الفصل السادس

الدين والسياسة

ارتبط الدين بالسياسة في مصر منذ عصر النهضة والإصلاح الديني؛ فقد كتب الطهطاوي «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز» وهي سيرة للرسول، وفي نفس الوقت كتب «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» وهو كتاب عن النهضة في مصر، كما كتب محمد عبده «رسالة التوحيد» في الدين، و«الثورة العرابية» في السياسة. وكتب طه حسين في الدين كتاب «على هامش السيرة» و«الفتنة الكبرى (عثمان)» و«مرآة الإسلام» و«الفتنة الكبرى (علي وبنوه)». كما كتب في السياسة: «المعذبون في الأرض» و«مستقبل الثقافة في مصر». وكتب العقاد في الدين «العبقريات» و«سعد زغلول» في التراجم. كما كتب في السياسة كتاب عن المقارنة بين الإسلام والشيوعية؛ فالدين والسياسة توأمان أو وجهان لعملةٍ واحدة.

وبدأ الرسول ينشر التوحيد وتغيير البنية الاجتماعية للمجتمع العربي. وانتهى بالقضاء على إمبراطوريتَي الفرس والروم، وخلق إمبراطوريةٍ جديدة من الأندلس غربًا حتى الصين شرقًا.

وبداية علاقتي بالدين وأنا طفل، كنت أقف مع الأسرة في شرفة في آخر منزل درب البزازرة المطلة على شارع العباسية لرؤية «المحمل». وكان يوم المحمل عيدًا وطنيًّا وعطلةً سنوية. والمحمل كسوة الكعبة التي تُصنع في مصر في منطقة الخيامية، وفي أجمل نقوش وألوان، وكانت تُحمل فوق صندوقٍ كبير على ظهر جمل، يتهادى بها من منطقة الخيامية حتى السويس، ثم تأخذه باخرة إلى جدة، ويأخذه جملٌ آخر من جدة إلى مكة لتغطى الكعبة بكسوةٍ جديدة بدلًا من القديمة، التي ترجع إلى مصر إلى حي الخيامية مرةً أخرى، فتقصُّ إلى قطعٍ صغيرة تُباع للمصريين لجلب البركة والتبرك بها. وكانت الهتافات عندما يمر الجمل: «اللهم صلِّ على النبي». وكانت موسيقى الجيش تعزف أمامه طيلة الطريق من القاهرة وحتى ميناء السويس، وكانت الكسوة تُصنع في مصر على نفقة الدولة المصرية وتُنقل إلى مكة.

نشأتُ متدينًا، أُصلي مع الوالد في المساجد، خاصةً في شهر رمضان. وذات يوم ونحن نُصلي جنبًا إلى جنب ونسجد، قام والدي بعد السجود واقفًا، وأنا ظللت ساجدًا؛ دفعني أبي بقدمه كي أقوم فلم أقم، ظن أنني قد أغمي عليًّ، فسلَّم وخرج من الصلاة لكي يساعدني على الوقوف، وأنا لم أكن مريضًا ولا بي أي عائقٍ للقيام بعد السجود ولكنه كان لعب أطفال.

كنت أصوم رمضان مع باقي الأسرة، ولكن بين الحين والآخر وأثناء نهار رمضان عندما يشتد العطش كنت أشرب دون أن أقول، وفي المدرسة الثانوية كانت هناك أربعة تيارات أو أربع حركاتٍ سياسية للتلاميذ وهم في سن الصبا: الأول الوفد، ولكنا كنا نعتبره حزبًا إقطاعيًّا بالرغم من وطينته. والثاني مصر الفتاة، وكان حزبًا وطنيًّا ولكنه كان لا يتوانى عن استعمال العنف. والثالث الحزب الماركسي، الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني «حدتو». وكان أقل التيارات تعرضًا للشبهات. وكان الرابع الإخوان المسلمون أكثر التيارات انتشارًا وأقلهم نقدًا.

وبالرغم من أننا كنا نخرج ونحن في المدارس الابتدائية لنشارك في مظاهرات الجامعة، لكننا لم نكن نعرف لماذا نشارك؟ كنا نعرف فقط أننا نتظاهر ضد الإنجليز، وأحيانًا كنا نخرج بالقوة مع المدرسة، أساتذةً ونظَّارًا لكي نذهب إلى قصر عابدين في عيد ميلاد الملك ونغني له.١

كنا نخرج من الفصول إلى فناء المدرسة، ونحن نهتف بهذه الشعارات، ثم نخرج إذا ما سمعنا أصوات تلاميذ مدرسة فاروق وفؤاد الأول اللتين كانتا تقعان في شارع الجيش (العباسية سابقًا).

كانت الفكرة الشائعة أن مدرسة فؤاد هي الأشجع، يخرج تلاميذها أولًا. ويذهبون إلى مدرسة فاروق في الجانب الآخر من الشارع؛ فيخرج تلاميذها معهم، ثم يأتون إلى مدرسة خليل أغا الأقل شجاعة في المبادرة بالخروج.

وكنا نسير في الشارع فيخرج معنا تلاميذ مدرسة باب الشعرية، ونسير حتى العتبة، ونأخذ الترام بعد أن يُغير اتجاهه بفضل تغيير «السنجة». والذهاب إلى الجامعة كي نشارك في المظاهرات التي تعم البلاد ونحن صغار.

كنا نركب الترام والبعض يقف على سطحه يحمل الأعلام، وهو يحركها يمينًا ويسارًا مُحييًا الناس.

كان ذلك في الأربعينيات أيام الحركة الوطنية المصرية، و«لجنة الطلبة والعمال» عام ١٩٤٦م. وفي يوم عند خروج طلبة الجامعة في مظاهرة ضد الاحتلال البريطاني، والهتاف من أجل الحرية والاستقلال، فتحت الشرطة كوبري عباس أثناء عبور الطلبة حتى لا يصلوا إلى الجانب الآخر ويزداد عدد المتظاهرين، فغرق البعض، وأُصيب البعض الآخر، وقُبض على فريقٍ ثالث. وهو ما صوَّرته «لطيفة الزيات» في روايتها «الباب المفتوح» التي تحوَّلت إلى فيلم فيما بعدُ.

في عام ١٩٥١م وعندما كنت أبدأ بالقراءة للمودودي وجدته يتكلم بالطريقة التي أريدها وأنا ما زلت خاوي الوفاض، ورأيت علال الفاسي، وسمعت محاضراته باللهجة المغربية.

وبدأت أقرأ سيد قطب نفسه في «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«التصوير الفني في القرآن»، و«مشاهد القيامة في القرآن»، و«الصراع بين الرأسمالية والإسلام»، و«خصائص التصور الإسلامي ومقدماته»، و«المستقبل لهذا الدين». ولم يكن «معالم في الطريق» قد ظهر بعدُ. تأثرت بمواقفه الاشتراكية والأدبية، وبحثت عن باقي كتبه، فقرأت «النقد الأدبي، أصوله ومناهجه». ووجدت رسالةً صغيرة له كُتبت في الثلاثينيات بتقديم مهدي علام عميد آداب الإسكندرية، بعنوان «الإسلام حركة إبداعية في الخير والحياة» أثَّرت فيَّ هذه الرسالة كثيرًا ومنها الفكر والإبداع الفني وأنا كنت أتجه نحو الفلسفة والموسيقى، وشعرت أن سيد قطب هو الأديب والمفكر الاشتراكي، وأن مكانه ليس في هذه الجماعة، بحثوا عن أميرٍ جديد للجماعة فلم يجدوا أحدًا حتى عثروا على سيد قطب أخيرًا عام ١٩٥١م. وكانت كتاباته الإسلامية والأدبية معروفة، فقبل أعضاء الجماعة على مضض، وعندما قامت الثورة المصرية في ١٩٥٢م كانوا يبحثون أيضًا عن أمين للدعوة والفكر في هيئة التحرير، واقترح جمال عبد الناصر اسم سيد قطب لكتابه عن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، فرفض لأنه كان قد قبل منصب أمير الدعوة والفكر بالجماعة.

وفي صيف ١٩٥٢م قامت الثورة المصرية، وفي نفس الوقت أو قبلها بقليل انضممتُ إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكنت أزورهم في شعبة باب الشعرية، وكنت أذهب إلى ميدان الحلمية حيث المركز الرئيسي للجماعة، وأسمع المحاضرات، وأشتري الكتيبات، وهناك قابلت سيد قطب لأول مرة، وأخبرته أنني أريد القيام بتأليف منهاجٍ إسلاميٍّ عام يحقق للمسلمين نهضتهم، فسألني: «هل قرأت المودودي؟» قلت: «لا.» قال: «اقرأ المودودي أولًا.» وكانت كتيباته مترجمة في سوريا، ومعروضة للبيع بجوار المركز العام للإخوان المسلمين فاشتريتُها وقرأتُها بحماس.

وبعد أن قامت ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م وفرحنا بها، وبقانون الإصلاح الزراعي، أردنا زيارة الريف وأن نرى بأنفسنا فرح الفلاح بهذا القانون. قررت أنا وثلاثة من الأصدقاء أن نذهب في زيارة من القاهرة إلى الإسكندرية نمر بالريف سيرًا على الأقدام، والحديث مع الفلاحين، والاطلاع على دور هيئة التحرير والذي كان أول تنظيمٍ سياسي بعد قيام الثورة.

قضينا أول ليلة وصلنا فيها إلى بنها، والثانية في طنطا، والثالثة في كفر الزيات، والرابعة كنا قد وصلنا الإسكندرية، كنا نضع حقيبة ملابسنا فوق ظهورنا كما يفعل الرحالة، وفي كل مدينة كنا نصل إليها كنا نجد مبنى هيئة التحرير مغلقًا، ولم يكن هناك ما يدل عليه سواء يافطة معلقة فوق أحد البنايات أو على بابها، ووجدنا نفس الشيء في طنطا، مجرد يافطات معلقة بطابقٍ أول من مبنًى مغلق النوافذ، ولا أحد هناك، فزاد استعجابنا، ولما وصلنا إلى كفر الزيات كنا قد تعبنا، وسألنا عن هيئة التحرير فأرشدونا إلى صاحب مصنع زيت، فأخبرناه أننا من قادة هيئة التحرير ونريد زيارة مقر الهيئات لنطمئن على أنشطتها، فأسرع صاحب المصنع بالترحيب بنا، وطلب إحضار غداء لنا، وكانت أطباق مشويات من الكفتة والكباب حتى نكتب عنه تقريرًا جيدًا لمركز الهيئة بالقاهرة وبأن فرع مكتب الهيئة بكفر الزيات نشطٌ وأن الأعضاء يذهبون ويأتون ويترددون عليه، وأنهم متأثرون بعمل الهيئة، وموالون للثورة. وأدركنا مدى الكذب والنفاق الذي تعيشه الهيئة ورؤساء فروعها، ووصلنا الإسكندرية. ووجدنا أن رئيس الفرع هو شوقي عبد الناصر شقيق الرئيس، وغضب منا؛ لأننا لم نخبره من قبلُ بزيارتنا حتى يستعد لها.

وقضينا الليلة في شرفة البورصة والتي عُلقت عليها لافتة بعنوان: «هيئة التحرير»، والتي تمت فيها فيما بعدُ محاولة لاغتيال عبد الناصر في عام ١٩٥٤م. وعُدنا بالقطار إلى القاهرة وقد عرفنا أن شيئًا لم يحدث ولم يتغير، ولا وجود ولا عمل لهيئة التحرير، ولا تأثير للثورة وقوانينها على الريف المصري.

وفي حرم الجامعة كانت المظاهرات لجماعة الإخوان هي الأقوى تنادي برئاسة محمد نجيب للجمهورية، وكان محمد نجيب قد أتى، وألقى خطبة بالقاعة الكبرى بجامعة القاهرة، وبجواره ضابطٌ واضعًا ذراعه فوق الأخرى. كان صامتًا لا يتكلم، خالعًا القبعة العسكرية، وبعد أن تكلم نجيب عن الديمقراطية والثورة وأنه لا تعارض بينهما؛ فالديمقراطية بلا ثورة تشتت في وقت تحتاج الأمة فيه إلى حسم، والثورة بلا ديمقراطية طغيان واستبداد.

وكان قد أعلن أن الثورة المصرية ما هي إلا البداية لتكوين ثورات بالأمة الإسلامية جميعها، والتي يجب أن تتوحد في جامعةٍ إسلاميةٍ واحدة. فضجَّت القاعة بتصفيقٍ حاد، والضابط بجواره صامت ولا يتكلم.

وكانت الجماعة تسيطر على الحرم الجامعي، ولأول مرة أسمع قادتها يخطبون، مثل حسن دوح، وكنا نجلس في حلقاتٍ طلابية في وسط حرم الجامعة للاستذكار، ويمر علينا قادة الجماعة، ويلقون السلام.

وفي يوم ما جاء نواب صفوي من إيران بعد ثورة «مصدق». ودخل بعربته إلى حرم الجامعة، فتابعه الحرس الجامعي، وقلب عربته، فاشتعلت بالنيران، فقد بدأت الجماعة تأخذ موقف المعارضة من الثورة، وقد دخل نواب صفوي إلى حرم الجامعة دعمًا للجماعة.

وظل الخلاف بين الثورة والجماعة على مستوى القيادة، وعندما طلب المرشد العام للجماعة ألا يصدر أي قرار من الثورة بدون موافقة الجماعة عليه أولًا، رفض عبد الناصر وكان من مجموعة الضباط الأحرار.

وازداد التوتر بين مجلس قيادة الثورة والجماعة حين أُزيح الضباط الإخوان من تنظيم الضباط الأحرار، ثم أُزيح نجيب من رئاسة الجمهورية.

وتفجر الخلاف حين عقد عبد الناصر معاهدة الجلاء مع بريطانيا في مارس ١٩٥٤م والتي كانت تنص على انسحاب القوات البريطانية من قناة السويس والتل الكبير، وتعود إلى مصر في حالة «الضرورة القصوى». وهي عبارة في الفكر السياسي تعني عودة الاحتلال.

قامت المظاهرات من الجامعة بسبب ذلك تنادي بسقوط المعاهدة، ووزعت الجماعة نقدًا مكتوبًا لبنود المعاهدة.

وشاركتُ في هذه المظاهرة، ليس حبًّا في الجماعة، ولكن خوفًا من عودة الاحتلال.

وأُطلقت النيران على المظاهرة، وكنا فوق كوبري الجامعة، فقتل طالبان على الفور، كان عبد الناصر وزيرًا للداخلية، وهو الذي أمر بإطلاق النار؛ فتفرقت المظاهرة، ثم تجمعت في ميدان عابدين مرةً أخرى، ورفع عبد القادر عودة قميصَي الطالبَين المخضبَين بالدماء قائلًا: «انظروا ماذا فعلوا؟» جرى باقي الطلاب إلى ميدان التحرير، حيث مركز الحركة الوطنية؛ فاختبأ بعضهم بفندق سميراميس المجاور للميدان، وكنت أنا منهم، وظل الجو متوترًا بين الجماعة وعبد الناصر حتى يوليو ١٩٥٤م. وأثناء إلقاء عبد الناصر خطبته من شرفة مبنى بورصة الإسكندرية في ميناء المنشية انطلقت عليه رصاصات من الجمهور في محاولة لاغتياله، لم تصبه، وأكمل عبد الناصر خطبته قائلًا: «فليقتلوني ولكني لن أتخلى عن الثورة.» وقُبض على الشاب الذي أطلق الرصاص، وكان من الإخوان من شعبة إمبابة، كما قُبض على زملائه الخمسة، الذين دبروا هذه المحاولة، فقُدِّموا للمحاكمة، وأُعدموا، كما أُعدم عبد القادر عودة. لم يصدر مكتب الإرشاد قرارًا بالاغتيال، ولكن الفكرة كانت تدور في الأذهان؛ فأخذت شعبة إمبابة القرار والقيام بالتنفيذ دون أن يصدر لها الأمر بذلك.

وحُلَّت الجماعة كما حُلَّت باقي الأحزاب في مصر من قبلُ، ولم تبقَ إلا هيئة التحرير، حزب الثورة، ولم تجد قادة ولا جماهير لها، بل كانت مجرد اسم يُملأ به فراغ الأحزاب والجماعات.

كان نجيب محبوبًا في القلوب لدفاعه عن الديمقراطية، وكان عبد الناصر مكروهًا لطغيانه واستبداده، حتى أتى تأميم قناة السويس في يوليو ١٩٥٦م فتحول إلى بطلٍ قومي، ونسي الناس نجيب وهو في الإقامة الجبرية.

وبدأ العدوان الثلاثي على مصر في أغسطس ١٩٥٦م. وكنت قد غادرت إلى فرنسا في نفس الشهر، وكنت أبكي وأنا أزور متحف اللوفر وبه قسمٌ كبير عن مصر الفرعونية. واجتمع الطلاب في السفارة المصرية مطالبين بالعودة إلى مصر للدفاع عنها، فأخبرهم السفير أن في مصر رجالًا يستطيعون الدفاع عنها، أما الطلاب فمهمتهم استكمال دراستهم ليخدموا مصر بعد عودتهم.

وأثناء دخولي لأحد المطاعم الجامعية في فرنسا، سمعت شابًّا يتكلم العربية بلهجةٍ غير مصرية، ففرحتُ بلقاء عربي، وسألته من أين هو؟ قال: «من السعودية.» ولما كنتُ في ذلك الوقت ناصريًّا إلى أقصى درجة ومؤيدًا لعبد الناصر في قرار إرسال الجيش للدفاع عن الثورة في اليمن ضد الإمام الذي كانت تساعده السعودية خشيةً من انتشار الثورة والوصول للسعودية، قلت للشاب السعودي: «إن شاء الله تقوم الثورة في السعودية وتلحق بالثورة العربية.» لم يعجبه الكلام ونظر غاضبًا وقال: «ولماذا؟» ثم انبرى بالدفاع عن النظام الملكي في السعودية. فعرفت أن الناس على أديان ملوكهم، وأن خطئي هو التصور أن العرب كلهم ثوريون، وأن الجمهورية هو النظام القادم الأفضل. ولم أكن أعلم أن الخيال شيء، وأن الواقع شيءٌ آخر.

هنا تحول الدين عندي إلى سياسة، وتحولت عواطفي من الانتساب إلى الجماعة إلى الانتساب لمجموعة الضباط الأحرار، فقد كان الوطن عندي أغلى من الدين، ومصر الوطنية عندي أعز من الوحدة الإسلامية العامة. ومع ذلك كان صوت عبد الباسط عبد الصمد يرن في أذني جامعًا بين الدين والموسيقى، وكنت أذهب إلى صديقٍ سوري يعيش في شمال باريس لأسمع قراءة عبد الباسط عبد الصمد عنده، والذي سماه ملك المغرب «قيثارة السماء». كنت أذهب إليه كل سبت في السادسة مساءً، وكنت أيضًا أذهب إلى مسجد باريس كل ظهر جمعة لأداء صلاة الجماعة. ورأيت بداية الخلاف بين مجموعة البشير الإبراهيمي ومجموعة هيئة التحرير برئاسة فرحات عباس.

كانت عندي سجادة صلاة أحضرتها معي من مصر، أفترشها وأصلي بين الحين والآخر، وكنت أذهب إلى المطعم الجامعي الخاص بالطلبة المسلمين في شارع سان ميشيل كل جمعة بعد الصلاة لأكل «الكسكسي» بالخضار واللحم، كان الطلبة المسلمون يقودون تقريبًا كل يوم المظاهرات ضد العدوان الفرنسي على الجزائر، ويطالبون باستقلالها، وكانوا يقومون مع باقي الطلبة بمظاهرات ضد الغزو الأمريكي على فيتنام.

في عام ١٩٦٥م قامت مظاهرات ضد انقلاب بومدين في الجزائر ضد ابن بيللا الزعيم الوطني ورمز الحرية والاستقلال.

وفي مظاهرات الحي اللاتيني تعرفت على «علي شريعتي» المفكر الثوري الإيراني الذي كان يدرس «دكتوراه الجامعة» وليس «دكتوراه الدولة». الأولى معترَف بها من الجامعة فقط دون الدولة، وهي أشبه بالماجستير، ومخصصة للطلبة الإيرانيين، والثانية معترفٌ بها من الجامعة والدولة، ومخصصة لباقي الطلاب؛ ومنهم الطلبة المصريون. وكانت تتطلب إجراء رسالتين: رسالةً رئيسية، ورسالةً أخرى تكميلية. تُناقَشان معًا في نفس اليوم، وبينهما استراحةٌ قصيرة. ولجنة المناقشة مكونة من خمسة أساتذة.

وبدأ الدين يتوارى أكثر من أجل السياسة حتى رفعتُ السجادة من على الأرض وعلقتها على الحائط وكأنها عملٌ فني.

وبعد أن أُعيدت العلاقات السياسية بين مصر وفرنسا بعد انقطاعها بسبب العدوان الفرنسي على مصر بعد تأميم قناة السويس، جاء المشير عامر إلى باريس لمقابلة ديجول، وتهيئة جو الصداقة بين مصر وفرنسا، والحديث عن استقلال الجزائر والقضية الفلسطينية. دعاه السفير إلى السفارة المصرية ليرحب به الطلبة المصريون، ووُضعتْ لافتات الترحيب على الحوائط بالألوان، واختار السفير بعض الطلبة لإلقاء خطبٍ ترحيبية بالمشير، صححها بنفسه خشية أن يكون بها شيء معارض للنظام السياسي. دخلت السفارة، ووجدت اللافتات في أزهى الألوان، وصعدت الطابق الثاني مكان اللقاء، وكان المشير يجلس بجواره وزير الخارجية المصرية محمود فوزي والصحفي لطفي الخولي رئيس تحرير «مجلة الطليعة».

وما إن بدأ أول طالب بقراءة خطاب الترحيب حتى وقفتُ وأخذت منه مكبر الصوت قائلًا: «أيها المشير كل هذه اللافتات التي تراها نفاق في نفاق، كتبها السفير، وعلقها، كلها وكل الخطب التي ستسمعها راجعها السفير بنفسه، أريدك أن تسمع ما يقوله الطلاب.» فأُنزلت اللافتات، وبدأتُ أقول: «الطلبة يتساءلون عن الحريات في مصر، وعن الطبقة الجديدة التي نشأت في مجتمعٍ اشتراكي من مديري البنوك، ورجال الأعمال، وضباط الجيش، والمحافظين. وخُلقت طبقة بين الحاكم والمحكوم. وقد وعد الرئيس جمال عبد الناصر بألا يزيد الفرق بين الطبقات الاجتماعية أكثر من واحد إلى عشرة. والآن الفرق واحد إلى مائة.»

فقام الطلاب ورائي كلٌّ منهم يُعبر عن مأساة النظام معه، منهم من قُطعت منحته؛ لأنه إخواني أو ماركسي، ومنهم من لم يُجدد جواز سفره؛ لأنه متهم من أجهزة الأمن، ومنهم من وُضع في قوائم الممنوعين من السفر. وبعد حوالي نصف ساعة من انتقادي للنظام السياسي لم يعرف المشير ماذا يقول؛ فطلب من لطفي الخولي أن يرد. فقال: «إن الطلبة هنا في باريس مستريحون، يدرسون، ويطعمون بكل حرية، أما في مصر فهناك المعذَّبون والمعتقلون ومن ضحوا بأنفسهم من أجل النظام.» ومحمود فوزي يبتسم مسرورًا من كلام الطلاب، وحزينًا مما سمعه من دفاع عن النظام من أحد الماركسيين المصريين والذي أصبح عمدة للنظام.

وبعد أن انتهت المقابلة استدعاني السفير إلى مكتبه قائلًا: «ماذا فعلت؟» قلت:«فعلت ما يمليه عليَّ ضميري ضد النفاق.» قال: «ألا تخاف؟» قلت: «لا، ومم أخاف وقد عبَّرت عما في قلوب الجميع.» ومنذ ذلك الوقت كوَّن الطلاب في باريس جماعة لدراسة الأحوال في مصر، وأقاموا ندواتٍ أسبوعية تناقش هذه الأحوال؛ فأُقيمت ندوات عن الطبقة الجديدة، التي أصبحت مفهومًا شائعًا، والفقر في مصر، ونقص الحريات في مصر. ولما عاد المشير أخبر عبد الناصر بما سمعه من الطلاب في باريس؛ فطلب عبد الناصر استدعاء ممثلي الطلاب في أوروبا كي يأتوه إلى مصر ومناقشتهم. وكان هذا بعام ١٩٦٦م. فأعددنا في باريس ملفات عن الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية في مصر، وأقام الطلبة انتخابات في جامعاتهم كي يختاروا من يأتي إلى باريس ومنها إلى القاهرة لمناقشة الرئيس. وكنت رئيسًا للوفد المصري، وحضرنا إلى القاهرة في أغسطس سنة ١٩٦٦م. والتقينا في مدرجٍ كبير بجامعة الإسكندرية، وكنا نغني في الطائرة «لكي يا مصر السلامة»، و«اسلمي يا مصر». ناقشنا عبد الناصر يوميًّا لمدة أسبوع تقريبًا، وكانت مهمتي أن أكتب ورقتَين؛ واحدة في الحريات العامة، والثانية في استقلال الجامعات.

قدمنا الملف إلى عبد الناصر، وناقشناه علنًا، وطلبنا الحريات لشعب مصر واستقلال الجامعات، وقام واحد بالتحدث عن الأحوال السياسية في مصر، وقام آخر بالتحدث عن الأحوال الاقتصادية، وثالث ورابع وخامس عن الأحوال الاجتماعية والثقافية. وحذرْنا عبد الناصر من حالة وقوع معركة بين مصر وإسرائيل، فالخوف والخطر على مصر. وسألناه لماذا تم إعدام سيد قطب؟ وهو الأديب، الناقد، المفكر؟ فردَّ عبد الناصر على أسئلتنا ومنها: «إن مهمته توفير الخبز للشعب.» فردَّ عليه يوسف إدريس في اليوم التالي على صفحات «الأهرام» قائلًا: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.»

وأخبرنا عبد الناصر بأنه قرأ ملفاتنا بجدية واهتمام، ودعانا إلى قصر الطاهرة لأخذ الصور التذكارية معه.

وعاد ممثلو الطلاب إلى باريس باستثنائي أنا؛ فقد كنت ناقشت رسالتي الدكتوراه قبل ذلك بشهرين.

وعدت بحقيبة ملابسي، وتركت مكتبتي في الغرفة، وسلمت مفتاحها إلى السفارة، وحادثت وزير التعليم العالي في الإسكندرية ذلك الوقت قائلًا له: «تركت مكتبتي في باريس، فكيف أنقلها إلى مصر؟» فقال لي: «اطلب ذلك من عبد الناصر.» ففعلت مثلما قيل لي. فوافق عبد الناصر على نقلها من باريس إلى القاهرة على نفقة الدولة، وأرسل ما يفيد إلى السفارة بذلك؛ فكلف السفيرُ شركة شحن لنقل مكتبتي، ووضعت الكتب في ثلاثة صناديق خشبية استلمتها في ميناء الإسكندرية، وبعد أن فتح موظف الجمارك صندوقًا واحدًا ووجد كتبًا أغلق الصندوق ولم يطلب عليه جمركًا؛ على الكتب بدعوى أنها لا تستحق الجمارك عليها.

كان والدي وأخي في انتظاري بالميناء، فشحنَّا صناديق الكتب بعربة نقل إلى منزلي بالقاهرة والذي كنت أشاركه مع والدي السكن به بالعباسية. وقمت وزوج شقيقتي الكبرى بتركيب رفوفٍ خشبية، ودهنها، ووضع الكتب عليها. امتلأت حوائط الغرفة بالرفوف والكتب، وبها سرير ومكتب حتى لحظة الزواج بعد أربع سنوات، نقلتها إلى شقة الزوجية بميدان الحجاز بمصر الجديدة، ثم نقلتها بعد ربع قرن إلى بيتي العربي والذي شيدته على الطراز الأندلسي بمدينة نصر. وخصصت لها مساحة البدروم بالكامل مع جزء من الطابق الأول، صممت دواليب خاصة لها رفوف وأبوابٌ زجاجية، ومن أسفل رفوف ودواليب من خشب لحفظ الكتب بها.

بلغ عددهم ستين دولابًا، وبصعوبة صنفت كتبي فيها: الأجنبية الواردة من الخارج، والعربية التي اشتريتها من مصر، غرفة كاملة لنُسخ مؤلفاتي، وأخرى لمجلاتي العلمية، وكان مكتبي في البدروم ليس له سقف؛ لأنه مفتوح على حجرة كبيرة على الطابق الذي يليه، بينهما سلم خشبي، ووسطهما فانوسٌ عربيٌّ كبير مدلًى من السقف، يكاد يلامس الأرض.

وتم إدخال المكتبة بالكامل على جهاز «الحاسب الآلي» في ستة أقسام؛ الأول: الفلسفة الغربية بمراحلها المختلفة: اليونانية، الرومانية، والمسيحية، واليهودية، والإصلاح الديني، وعصر النهضة. ثم العصر الحديث: السابع عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر، والعشرين. وقد أخذ القرن التاسع عشر أكبر مساحة.

والقسم الثاني: الفلسفة الإسلامية ابتداءً من علم الكلام، والتصوف، وعلم أصول الفقه، ثم الفكر العربي الإسلامي المعاصر والذي ضم أربعة دواليب عن مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي. وقد أخذت إيران أوسع المساحات.

والقسم الثالث: فلسفة الدين، عن الفلسفة المسيحية واليهودية والشرقية، والاستشراق، والفلسفة العامة، وعلم النفس، وفلسفة العلوم، وعلم الاجتماع، وعلم الجمال.

والقسم الرابع: العلوم السياسية والاقتصادية، ابتداءً من النظريات العامة ثم مصر والوطن العربي والعالم الثالث؛ أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، والولايات المتحدة الأمريكية. ثم علم التاريخ والجغرافيا، ثم خُطب القادة العرب، ثم قسم عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

والقسم الخامس: النقد الأدبي، الشعر، والرواية، والقصة، والمسرح.

والسادس: المجلات العلمية بالعربية والإنجليزية.

أما القسم السابع والأخير: فيتكوَّن من نسخ من مؤلفاتي العربية والإنجليزية والفرنسية، والدراسات التي صدرت عليها، والرسائل العلمية التي أشرفتُ عليها.

وبعد عام من عودتي من فرنسا وقعت هزيمة ١٩٦٧م وهو ما كنا حذرنا عبد الناصر منه قبل عام في مؤتمر المبعوثين الأول بالإسكندرية.

وعدت من فرنسا وأنا مملوء بالحيوية الفكرية والنشاط العلمي والحماس للمستقبل والمساهمة في إعداد جيلٍ جديد.

فلما وقعت الهزيمة وبشكل ساحق للجيش، خاصةً الطيران وتدميره تقريبًا بالكامل وهو على الأرض، قمنا بمظاهرات مارس ١٩٦٨م لمحاكمة المسئولين عن الهزيمة، خاصةً قادة الطيران الذين أغلقوا المدافع المضادة؛ لأن طائرة المشير كانت في الجو، وحاول بعض الصحفيين من كُتَّاب السلطان تبرير مظاهرات مارس ١٩٦٨م بأنها شبيهة بمظاهرات الطلاب في جميع أنحاء العالم التي كانت سائدة في نفس الوقت، ودون تحليل الظروف الخاصة لغضب الطلاب في مصر. وكتب أحمد بهاء الدين بيان ٣٠ مارس الذي يَعِد بإصلاح الأمة وتحرير الأرض والتنمية وتذويب الفوارق بين الطبقات ورفع مستوى المعيشة وإطلاق الحريات، وتقريبًا كل ما نادى به الطلبة في مؤتمر المبعوثين قبلها بعامٍ واحد في الإسكندرية، وطالبوا عبد الناصر بتحقيقه وإلا كانت الهزيمة في أي صدام مع إسرائيل، وهو ما حدث بالفعل. وبينما كان عبد الناصر يقود معركة التحرير، بدأ بحرب الاستنزاف ١٩٦٨–١٩٦٩م والتي أرهقت إسرائيل، وعرَّفت أن الجيش المصري ما زال قادرًا على المواجهة، ثم انتقل عبد الناصر إلى الرفيق الأعلى عام ١٩٧٠م. وخلَفه نائبه، واضطر تحت ضغط اعتصام الطلاب في ميدان التحرير وفي جامعة القاهرة عام ١٩٧٢م؛ اضطر إلى دخول الحرب بكفاءة القادة المصريين، وعبور قناة السويس، وتدمير خط بارليف، والاستيلاء على الضفة الشرقية للقناة وحتى وإن لم نصل إلى المضايق.

واضطرت إسرائيل إلى الدخول في مفاوضات الانسحاب من سيناء، حتى وإن تجادلت حول طابا، ثم الانصياع أخيرًا إلى قرار التحكيم بالانسحاب منها.

كنت في الولايات المتحدة في جامعة تمبل بفيلادلفيا بولاية بنسلفانيا، منذ ١٩٧١م إلى ١٩٧٥م. فحزنت لاستئصال الناصريين من الدولة والجيش، استعدادًا للانفتاح والقطاع الخاص، والتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي عام ١٩٧٦م أُنشئت المنابر لليمين واليسار والوسط، وكان حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي يمثل اليسار، وكان التصور لكمال الدين رفعت بإنشاء حزب يجمع كل القوى الوطنية: الناصريين، والقوميين، والليبراليين، والماركسيين، والإسلام المستنير؛ فدخلت الحزب عن الإسلام المستنير مع بعض الأساتذة مثل محمد أحمد خلف الله، وكان من مدرسة أمين الخولي بعد رسالته عن «الصورة الفنية في القرآن الكريم» والتي رفضتها الجامعة.

كان الإسلام المستنير ضعيفًا داخل حزب التجمع، وكذلك كان الناصريون والقوميون والليبراليون. وكان الماركسيون هم الأكثر نشاطًا وسلطةً وقدرة على التجمع، ابتداءً من رئيسه خالد محي الدين. وكنت من هيئة تحرير جريدة «الأهالي» التي أصدرها حزب التجمع. وذات مرة عندما أتت جماعة «البهرة» الإسلامية من الهند لزيارة السيدة زينب وتبرعتْ لجعل مقبض باب السيدة زينب من الذهب، وجعل نقطة الباء في «بسم الله الرحمن الرحيم» بالذهب الخالص أيضا. وكان رئيس الدولة يحب الصفقات؛ فكتبت مقالًا في جريدة الأهالي بعنوان «ذهب المقصورة وجوع الفقراء». وكنت قد زرت حي «قلعة الكبش» وراء حي السيدة زينب، ورأيت فقره وبؤسه. وتساءلت: «أيهما أولى بالمساعدة، هذا الحي الفقير أم الذهب في مقبض باب مقصورة السيدة زينب؟» فغضب رئيس الحزب وقال: «لو كنتُ بداخل مصر لمنعت المقال من النشر، فمعظم أصوات هذا الحي تأتي للتجمع.» فاضطر للتخلي عن الحق في سبيل المصلحة.

وفي المرة الثانية عندما قامت الثورة الإسلامية بإيران بقيادة الخميني، نشر الحزب مقالًا في جريدة الحائط «ضد الخميني وضد الثورة الدينية» لأن الحزب يعتقد أن الثورة يجب أن تكون «علمانية» أي ماركسية؛ فالدين يأتي بالتأخر، في حين أن الثورة تأتي بالتقدم. وهاجم الحزب ثورة مصدق عام ١٩٥٣م التي أممت النفط، وهرب الشاه بعدها. وقد كان عبد الناصر يؤيد الثوار في إيران، وأعلن مصدق أنه تعلم الثورة من عبد الناصر، فكتبت مقالًا بعنوان «دور الأحزاب التقدمية في البلاد النامية» وعن الدين والثورة، وطلبت مناقشة المقال رسميًّا في الحزب، فلم أتلقَّ جوابًا. فماذا أفعل؟ تركت الإخوان لأنهم عارضوا عبد الناصر البطل القومي، ونافسوه في الصراع على السلطة، ولم يتآلفوا معه خاصةً بعد أن كتب سيد قطب ١٩٤٩م «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«معركة الرأسمالية والإسلام». وكنت قد بدأت في الانعزال عن الجماعة منذ وجودي في شعبة باب الشعرية ومعي الكمان وأنا ذاهب إلى معهد الموسيقى أو عائد منه عندما قال لي أحد الإخوة: «يا أخ حسن ألا تعلم أن الموسيقى حرام؟» وكانت روحي في الموسيقى. وكان سيد درويش معبرًا عن ثورة ١٩١٩م. وكان بيتهوفن معبرًا عن الوحدة الألمانية والرومانسية الألمانية.

تركت «الإخوان» أولًا ثم «التجمع» ثانيًا. وبدأت أفكر في «اليسار الإسلامي» أي تحقيق أهداف اليسار في التقدم والتنمية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية عن طريق الإسلام باعتباره ثقافةً شعبية وليس عن طريق الأيديولوجيات العلمانية التي لا يفهمها الشعب ولا تتعامل معها إلا النخبة المثقفة.

وكنت قد قرأت وأنا أستاذ بالولايات المتحدة الأمريكية عن «لاهوت الأرض» و«لاهوت التنمية» و«لاهوت التحرر» و«لاهوت الشعب» وأنا في مرحلة الإعداد لعلم الكلام الجديد ونقد نظرية الذات والصفات والأفعال الأشعرية، ومتجاوزًا الأصول الخمسة عند المعتزلة والإمامية عند الشيعة.

فأصدرت مجلة «اليسار الإسلامي» على نفقتي الخاصة، صدر منها العدد الأول قبل أن تُصادَر، ثم تعبتُ من العمل الشعبي، فخصصتُ وقتي لمشروعي العلمي «التراث والتجديد». ومع ذلك انتشرت فكرة «اليسار الإسلامي» في تونس والمغرب غربًا، وامتدت إلى ماليزيا وإندونيسيا شرقًا، وما زال هو القادر على جمع الإسلاميين والعلمانيين والماركسيين في عملٍ سياسيٍّ واحد كما هو الحال عند الإسلاميين التقدميين في تونس وحزب النهضة والحكومة الحالية بعد ثورات الربيع العربي ٢٠١١م التي تجمع بين اليمين واليسار.

وظللت أنشط سياسيًّا ضد الانقلاب على الناصرية بعد وفاة الزعيم. وشاركت في انتفاضة يناير ١٩٧٧م التي حملت الجماهير الشعبية فيها صور عبد الناصر من الإسكندرية إلى أسوان مطالبين بالخبز بعد رفع الحكومة الأسعار، بالرغم من تسمية رئيس الدولة لها «انتفاضة حرامية»؛ لأنها فتحت المجمعات الاستهلاكية، ووزعت ما فيها على الفقراء، وهدمت كل الإعلانات عن الفنادق الكبرى والعطور الغالية والملابس الجاهزة واحتياجات الطبقة الغنية، وأبقت على إعلانات المستشفيات والمدارس والنوادي الشعبية.

واستمرت كتاباتي عن الدين والثورة، الدين وسيلة، والثورة غاية. وجُمعت في ثمانية أجزاء بعنوان «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١». وكتبت عن «لاهوت التحرير» عند كاميلو توريز في أمريكا اللاتينية. وأصدرت كتابًا عن الأفغاني لنفس السبب.

وبعد نشري كتاب «الحكومة الإسلامية» للخميني صنفتني الحركة الإسلامية بأنني شيوعيٌّ متخفٍ، وصنفتني الحركة التقدمية بأنني إسلامي متخفٍ، وصنفتني أجهزة الأمن بأنني إخواني شيوعي.

وعارضت اتفاقية كامب ديفيد وزيارة الرئيس لإسرائيل، عارضت اتفاقية السلام قبل أن تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وكان نصيبي الفصل من الجامعة بعد قرارات سبتمبر الشهيرة ١٩٨١م، وتحويلي إلى وزارة الشئون الاجتماعية كموظف بها، ثم جلست في المنزل مدة عام كتبت فيه «مقدمة في علم الاستغراب». وما زلت أقوم بدوري في المعارضة السياسية بالقلم دون استعمال أي وسيلة من وسائل العنف، ودون المعارضة السياسية في الإعلام تجنبًا للإثارة الصحفية.

وكنت أناقش رؤساء الدولة في المعرض الدولي للكتاب بالقاهرة، قبل أن ينعزلوا خوفًا من دور المثقفين في المعارضة السياسية العلنية. وكانوا يحضرون مع مثقفي السلطان ويجلسون في حجرةٍ مغلقة ليتم تصوير الجلسة إعلاميًّا كدليل على حركة الفكر والانفتاح السياسي والثقافي بين الرئيس وجمهور المثقفين.

كانت الدولة قد وضعت حول منزلي حراسة ليل نهار بعد أن اكتشفت إصرار الجماعات الإسلامية المتشددة على اغتيالي لأنني كافر في نظرهم، وضبطوا ثلاثة أعضاء منها حول منزلي يتفقدون المكان والزمان المناسب لتنفيذ خططهم ضدي، وكتبتُ مقالًا ضد التوريث معتمدًا على تحليل لفظ «إرث» في القرآن الكريم، وأنه لا يفيد أي ميراث سياسي، بل فقط ميراث النبوة؛ فرُفعت الحراسة عني عقابًا لي بسبب كتابتي لهذا المقال، وقد كان ابن الرئيس يستعد لوراثة أبيه في حكم مصر.

وبعد ثورة الربيع العربي في مصر عام ٢٠١١م تم افتتاح المركز العام للإخوان المسلمين فوق هضبة المقطم، وحضر كثيرٌ من الزعماء السياسيين مثل عمرو موسى وغيرهم، وفوجئت بأغاني وأناشيد الفترة الناصرية تُذاع على الهواء بمكبرات الصوت مثل نشيد «وطني الأكبر»، و«الله أكبر». ففرحت بأن الوئام قد عاد بين أقوى تنظيمٍ شعبيٍّ إسلامي في مصر وبين السلطة الثورية الجديدة، وكان الشعار على واجهة المبنى «المصحف والسيفان المتقاطعان» فحزنت لأن هذا الشعار لم يتغير منذ تأسيس الجماعة عام ١٩٤٨م. وطالما اقترحت أن يكون الشعار «كتابًا وقلمين»، الكتاب أي العلم والقلمان أي تعدد الآراء. وحزنت لأن الإخوان أبعدوا المرشح الإخواني المستقل عبد المنعم أبو الفتوح بعد أن رفعوا شعار «مشاركة لا مغالبة»، ثم فرحت أنهم أصبحوا جزءًا من الحركة الوطنية. ومع ذلك سار الإخوان ورجعوا لوضعهم الأول وهو الحكم الانفرادي بعد نجاح مرشحهم لرئاسة الجمهورية.

ثم دُعيت في إحدى إفطارات رمضان بعد الثورة وقبل الانتخابات الأولى، وبعد الإفطار ألقى كبيرهم خطبةً لم يذكر فيها التوريث الذي كان على قدمٍ وساق. فسألته: «أين موضوع التوريث؟» فقال لي: «اسكت يا حسن.» وكان قد تعرَّف عليَّ عندما كنتُ عضوًا في جماعة الإخوان في شعبة باب الشعرية عند مرحلة الانتقال من الثانوية العامة إلى الجامعة، وسألت نفسي: «هل تم اتفاقٌ بين الرئيس المتطلع للرئاسة بعد أبيه والإخوان على تدعيمه من قبل الإخوان؟» فحزنت لدخول الإخوان في صفقةٍ سياسية لا يرضاها الشعب.

وفي لقاء مع الرئيس الإخواني وبعد نجاحه في الانتخابات في القصر الجمهوري سأل عني وكنت أعرفه من قبلُ والتقيته في جلسات الحوار الديني وعلاقتها بالغرب فوقفت. فخاطبني قائلًا: «يقولون عنك إنك شيوعي.» فأجبت: «وماذا كان أبو ذر الغفاري؟» فأجاب أحد الحاضرين من الفنانين: «كان شيوعي.» فضحك المثقفون والفنانون المدعوُّون للحوار معه. فقلت له: أنا مثل الأفغاني مفجر الثورة العرابية، وصاحب الكلمة التي ألقاها أحمد عرابي في وجه الخديوي توفيق في قصر عابدين «إن الله خلقنا أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا. والله لا نستعبد بعد اليوم.» وهو الذي كرر عبارة ابن حزم «الأرض لمن يفلحها». وهو القائل: «عجبت لك أيها الفلاح! تشق الأرض بفأسك، ولا تشق قلب ظالمك.» وقالت إحدى الفنانات: «ألا تقدمون لنا شيئًا نأكله؟» فحزنت. فالنقاش الفكري مع رئيس الدولة أولى من ضياع الوقت في تناول الطعام.

وفي الصدام بين الإخوان والدولة بعد ذلك، وخوف الدولة من سيطرة الإخوان على القطاعَين؛ الصناعي والتجاري، أغلقت مصانع الشريف الإخواني وغيره من مشايخ أصحاب رءوس الأموال الإخوانيين بعد أن استطاعوا تجميع رءوس الأموال من مصر وإغراء المصريين بكسب نسبٍ عالية من عائد المشاريع تصل إلى عشرين في المائة، وأُغلقت محال التجارة والبقالة الإخوانية بعد أن كانت قد اشتهرت بين الناس باستثناء محلات «نور على نور»؛ محل التجارة الكبير وفروعه المختلفة. كما أُغلقت المستشفيات والعيادات الإخوانية الملحقة بالمساجد، والمدارس التعليمية لحل مشكلة تكديس الفصول، وبعد أن نجح الإخوان في إقامة دروس تقوية جماعية رخيصة الثمن بدلًا من الدروس الخصوصية الباهظة التكاليف، وانتهيت إلى النتيجة القائلة: «يا ليت الإخوان ركزوا على الخدمات الاجتماعية للشعب، واستحوذوا على قلوب الناس، وحلُّوا مشكلاتهم بدلًا من الاصطدام بالسلطة العسكرية.» فالسلطة في العقول وليست في القصور.

كنت أود أن أبقى عضوًا في جماعة الإخوان، أكوِّن تيارًا يساريًّا فيها، ولكن الجماعة كانت محافظة أشد المحافظة، ولا تقبل فيها حتى الليبراليين، لا ترضى عن أي معارضة لمكتب الإرشاد.

وجاءني مرة خطاب من حزبٍ شيوعي يطلبون مني رئاسة هذا الحزب، فلم أرد؛ لأنني لست حزبيًّا، ولست شيوعيًّا، وأوجِّه كل طاقاتي إلى تربية جيلٍ جديد في الجامعة يعرف كيف يفكر، ويبحث، ويؤلف بين التيارات المتناقضة لصالح الوطن. وهو الأتون الذي تنصهر فيه كل الأيديولوجيات؛ إسلامية كانت أم ماركسية، سلفية كانت أم علمانية، محافظة كانت أم تقدمية.

١  للمليك اهتفوا يا أسود الحمى .. للمليك اهتفوا دائمًا دائما. نحن في ظله قد ملكنا الزمن .. نحن في عهده قد ملكنا الوطن. للمليك يا بلادي اسعدي .. للمليك كلنا نفتدي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤