الفصل الخامس والأربعون

حيلة مُعبَّأة

ارتفعت درجات الحرارة ثانية في الأسابيع التالية فوق الصفر. دفعت الرياح الغربية السحب المحمَّلة بالأمطار أمامها، وأيضًا تساقطت الأمطار في الأسبوع التالي عدة مرات في اليوم. وفاض نهر اللان على الضفاف وأغرق ممشى الدراجات والجراجات، وعلى الرصيف الضيق تشابكت المظلات، فخرج المواطنون عن طبيعتهم السلمية ليتناحروا بعضهم مع بعضٍ، بينما تجمَّعت المياه على حواف الشوارع في بِرَك كبيرة نوعًا ما. صارت فاندا تخشى الأرصفة.

كان يناير يقترب من نهايته، ليس إلا، ورغم ذلك كان الهواء مشبَّعًا بالبلل كما في شهر أبريل، وبعد ظُهْر يوم السبت خرجت من مبنى محطة القطار متوجِّهة إلى وسط المدينة. كانت لا تزال تذكرة السفر إلى برلين في جيب معطفها. لم تستطع أن تستوعب بعدُ أن الموضوع قد تطور على هذا النحو، فهي ستركب القطار المسافر غدًا لتتمكن بعد الغد من … شعرت بحرارة تنتشر في جسدها. حافظي على هدوئك، ظلت تذكِّر نفسها. المحاضرة جاهزة، ولن يستغرق إلقاؤها سوى عشر دقائق. بعدها ينتهي كل شيء. لم تلتفت لترتيبات شتورم وتابعت خطتها ببساطة. طبعًا لم يكن يعرف شيئًا عن ذلك. لم تفصح بشيء إلا لفريق المحققين. لم يكن من السهل إعادة اكتساب زابينة ويوهانيس إلى صفها ثانيةً، لكنها لم تستسلم، هل من المعقول أن يذهب كل توتر الأسابيع الفائتة سدى؟ لم يستطع يوهانيس أن يبتلع تعليقاته الساخرة حين اقترحت فاندا أن تعرض مسألة التلوث بالفيروس على أنه مقصود للتجربة، لا على أنه حادث عرضي.

قال ممازحًا: «هكذا مثلما يفعل الناس في الحياة الحقيقية.» كانت عيناه تلتمعان بالرغبة في المغامرة، وكانت فاندا تعرف أنها أقنعته، وكانت تحتاج إليه كي يحمي ظهرها.

أما زابينة فلم تتحمس للفكرة بسهولة وتساءلت: «كيف إذن حُقِنت الحيوانات بالفيروس؟ ما هي المعايير التي قِسْتِ عليها هذا النموذج؟ هل قمت بتحديد عيار الأجسام المضادة؟ المسألة كلها تزخر بالشكوك. علاوةً على ذلك، هل تعرفين قانون الحماية ضد العدوى؟ بموجبه كان عليك استصدار تصريحات خاصة لإجراء هذه التجارب.» كانت زابينة غاضبة، لكنها واصلت خطبتها: «لو أن التجارب لها درجة أمان أعلى من الدرجة اثنين لأمكن أن نشترك معك.» إنها محقة؛ فالقواعد المنظمة للأبحاث المشتملة على مواد معدية تلزم بإجراءات سلامة غير متوفرة في قسمها، وطبعًا لم يتقدم أحد بطلب ليقوم بإجراء هذا النوع من التجارب على الحيوانات، وأنَّى لهم ذلك؟ في نهاية الأمر، هي لم تقم بهذه التجارب قط. يمكن القول إنها كانت مجرد تجارب افتراضية. كانت فاندا تتمنى ألَّا يقوم أحد بالسؤال حول تلك الجوانب، ناهيك عن أن يمحصها. أما ما يخص الشكوك العلمية فقد اتفقوا في النهاية على الادعاء بأنهم اشتروا حيوانات التجارب وهي مصابة بالعدوى سلفًا، الأمر الذي قد يكون حدث بالفعل، رغم أنه لم يكن مقصودًا. ستبرر فاندا طريقتها البحثية بأن النموذج فقط هو ما تم تخيُّله، أما النتيجة فهي التي تطابق الحقيقة تمامًا، مثلما فعل داروين عندما استخدم نموذج شجرة الحياة لشرح نظرية النشوء والارتقاء رغم أنه لم يكن مقتنعًا به. كان من الواضح بالنسبة لها أنها تقارن ثمار التفاح بثمار الكمثرى، وأن شجرة الحياة مجرد استعارة، بينما هي تحاول وضع تصميم علمي لحادث عرضي، لكن الوقت كان يضغطها كما أن حيلتها بدت مبررة إذا ما قورنت بما خطَّط له شتورم. هل كانت تعلم أصلًا ماذا ينوي؟ تستطيع أن تتخيل. كان سيترك المسألة تتوقف عند نجاح التجربة، ففي كل الأحوال قد نجحوا في تمرير جين بمساعدة حاملات النانو عبر الأنف إلى مخ الفئران. هذا وحده كان مذهلًا بما فيه الكفاية، لكن فاندا كانت تريد أن تروي بقية الحكاية، والنقطة المحورية في عرضها ترتكز على مستوى أعلى. كانت تريد أن تخبر عن طرق البيانات متناهية الصغر والتي تسمح أيضًا لسلاسل الجينات في الكائنات الحية الأخرى بالانتقال عبرها، وكان نانوسنيف نموذجًا توضح عليه ما تريد. وهكذا ادعت أن نيتها كانت من البداية هي أن تثبت انتقال الجينات بين جزيئات النانو والفيروسات. كانت فرضية بحثها تدفع بأن هذا يمكن أن ينجح، أما الكذبة فهي الادعاء أن هذه الفرضية أُثبِتت معمليًّا، رغم أنها كانت تعتمد على نتائج لم تُحدِثها سوى الصدفة التي أدت إلى التلوث بالعدوى. لم تكن تستطيع سوى أن تحاول ترويض الفرس من الخلف. لنَقُلْ إن للوحش رأسين، ولا ينبغي لأحد أن يلاحظ أن الرأس الخلفي مجرد دمية. من النظرة الأولى لم يكن ما تقوم به غير معتاد، فالعلماء دائمًا ما يطوِّرون فرضياتهم على خلفية النتائج، وبهذا ستكون الخطوة التالية في تجاربها مبرَّرة، بل سيكون من الضروري أن يتبع ذلك سلسلة من التجارب من أجل اختبار فرضياتها، لكن لا وقت لهذا كله، عند هذه النقطة عليها أن تلجأ للحيلة.

قالت لها زابينة محذرة: «بنية هذه التجارب تقوم على الادعاء والكذب، ولا ينبغي عليكِ في أي موضع أن تصفيها وصفًا دقيقًا.» فغضبت فاندا، أنا لست بهذه الحماقة. كانت فقط تحاول أن تتخيل كيف كان للحال أن يكون وهي تعد محاضرتها. كانت تركب تقريرها حول هذه البنية الفكرية، إلى أن بدأت هي تقتنع أن كل شيء كان بالفعل مقصودًا منذ البداية، أما واجب تأنيب الضمير فتركت صديقتها تتولاه.

في هذه الأثناء كانت فاندا قد عبرت القناة الصغيرة، لم يتبقَّ سوى عدة أمتار قليلة وتكون في بيتها. وجدت أسفل صندوق البريد ما يشبه بساطًا لزجًا من النشرات الإعلانية، على ثغرة في الأسفلت تمتلئ بالمياه ذات اللون البني الرمادي كلما تساقطت الأمطار، وحين وصلت للطابق العلوي لم تنظر ناحية باب جارها؛ لأنها لم تشأ أن تفسد مزاجها بمنظر زجاجات الخمر جوار الباب. الغريب أنه منذ أن ركَّبت الكالون الجديد صارت الشقة لأول مرة لها وحدها، على الأقل كان ذلك هو إحساسها. لم تكن تشتم أية روائح غريبة، كما أن مخزونها من البيض لم يشهد نقصًا لا يمكن تفسيره، وحتى تكون أمينة فهي لم تفقد ولو بيضة واحدة منذ بدأت في عده وترقيمه.

قررت أن تحزم حقيبتها ثم تراجع المحاضرة مرة أخرى. سحبت كرسيًّا ووضعته أمام الدولاب، ثم أنزلت الحقيبة الكبيرة التي تبعتها سحابة من الغبار اضطرت فاندا للعطس؛ فمنذ وصولها منذ ما يقرب من التسعة أشهر لم تمسَّها، وبسرعة بدأت تمسح الحقيبة براحة يدها، ثم وضعتها على السرير وفتحتها، وجدت بداخلها كومة غير محدَّدة الشكل تحوي حقيبة البحر وحقيبة الرحلات صغيرة الحجم التي كانت تريد أن تأخذها معها إلى برلين. انتبهت لوجود بروز في الجيب وتساءلت ما تُرَاه يكون؟ ظلت تتحسسه بفضول إلى أن فتحت الحقيبة الداخلية ووجدت صندوقًا خشبيًّا. كان هنا إذن طوال الوقت! لا بد أنها أغفلت إخراجه بعد عودتها من أمريكا ونسيت أمره تمامًا، بسعادة تحسَّست الخشب المنقوش ذا الورنيش قوي اللمعان. كان الغطاء محفورًا بأشكال مثلثات وسداسيات صغيرة الحجم تتكرر في تناظر يشبه من بعيد رقعة شطرنج في منتصفها وردة، أما حوافه فزيَّنها شريط من الأحجار الكريمة. فتحت فاندا الغطاء بحذر فوجدت سِنَّتين من أسنانها اللبنية، وثلاث كريات زجاجية، وميدالية مفاتيح، هي أول ما كان لها من ميداليات وكانت مصنوعة من المطاط، وأيضًا وجدت زرًّا عليه هِلْب، هو كل ما تبقى من سترتها المفضَّلة بموديل البحارة بعد أن تبرعت بها أمها ببساطة. لقد صغرت عليها السترة بسرعة. وقتها لم تكن تريد أن تكبر. وهذه أيضًا هنا! زجاجة التجربة لعينة طلاء الأظافر. أحمر فاقع وجاف! جاء هذا في مرحلة لاحقة حين صارت تفكر بشكل مختلف، ثم وقع بصرها على الجزء الداخلي المتقزح من قوقعة بحر. لم تَعُدْ تذكر من أين حصلت عليها. أمسكت فاندا بهيكلها الحلزوني، إنها لحيوان رخوي يُسمَّى أُذُن البحر، لها شكل الأذن البشرية ومثقوبة مثل كائن أسطوري، وحين يكبر الحيوان تنزلق مؤخرته عدة مليمترات إلى موضع جديد؛ ولهذا تنشأ الثقوب على القشرة في صف منتظم، إنها ليست سوى فتحة شرج عنيدة، وكلما نما الحلزون كبرت الفتحات. تراءى لفاندا أن هذا ترتيب مثالي للأوغاد. تتذكر أنها أطلقت على الفتحة الأولى اسم هولتمان مدرس الرياضيات الذي لم يكن يفقه شيئًا سوى معادلاته الرياضية. هذه الفتحة التي في المنتصف ستُطلِق عليها الآن اسم شتورم. بالتأكيد لن يكون الوغد الأخير الذي ستقابله. مسدت سبابتها الصدف اللامع. أراجونيت، هكذا يطلق المختصون عليه، وهو نوع خاص من الجير المتبلور. ارتفاع الصفائح الجيرية يطابق تقريبًا الأطوال الموجية للضوء المرئي، فتتراكب في طبقات يعلو بعضها بعضًا منتجة نماذج متداخلة. وهكذا فإن الألوان البراقة التي تمس إحساسنا بالجمال ما هي إلا ظاهرة فيزيائية ناتجة عن الضوء المنعكس من طبقات عديدة من الجير. واصلت التنقيب ووجدت مفتاحًا صغيرًا لحقيبة، ومجموعة من الأختام، وعدة مفاتيح قديمة، يا لها من هواية! لقد كانت تهوى جمع الأشياء، فردة قرط، قطة سوداء تتوثب للقفز، لم تَعُدْ تذكر ما الذي دعاها للاحتفاظ بها. أعادت كل كنوزها إلى الصندوق ثانيةً، ووضعته على مكتب والدها. كان منظره يناسب الخشب المائل للحمرة.

اتجهت فاندا إلى مكتبها وفتحت الكمبيوتر المحمول. نقلت العرض التقديمي «باوربوينت» من حامل البيانات إلى القرص الصلب، بينما هزت رياحٌ زجاجَ النافذة هزًّا خفيفًا. تساقطت قطرات مطر على الزجاج. ارتجفت فاندا وفكرت: الإصابة بالبرد هو آخر ما أحتاجه الآن. لا يزال لديها يوم الأحد لتتدرب فيه على محاضرتها، لماذا إذن لا تجلس في حوض الاستحمام الآن؟

بعد الحمام لفت نفسها في بطانية وجلست أمام شاشتها المسطحة الفاخرة. تحدث أحيانًا روابط غريبة بين الأشياء. لم تكن تحب أن تحكي لأحد عنها بسبب وقعها الغريب على المستمع، مثل أن الوصلة ما بين جهاز الكمبيوتر والشاشة صارت تعمل بكفاءة منذ تركيب الكالون الجديد، وبهذا تستطيع أخيرًا أن تشاهد الأفلام التي أعارها أندرياس إياها. قرَّرت أن تشاهد فيلم فينشينزو ناتالي بعنوان «المكعب». أَسَرَتْها الإثارة بالفيلم كما جذبتها كواليسه السيريالية إلى عالم المابَيْن الذي حاول الفيلم أن يجعله محسوسًا. صرف ذلك ذهنها لبعض الوقت، وبعد أن انتهى الفيلم شعرت بالخواء، فعاد إليها القلق. ماذا سأفعل لو وصل شتورم في الموعد المحدد للمحاضرة؟ لم تُعِدَّ خطة لهذه الحالة، ستضطر أن تعتمد كلية على يوهانيس. أوت إلى فراشها مبكرًا.

وقرب منتصف الليل رن جرس الهاتف، ففزعت فاندا من نومها ونهضت واقفة. سرعان ما كانت يقظة تمامًا.

فسمعت زابينة تصيح بصوت مثقل: «لقد ماتت جوسي. حدث ذلك الآن حين أصدرت حشرجة رخيمة لمرة أخيرة، ثم توقفت ببساطة عن التنفس.» كانت الفأرة مضطربة كثيرًا في الفترة الأخيرة، منذ عدة أيام لا تأكل شيئًا وتنام طول الوقت. قالت زابينة متشكية: «لم أستطع أن أسلم بذلك. لقد كانت تعتريها رعدة غريبة، كنت أشعر بها بوضوح حين كنت أضعها على يدي.»

«يؤسفني هذا.» قالتها فاندا وهي تحملق في يدها اليسرى التي كانت ترتعش ارتعاشة خفيفة.

قالت زابينة باكية: «قولي لي من فضلك، ماذا عليَّ أن أفعل الآن؟»

ترددت فاندا لوهلة ثم قالت: «بينة، قد تبدو المسألة قاسية بلا أية رحمة، لكن الضرورة تحتم تبريد جثة جوسي.»

قالت زابينة وهي تتلعثم: «أعرف. ماذا ترين؟ نضعها في الثلاجة أم في المجمد؟»

«الثلاجة تفي بالغرض. اطلبي يوهانيس على الهاتف حتى يأتيك غدًا في الصباح الباكر ليقوم بالتشريح.»

«الغد هو يوم الأحد. أَلَا يمكن أن ينتظر الأمر حتى يوم الاثنين؟»

ردت فاندا: «سيكون عند شتورم صباح الاثنين.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤