حتمًا سأكتب قِصَّتها

أُرِيد أن أكتُب قصَّة؛ قصتها، حديثة جدًّا وقريبة جدًّا، فقد وقعتْ أحداثُها خلال أيام قليلة مضتْ، عَرَفْناها وشَاهَدْناها وأثقَلَتْ قلوبَنا جميعًا بهمٍّ من الصعب أن يزول.

قصةٌ حديثةٌ لأني كفَفْتُ عن قراءة القصص التي تبدأ بكانتِ الرياح تزوم، والقمر محاقًا، والدنيا بين صيف وشتاء، كفَفْتُ عن قراءة قصص تحدِّثني عن إنسان يشكو الظلم أو الوحدة أو انعدام الهدف.

كفَفْتُ عن قراءة قصص الخيال الطفولية، وكأنَّما تُكتَب من أطفال ليَقْرَأَها أطفال، كفَفْتُ؛ لأنَّ ما يَدُور بنا وأمامَنا ونَعِيشه أصبح أكثر فاعلية بكثير مِن أيِّ خيال، ومِن أيِّ رعب مصطنع، ومن أيَّة كوارث قرأْنا عنها في التاريخ.

ماذا يكون شعر الخَنْساء، أو تكون تراجيديا «أوديب» أو «هاملت» الذي يتأرْجَح بين أن يكون أو لا يكون؟! كلُّ ما كتَبَتْه البشرية بخيالها وتجارِبِها لا يُقارَن بما يحدث أمامَنا في واقِعنا الآن، بل وعلى الساحة مِن حَوْلنا، وفي العالم.

فهي قصةٌ أبطالُها رؤساء دُوَل، وفتيان عرب، وقنابل وطائرات مخطوفة، وسُفُن مأسورة، وبنات شُجْعان، ورجال حُبِسوا فمَاتوا مخنوقِين بجُبْنِهم، قصص بطولات، وعبث أخرق مجنون، ورجال تعصف الأوضاع بأفئدتهم وعقولهم، ورؤساء عرب عناتيل مُحْتَمون في جُحُورهم المحروسة بالدبابات ومحاطون بالمرتَزِقة، وهُمْ بكلِّ إجرامٍ وجُبْنٍ يُصدِرون الأوامرَ بالاغتيال والاقتتال، قصة دولة عنصرية قامتْ على المذابح وبالمذابح، وتَعِيش بالتَّرْويع، ودولة كبرى في مساحتِها وثروتِها، صغرى إلى أدنى حدود الصَّغار في سُلُوكِها وقِيَمِها، قصة عالَمٍ عربي جاءتْه أعظم رسالات من السماء فأصبَحَ بها ذات يوم أعظمَ الشعوب، ثم تفجَّر له من باطِن الأرض شيطانٌ أسودُ يُحاوِلُ أن يَنْهَشَ رسالتَه العظيمة ويلتهم إنسانيته، ولا يُبْقِي له سوى نفسٍ مريضةٍ أمَّارةٍ بالسوء والجَشَع واجتثاث الضمير.

أُرِيد أن أكتُبَ قصةً، قصتها.

ولكنَّها ليستْ قصةً مجرَّدةً حدثَتْ مِن فراغٍ وفي فراغٍ.

إنَّها قصة حدثَتْ ودَارَتْ في قلبِ وخلفيةِ الجحيم الذي نحياه.

وأبطالها كلُّهم وكأنَّما يُساقُون إلى مَصِيرهم وحتْفِهم بقدَر لا يستطيعون منْعَه أو دفْعَه أو حتى تحويل مسارِه.

•••

ثلاثة فتية عرب.

أحدُهم وُلِد — حيث يقول — في قريةٍ يَحْتَسِي فيها أبوه زيتَ الزيتون كلَّ صباح ليكتَسِب الصحة والقدْرة وطول العُمْر والبقاء، ومات هو — الفتى — مُجَنْدَلًا في طائرةٍ مصرية، كان يَنْوِي أن يقْتُل — وقَتَل — كلَّ ركَّابِها الذين لا ذنبَ لهم ولا حولَ إلَّا أنَّهم ركَّاب طائرة مصرية.

وزميلاه اللَّذان قابَلَاه في أثينا، لأول مرةٍ يَلْتَقِي الثلاثة، عَرَبًا كنَّا ونَبْقَى عَرَبًا، لا يعرف بعضُهم البعض، بل حتى لا يعرفون مهمَّتَهم، وإنَّما بكلِّ براءةٍ وسذاجةٍ وضَياعٍ تَلَقَّوا الأمرَ من قائدٍ خَسيسٍ؛ لكي يُنْقِذوا فلسطين والقضية، لكَيْ تكونوا أبطالًا خُذُوا هذه المسدسات والقنابل واخطَفُوا طائرةَ العدوِّ المصري اللدود ونفِّذوا التعليمات.

لم يتوقَّف أحدُهما ليُناقِش ما علاقةُ إنقاذ فلسطين بقتْل ركَّابٍ مدنيين أبرياء؟! وهل الطائرة المصرية التي تُقِلُّ فلَّاحين مصريين وركَّابًا أجانب هي طائرةٌ مُعاديةٌ مثل التي تَخْرِق حاجزَ الصوت فوق بيروت كلَّ يوم، وتدكُّ البِقاع دكًّا دكًّا، وتمسَحُ قُرَى ومُدُنَ الجنوب اللبناني بلا أيِّ ذرةِ رحمةٍ أو هوادةٍ.

أبدًا، لم يتوقَّف أحدُهما ليُناقِش نفسَه أو قائدَه، فهو شابٌّ عربي يُرِيد الخلاص، وقد أقْنَعوه أنَّ الخلاص في اقتناع قيادته، وثقتُه في تلك القيادة لا حدَّ لها.

فإذا كان قد تشكَّك أو تردَّد فإنَّهم كانوا يقولون له: وهل كان الفلسطينيون في دير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشتيلة من العسكريين أم كانوا من الأطفال والنساء المبقورات البطون البارزات الأشلاء والأجِنَّة؟!

إنَّنا نُحارِب إرهابًا بإرهاب، وأعداؤنا إرهابيون سابقون، وهكذا يجب أن نكون لنهزِمَهم، وننتصر، ونستردَّ الأرضَ والعرضَ، غافِلين عن الحقيقة التي يردِّدها دُهاةُ الصُّهْيونية أنفسُهم من أنَّ أخطرَ شيء على الإنسان أن يَتَبَنَّى منطقَ عدوِّه، وما دام منطق عدوِّه هو الإبادة والذبح والإرهاب، فهكذا لا بد أن نردَّ ناسِين أنَّ العدوَّ هو الذي يُريد بالضبط هذا، فكيانه قائم على الإرهاب ويموت الكيان لو توقَّف الإرهاب، ولكي يُرْهِب عليه أن يَعْتَمِدَ على بعض الحوادث الإرهابية التي نقوم بها نحوه؛ ولهذا فمِن مصلحتِه القُصْوى أن يَسْتَمِرَّ إرهابُنا الصغير نحوَه ليسدر في إرهابه الكبير هو، ولكنْ …!

ولكنْ تلك طائرة مصريةٌ وركَّابُها معظمُهم عرب … و…!

فيُجِيب القائدُ الحكيمُ الخطيرُ: إنَّ مصرَ تقود القضيةَ للسلام، والسلامُ ضدنا، السلام على طريقة عرفات ومبارك وحسين وصدام و٢٤٢، ٣٣٨، إنَّه نفس الطريق إلى الكامب، وإلى الخيانة فاذبحوا الركَّاب ذبحًا، فنحن نُريد قَطْع هذا الطريق، فلو نَجَحوا لضَاعَتِ القضية، ضاعتِ القضية! أترضَوْن هذا؟!

وبالطبع لا يرضَوْن، وأمرك يا سيدي، هات البنادق والقنابل، وإلى اللقاء المرتَقَب في أثينا. البطل المجهول الثاني، يوناني أرزقي، عرَضُوا عليه كذا ألفًا لقاءَ أن يَحْمِلَ لفافةً من طائرة عربية إلى طائرة عربية أخرى رابِضة بجوارِها تمامًا.

يوناني كادح، ماذا يُهِمُّه هو، أن تنتقل لفافةٌ مهما كانتْ محتوياتها، من عربي إلى عربي، أو حتى من يهودي الموساد إلى عربي طالَما سيَقْبِض مبلَغًا من المال يضْمَن له العَيْشَ المُرِيحَ لعدة سنين؟! ولو عَلِمَ أنَّ بالطائرة ثلاثةَ عشرَ يونانيًّا سيَدْفَعون بأرْوَاحِهم وبأطفالهم ثمن هذه السنوات المريحة، ربَّما كان قد تردَّد، ولكنْ مثلَما الحبُّ يُعْمِي ويُصِمُّ، فالمالُ أيضًا يُعْمِي، خاصةً الضمائر، ويُصِمُّها.

وهكذا ترتحل الطائرة، حامِلةً في جَعْبَتِها كلَّ متناقِضات العالَمِ العربي والعالَمِ عامةً، عربًا وإسرائيليين وأمريكان، ويونانيين، وحتى فلبينيين وخادمات فلبينيات، لتكمل المأساة.

وهكذا تتحوَّل القضية العربية والفلسطينية من مقالات يُدَبِّجُها إخوانُنا الكُتَّاب والمفكِّرون العرب، مقالات تستهلك مئات الملايين من الكلمات، وآلاف التحليلات والتصوُّرات، ومئات الخُطَب والتصريحات، تتحوَّل وتصبح كائناتٍ حيةً، نفَذَتْ كلُّ هذه المجاري من الكتابات والتصوُّرات إلى كياناتها الداخلية، وأصبحتِ الخُطَب بَشَرًا، وأصبح الاستنكار قنبلةً ومسدسًا، وأصبحتِ القضية من كفاح رهيب في سبيل الحق والعدل والحرية إلى أبشع قِيَم مما قد يحفل بها قلب بشر، ألَا وهي أن نأخُذَ الشخص البريء بذنب المسيء، وأن يُواجَه الأعزل ويُقتَل بالسلاح في وجهه وأمام عينيه، لا يصبح في قلب أيِّ إنسان ذرةٌ من بطولة أو شهامة أو إنسانية، إنَّما هي الكراهية العمياء في أحطِّ صُوَرها، إنَّما هي الكائن البشري حين يتحوَّل إلى الإجرام وسيلة لحلِّ قضية مقدَّسة.

في غمضةِ عينٍ كانتِ الطائرةُ مخطوفةً.

وكان الأبطال المغاوير الثلاثة قد سَيْطَروا على الموقِف تمامًا وألْقَوْا أبشع أنواع الرُّعْب في قلوب الرُّكَّاب، وحتى في قلب موظفي الأمن، فما بالُك بقائد الطائرة الذي يحسُّ بالمسئولية الأكبر والأضخم.

أمِن السهل على أيِّ إنسان أن يجلس إلى هذا المكتب، بعيدًا عن المكان والأزمان، مستريح الخاطر إلى أنَّه في أمانٍ تامٍّ، ويتحدَّث عن هذا الذي حدث داخل الطائرة؟! مستحيل!

إنَّ أيَّ رفة جناح لطائرة عادية، أو أي مطبٍّ هوائي تُصادِفه يُسقِط قلوبَ ركَّابها جميعًا، مهما بلغَتْ شجاعتُهم، فما بالُك والأمرُ أمرُ اختطاف، أمرُ حيوانات بشرية عمياء، في أيديها أسلحة فتَّاكة، استَوْلَتْ على الركَّاب والطائرة والمصير، والمصير والطائرة والركاب معلَّقون بين السماء والأرض؟!

إنَّ البشرَ لا يتصرَّفون بنفس الطريقة في كلِّ المواقف، فالموقف المباغِت خاصةً لو كان يتهدَّد صميم حياة الشخص يجعَلُه يتصرَّف بطريقةٍ لا علاقةَ لها بتصرُّفاته العادية أو حتى صفاته، فالشُّجاع قد ينقَلِب جَبَانًا، والخائف يتحوَّل إلى جَبانٍ أخرق، ومِن الإنسان العادي قد يُولَد بطلٌ، ومَن المفروض أنَّه بطلٌ يتمخَّض الأمرُ عن فأرٍ صغيرٍ مذعور.

وهكذا، فهناك فارق هائل بين الصورة — ونحن نستعيدها الآن، بعيدًا تمامًا عن حدوثها — وبين الصورة لحظةَ حدُوثها.

فجأة، شُلَّ تفكير الجميع، الوحيدون الذين أصبحوا يُفكِّرون هم السَّفَّاحون الذين اعتلَوا الطائرة وسَيْطروا عليها، بل أعتَقِد أنَّ هؤلاء الآخَرين كانوا يُعانون في داخِلِهم رُعْبًا قاتِلًا.

وهنا، وفي مثل هذا الجو، تتجلَّى بطولةُ رجل الأمن المصري: مدحت، فأمامَه ثلاث قنابل يدوية مصوَّبة إليه وإلى الركَّاب، وثلاث فوَّهات مسدسات، ومع هذا قرَّر أن يؤدِّيَ واجبَه، وما دام واجبه أن يُقاوِم الإرهاب، فلْيَضْرِبْ وليتظاهَر بإخراج جواز سفَرِه، ويُخرِج مسدسًا مُعَدًّا، يُرْدِي به قائدَ العملية بثلاث طلقات مفاجِئة مصوَّبة بعناية.

ولكنَّ زملاءَه كان لهم تصرُّفٌ آخَر، فقد آثَروا الاستسلام وألْقَوْا بمسدساتهم أرضًا، هكذا دفعَتْهم حلاوةُ الرُّوح والرغبة في النجاة بالنفس، أليس من سخرية القَدَر، وحكمة المولى أنَّ الذي تصرَّف بشجاعةٍ وأدَّى واجبَه هو الذي يعيش الآن، بينما هلَكَ زميلاه اللذان آثَرا السلامة والاستسلام؟! إنَّها ليستْ سخرية أقدار، إنَّها قانون الحياة، فالبقاء دائمًا للأشجع، والحرص على الحياة هو بالشجاعة وليس باستهزاء واستكانة، وأكل العيش بالجُبْن يُطِيل العُمر، كان خالد بن الوليد، رضي الله عنه، أشجَعَ فرسان العرب؛ ولهذا لم يَمُتْ أبدًا في حربٍ فقد كان يدخُلُها فيَهزِم عدوَّه ويعيش، ويموت العدوُّ.

أمَّا قائدُ الطائرة فأعتَقِد أنَّ مسئوليته كبرى عن الفاجِعة التي حدثَتْ ففي حالة كتلك هو مسئول فيها عن مائة إنسان، كان عليه حتى لو كان أشجع الشجعان أن يُطِيع أمرَ هؤلاء المجرِمين تمامًا، فإذا أنت قرَّرتَ أن تقوم بمهمة كالتي كُلِّفوا بها، ووضَعْتَ رأسَك على كفِّك، ونوَيْتَ، إذا حانتِ اللحظة أنْ تفجِّر الطائرة وأنتَ فيها، فمِن أبسط مبادئ الذكاء أن تُطِيع إنسانًا كهذا طاعةً عمياء؛ لأنَّه يكون في حالة نفسية مستعدًّا فيها لكي يُقامِرَ بأيِّ شيء وبكلِّ شيء.

ولهذا كان قرار الكابتن أن يُراوِغ ويُفْرِغ بنزين الطائرة ويفرغ إطاراتها من الهواء، كان في رأيي قرارًا خاطئًا؛ لأنَّه عرَّض حياةَ الركَّاب للخطر أكثر، فمعنى هذا أنَّه حدَّد قدرة التهوية وقدرة الطيران، أي كسَّحَ نفسَه وطائرتَه وأرْقَدَها فوق مطار فاليتا لا حول لها ولا قوة.

وقد فسَّر هو هذا بقوله إنَّه كان خائِفًا أن يُرْغِمَه المختطِفون على التوجُّه إلى ليبيا حيث يفجِّرون الطائرة، وهو تفسير قاصِر؛ فليس من المعقول — إذا كان المتَّهَم هو ليبيا — أن تَقبَل تفجير طائرة على أرضها، فمِن باب أولى أن يفجِّرها المختطِفون في مالطة، إذا كان في نيَّتِهم التفجير، العكس هو الصحيح، لقد كان من مصلحتِه ومصلحةِ الركَّاب والطائرة أن يتوجَّهوا جميعًا إلى طرابلس حيث تصبح المسئولية مسئوليةً ليبيا بَدَلًا مما هو حادثٌ الآن من أنَّ الدوائر الإعلامية العالَمية تُحمِّل مصر المسئولية عن مأساة الطائرة.

ومِن رأيي أنَّ الكابتن أُصِيب بحالةٍ من الارتباك أدَّتْ إلى هذا التفكير الخطأ، وأنا مِن مجلسي فوقَ مكتبي هذا لا ألُومُه، ولستُ أعرف كيف كنتُ ولا كيف كان غيري يتصرَّف إن وُضِع في هذا الموقف!

الخطأ الأكبر الثاني الذي ارتكبه الكابتن هو مطالبتُه التدخُّل بقوَّات من خارج الطائرة تُنقِذ الموقف، وإلحاحُه في هذا بطريقةٍ تدلُّ على أنَّه كان يُعانِي شبهَ انهيارٍ لا منقذ له منه إلَّا بقوة خارجية، مع أنَّه يعلَمُ تمامًا أنَّ أيَّ تدخُّل خارجي سيكون على حساب ركَّابه وعلى حسابِه هو شخصيًّا، وقد تبع هذا الخطأ، وكنتيجةٍ له، سلسلة من الأخطاء، ففي سبيلِ التحريض على التدخُّل بالَغَ القائد في صورةِ الوضْع داخِلَ الطائرة بحيث إنَّ المعلومات التي ذكرها دفعتِ القيادةَ العسكرية في مصر إلى سوء تقدير الموقف، وكان القرار بالتدخُّل.

وهناك طُرُق علمية للتدخُّل، منها إدْخال الغازات المخدِّرة، ومُحاصَرة الطائرة إلى درجة إنهاك مختطِفِيها حتى لو كانوا يَقتُلون أحدَ الركَّاب بين الحين والحين، أمَّا الهجوم بفرقة صاعِقة، ما أشجع أبطالَها هم الآخَرون وهم يُواجِهون خطرًا لا يعرفون كنهه! ولكنَّهم خُضْر العُود والتجربة والإعداد بحيث هجَموا على الطائرة وكأنَّهم قوةُ أمنٍ مركزي في طريقِها إلى فضِّ مظاهرةٍ بالتفجير وقنابل الدخان، والاقتحام بالقوة وحدَها، واقتحام قلعة محصَّنة، يسيطر عليها مسلَّحون سوف يكون ضحيته بلا أدنى شك الرهائن الأبرياء.

وبقِيَتْ بعد هذه القصة التي أُرِيد أن أكتُبَها: قصة شادية؛ كبيرة المُضِيفات؛ تلك التي أطْلَقُوا سراحَها لتبلِّغَ رسالةً إلى المطار ثم تعود إلى الطائرة، وأريد أن أسأل كم امرأةً أو فتاةً، لا في مصر والبلاد العربية وحدَها، ولكنْ في العالَمِ كلِّه، تَقْبَل، أن تَنْفُذَ بجلْدِها مِن حصارِ الخاطِفين والاحتمال شبه الأكيد للموت والقتْل، تَقبَل، بعدَ أن تصل إلى مبنى المطار في سلامٍ أن تُقَرِّر وبمطلَقِ إرادتها، بقرارٍ لا رجعةَ فيه أن تَعُود إلى حيث الرُّعْب والموت؟!

إنَّه موقف يفوق في رأيي بطولة الفتيات والرجال الذين يَقْبَلون أن يُلَغِّموا أنفسَهم ليفجِّروا معسكرات وقوات العدوِّ؛ ذلك أنَّ هؤلاء الفتيات والرجال مُناضِلون تَرَبَّوْا تربيةً ثوريةً نضاليةً بحيث يُعتَبَر عملٌ كهذا من قَبِيل المهمات القتالية الثورية.

أمَّا شادية، فلم تكن مقاتِلةً، ولم تكن ثوريةً، ولم تكن منضَمَّةً إلى حزبٍ أو حركةٍ، ولم تكن فدائيةً، كانتْ فتاةً عاديةً جدًّا، تعمل مُضِيفةً، وقد جاء علينا حينٌ من الدهر كنَّا نعتَبِر أنَّ الفتاة التي تَقْبَل العمل كمضيفةٍ، فتاةٌ تهوَى السَّفَر والمغامرات الشخصية، وها هي واحدة ممَّن كنَّا نعتقد فيهنَّ هذا تتبدَّى لها في لحظة الواجب شخصية الفتاة والمرأة المصرية التي في لحظات الخطر تصبح أكثرَ تماسُكًا حتى من الرجل، وتقبل التحدِّيَ، وتعود بقدَمَيْها إلى حيث ينتظِرُها الموت المحقَّق، وقد فعلتْ، بمنتهى البساطة، ودون تردُّد، دون ارتعاشَةٍ لجفنٍ، أو دمعةٍ تسيل، دون أن يَتَداعَى إلى ذهنِها موقفُ بناتِنا في أفلامنا السينمائية ومسرحياتنا اللاتي يرتَعِشْنَ من رؤية صرصار، … و… «يَفْقَعْنَ» بالصوت لدى شكِّهن في وجود لص.

ها هي فتاة مصرية عربية حقيقية، عروس تستعدُّ للزِّفاف، ناضِجة وليستْ مراهقة في السادسة عشرة أو العشرين؛ إذْ هي في الثالثة والثلاثين، تَقْبَل بمطلَقِ إرادتها أن تذهب إلى الجحيم القابِع على أرض المطار دون وَجَلٍ أو تردُّد.

لماذا فعلتْ هذا؟!

إنَّه الإحساس بالواجب، وبكلمةِ الشَّرَف، وبالوَعْد الذي قطعَتْه وخجَلُها أن تنقُضَه، نفس هذه الأحاسيس التي هَرَبَتْ من بعض موظفي الأمن في لحظة الجدِّ، فاستحالوا إلى أداة لمساعدة الخاطفين، وجرِّ الجرحى، وإلقائِهم من الطائرة، يا لَعار بعض الرجال!

ويا لشجاعة بعض النساء!

فالشجاعة ليستْ رجلًا وامرأة، الشجاعة إنسان، رجل أو امرأة، يحسُّ بواجِبِه، ولا يتردَّد في فعله.

سأكتُب قصَّتَها ولَيْتَني أملِكُ ساعتَها شجاعتَها؛ لأؤدِّيَ واجبي ككاتب تجاه فتاة ضُربتْ مدينتها السويس فأبتْ أن تُغادِرَ وهي بعدُ لا تزالُ صَبِيةً وأدَّتْ واجبها تجاه الوطن إلى آخِر لحظة في حياتها، وإنْ هي إلَّا مَثَلٌ واحدٌ أضرِبُه لِمَن لا يزالون يعتبرون المرأةَ حُرْمَةً وعورةً وخطيئةً وعيبًا، من المحتَّمِ أن تُحْتَجَز كالعار في الحرملكات والمنازل، وتقوم حَوْلَها الأسوار؛ لأنها «بطبيعتها!» ميَّالة للتبذُّل والتبرُّج وإشاعة الفتْنة في عالَمِ الرجال. ماذا تقولون عن هذه المرأة التي أشاعتِ «البطولة» في عالَمٍ رجالي معظمُه تصرَّفَ برعونة وتخاذُل وجُبن؟!

من بين أزيز الرَّصاص وقنابل دخان الحرائق واستغاثات البشر واختناقات الأطفال والجثث المكوَّمة، الجثة فوق جثة، وحياة بأكمَلِها وأسْرِها فوق حياة، ومأساة فوق مأساة، تتبدَّى لنا القضية العربية في صورتها الحقيقية تمامًا، فهي لم تَعُدْ قضيةً نظريةً ومطالبات استقلال أو وطن، وإنَّما نجح أعداؤنا بالخارج وأعوانُهم في الداخِل في أن يَقْلِبوها سَرَطانًا داخليًّا يتمدَّد في داخل كلِّ مواطن عربي على حدةٍ، يقلبوها حربًا على أنفسنا من أنفسنا، وإهدارًا لكلِّ قيمةٍ عُلْيا في شبابنا، فلم يَعُدِ الفلسطينيُّ فلسطينيًّا والعربيُّ عربيًّا، ولكنَّه أصبَحَ فلسطينيَّ أبي نضال أبي عمار، وعربيًّا مشرقيًّا وعربيًّا مغربيًّا، ومصريًّا منبوذًا ومخابرات وحرب مخابرات جبانة ورعديدة وطعنًا في الظلام، وجهنم أقامَها العرب من أجل العرب وبالذات من أجل المصريين، من أجل «ثورة مصر» أي ثورةٍ لمصر تقتُل المصريين والعرب وتُبِيد الفلسطينيين؟! أيُّ ثورة عربية أو حركة أمل أو دروز أو شيعة تحوَّلَتْ إلى عصابات وقطاع الطرق، بأخسِّ الوسائل تتقاتَل وتنسف وتُبِيد بلا أيِّ عقل أو صوابٍ أو تمييز!

وإذا لم تصدِّقوا فشاهِدوا معي صورةَ الجُثَث مرةً أخرى وصُوَر حُطام الطائرة، وصُوَر الهول الذي قام به العرب، خرَّب العدوُّ في الداخِل والخارِج نفوسَهم، شاهِدوا ذلك الحطام من الصُّلْب والبشر والأشلاء.

شاهِدوا أمَّ شادية بملابِسِها البيضاء في المطار وهي تقول أنا أمُّ البطلة، وشاهِدوا مدحت في مَرْقَدِه بالمستشفى راقِدًا رقدةَ أسدٍ نهشَتْه مجموعة فئران مذعورة قامتْ بأحطِّ عملٍ جبانٍ في التاريخ.

شاهِدوا كلَّ ذلك لتُدْرِكوا ما آلَتْ إليه القضية.

ولتُدْرِكوا أيضًا أنَّه، رغم كلِّ شيء، ورغم المأساة، ففينا بطلاتٌ من النساء وأبطال من الرجال، بل وفينا القدْرة الكاملة على أن نُحارِب وننتصر، أمَّا الإرهاب فلا، فالإرهاب بضاعةُ إسرائيل وعُدَّتُها، والحرب الشُّجاعة وجهًا لوجه هي عُدَّتُنا.

شاهِدوا حُطامَ القضية، وتذكَّروا جيدًا ذلك الحُطام.

وهنيئًا لك يا إسرائيل! وهنيئًا لك يا مستر ريجان الذي بدأتَ القرصَنَةَ وتؤمن بها!

وهنيئًا لك يا «أبو» كذا و«أبو» كذا وابن كذا وابن كذا!

أمَّا أنتِ يا مصر.

أمَّا أنتم أيُّها الفلسطينيون الأحرار.

أمَّا أنتم أيُّها الأبرياء الذين راحوا ضحية لا حول لها.

فلكم العزاء.

فالله، سبحانه وتعالى، يُمْهِل ولا يُهْمِل.

وما حادثُ مصرع ٢٥٠ جنديًّا أمريكيًّا يحرسون إسرائيل في سينا ببعيدٍ، اللهمَّ لا شماتة! ولكنْ أيُّها الناس، هناك عَدالةٌ إلهيةٌ على الأرض، أقسم أنَّ هناك عدالةً إلهيةً على الأرض مع عدالة السماء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤