخريات بعينه وأكمل: «لكن ليس كل الناس يفضلون الهجوم المباشر. على أية حال كان معي ما يكفي من الفكة كي أحاسب على طلبنا، وألم ملابسنا وألحق بكما.»

قاطعته بيترا: «كم كانت رائعة الطريقة التي تصرفت بها.»

واصل يوهانيس: «السخيف في الأمر … أنه هرب إلى ممر التسوق بالطابق السفلي ذي السقف المفتوح، وعندما يصعد المرء مجموعات متتالية من السلالم يصل إلى وسط المدينة، فكل مرة يصل فيها إلى عتبة بين الدرجات لا أعرف إن كان سيهرب إلى الطابق التالي، أم أنه سيعاود الظهور على الناحية الأخرى من السلم.»

التقطت بيترا طرف الحديث: «ولهذا قسَّمنا أنفسنا. أنا أركض يسار السلم، ثم في خط مستقيم، ويوهانيس يأخذ الجانب الأيمن للممر، وأمامنا مايك يركض حول الأعمدة الخرسانية في خط متعرج مثل الأرنب، يظهر ثم يختفي، ثم يظهر ثانية ويختفي.»

«أردنا أن نمسك به في كماشة، لكن لم يتضح لنا إلا بعد فوات الأوان أننا اخترنا طريقة خاطئة، ففي يوم شتوي صحو مثل هذا يصير الواحد ضائعًا تمامًا إن سار في خط مستقيم، فعلى ناحيتي وُضِعت حوامل تعرض ملابس داخلية نسائية، فوقفت إلى جوارها السيدات. العبور من الأعمدة الخرسانية أسهل كثيرًا من العبور من بين السيدات!»

واصلت بيترا حديثها: «بالنسبة لمايك لم تعدُ المسألة كونها لعبة. على الأقل كان هذا ما يبدو عليه؛ إذ كان يتحرك بخفة مثل ابن عرس. أنا متأكدة أنه كان يعرف من البداية إلى أين يتجه. سيان الآن.» أحكمت قبضتي يديها وضغطتهما ببعض وهي تقول: «واصلت ملاحقته ومطاردته عبر الممر. كنت أريده. ذاك الشرير. كان لا بد أن أصل. وعلى السلم الكهربائي الطويل بلا نهاية المؤدي إلى مترو الأنفاق تركني معلَّقة بلا رحمة، مثل مشهد في فيلم، قفز إلى عربة المترو وأُغلِقت الأبواب وأنا أقف على الرصيف وأمسك خصري وأنظر في بلاهة إلى أضواء عربة المترو وهو يمضي معها.»

قالت زابينة في صوت ينم عن خيبة الأمل: «يعني لا نهاية سعيدة؟»

قال يوهانيس: «من الأفضل أن نقول إن الشرير حالفه الحظ في هذه الحلقة، وإن للمسلسل بقية.» في أثناء ذلك أخرج كاميرا رقمية من جيب بنطاله، ونقر عليها عدة نقرات ثم ناولها إلى فاندا.

كانت الصورة مهتزة قليلًا، لكنها استطاعت أن ترى وجه الشاب بوضوح عندما كبرت اللقطة. كان نحيفًا ذا ملامح واضحة تكاد تكون طفولية، له شعر قصير أشقر داكن. قدَّرت أنه في بداية العشرين من العمر. كان ينظر بفزع نحو الكاميرا.

أوضح يوهانيس: «كانت تلك اللحظة التي رأى بيترا تركض نحوه فيها. لكن نظرًا لأنني التقطتها من المقهى فلا يمكن اعتبارها صورة سيئة.»

نظرت زابينة للصورة من فوق كتف فاندا، وقالت بإعجاب: «نظيفة. صورة رائعة لمطاردة، ربما تمكَّن فولفجانج أن يستخرج منها المزيد بواسطة برنامج الفوتوشوب.»

ابتسم يوهانيس ابتسامة منتصرة وهو يقول: «وأنا عندي فكرة لتتمة المسلسل. لن يهرب مني هذه المرة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤