دورنمات في مصر

قبل أن نستأنف هذا الحوار مع دورنمات، والذي سيقول فيه آراءً عن الإسلام، وعن إسرائيل، وعن المسرح، والفلسفة، والفن، وحتى عن نفسه، قبل هذا أحب أن أقول للقُرَّاء خبرًا، أنَّ دورنمات سيزور القاهرة في نوفمبر القادم، فبعد الحوار الحافل الذي دار بيننا قلتُ له: هل تحبُّ أنْ تزور القاهرة؟

وجدتُه يتردَّد.

فقلتُ: إنَّها ليستْ دعوة رسمية، إنَّها دعوة شخصية منِّي أنا، أو بالأصح هي دعوة من مجلس إدارة جمعية كُتَّاب ونُقَّاد ومُخْرِجي المسرح التي أتشرَّف بكَوْني مسئولًا عنها ونائبًا لرئيسها شيخ كُتَّابنا المسرحيين توفيق الحكيم، إنَّني باسم هؤلاء المسرحيين أدعوك لزيارة القاهرة، قلتُ له هذا رغم علمي أنَّه يكره السفر، ليس فقط إلى خارج سويسرا، وإنَّما حتى إلى خارج نيوشاتل التي يُقِيم فيها، وله سنون لم يسافر أبدًا إلى الخارج، ولكنِّي قلتُه اعتمادًا على نوع من الفِراسة الداخلية، ألْتَقِط وأحسُّ بها الناس أو بما في الناس بطريقةٍ ما زلتُ لا أعرِفُها، تمامًا مثلما جاءتْني فكرة زيارته وأنا عند أخت ذلك الناشر في أحد وديان جبال الألب.

وها أنا ذا لا أُفاجَأ — وإنْ كان مفروضًا أنْ أُفاجَأ — حين قال: إنِّي أتمنَّى زيارة القاهرة، فعلًا، وكذلك زوجتي. الجديدة طبعًا؛ فزوجته السابقة التي عاش معها أكثر من ستة وثلاثين عامًا، والتي رسمَها بأكثَرَ من طريقة، والتي كانتْ معبودَتَه، كما يقولون، وتوقَّعوا أن يموت أو على الأقل يتوقَّف عن نشاطِه الفني تمامًا بعد أن ماتَتْ، الذي حدث أنَّه تزوَّج بعدَها من شابَّةٍ ألمانية تعمل مُخْرِجة في شبكة التليفزيون التي تغطِّي منطقة أوروبا الناطقة بالألمانية، ألمانيا والنمسا والجزء الألماني من سويسرا وبعض أجزاء يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا.

قلتُ: سيكون رائعًا لو صحبتْك زوجتُك، وأرجو أن نستطيع أن ندبِّر لها برنامجًا خاصًّا باعتبار أنَّك ستكون مشغولًا ببرامج أخرى.

قال: لا حاجةَ بك لأيِّ تدبير؛ فهي تعشق مصر، وطالَمَا صرَّحتْ لي بأنَّها تُريد أن تصنع فيلمًا عن مصر، وأعتَقِد أنَّها ستفعل ذلك إذا ذهبْنا.

وجَّهتُ له هذه الدعوة حتى لو كنتُ سأدفَعُ تكاليفَها كلَّها من جيبي المتواضِع الخاصِّ، فنحن في مصر منذ زيارة سارتر للقاهرة بدعوة من مؤسسة الأهرام، ومنذ زيارة جارودي بدعوة من الأهرام أيضًا، لم نُحاوِل أن ندعُوَ كاتبًا أو مفكِّرًا عالَميًّا لزيارة مصرنا التي يحبُّها العالَم بقدْر ما نضيق نحن — أحيانًا — بها!

وحتى قلتُ لنفسي: لو وجدتُ المبلَغ المطلوب كبيرًا فسأُحاوِل أن أُقْنِع الأستاذ إبراهيم نافع بأن يقدِّم لي قرضًا أو عَوْنًا أو تدفعه النخوة ليقول: بل الأهرام هو الذي سيتكفَّل بنفقات الزيارة.

ولكني حين عُدتُ إلى القاهرة — وطبعًا لأسباب لا يجهلها القارئ — لم أشَأْ أن أعْرِض أمرَ هذه الزيارة على وزارة الثقافة، خاصةً وهي مشغولة بالماضي تمامًا وترميمه، قابلتُ الدكتور ممدوح البلتاجي صُدفةً في افتتاح معرض الكتب الفرنسية التي كُتبتْ عن مصر والعرب والمسلمين منذ العصور الوسطى إلى العصر الحاضر — موضوع سأعود إلى الحديث عنه فيما بعدُ، إن شاء الله — وزارات الثقافة والعلاقات الثقافية في البلاد الأخرى مشغولة تمامًا بإقامة علاقات ثقافية وثيقة بين بلادها وبين غيرها من البلدان، وبالذات بلدان العالم النامي، وفي مقدَّمتها بطبيعة الحال، قائدة هذا العالَم الثقافي مصر.

لا يَكاد يمرُّ شهرٌ إلَّا وثمَّةَ معرضٌ أو فرقةٌ موسيقيةٌ أو فرقةُ مسرحٍ أو رقصٍ قادمة من الهند أو كوريا، وبالذات من فرنسا، إنَّ الفرنسيين يقومون بنشاط ثقافي هائل في القاهرة: معهد آثار، معهد لغة، ترجمة كتب مصرية إلى اللغة الفرنسية، معارض، دعوات للكُتَّاب لزيارتها والاحتكاك ثقافيًّا وفنيًّا بها، مهرجانات أفلام، مؤتمرات كان آخِرها مؤتمرًا للعلاقات المصرية الفرنسية، مؤتمرًا حافِلًا، كان على رأس المشتركين فيه المفكِّر الفرنسي العظيم مكسيم ردونسون، ذلك أنَّ العلاقات الثقافية لم تَعُدْ في عالَم اليوم تَرَفًا أو دعاية، إنَّها هي الروابط الحقيقية التي تجذب الشعوب إلى حضارات الشعوب؛ وبالتالي إلى فهْمها والتعاطُف مع سياستها وخطواتها إلى التقدُّم، ومثل الفرنسيين هناك معهد جوته بنشاطِه الهائل، ومعهد ليوناردو دافنشي الإيطالي، والمعهد البريطاني يُنفِق بسخاء على تعليم المصريين اللغة الإنجليزية والثقافة الإنجليزية، ناهيك عن النشاط الثقافي الذي تقوم به السفارة الأمريكية والجامعة الأمريكية، وكان تنافُسٌ هائل قائم بينهما لخَلْب لُبِّ المصريين ثقافيًّا وفنيًّا، وهذا هو في رأيي التنافس الوحيد المفيد لنا تمامًا، وقد كان مفروضًا أن تقوم مصر — أقصد الوزارات والإدارات الثقافية الكثيرة المبعثرة بين وزارة الثقافة وإدارة العلاقات الثقافية بها، وإدارة العلاقات الثقافية بوزارة الخارجية، والأخرى التي بوزارة التربية والتعليم أو التعليم العالي، لا أعرف، كان مفروضًا أن تُوجَد هذه كلُّها في مؤسسة ثقافية واحدة للعلاقات الخارجية وللثقافة الداخلية أيضًا، كهيئة «البروهيلفسيا» السويسرية أو غيرها، ولكن تقول «لمين»؟! المهم، قابلتُ الدكتور ممدوح البلتاجي وذكرتُ له — عَرَضًا — عزمي على دعوة دورنمات وقبوله الدعوة فوجدتُه بحماسٍ منقطِع النظير يُصِرُّ على أن تقوم هيئة الاستعلامات باستضافة الرجل الكبير، وبمشاورات مع السيد صفوت الشريف وزير الإعلام تمَّ الاتفاق على برنامج كامل للزيارة، وحتى حين ذكرتُ الفيلم الذي تريد زوجةُ دورنمات عملَه عن مصر لعَرْضه في الشبكة الألمانية الأوروبية قال: إنَّ إمكانيات الاستعلامات كلَّها ستُسَخَّر من أجل نجاح العمل.

وهكذا أرسلتْ هيئة الاستعلامات دعوةً رسميةً — عن طريق السفارة السويسرية في القاهرة — إلى دورنمات بها برنامج مفصَّل واتفاق مع الثقافة الجماهيرية على عرض مسرحية لدورنمات ممَّا سبق عرْضُه له في القاهرة، ولستُ أدري لِمَ الثقافة الجماهيرية؟! ولماذا لا يكون المسرح القومي الأب هو الذي يقدِّمها؟! وتحدَّد للزيارة بالاتفاق مع دورنمات نوفمبر القادم، إن شاء الله.

هذا هو الخبر.

ونعود الآن إلى ما كنَّا فيه الأسبوع الماضي ونتذكَّر الحوار حتى نُحِيط بالموضوع.

قال: إنَّ الحرية الحقيقية هي في إدراك محدودية القدرة البشرية على فهْم الكون.

قلتُ: بالضبط، ففي مفهومي أنَّ الصراع الحقيقي هو بين رغبة الإنسان العارِمة في التحرُّر من أيِّ نظامٍ «بما فيه النظام الكوني نفسه» وبين قدْرته المحدودة على الفِكاك من أسْر هذا النظام؛ إذ لو فك منه تمامًا لفقد صفتَه البشرية ونظام وجوده كإنسان.

قال: ولكنَّ النظام في رأيي ليس خارج الإنسان، إنَّه داخل الإنسان نفسه.

قلتُ: ولكنِّي هنا أتحدَّث عن الإنسان ليس كفرد، وإنَّما كمجموعة إنسانية كمجتمع، فالإنسان لا يَحْيَا بمُفْرَدِه، ولا يوجد مكوِّن من مكوِّنات الكون بمفرده أبدًا، حتى الذرَّات تُوجَد في مجتمعات، ولا بد من نظام يحكم وجودَها الجماعي، فالأصل في وجود أي شيء هو وجوده الجماعي.

قال: أنتَ تقول إنَّ الإنسان لا يمكن أن يَعِيش خارجَ نظامِه الإنساني، وإنَّ النظام لا يمكن أن يَعِيش خارج الإنسان، فكيف عالَجْتَ هذه المعادلة المستحيلة؟!

قلتُ: بالصراع حول مَن يكون السيد؛ النظام أو الإنسان، وضحك وضحكتُ، ولكنِّي أردفتُ: إنَّني أعتَبِر أنَّ الإنسان إنسانٌ بقَدْر تمرُّدِه على نظام وجودِه وبقدْر قوَّة تمرُّدِه تكون قوَّته كإنسان، صحيح أنَّه تمرُّدٌ ميئوسٌ منه، إلَّا أنَّ الاستسلامَ الكامِلَ للنظام، لأيِّ نظام موجود، هو الاستكانة، والسكون هو الموت.

قال (وكأنما يُغيِّر مجرى الحديث): رغم أنَّ أرسطو يقول إنَّ الإنسان كائن سياسي، إلَّا أنَّني أعتَقِد أنَّ الإنسان كائن «ذكري – أنثوي» وأنا أرَى أنَّك لم تتحدَّث عن الرجل والمرأة باعتبارهما النظام الأساسي للمجتمع البشري.

قلتُ: لو كان الرجل والمرأة وحدَهما على سطح الكرة الأرضية لأصبح هذا هو النظام الإنساني، ولكنهما لم يُوجَدا هكذا بمفرَدِهما إلَّا في قصة آدم وحواء، هما موجودان باستمرار داخل مجتمعات مثلهما مثل أدقِّ الكائنات.

قال: ولكنَّ هذا كما قلتُ لك مجرُّد تصوُّرِنا نحن لوجود المادة في هذه المرحلة من إدراكنا العلمي؛ ولهذا فأنا أفضِّل النظرة الفلسفية لأنَّها تقوم على افتراض منطق للوجود، وهي في نفس الوقت ليستْ حقيقةً علميةً، إنها خيال علمي واسِع مثلها مثل الروايات والمسرحيات، مجرد افتراضات، وليستْ حقيقةً علميةً ممكنًا إثباتها بالميكروسكوب أو التليسكوب.

قلتُ: أمَعْنى هذا أنَّك لا تعتَقِد أنَّ هناك حقيقة موضوعية، حقيقة، موجودة خارجنا؟

قال: هناك حقيقة — هذا لا شك فيه — ولكننا لا نُدْرِك إلَّا أجزاءً من تلك الحقيقة، أيُّ تلك الأجزاء نُدْرِكها؟ هذا هو السؤال: بل إنه مهما كان تفكيرنا حتى لو كان تفكيرًا عبثيًّا فنحن بالضرورة نُمْسِك بجزءٍ ولو ضئيلًا من الحقيقة، بالضبط كما لو كنَّا نُمْسِك ببطارية كشافة نجول بها في أنحاء غرفةٍ مظلِمةٍ فلا نرى في المرة الواحدة إلَّا أجزاءً من محتويات الغرفة.

قلتُ: أو كما يقولون عن النملة حين لا يُمْكِنها أبدًا أن ترى الفيل كلَّه، إنَّها ترى نتوءات وأشياء بارزة وهضبات، إنَّما لا يمكن أن تُدْرك — أو حتى تتخيَّل إذا كان باستطاعتها أن تتخيَّل — أنَّ هذه كلَّها تشكِّل كائنًا هائلَ الحجم حيًّا اسمه الفيل.

ولهذا دَعْني أسألك يا أستاذ دورنمات سؤالًا سوف يبدو كأسئلة اللقاءات الصحفية: ألَا تعتقِدُ أنَّ الإنسان، كتلك النملة كما قلنا، تكتسب كل يوم بتكنولوجيتها واكتشافاتها وإدراكاتها المتقدِّمة قدرات أكثر بكثير من حجمها الصغير؛ بحيث إنَّه من الممكن لهذه النملة أن تَكْبَر تمامًا ويَكْبر خيالُها وتَكبَر عيونُها حتى تَصِلَ إلى درجة تستطيع أن ترى الفيل فيلًا فعلًا؟!

قال: ممكن أن تَكبَر النملة فعلًا وتَكبَر حواسُّها كما قلتَ، ولكنَّ الفيل أيضًا لن يظَلَّ كما هو، إنَّه هو الآخَر لن يظلَّ نفسَ الفيل، سيظلُّ يَكبَر ويَكبَر.

قلتُ في سِرِّي وله أيضًا: هكذا يُجِيب الأستاذ المسرحي دورنمات. وأضفتُ لنفسي: لا بد أنَّ جزءًا كبيرًا من موهبة الكاتب المسرحي أنْ يَعْرِف كيف يسأل السؤال الصحيح ويعرف أيضًا كيف يُجِيب — حتى على نفسه — الإجابة الصحيحة.

ولكنِّي كنتُ قد بدأتُ أتبيَّن شيئًا من ملامح ذلك الكاتب الداخلية، فهو قد دَرَس الفلسفة وعشِقَها، وأنا قد درسْتُ العلمَ وعشِقْتُه، وصحيحٌ أنَّ الاثنين طريقان للحقيقة مختلفان تمامًا لا يتَّفِقان إلَّا على النهاية الواحدة، ولكنِّي — هكذا قلتُ لنفسي — أفضِّل طريقَ العلم، ومِن قَبِيل حب الاستطلاع حاولتُ بجديةٍ خطيرةٍ أنْ أدْرُسَ الفلسفة، فلم يُقْنِعْني أيهما بالمرة، أجلْ، بدأتُ أتعرَّف على الكاتب الداخلي فيه، ومِن لمعات عينيه بدأتُ أنا الآخَر ألْمَح علامات تعرُّفِه عليَّ.

قلتُ: كما قلتُ لك يا أستاذ دورنمات لقد قرأتُ بعض آراء النُّقَّاد عن مسرحك، ولكنِّي أنا شخصيًّا أعتقد أنَّ أحدًا منهم لم يكتشف خاصيتك الأصيلة، وهي قدرتك عن طريقتك في اختراع الفانتازيا والأسطورة العصرية لاختراق عالَمِنا الحالي بطريقة تعرِّيه تمامًا، فهل أنتَ معي في هذا؟ وهل نستطيع أنْ نُسمِّيَ مسرحك الفانتازيا «الخيالية» الحديثة؟

قال: إنَّ الفانتازيا جزءٌ لا يتجزَّأ من التركيب «العقلاني» للإنسان، إنَّ الخيال في معظمه منطقيٌّ أيضًا، إنَّ الرياضة هي المعادِل المتخيَّل الموجود الممنطق، ومع هذا فالرياضة أيضًا فانتازيا لأنها تخيُّل للأشياء على هيئة أرقام أو رموز، إنَّك في الكتابة تحتاج إلى اكتشاف الرؤية المتخيلة الأولية سواء أكانتْ رؤية عُظْمى أو غير عُظْمى، ولكنَّها رؤية جديدة مختلفة، بعد هذا الكشف الأول تُصْبِح عملية الكتابة للمسرح وكأنَّها لعبة شَطْرنج محسوبة خطواتها، ففي مسرحية مثل «أوديب» نَجِد الرُّؤْية العُظْمى تَهْبِط عليه على هيئة نبوءة من آلِهة الأوليمب، تقول له إنَّه سيقْتُل أباه ويتزوَّج أمه مثلًا، ويُرِيد أوديب أن يتجنَّب هذه النبوءة أو الرُّؤْيا فيتجنَّبها بواسطة خطوات منطقية محسوبة مسرحيًّا أو تراجيديًّا، كما تُحِبُّ أن تُسمِّيَها، ثم نَجِد أنَّنا قد وصلنا مع أوديب إلى نقطةٍ لا تخضَع للحساب، لماذا يذهب إلى تلك المدينة «طيبة» التي فيها أمُّه وأبوه على وجه التحديد، هذه المسألة تحدث صُدْفة؛ إذْ هنا لا بد أن يعمَل قانون الصُّدْفة.

قلتُ: ولماذا لا تُسمِّيه قانون القَدَر أو الحَتْم؟!

قال: لأنَّه كان من الممكن ببساطة أن يَذهَب إلى مدينة أخرى، حتى لو أَجْرَيْتَ عليه قوانين الحتمية كما تسمِّيها، كان من الممكن أن يختار أقرب مدينة أو أجمل مدينة أو أشهر مدينة، أمَّا أن يَختَارَ «طيبة» بالذات فهذا أمرٌ لا يُمْكِن أن تحكُمَه إلَّا الصُّدفة، والصدفة وحدَها.

قلتُ: إنَّه أمرٌ في رأيي لم يحكُمْه قانون الصُّدفة، ولكنْ حكمَتْه إرادةُ المؤلِّف المسرحي الإغريقي الذي كتب «أوديب» الأولى.

قال: إنَّ هذا الكاتب أيضًا لم يكن يحكم نفسَه وهو «يؤلِّف» هذه الصدفة.

قلتُ: إذن، أنتَ معي أنَّ هناك قوةً أو دافعًا أكبر من الصُّدفة هو الذي جعله يختار هذا الاختيار.

قال: ولكنَّه اختيارٌ يَفْرِضُه العمل الفني المسرحي.

قلتُ: ولكنَّ الفنَّ المسرحي ليس في حدِّ ذاتِه قوةً تستطيع أن تفرض قوانينَها أو مسارَها.

قال: في الحقيقة أنَّنا نحن الكُتَّاب لا نعرف القوانين التي تحكم خَلْقَنا للشخصيات والأحداث.

قلتُ: والمُصادَفات؟

قال: والمُصادَفات.

قلتُ: ماذا عنك أنتَ؟ ألم تحاوِلْ أن تتعرَّف على طريقتك التي بواسطتها تختار الأشخاص والأحداث والمصادفات؟!

قال: سأقول لك شيئًا عن مسرحيتي «علماء الطبيعة» (وهي مسرحية في مفهومها العام جدًّا تقول إنَّ بعض علماء الطبيعة الألمان ادَّعَوا الجنونَ ولجَئوا إلى مَصَحَّة أمراض عقلية خوفًا من أن ننتزع منهم المعلومات عن القنبلة الذرية ويستعمِلَها هتلر في إبادة الجنس غير الآري كله) استَطْرَدَ قائلًا: إنَّ العلماء الأمريكان وصلوا مثلًا إلى اكتشاف القنبلة الذرية لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ العلماء الألمان سيسبقونهم إلى اكتشافها، هكذا كان أينشتين الذي كان قد هاجر إلى أمريكا وأبو القنبلة الذرية أوبنهيمر وغيرهما، وصحيح كان هناك تجمُّع كبير من علماء الطبيعة النووية الألمان في ألمانيا، ولكنَّهم لم يكن في نِيَّتهم أن يُنْتِجوا قنبلةً ذريةً أبدًا، وإنَّ هتلر لم يكن يَحفِل كثيرًا بجهود العلماء في الحرب، وكان يُسمِّيهم: «اليهود البيض»؛ لأنَّهم كانوا في معظمهم من تلاميذ وأتباع أينشتين اليهودي.

في مسرحيتي «علماء الطبيعة» يلجأ أحدُ أبطالها لمَصَحَّة الأمراض العقلية لأنَّه يعرف خطورة المعلومات التي اكتَشَفَها ووصَلَ إليها، وماذا يمكن أن يصنع بها هتلر وعصابته النازية، لقد تجنَّب ما أرادَ تجنُّبه باللجوء إلى ادِّعاء الجنون ودخول المصحة، ولكنَّه في المصحَّة يَقَع بين يَدَيْ طبيبةِ المصحَّةِ المتحمِّسَة للنظام بنفس الطريقة التي يقَعُ فيها أوديب «بالصدفة» في يد أمِّه «طيبة» وهذا هو ما يُمْكِن أن نسمِّيَه ﺑ «القَدَر» الذي لا يمكن للإنسان أن يتجنَّبَه.

قلتُ: يُسْعِدني هذا الحديث تمامًا يا أستاذ دورنمات، فقد كنتُ أرى إنتاجَك وأنا أقرؤه وأشاهِدُه، مجرد نصوص مسرحية رائعة أرى واجهَتَها الخارجية فقط، أمَّا الآن فأنا أرى دورنمات الكاتب، دورنمات الداخلي وهو يعمل، وكيف يُبْدِع فكرتَه، أراه حتى وهو يحرِّك أبطالَه بطريقةٍ ميكانيكية رياضية محسوبة مقدَّمًا كلعبة الشَّطْرنج، ولكن لتسمح لي يا مستر دورنمات أنْ أختَلِف معك فالأبطال ليسوا أشياءَ تخضع تمامًا لقوانين الرياضة والحساب، إني أعتَقِد أنَّك تُقلِّل من قيمة أبطالِك بهذا الحديث، إنِّي أراهم كائناتٍ حيةً نابِضةً، أكثرَ حياةً ربما مِن البشر العاديين، وهذا هو بالضبط المسرح، إنَّنا لا نسمِّي الشخصية المسرحية «بطلًا» عبثًا، إنه بطل لأنَّه من المحتم قطعًا أن يكون غير عادي حتى لو كان رجل شارع، أو على الأقل تكون عاديته غير عادية تمامًا.

قال: هذا طبيعيٌّ جدًّا، إنَّ الأبطال المسرحيين مجرد نظريات على الوَرَق تتحوَّل إلى كائناتٍ حيةٍ على المسرح، وهذا عمل كاتِب المسرح.

قلتُ: أمْ عمل المُخْرِج؟

قال بما يشبه الاستنكار: أرجوك لا تُذكِّرني بالنُّجوم والمُخْرِجين، إنَّ تدهور المسرح الألماني الحالي سببُه ارتفاعُ تكاليف الإنتاج المسرحي من ناحية، ومن ناحية أهم هؤلاء المخرجِين النجوم فكلُّ مُخرج منهم يُريد أن يكونَ هو «نجم» العرض المسرحي، وأن يحسب الجمهور رغم عدم ظهوره أنَّه هو النجم، وهذا بالطبع لا يحدث إلى على حساب المسرحية والممثِّلين.

إنِّي أقصِد أنْ أقول: إنَّ النص المسرحي يبدو كالنظرية على الورق، ولكنَّ الكاتب المسرحي الحقيقي هو الذي يكتب بتصوُّر أنَّه هو الذي سيُخْرِج المسرحية، وهكذا ينبض النصُّ بالحياة على المسرح.

قلتُ: بمناسبة «النبض بالحياة» لاحِظ يا أستاذ دورنمات أنَّ العلاقة بين الرجل والمرأة في مسرحِك لا تحتلُّ أهميةً كبيرة في مؤلَّفاتك رغم ما ذكرتَه لي آنفًا من أنَّ الرجل والمرأة هما أساس النظام البشري.

قال: ذلك لأنَّ الموضوعات (التيمات) التي أتعامَل معها لا تحتلُّ فيها قضية العلاقة بين الرجل والمرأة مكانًا هامًّا، ولكنَّ هناك أعمالًا لي تحتلُّ فيها هذه العلاقة مكانًا بارزًا، ولكنِّي (وكأنَّما بعد تفكير) معك أنَّ العلاقة بين المرأة والرجل ليستْ في المحلِّ الأول من اهتماماتي.

قلتُ: لماذا؟

قال: لأنَّها ليستْ موضوعي الرئيسي؛ أنا لا أُعانِي من مشكلة في علاقتي كرجل بالمرأة، لقد تزوَّجْتُ لمدة ٣٦ عامًا، وماتتْ زوجتي الأولى، وتزوَّجتُ مرةً أخرى.

قلتُ: سمعتُ عن قصة حبِّك العظيمة تلك.

قال: أيُّ قصةِ حبٍّ؟ الأولى أو الثانية؟

ووقعتُ في حيرةٍ فقد ذكر لي الكُتَّاب السويسريون، سامَحَهم الله، أنَّه كان يكاد يُعِيد ويكتب من أجل زوجته الأولى، أمَّا الثانية فلم يأتِ لها ذِكْرٌ بالمرة إلَّا أنَّها أصغر منه عمرًا كثيرًا، وها هو الرجل يؤكِّد أنَّ القصة الثانية احتلَّتْ مكانة قصة استغرقَتْ ستةً وثلاثين عامًا في بحر عامين أو أقل.

قلتُ: تقول يا أستاذ دورنمات أنَّك لا تهتمُّ بعلاقة المرأة بالرجل لأنَّك رجلٌ سعيدٌ في حبِّك وفي زواجِك، أمعنى هذا ألَّا نكتب إلَّا عن المواضيع التي لا تُسْعِدنا؟!

قال: وهل كتب كاتبٌ عن علاقة حبٍّ سعيدة؟! إننا لا نكتب عن العلاقة بين الرجل والمرأة إلَّا إذا كانتْ مأساة، وأنا لا أخترع مآسي لا أحسُّها، وليستْ علاقة الرجل بالمرأة مشكلتي.

قلتُ: إذن، ما هي مشكلتك يا أستاذ دورنمات؟

قال: مشكلتي أنَّنا نعيش في عالَمٍ جميلٍ جدًّا، أو بالأصح ممكن أن يكون جميلًا جدًّا، ولكنَّه في حقيقته قبيح جدًّا جدًّا.

قلتُ (وأنا أتلفَّت وأرى المنظر من حجرة مكتبه ومرْسَمِه لوحة عبقرية تطلُّ على بحيرة، كأنها من بحيرات الجنة، والبيت والمدينة والجبل وكلُّ شيء جميلٌ جدًّا): أنا لا أرى عالَمَك هذا قبيحًا أبدًا يا أستاذ دورنمات، فكيف تحسُّ قُبْحَ العالَم الخارجي وأنتَ هنا في كلِّ هذا الجمال؟!

قال (ضاحكًا): في الحقيقة أنا كنتُ أتحدَّث عن قُبْح الأفكار السائدة في عالَمِنا، إنَّ دُنْيانا الحاضِرة هي مَصَحَّة كبرى للأمراض العقلية في نظري، إنَّ مسرحيتي الجديدة (مثلها مثل «علماء الطبيعة») تدور أيضًا في مصحَّةِ أمراض عقلية؛ حيث يقوم كلُّ مريض عقلي بتقمُّص شخصية تاريخية ما داخِلَ المصحة؛ فأحدُهم يعيش كنابليون ويتصرَّف ويفكِّر مثلَه، وهناك مريضة تتوهَّم أنَّها جان دارك، وتندمج إلى درجةِ أنْ تحسَّ أنَّها مثل «جوديت» التي ورد ذكرُها في الأساطير، وتُحاوِل أن تُعالِج نابليون من تقمُّصه بالنوم معَه كما فعلَتْ جوديت، وهناك مريضان يتقمَّصان شخصية ماركس، أحدُهما ماركس كما يحبُّ أن يراه الرُّوس، والآخَر ماركس فوضوي، وهناك ماركس ثالث لا يَظهَر أبدًا وهو الوحيد الذي قرأ «رأس المال» في «المراكسة» الثلاثة!

قلتُ: لقد حاولتُ قراءةَ رأس المال عدة مرات، ولكنِّي كنتُ أتوقَّف فاشِلًا.

قال: حتَّى لنين نفسه لم يقْرَأْه كلَّه، بل أعتَقِد أنَّ ماركس نفسه لم يكتبْه كلَّه، ولكن «إنجلز» ساعَدَه في كتابته، ومن المُضْحِك أنَّهم قد وجدوا أخيرًا خطابًا أرسَلَه الناشِرُ الذي كان قد تعاقَدَ مع ماركس على نشر كتاب «رأس المال» وتأخَّر ماركس في تسلُّم أصول الكتاب وخطاب يُنذِره فيه الناشِر بأنَّه إذا لم ينْتَهِ من الكتاب في بحر شهرٍ فسيَعْهَد إلى غيره بكتابته.

قلتُ: وتصوَّر لو كان أحدٌ غير ماركس كتب «رأس المال»! كان الأمر يُصبِح مسرحية لدورنمات أليس كذلك؟! ولكنْ معنى هذا أنَّك درستَ الماركسية يا أستاذ دورنمات؟

قال: لقد قرأتُ كثيرًا لماركس.

قلتُ: ودخلتَ مصحةً نفسيةً (وضحكت).

قال: ولماذا تضحك؟! فعلًا دخلتُها، تُوجَد مصحة أمراض نفسية قريبة جدًّا من هنا ومُدِيرها صديقي، وكثيرًا ما أذهب إلى هناك، وهي مصحة قديمة يرجع تاريخها إلى الوقت الذي كانتْ فيه هذه المنقطة تتبع بروسيا، ولقد دخلَها كثيرٌ من الكُتَّاب الأوروبيين المشهورين مثل «هيرمان هسه» و«كونراد ماير» و«لوبيدس»، ومن المُضْحِك أنَّ بيتر بروك (المُخْرِج الإنجليزي المشهور أو بالأصح أشهر مخرج في تاريخ المسرح الإنجليزي) حين ذهبتُ معه لنتفقَّد المصحةَ تمهيدًا لإخراج مسرحية «علماء الطبيعة» على المسرح، كانتْ مُساعِدةُ مديرةِ المصحةِ لها «قتب» وكانتْ عالِمةَ طبيعة، وحين قدَّمْتُها إلى بيتر بروك قائلًا: هذه هي عالِمةُ الطبيعة، كادتْ تُجَنُّ من الفرحة؛ لأنها ظنَّتْ أنها ستُمثِّل الدَّوْر في المسرحية.

•••

لاحظ دورنمات أنِّي كثير التطلُّع — وهو يتحدَّث إلى المترجِم بالألمانية — إلى اللوحات التي تكاد تملأ جدران المَرْسَم، وكم كان بودي أن أتحدَّث عن دورنمات الرسام! فهو لا يقلُّ موهبةً عن دورنمات المسرحي أو القصصي، غير أنَّه بدلًا من اختراع الأسطورة الحديثة في المسرح تموج رسوماته بالأساطير المستوحاة من التوراة والإنجيل، فقد كان أبوه قِسِّيسًا بروتستنتيًّا، وأمُّه مُدرِّسة في مدارس الأحد التي تتبع الكنيسة، وطفولته مليئة بهذه الميتولوجيا التوراتية إلى درجة التشبُّع، واللوحة الموجودة هنا، هي واحدة من أكثر من مائتي لوحة صدرتْ في كتاب عن دورنمات الرسام، كتاب غالي التكاليف تمامًا إلى درجة أنَّه لم يُطبَع منه إلَّا مائتان وخمسون نسخة فقط في العالَمِ كلِّه، وكان كريمًا فأهْداني في نهاية الزيارة النسخة رقم ٥٩ من هذا الكتاب المرقوم.

لاحَظَ كثرةَ تطلُّعي، فقطَعْنا الحوار، وقام يُرِيني بعضَ لوحاتِه، ويُريني كيف يرسم، فمكتبه واسِع جدًّا، منخفض بحيث يصلح للكتابة وللرسم، وعلى جانبه الأيمن دائمًا ورقة بيضاء (۳٥ × ۲٥سم) مُعدَّة لكي يبدأ فجأة، ربما في وسَط كتابته، يرسم، ويتأمَّل ما رسَمَه ويمزِّقه ويعود فيرسم.

ليتَ المساحةَ وصبرَ القارئ يسمحان بحديث أطول عن هذا الفنان الغني الغريب، ولكنْ مرة أخرى أقول: «ما باليد حيلة!»

•••

عُدْنا للجلوس وشُرْب الشاي والنسكافيه، وقلتُ لنفسي: آنَ الأوانُ لمحاكمة الأستاذ دورنمات.

قلتُ: هل ممكن أنْ أسأَلَك بعض الأسئلة المحرِجة؟ (لمحتُ الترحيب الكامل في ملامِحِه) ماذا فعلتَ أنتَ ككاتِبٍ من العالَمِ الأولِ لعالَمِنا الثالث؟ كيف ترانا أنتَ أيُّها المواطِن في العالَمِ الأول؟

قال: أنا حقيقة مواطن في دولة أوروبية، ولكنِّي دائمُ التتبُّع لِمَا يحدُث في عالَمِكم، أنا أعرف الكثير عن أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط، حين كنتُ في أمريكا صُدِمْتُ تمامًا بما رأيتُه في مستوطنات الهنود الحُمْر، ولدرجات الفقر غير الإنساني التي يعيشها الهندي الأمريكي هناك، وقد جعلتْنِي تلك التجربةُ أغيِّر كثيرًا من أفكاري حول التقدُّم، ومفهوم الحضارة، ودَوْر أوروبا وأمريكا، أنا لم أقرأ كثيرًا في تاريخ الشعوب الإسلامية والإسلام، ولكنني شديد الإعجاب بالحضارة الإسلامية في العصور الوسيطة، وما استحدَثَه العرب والمسلمون من اكتشافات في علوم كالرياضة والفلسفة، إلى درجةِ أنَّ كثيرين من الأكاديميين الأوروبيين كانوا يعرفون العربية ويدرسونها ويتعلَّمون منها منطق أرسطو وفيثاغورس وأفلاطون دون أن يُلِمُّوا بالإغريقية نفسِها، ولقد كان الإمبراطور الألماني فردريك الثاني شديد الاهتمام بالدَّارِسين للغة العربية والمستشرِقين، وكثيرٌ من التراث الإغريقي وصلَ إلى أوروبا عن طريق ترجمته من اللغة العربية، وليس الإغريقية، أجل، في ذلك الوقت (حوالي القرن الحادي عشر الميلادي) كانتِ النصوص الإغريقية تُقرَأ في أوروبا في ترجماتها العربية وليس الإغريقية.

قلتُ: إنَّني سعيدٌ أنْ أسمَعَ هذا منك.

قال: إنَّني أعرِفُ أنَّ أوروبا أحدَثَتِ امتداداتٍ حضارية وثقافية داخَلَ عالَمِكم والعالَمِ أجمع، ولكنِّي أعرف أن تأثير الفِكْر الإسلامي والعربي كان قويًّا على أوروبا أيضًا إلى درجة أن أثَّر في تفكير الفيلسوف العظيم سبينوزا نفسه، ذلك الذي وصَلَ إلى أنَّ الله (في كل الأديان) مبدأ واحد موجود في كل زمان ومكان، لقد تأثَّرتُ بتفكير سبينوزا تمامًا؛ فقد كان يهوديًّا، ولكنَّه ترك اليهودية وحوكم من أجْلِ هذا، ولكنَّه لم يُصْبِح مسيحيًّا أيضًا، ونبذ العالَمَ وعاشَ في قرية هولندية، وعمِلَ كصانعِ نظَّارات ليأكُلَ عيشَه بعرقِ جَبِينه (إذْ كان هذا هو المبدأ الذي وصل إليه)، بل إنَّه استغلَّ قدرتَه العلمية واستطاع أن يحسب كم نظارةً عليه أن يَصْنَعَها في اليوم لتكفي عيشَه ويتبقَّى جزء يكفي لجنازته حين يموت.

قلتُ (ضاحِكًا من حكاية الحساب الدقيق للنقود هذا، خاصةً السويسريين منذ قديم الزمان): لقد كان سويسريًّا تمامًا في هذا!

قال: ولكنَّ المسألة بالنسبة إليه كانتْ أكبرَ من مجرَّدِ القدْرة على الحساب والتدبير، كان هذا يعني لدَيْه حرية الإنسان مِن كلِّ قيدٍ حتى قيدِ الوظيفة وأكل العيش، قد تستغرب، ولكنِّي أعتَقِد أنَّ هذا النوع من التفكير الذي وصل إليه سبينوزا كان هو الذي أدَّى في النهاية إلى ظهور أينشتين والنسبية، لقد بنى أينشتين نظريته «النسبية» مستفيدًا من نظرية الكم التي اكتَشَفها ماكس بلانك ونيل بوهر، ونظرية الكم تعتمد على قانون الاحتمالات، أو قانون الصُّدْفة، وكان أينشتين يُعارِض هذا تمامًا، باعتبار أنَّه يُلْغِي فكرة الخالق الأول: الله.

قلتُ: اسمح لي؛ أنا لم أدرس نظرية الكم أو النسبية دراسة أكاديمية، ولكنِّي على الأقل أعرف أنَّ نظرية الكم تؤكِّد أنَّ مكوِّنات الذرة، وعلى رأسِها الإلكترون، تَدُور في مسارات «حتمية» لا تتغيَّر إلَّا بفعل قُوًى «حتمية» من خارج الذرة، أو حتى لو افترضنا مِن داخلها، فأيُّ دخْلٍ للصُّدْفة هنا؟!

قال: إذا كانتْ تُزْعِجُك كلمة الصُّدْفة، فسمِّها الاحتمالات.

قلتُ: أعتَقِد أنَّنا لم نتَّفِق حول هذه النقطة، فأنت تُفكِّر كعالِمٍ رياضيٍّ فيلسوف، يُعجِبك سبينوزا و«كانت» والفلاسفة الرياضيون، أنا أفكِّر بمنطقٍ آخَر تمامًا، منطق بيولوجي حيوي، أبْسَطُه أن أقول لك إنَّ وجود موهبة مثل موهبة دورنمات يكسِر حتمًا قانون الاحتمالات أو الصُّدْفة، إذن هو يخضع بالضرورة لعوامل، أو لقوانين أعمق بكثير من قوانين الاحتمالات، قوانين حين تكتشفها البشرية ستنظر إلى قانون الصُّدْفة وقانون الاحتمالات كما ننظر نحن الآن إلى جدول الضرب بالمقارنة إلى إمكانيات الحاسب الإلكتروني غير المعقولة، فلنَدَعْ هذا الموضوع جانبًا إذن، فنحن على رمال شاطئ المحيط العلمي، مجرد رمال الشاطئ، وأمامَنا الأبعد والأرحب والأعمق بكثير جدًّا مما عَرَفنا أو سنعرف.

قال: إذن، عمَّ سوف نتحدَّث؟ عن التصوُّف مثلًا؟

قلتُ: ولماذا لا نتحدَّث عن إسرائيل وزيارتك لها وكتابك عنها؟!

قال: فعلًا، هذا موضوع أُرِيد أن أتحدَّثَ فيه، إنَّك لم تقرأ كتابي عن إسرائيل، ولو كنتَ قد قرأْتَه لعرَفْتَ أنَّ أملي خاب تمامًا في إسرائيل بعدَ زيارتها، لقد تَغيَّرَتْ إسرائيلُ كثيرًا، كنتُ أظنُّ في مبدأ الأمر حينَ قامتْ إسرائيلُ أنَّها ستُصْبِح دولةَ أذكياء قد حَمَلوا معَهم الحضارة الأوروبية وسيتوَلَّوْن نشْرَها في الشرق، ولم أكُنْ أتصوَّر أن يتحوَّل هؤلاء القوم الذين عانَوْا من الاضطهاد إلى دولة كالمؤسسة العسكرية أو ما يُمْكِن أن نُسمِّيَه «إيران اليهودية»؛ دولة عسكرية تحتلُّ وتُبِيد وتقتل! والخطأ القاتل الذي وقعتْ فيه إسرائيل كان نتيجةً لانتصاراتها السَّهْلة على بلاد عربية كانتْ خارجةً لتوِّها من تحت وطأةِ الاستعمار، إنَّ إسرائيل تقول: إنَّها دولة ديمقراطية، ومن المعروف أنَّ الديمقراطية هي التمثيل الصحيح لفئات الشعب، فهل الفلسطينيون المقيمون في إسرائيل ممثَّلون في الحكومة والكنيست الإسرائيلي بنفس النسبة (تقريبًا ۱ : ‏۲‏)؟!

إنَّني أعتَقِد أنَّ هناك مكانًا للدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، وكان يمكن للدولتين أن تُقِيما معًا تجربةً جديدة في بابها، دولة علمانية واحدة، فيها العرب وفيها اليهود.

قلتُ: أتعرف يا أستاذ درونمات أنَّ هذا هو بالضبط المَطْلَب الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تسمِّيها الحكومة الإسرائيلية منظَّمةً إرهابيةً لا بد من إبادتها؟!

قال: هذا ناتجٌ من خَوْف إسرائيل من المنظَّمة، إنَّ الجانبين أصبحا الآن يخافان بعضهما إلى درجة استحالة قيام دولة واحدة تحتويهما.

قلتُ: ومَن المسئول في رأيِك عن هذا الخوف المتبادَل؟

قال: لقد كان العرب واليهود يَحْيَوْن معًا منذ نهاية القرن الماضي في سلام وتعاوُن حتى أيام الاحتلال التركي المسلِم، وكان منطق اليهود في إيجاد دولة إسرائيلية أنَّ إسرائيل كانتْ أرضَهم أيام الاحتلال الروماني، وأنهم حارَبوا الرُّومان ثلاث حروب كبرى، وحين حاقَتْ بهم الهزيمة تفرَّقوا في العالَمِ شَتَاتًا.

قلتُ: ولكنَّ العرب أيضًا حارَبوا الرُّومان في العصر الإسلامي الأول، حارَبوهم بضَراوةٍ، وحرَّروا ما يُسمَّى الآن بالشام (سوريا وفلسطين والأردن).

قال: ولكنْ، هل كانتْ هناك دولة عربية في فلسطين أيام الاحتلال الروماني؟

قلتُ: ليس بالمعنى العصري لكلمة دولة، ولكنَّ القبائل الإسلامية كانتْ هناك.

قال: اعذُرْني؛ فأنا أتحدَّث هنا من موقِعي ككاتبٍ، ليس طرفًا في صراع، ولا أستطيع أن أرفُضَ تمامًا حقَّ اليهود في إقامة دولة إسرائيل، ولكنِّي أُومِن تمامًا بحق الفلسطينيين أيضًا في إقامة دولتهم ووطَنِهم.

وهنا قام دورنمات وأحضَرَ نسخةً من الكتاب الذي كتبه عن المشكلة الإسرائيلية العربية، وأخَذَ يُطْلِعُني على فقرات منه لا تتعدَّى المعانِيَ السابقة، واستغربتُ في الحقيقة، فمعنى هذا أنَّ الرجل كان قد استعدَّ أيضًا لِلِقائي مثْلَما استعددْتُ له، فهو قد علَّم الصفحات بأوراق صغيرة، وخطَّط بالأحمر تحت الفقرات المذكورة ليسهل له الرجوع إليها أثناء نقاشنا، وكأنَّه كان متأكِّدًا أنَّنا لا بد أن نتطرَّق إلى هذا الموضوع وموقِفِه منه، وكم كان باستطاعتي أن أتشنَّج أو أُلْقي عليه مُحاضَرةً طويلةً عن تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ولكنِّي قدَّرتُ، إذا كان الرجل يحمل هذا القدْر من التفتُّح لمعرفة الحقيقة وإدراكها، فإنَّ خيرَ ما يُمْكِن عملُه أن أدْعُوَه لزيارة القاهرة ومقابلة منطِقِنا، أولئك الذين يتوَلَّوْن شرح القضية لنا نحن، في حين أنَّ مهمتهم أن يشرحوا وجهة النظر لِمَن هم في حاجة ماسَّة وحقيقية لها، حسَنِي النية، هؤلاء الذين خدعتْهم آلةُ الدعاية الإسرائيلية التي لم تُقابِلها أبدًا ردودٌ عربية معقولة ومقبولة وعادِلة وصادقة في حين أنَّها فعلًا وفي الحقيقة كذلك.

هو قادِمٌ إذنْ في نوفمبر، وكسْبُ كاتِبٍ عالَمِيٍّ مسموعِ الكلمة أهمُّ كثيرًا جدًّا من عقْد مؤتمر لا يَحضُره إلَّا الْمُتعاطِفون معَنا والمؤيِّدون، وتُنفَق عليهم الآلاف، وفي أحيان كثيرة لا تَظفَر من ورائِهم إلَّا خبرًا سهلًا في صفحة داخلية من جريدة أوروبية، هي في معظم الأحيان معادية، لقاء حافل، مع كاتب حافل، وما أذْهَلَني فيه هو تعاطُفُه مَعَنا، ذلك الذي لا نَعْرِفه، ولم نَحْفِل بأنْ نَعْرِفَه.

وإلى اللقاء، دورنمات الكبير في نوفمبر القادم، إذا شاء المولى، وهو على كل شيء قدير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤