الأب الغائب

منذ مدة، وحين بدأْنا نقْرأ عن الحوادث الغريبة التي بدأتْ تحدُث في مجتمعنا وتجمُّعاتنا، أبٌ يقتُل ابنَه، أمٌّ تقتُل ابنَها وزوجَها بالتعاون مع ابنتها، ابنٌ مثقَّفٌ يقتُل أباه وأمَّه رمْيًا بالرصاص بزعْم الإشفاق عليهما من الحياة السيئة التي تنتظرهما وتنتظره.

وقد كان مِن السهل على كلٍّ منَّا أن يُمْسِكَ بكلِّ حادِثٍ على حدةٍ، ويحلِّله ويصل في تحليلاته إلى ما شاء له الله.

فمِن قائلٍ: إنَّها تقاليد الغرب «الملعونة» التي أخذتْ تتسرَّب إلى مجتمعاتنا عبر المسلسلات وشاشات التليفزيون والسينما! ومِن قائلٍ: إنها الدخول في العصر الصناعي وضريبته المفروضة علينا، شِئْنا أم أَبَيْنا، ضريبة التقدُّم! ومِن قائلٍ: إنها حالات — والحمد لله — فرديةٌ نتيجةَ ظروف كل أسرة على حدةٍ وكل تربية على حدةٍ.

وكنتُ على مهل، كأنَّما يجترُّ الجمل ما اختَزَنَه داخلَ معدته من مواد، أحاوِل أنْ أهضِمَ هذه الأفكار كلَّها مُحاوِلًا أن أعثُر لها على جواب، أو أُدْرِك إذا كان أحد الأجوبة السابقة هو الجواب الشافي.

ولكنِّي لم أستطع.

فلم يستطع أيٌّ من الأجوبة السابقة أن يَشْفِيَ غليلي؛ ذلك أنَّه إذا كان الأمرُ أمرَ تربية فردية في ذلك البيت أو ذاك، فكثرة توالي الأحداث والبشاعة التي كانتْ تتمُّ بها واللارحمة واللاهوادة وما يقرب من حالة فقدان الانتماء إلى الجنس البشري كلُّ هذا يربطه خيط «عام»، خيط لا تستطيع إدراكَه للوَهْلة الأولى، ولا تستطيع إدراكَه حتى بعد إعمال طويل للفِكْر والتأمُّل كما ذكرت، شيء خطير عميق دقيق لم نستطِعْ أن نَصِلَ إليه كمفكِّرين أو أنثربولوجيين أو علماء نفس.

إلى أن بدأتُ أعرف هذه القصص والحوادث على حقيقتها، وأستفهِم وأغرق في الاستفهام، لأدرك أخيرًا، وأخيرًا جدًّا، بدأتْ خيوط فجْر المشكلة تتبدَّى، فقد اكتشفتُ أنَّ هناك في تلك العائلات عاملًا مشتركًا واحدًا لا يتغيَّر فيها جميعًا؛ ذلك هو الأب، أو بالأصح غياب الأب، أو على وجْهٍ أكثر دقةً دَوْر الأب في ارتكاب تلك الجرائم.

اكتشفتُ هذا رغم أنَّ كلَّ تلك الحوادث لم يكن الأبُ فيها هو قاتِلَ الابن أو الأم أو البنت، بل كان طَوَالَ الوقت هو المقتول أو المذبوح أو المُدَحْرَج رأسُه أسفل السرير، بينما الزوجة والعشيق نائمان ملْءَ الجفون فوقَه!

وهنا بدأتُ أتأمَّل المشكلةَ من زاويةٍ جديدةٍ تمامًا، بل أحسستُ أني قد وَضَعْتُ يدي على قلب المشكلة، الأب المصري أو العربي بشكل عام.

فقد لاحظتُ أنَّ كلَّ هذه الجرائم كان الابنُ فيها أو كانتِ الزوجةُ بعيدةً عن زوجها، فهو إمَّا يعمل في إحدى البلاد العربية، غائبٌ له سنين، يَلْهَثُ ليوَفِّر للعائلة أكلَها وملْبَسها ومنزلَها، وهو إمَّا في مصر مثلًا، ولكنَّه يعمل في الصحراء أو الوادي الجديد، أو على العموم بعيدًا عن مقر الأسرة، فهذا الشابُّ الذي أطْلَقَ عشرين طلقةً على والدَيْه كانتْ أمُّه مُذِيعةً تعمل في قطر، وكان أبوه هناك، ونشأ الصبيُّ وأصبح شابًّا، وهما بعيدان عنه تمامًا، ولم يعودا إليه إلَّا بعد أن كَبِر ودخل كلية الطب.

وانتهتْ تمامًا تلك الفترة التي يحتاج فيها الابن إلى أمِّه وأبيه؛ فترة التكوين النفسي الأولى، فترة مثلُها مثل لبن الأم لا سبيل إلى تعويضها حتى بحنان العالَمِ كلِّه أو نقودِه تتدفَّق مِن جيب الشاب بعدَما جاوَزَ مرحلةَ الحضانة النفسية التي تشكِّل تكوينَه الداخلي ونوازِعَه.

وهذه المرأة التي كان زوجُها يعمل في السعودية، وقد ترك لها ستة أطفال معلَّقين في رقبتها واستغاثَتْ به أكثر من مرة لتلحَقَه هناك، ويعيشوا جميعًا معًا، ولكنَّه ردَّ عليها بقول: إنَّ تكاليف المعيشة مرتفعةٌ جدًّا، وإنهم إذا جاءوا وعاشوا معَه فلن يوفِّر مليمًا واحدًا، وكانتِ النتيجة أنَّه صحيحٌ بنى لها منزلًا ستَّ شقق وكتبه باسمها، ولكنَّها هي بنفسِها كانتْ قد ضاعتْ وتعرَّفتْ بسائق تاكسي الذي استَوْلى عليها وعلى ابنتها وعلى أولادها أيضًا، وبالذات على ابنتها الشابة التي عاوَنَتْها في قتْل أخيها مع العشيق السائق ودفنوه وذهبوا جميعًا إلى السينما بعد هذا!

وحين عاد الزوج قابَلوه بجرعةِ «الأتيفان» مُذابة في الشاي وخدَّروه وذبحوه هو الآخَر.

هكذا سوف تَجِد خلفَ كلِّ مأساةٍ من تلك المآسي «غياب» الأب هو السبب القوي المباشر.

وهو ليس أبًا واحدًا، هناك أكثر من مليونَيْ أبٍ مصري يعملون في الخارج وفي الدول العربية تاركِين عائلاتهم في مصر، ولا يتركونها لفترة عامٍ أو حتى بضعة أعوام، ولكن بالسنين الطويلة يفعلون!

قال لي أبٌ من هؤلاء: لقد تركتُ ابنَتِي وهي تلميذة في المرحلة الابتدائية وحين عدتُ كانتْ قد أصبحتْ طالبةً في الجامعة، وكنَّا نجلس معًا أنا وهي فلا نَكادُ نَجِدُ موضوعًا نتحدَّث فيه.

تقطَّعتِ الخيوط تمامًا، وبالذات تلك الخيوط التي تربط الابنة بالأب أو الابن بالأب، لم يَعُدْ يربط يننا إلَّا تلك الهدايا التي يتوقَّعونها بشَغَف غير زائد مُبْدِين دائمًا نَقْدًا للألوان وللأنواع التي اختارها.

تصوَّروا!

مليونا أبٍ؛ أيْ مليونا أسرة، إذا كان متوسِّط تعداد كلِّ أسرة خمسة، يكون المجموع عشرة ملايين معظمُهم من الأطفال والصِّبْيَة والمراهقات والزوجات المحرومات من أزواجهن لفترات طويلة قد تتعدَّى العام!

كان مُحتَّمًا في ظلِّ وضْع كهذا أن «تنفكَّ» الأسرة تمامًا، فصحيحٌ أنَّ الأب لا يلعب الدَّوْر الأكبر في تربية الأطفال بالذات، وإنَّما الأمُّ هي التي تقوم بهذا الدَّوْر، ولكنَّ للأب دَوْرًا آخَر أعمق أهمية بكثير؛ إذْ هو ليس مجرَّدَ ساقٍ ثانية تمشي عليها الأسرة مع الساق الأولى: الأم، إنَّه العمود الفِقَري الذي يصلب حيلَ العائلة ويجعل منها كلًّا متماسِكًا، هو الرمز للكيان الواحد؛ ولذلك فالأطفال يُسمَّوْن باسمه ويفخرون بالانتساب إليه؛ مَن هذا؟ هذا ابن فلان. بل إنَّه في مجتمعاتنا العربية إذا نُسِب الابن أو الابنة إلى الأمِّ اعتُبِر هذا من قَبِيل السِّباب، وأيضًا لهذا كلِّه يُعتَبَر الأب أكثر درجةً في الأهمية.

إنَّ الأب هو «البطل» في نظر أبنائه وبناته وزوجته، اختَرْ أيَّ طفل فقيرًا كان أو غنيًّا، راضيًا عن أبيه أو ساخطًا واسأله: مَن يختار مِن بين كل الناس «بطلًا» يتبعه ويُطِيعه، وستَجِدُه يختار بالفِطْرة بَطَله: أباه، وفي ظل قيادته تُحَلُّ كلُّ المشكلات، وتَنْسَجِم كلُّ المتناقِضات ويخرس بحسْمِه كلُّ الأصوات.

الأمُّ تطعم، «ماما» تحنُّ وتعطف، لكنَّ الأب هو الذي يصنع المثَلَ الأعلى ويقلِّده الابن دون أن يَعرِف أو يَدْرِي، ويرى فيه رمزًا لرجولته المُقْبِلة، وترى فيه البنتُ نموذجًا لِمَا تحبُّ أن يكون عليه عريسها ومَن تحبه، أمَّا الزوجة فحاجتُها للأب لا تقِلُّ عن حاجة أولادها، بل حاجتها إلى الأب مُلِحَّة، حتى لو كان مريضًا أو عجوزًا أو بلا عمل؛ ومِن هنا جاء المثَل: «ضل راجل ولا ضل حيطة»، أو ذلك الذي تقوله الزوجة إذا مات زوجُها: «يا سبعي!»

فعلًا، الأب هو السبع، وهو الأسد، وهو القادر، وهو العمود.

وإذا كانتِ الظروف الاقتصادية قد أجبَرَتْ كثيرًا من الآباء — ملايين الآباء — على ترك عائلاتهم والسفر بلاد الله لخلق الله بحثًا عن لقمة العيش، فإنَّ ظروف بقية العالم العربي الغني فعلتْ بالأب ربَّما أكثر بكثير ممَّا فعَلَه الفقر ببعض الآباء؛ فالمال إغراءٌ قويٌّ على مزيد من الربح والغنى، وقد انشغل الأب العربي الغني بتنمية ثروته وبالأسفار من أجل أعماله المترامية، شغَلَه المالُ عن الأسرة، بل استعاض بالمال عن الأسرة، وأصبحتْ أسرته الحقيقية هي ودائعه في البنوك التي يطمئنُّ على سعر فائدتها كلَّ صباح، وقبل أن يتلفَّظ بكلمة مع أفراد أسرته الحقيقيين انشغل بأسعار الأسهم والمستندات عن أقرب الناس إليه، وهو صحيح لم يَغِبْ في بلاد أخرى ليَعمَل، لكنَّه حاضر في بلده بين أهله وأسرته، ولكنَّه ذلك الحاضر الغائب، وما أبشع الأب حين يكون حاضرًا غائبًا! فعلى الأقل في حالة الغيبة حجته معه كما يقولون، أمَّا وهو حاضر وفي الوقت نفسه غائب فإنَّ الوضع النفسي لأولاده وزوجته يكون أقسى وأمرَّ.

•••

وليس هذا الوضع مقصورًا على مصر أو على بلادنا العربية، إنَّه وضْع العالَم الرأسمالي، حتى الاشتراكي كله، فكثير من الأُسَر الأمريكية تُعانِي من هروب الأب عقِبَ الطفل الأول أو الثاني، وحالات الطلاق والانفصال الجسدي أو الفعلي ما أكثرها! لقد كنتُ في لوس أنجيلوس وأُتِيح لي الاختلاط بكثيرٍ مِن الأُسَر الأمريكية، والمُضْحِك أنِّي لم أَجِدْ بينَها رجلًا تزوَّج لمرة واحدة أو زوجة تزوَّجتْ رجلًا واحدًا، هناك حركة تبادُل مَواقِع قائمة على قدَمٍ وساقٍ بين الأزواج والزوجات، والمطلَّقات والأرامل.

حركة يدفَع ثمنَها، أول مَن يدفع: الأولاد، فتقريبًا ينشأ الأولاد بلا أسرة.

فالزوجة مشغولة بالاستمتاع بزوجيَّتها، والأب مشغول بعمله، والأولاد متروكون للحاضنة أو المربِّية وللمدارس ولجالسات الأطفال في أحيان، وهي كلُّها أشياء لا تعوِّض مثقالَ ذرةِ رُبع مِعْشار الأبوَّة والأمومة الحقيقية، ومِن أجْل هذا يهرب الأطفال مبكِّرًا من أُسَرِهم في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة وربما أقل بكثير.

يهربون لأنهم يُريدون «أُسْرة» وإذا كانتْ أُسَرُهم الحقيقية قد نبذَتْهم فإنَّهم يلجئون إلى تكوين «أُسْرة» أو «عصابات» من الأولاد والبنات يكونون آباء وأمهات لبعضهم البعض.

ومن أجْل هذا السبب وحدَه تكثر التقاليع ويتبوَّأ شابٌّ معتوهٌ مثل «مانسون» الذي قتَلَ شارون تيت وآخَرِين، يتبوَّأ مكانةَ الأب ويُسَيْطِر سيطرةً سيئةً على الشُّبَّان والفتيات كأنَّه أصبح المعبود الأول، ولنفس هذا السبب أيضًا وبطريقة أخرى يهرب أولادنا في عالَمِنا العربي والإسلامي (الغني والفقير على حدٍّ سواء) ويذهبون وينضمُّون إلى الجماعات الدينية، حتى يُصبِح «الأمير» هو الأب أو رمز الأب أو صورة الأب، وكلمته هي العُلْيا، ومِن ناحيةٍ أخرى يهربون إلى شِلَل المخدِّرات والجلسات والطُّرُق المشبوهة التي تُصبِح بمثابة عائلاتهم، أو بالأصح تعويضًا عن عائلاتهم الحقيقية.

•••

وليس الأب الفعلي هو المشكلة في عالَمِنا العربي، ولكنَّ رئيس الدولة والدولة هما بمثابة الأب، والرئيس في العمل يقوم مقام الأب، حتى الأم أحيانًا تقوم بدَوْر الأب، ولكنَّ هذا كلَّه لا يُغْنِي أبدًا عن الأب الحقيقي، إنَّما هي تعويضات وإسقاطات ومحاولات دائبة من شبابنا وشاباتنا للبحث عن هذا الشبح المفقود: الأب.

وإذا كان معظمُنا ساخِطين على الحكومات ورؤساء الحكومات وشيوخ القبائل «والعُمَد»، والكبار بشكل عام، فليس السبب كامِنًا في هؤلاء بحدِّ ذاتهم، إنَّما السبب أنَّنا نبحث فيهم عن آبائنا المفقودين، بحنانهم ورحمتهم، برأيِهم السديد وحكمتهم، بهذا الشعور النبيل الجميل الذي يدفعك حين تحسُّ بالمَعَزَّة والمحَبَّة والموَدَّة والإكبار لإنسان ما أن تقول له: «ياه! دانت زي أبويا!»

بالحب، بالحنان، بالحسْم ساعةَ الحسْم، بهدهدةِ الحنان حين نحتاج إلى الحنان، وتكشيرة العَبُوس المُحِبِّ حين نحتاج إلى حبٍّ عبوس نبحث فيهم عن آبائنا المفقودين هؤلاء، فلا نجدهم فنزداد سخطًا عليهم، بينما سخطنا الأكبر ينصبُّ على آبائنا الحقيقيين الذين تركونا بذورًا بلا سيقان، وسيقانًا بلا أوراق، وأوراقًا وسيقانًا وبذورًا بلا ثمر، فكيف يعود لنا أبونا الغائب؟!

كيف؟!

ذلك هو السؤال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤