العصور العباسية

سقوط الأمويين وقيام العباسيين

تحدثنا فيما سبق عن تكون الأحزاب في الأمة العربية، وكيف استقام الأمر للأمويين، ولكن هذه الهدنة كانت على دخَن، فالعرب كانوا أحزابًا، والفرس كانوا يتربصون بهم الدوائر؛ لأنهم غلبوهم على أمرهم واستولوا على ملكهم، فلذلك ظلوا يحاربونهم سرًّا، ويحاولون قلب الملك الجديد. وإذ لم يستطيعوا ذلك مباشرة لجئوا إلى مبدأ «فرِّق تسد»، فانتصروا للعباسيين ووقفوا يرمون سهامهم على الأمة العربية، متحصنين وراء رجل من آل البيت. وهذا ملخص ما حدث: اتخذوا مأساة الحسين سُلَّمًا كما اتخذ معاوية مقتل عثمان. وهناك رجل آخر وهو جحدر الكندي بن عدي، قتله معاوية في نفر من أصحابه، فكان للقيسيين كالشهيد.

فنشأت جمعيات سرية «التقية» مبدؤها جواز التكتم حتى في العقائد الدينية إذا كان هناك من خوف. حرك إلى ذلك الأعاجم لحقدهم على العرب الأمويين المتمسكين بالعصبية العربية واحتكارهم المناصب لنبلاء العرب واحتقارهم الدخلاء. ومن هذه الروح تولدت «الشعوبية».

كانت هذه الأحزاب تنفق الأموال وتضحي بكل غالٍ ورخيص في سبيل النجاح؛ وخصوصًا الفرس. أما الأمويون فكانوا لاهين بإثارة روح العصبية بين اليمانية والمضرية، يستميلون هذا حينًا وذاك آونة، فضعف شأنهم.

كان زمام المعارضين بيد أبي مسلم الخراساني، كان يشتغل بشدة والأمويون لاهون لا يباشرون الإدارة بأنفسهم، بل يكلونها لأرباب اللهو والمجون، وتنازعوا على الخلافة، فأثاروا القلاقل والبلابل في البلاد فضعفت همتهم ولعب الفساد بهم.

لم يكن النزاع بين العرب والفرس نزاعًا سياسيًّا فقط، بل دينيًّا أيضًا، أرادوا أن يُدخلوا في الإسلام شيئًا جديدًا حتى الإباحية، فمهدوا السبيل لشيع عديدة منها «الإباضية» زعيمها عبد الله بن إباض، مبدؤها قتل الخليفة الأموي لأنه أموي، لأنه خليفة باغٍ مسيطر على الإسلام بغير حق.

الحركة العباسية: كانت تدعمهما سيوف الفرس وأموالهم ويدعو لها رجالهم، همها القضاء على الأمويين ونقل الخلافة لآل البيت؛ فأسسوا الجمعيات القوية في العراق وخراسان، وجمعوا زكاتهم وسلموها لمحمد بن علي «محمد الحنفية» مرشحهم للخلافة، فسار معهم سرًّا في الأمر، ولما مات ولي ابنه عبد الله من بعده، ثم عقبه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فاستسلم للفرس وأقام في خراسان لاعتقاده أنهم مخلصون، وهو الذي قال: أبى الله أن تكون شيعتنا إلا أهل خراسان ولا ننصر إلا بهم.

إن بُعد خراسان عن الشام جعلها أرضًا خصبة صادفت فيها الدعوة العباسية نموًّا سريعًا، فأخذ أمر دعاتها يشتد، فتعقَّبهم الأمويون فلم يقفوا لهم على أثر.

وأهم رجالهم بكير بن ماهان، وهو شاب فارسي غني خطيب مفوَّه، وغيره ممن التفوا حوله من الفرس والشيعة، فضحَّوا بالمال والراحة والوقت.

ثم عقب محمد بن علي ابنه إبرهيم المعروف بالإمام، يعضده شاب فارسي داهية هو أبو مسلم الخراساني رجل الدولة العباسية.

قدَّمه إبرهيم الإمام وأسند إليه زعامة النقباء في خراسان، وأوصاه بالتكتم، فأظهر براعة في نشر الدعوة. أرسل الدعاة من خراسان بزي التجار إلى النواحي، فعظم أمره وأحبه الجميع، وصار أعز الناس منزلة وأرفعهم مقامًا.

سياسته «فرِّق تسد»، أضرم نار الخلاف بين الأمويين باذلًا الأموال في سبيل إشعالها، ووقعت العصبية بين المضرية واليمنية بخراسان؛ لأن الحكومة كانت على عهد مروان بن محمد الخليفة الأخير لا توظف أحدًا من اليمنية. فوالي خراسان، نصر بن سيار، كان متعصبًا على اليمانية لبغضهم.

فغضب زعيمهم الكرماني واعتزل الحكومة ونصب لهم العداء، فأخذ أبو مسلم يتقرب من الزعيمين الكرماني وابن سيار وينفذ إليهما الكتب ويساعدهما ماليًّا، حتى استمال الكرماني إليه؛ لأنه كان اختلف مع نصر الذي سجنه.

فلما اشتد الخلاف بين الزعيمين، حاول العقلاء من العرب إصلاح ذات البين، فأبى الكرماني لعدم ثقته بنصر، وهكذا ظل العرب يقتتلون نحو عشرين شهرًا في خراسان، وأبو مسلم يضرم النار ليوهن قوتهم ويتحين الفرصة لضربهم ضربة قاضية تهلكهم.

فتألَّم نصر بن سيار لما أصاب العرب، فاستنجد بمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ليدرأ خطر العباسيين قبل أن يهاجموه ويجبروه على الانسحاب للعراق، أو ليضعف شأن أبي مسلم قبل استفحاله. فكتب إلى الخليفة مروان رسالة جاء فيها: قد بايعه — أي أبا مسلم — ٢٠٠٠٠٠ رجل، فتدارك الأمر يا أمير المؤمنين وابعث إليَّ بجنود من قِبَلك يقوى بهم ركني وأستعين بهم على محاربة من خالفني.

وختمها بهذه الأبيات المشهورة:

أرى خلل الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون لها ضرام
فقلت من التعجب: ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام

فأجابه الخليفة: احسم أنت الداء الذي ظهر عندك.

فأجابه نصر بأبيات منها:

والثوب إن أنهج فيه البلى
أعيى على ذي الحيلة الصانع
كنا نداركها فقد فرقت
واتسع الخرق على الراقع

وماذا جرى بعد ذلك؟ قبض مروان على إبراهيم الإمام وأحضره إلى حرَّان لما كثرت شيعته، وأمر به فأعدم أو سمَّه.

فخاف أخواه السفاح والمنصور فهربا إلى الكوفة، وأظهر السفاح بها الدعوة وخطب الناس في المسجد الجامع وبويع بالخلافة سنة ١٣٢، فوفدت عليه الناس من أطراف العراق مبايعين خاضعين، وعهد إلى عمه عبد الله بقتال مروان، فجهَّز مروان جيشًا من ١٢٠ ألفًا والتقى به على الزاب، فانكسر مروان؛ لأن جنوده كانوا تأثروا بالذهب الفارسي، حتى لم يعد يستطيع مروان أن ينفذ أمرًا في جنوده، وضع المال بين أيديهم وقال: خذوا وقاتلوا. فأخذوا المال ولم يقاتلوا.

فوقعة الزاب هذه تقابل وقعة القادسية التي انتصر بها العرب على الفرس.

كانت العصبية سبب سقوط الأمويين، ولم تقف الكارثة عند حد سقوط الدولة الأموية فقط، بل زاد أعداؤهم الفرس والشيعة أن أعملوا السيف في رقابهم حتى أفنوا معظمهم، ولم يفلت منهم إلا عبد الرحمن الداخل المعروف بصقر قريش؛ لأنه فر إلى الأندلس.

كان الشعراء أكبر المحرضين على إعدامهم، وهاك ما قاله سديف أحد موالي بني العباس في حضرة السفاح:

لا يغرَّنك ما ترى من رجال
إن تحت الضلوع داءً دويًّا
جرد السيف وارفع العفو حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويًّا

استعمل العباسيون الحيلة في استقدام بني أمية، فأمَّنوهم على أرواحهم وأموالهم وأملاكهم حتى قدموا على السفاح مطمئنين، فنكث عهده وتفنن في تعذيبهم واختلاس أموالهم.

قتلهم ومدَّ البسط فوقهم وجلس للطعام. وما فرغوا من الوليمة حتى أمر بجرِّهم، فجُرُّوا إلى الخارج وألقوا في الطريق، وظلوا حتى أنتنوا ودفنوا جميعًا في بئر.

ثم صدرت الأوامر بمطاردة من بقي حتى أفنوهم.

أما أبو مسلم الخراساني، فاشتد أمره بعد ذلك حتى خاف الخليفة المنصور منه؛ لأنه طمح إلى الخلافة، فاستقدمه إليه المنصور وأمر بقتله فقتل، ثم أصاب البرامكة ما أصاب أبا مسلم، فقتلوا في عهد الرشيد؛ لأنهم طمحوا إلى الخلافة. وكذلك فعل المأمون فقتل وزيره الفضل.

(١) النفوذ الأجنبي

فهمت مما تقدم تأثير الفرس ونفوذهم، شاء العرب التخلص منهم فكان أن قتل المنصور أبا مسلم الخراساني، ومع ذلك بقي نفوذهم كما كان، يقوى حينًا ويضعف تارة.

كان العصر الأموي عصر تطور خضعت له الأمة العربية من جهة والأمم المغلوبة من جهة ثانية. وسبب هذا التطور الإسلام وامتزاج العرب بغيرهم من الأمم.

فالعصر الأول مظهر صادق لتغير النفس العربية وتأثرها بالحياة الجديدة التي تلت الإسلام، والعصر الثاني مظهر صادق لتغير النفس الأعجمية الأجنبية بهذه الحياة؛ أي إن جوهر الأدب العربي ظل في القرن الأول عربيًّا، وتأثر بالإسلام، وهو دين الدولة، تأثرًا قويًّا، ولم يؤثر فيه اختلاط العرب بغيرهم إلا قليلًا.

أما في القرن الثاني فقد أصبح الأدب العربي أجنبيًّا في الجملة، لغته العربية. ثم أخذ تأثير العرب يضعف فيه رويدًا رويدًا؛ لأن منشئيه من الأجانب الذين تعلموا العربية وبرعوا فيها، فما مر العصر الأول حتى دخل كثير من الأجانب في الإسلام ليظفروا بالمساواة في الحقوق السياسية، والاجتماعية، وأتقنوا اللغة ليخدموا الفاتحين وتولوا مناصب خطيرة في الدولة كما تقدم وقلنا في الكلام عن النثر الفني.

وكان ظهور هذا مؤذنًا بما سيئول إليه أمر العرب إذا لم يجدُّوا ويشدوا لينقذوا سلطانهم من الفناء والاضمحلال. ما عجز العرب عن المحافظة على سلطانهم، بل تعادوا وتقسموا في سبيل العصبية، فضعفوا وقوي الأجنبي؛ لأن الثورة التي كانت على العرب كانت أجنبية، انتصر فيها الأعجمي على العربي، واستأثر بالسلطان والسيادة. ولا يستغرب أن تظهر هذه البادرة في شرق البلاد الإسلامية، وتفوز فيها الأمة الفارسية، وتظل بقية الأمم هادئة في الشام ومصر؛ ذلك لأن الفرس حين ظهور الإسلام كانت لهم دولة ذات سلطان، ولذلك كان الصراع شديدًا بينهم وبين العرب، ضعيفًا بينهم وبين الأمم الأخرى. وهذا الصراع كان في العراق، حيث التقى الشعبان، وبينهما اختلاف في كل شيء؛ في الأهواء والمنافع والأغراض، وفي الدين أيضًا … إلخ.

فلهذا كان العراق موطن المعارضة الشديدة، ومهد الحركة الأدبية والفكرية، ومن هذه البيئة شبت الثورة كما رأينا، وسقط الأمويون وساد العباسيون.
  • حرية الفكر: كان القرن الأول الهجري عصر احتكاك بالأمم التي شاعت فيها فلسفة الأقدمين، فتعرف العرب المسلمون على الفلسفة، من كتب أرسطو وأفلاطون بواسطة الترجمة.

    وكان مسلمو سوريا مختمرين بالعلوم اليونانية وغيرها، فلم يقبلوا الدين على علاته كما قبله الأعراب، فأخذوا يتفلسفون ويتمنطقون ويبحثون ويجادلون ليبنوا معتقدهم على أساس علمي راسخ، فدبَّ الشك إلى قلوبهم فأخذوا يبحثون ويشكون.

    فمنهم من أنكروا العجائب وقالوا بخلق القرآن ولم يعتبروا الصحابة ولا الحديث، فسموا بالمعتزلة، وكل هذا مسبب عن تعلمهم المنطق والفلسفة؛ ولذلك شاع بينهم: «من تمنطق فقد تزندق.» فأطلقت الأفكار من سجونها، وصار كل واحد يجاهر بمبدئه ولا يخاف.

    وتساهل الخلفاء بذلك ولم يبالوا بتقليد ما لم يكن مسُّه يمس الدولة، وأخذت هذه الحالة تنمو وتشتد بتقدم العصر العباسي الأول حتى عصر المأمون، وكان المأمون محبًّا للفلسفة والمنطق «ونظن أن للوراثة عملها فيه؛ لأن أمه فارسية» فراجت هذه الأبحاث في عهده أيما رواج.

    وقد كان هو أشد الخلفاء تسامحًا؛ كان هو شيعيًّا، ووزيره يحيى بن أكثم سنيًّا، ووزيره أحمد بن داود معتزليًّا. وأكبر دليل على تسامحه انتصاره للمعتزلة.

    وهكذا كان الرجل في هذا العصر لا يكره على دينه، فقد يكون في بيت واحد عدة إخوة لكل منهم مذهب، فأولاد أبي الجعد كانوا ستة: اثنان شيعيان، واثنان خارجيان، واثنان مُرْجئان.

    فتقريب الموالي وإعزازهم في الدولة العباسية، وكلهم من أمم غير عربية لهم دين قديم، ساعد على نشر حرية الدين.

  • تقريب الموالي: سببه: تعلم أن دولة العباسيين قامت على أكتاف هؤلاء الموالي؛ فالعباسيون كانوا قليلي الثقة بالعرب؛ لأنهم يعلمون أنهم آل البيت، وأن العرب تخلوا عنهم ونصروا الأمويين، ولذلك كانوا يكرهون العنصر العربي، فقربوا الفرس لثقتهم بهم. وقد ظهر تعصب العرب عندما كانت الفتنة بين الأمين والمأمون ولدي الرشيد، فالعرب نصروا الأمين؛ «لأن أمه عربية، فأضمرها لهم المأمون».

    ومن أشهر الموالي الذين قبضوا على الحكم آل برمك وآل الفضل، ولا أرى هؤلاء إلا متلبسين بالإسلام تلبسًا.

    نعم قد أسلموا، ولكنهم صبغوا الدين الإسلامي بصبغة فارسية ولم يتجردوا من عقائدهم القديمة وتقاليدهم، فعن يد هؤلاء دخل التشيع والتصوف في الإسلام.

    وفي هذه الآونة ظهرت بادرة جديدة هي التطرف الشديد في الدين وحرية الفكر، وهي ناتجة عن احتكاكهم بالأمم الغريبة، فأخذوا يزدرون كل شيء قديم من دين وخلق وسياسة وأدب.

    فانتشرت الزندقة انتشارًا عظيمًا، وصاروا يزدرون الأمة العربية ودينها وسياستها وأدبها، حتى فضلوا الفارسية عليها، وهذا ما يعرف «بالشعوبية».

    ولم يكن مصدر كل هذا إلا الفرس الذين كانوا يكيدون للعرب، فلما اشتد هذا الأمر في عهد المأمون، وآلت الخلافة بعد وفاته إلى المتوكل قام وضرب الزنادقة بعصًا من حديد، وجلد العلماء، واضطهد الفلاسفة والمناطقة.

    وظل هذا الانتقام منتشرًا، يكون بالسيف عندما يتعرض الدين أو الحكم للخطر، وباللسان عندما لا يتعرض لهذا الخطر إلا الأدب.

    وهاك مثلًا عن شدة تهكمهم ومجونهم حتى في أقدس الأشياء: كان أبو نواس وأصحابه على فسقهم ومجونهم يتدينون ويقيمون الصلاة، ولكنهم كانوا يعبثون بها عبثهم بغيرها، وربما كانوا يسكرون وتدنو الصلاة فتكف الأيدي عن الكئوس وتقام الصلاة.

    أقاموا الصلاة مرة فأمَّهم أحد الندماء واسمه يحيى، فغلط وهو يقرأ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ فاستحالت الصلاة إلى استهزاء به، فقال أبو نواس:
    أكثر يحيى غلطًا
    في قل هو الله أحد

    فقال العباس بن الأحنف:

    قام طويلًا ساهيًا
    حتى إذا أعيا سجد

    وقال الحسين الخليع:

    يزحر في محرابه
    زحير حبلى بولد

    فقال مسلم بن الوليد:

    كأنما لسانه
    شُدَّ بحبلٍ من مسد

    ويشبه هذا ما حكاه الجاحظ عن خمسة أمُّوا ديرًا، فجاءتهم الدلَّالة التي تبيع الخمر، فقالت: كم أنتم؟ فأجابوا: أربعة وأهملوا صاحبهم الذي كان يصلي. فقال المصلي بصوت عالٍ: سبحان الله، فعرفتْ إذ ذاك أنهم خمسة.

    ولم يكن بعض الخلفاء أقل ترفًا في قصورهم من هؤلاء، فبعضهم كان يعيش عيشتين: عيشة إسلامية لعامة الأمة، وعيشة ترف ملوكية فارسية في قصره.

(٢) الشعر وتأثير الترف فيه

  • الأدب عامة: الأدب لسان حال العصر وترجمان المحيط، فإذا شئنا أن ندرس درسًا واضحًا أدبَ هذا العصرِ العباسي علينا أن نوطئ له بدرس حضارة هذا العصر.

    لم يكن شعب هذا العصر عربيًّا قحًّا ولا فارسيًّا خالصًا، بل مزيج من الشعبين وغيرهما من الشعوب التي كانت تسكن العراق وتعمل في أرضه، وهي مكونة من العقلية العربية والفارسية والسامية القديمة، متأثرة بالديانة المسيحية وثقافة اليونانيين، ولذلك كانت مخالفة كل المخالفة لحياة العرب في عهد بني أمية، فكان الفرق عظيمًا جدًّا بين الحياتين.

    فلذلك ضعف أثر الحياة البدوية الخالصة في هذا الجيل من أهل العراق، وتأثر جدًّا بالحضارة الفارسية القديمة، فنشأ عن ذلك وعن ذهاب سلطة العرب؛ تمتُّع أهل هذا الجيل الجديد بكل ما كان لا يتمتع فيه العربي في العهد الماضي، فاستوى فيه الغالب والمغلوب في كل شيء، فتضاءلت سلطة الدين الإسلامي، لحداثة القوم فيه ولتأثير ديانتهم القديمة الموروثة عليهم.

    وكانت لغتهم أيضًا بين الفصاحة الخالصة والرطانة الأعجمية.

    والفرق بين هذا الجيل والجيل الذي تقدمه، أن هذا ظهر فيه ميل شديد للحياة العلمية، فانتشر العلم وتنوع، فمنه ما حدث ومنه ما نما وارتقى، ومنه ما نقل، فمحَّصوه ودرسوه حتى هضموه وطبعوه بطابع عربي خاص.

    كان في العصر الأموي علم، ولكنه كان إسلاميًّا محضًا، وهو يسير ساذج. أما في هذا الجيل فكثرت وتشعبت فروعه.

    وبعد هذا الجيل عهد الأدب بالبداوة العربية، فقلَّ حظه من السذاجة فتكلف وتعقد، وظهرت آثار التعمل فيه، بعدما كان ساذجًا، وبعد الطبع، والسجية الحرة الخالصة. ونشأت في الأدب فروع وفنون، لم تكن معروفة من قبل إلا قليلًا.

  • الخلاصة: قد تطور كل شيء تطورًا يلائم البيئة والعقل والدين.
  • الشعر خاصة: لم يضعف الشعر في هذا العصر، بل قوي ونما وتطور في ألفاظه ومعانيه وأوزانه وقوافيه وأغراضه وفنونه.
    • ألفاظه: رقَّت وسهلت فبعدت جدًّا عن ألفاظ الشعراء في العصر الإسلامي أيام جرير والفرزدق والأخطل. فإذا قرأت شعر بعضهم كمسلم بن الوليد وأبي العتاهية والعباس بن الأحنف فكأنك تقرأ كلامًا منثورًا، لولا الوزن والقافية.
    • معانيه: تطورت معاني الشعر فانصرفوا عن المعاني البدوية، أو المعاني البدوية المتأثرة بالحضارة، إلى المعاني الحضرية الصرف. فبعد أن كان الشعر الإسلامي يصدر عن الطبع بلا تكلف، أصبح متحضرًا يسيطر عليه العقل، ويرده إلى ميدان الخيال الفسيح، وإذا عدا الشاعر ذلك عدوه منه تقصيرًا عن الإتقان الفني.
    • أوزانه: ورغب الشعراء عن الأوزان الطويلة، وفضلوا عليها الخفيفة السهلة القصيرة، ولاءموا بينها وبين موضوعاتهم، فاختاروا للغزل والمجون أوزانًا تلائمها، وإذا مدحوا الخلفاء والوزراء أو رثوا أو جدُّوا في أمر، فضلوا الأوزان الطويلة. ويسروا على أنفسهم في القوافي، واختاروا أسهل الألفاظ وأحبها للسمع، وتجنبوا عيوب الشعر: كالإيطاء والإقواء والإكفاء والسناد.
    • أغراضه: لم يطل عهد الشعر السياسي في هذا العصر إذ لم تبقَ حاجة إليه، ورغب الخلفاء عنه فأصبح الشاعر لدى الخليفة كالنديم له، وذلك بعد انحلال الأحزاب، فضعف الشعر السياسي حتى أصبح كنوع من الهجاء يقوله الشاعر متقيًا، عند سنوح الفرصة.
  • الغزل: أما الغزل العذري، فامَّحى إلا قليلًا؛ لأن العفة والطهارة لم تكن من مميزات هذا العصر، فالجواري والغلمان كانت تباع في الأسواق بيع السلع.

    أما الغزل العادي فتطور ولم يعد صورة صادقة للعاطفة وميل النفس، وبقي محفوظًا كفنٍّ موروث لا ينبغي أن يضيع.

  • بدعة جديدة: وظهرت بدعة جديدة في الغزل، استنبطها فساد البيئة وكثرة الرقيق، وهذا الغزل هو المعروف بغزل المذكر، وهو وصمة في جبين أدبنا.
  • الهجاء: أما الهجاء فازداد قبحًا وإقذاعًا وفحشًا يبحث فيه عن السيئات.
  • المدح: وأما المدح فتجاوزت فيه المبالغة الحد، وبعد فيه الشعراء عن الاعتدال الذي هو من مميزات الطبع العربي الخالص، فانحطَّ به بعض الشعراء واتخذوه أداة لكسبهم بلا حياء ولا كرامة.
  • المجون: وأشد الشعر نموًّا في هذا العصر، شعر المجون ووصف الخمر، وهو ما نسميه بشعر القصور، فتهالك الناس عليه لفساد أخلاقهم وانحلال روابطهم الاجتماعية، وتسلط الإماء على الحياة المنزلية واستئثارهن بمكان الحرائر، وإتقانهن العربية وآدابها، وبروزهن للناس واشتراكهن في حياة العبث واللهو جهرًا، وتسلط الرقيق من غلمان الترك والروم على نفوس الزعماء والسادة، حتى صاروا يدبرون القصور والثروة كما يرغبون.

    وساعد أيضًا على اشتداد هذا النوع من الشعر، ظهور المذاهب الفلسفية والمقالات الدينية وتسلط الشك على النفوس.

  • الزهد: وظهر فن جديد، وهو الزهد، دعا إليه اتصال العرب بالفرس وانتشار الحكمة الفلسفية الفارسية والهندية. ظهر في شعر أبي العتاهية، كما ظهر في نثر ابن المقفع.
  • الشعر التعليمي: وظهر نوع جديد من الشعر هو الشعر التعليمي؛ أي نظم فنون العلم شعرًا ليسهل حفظها؛ كنظم كليلة ودمنة، وقصائد في الفقه.
  • الوصف: أما الشعر الوصفي فتبدل واشتد، فبعد أن كان البدوي يصف ناقته وخيله وصحراءه، وصفوا الحضارة وقصورها والبساتين والخمارات والكئوس والصيد، فوصفوا هذا الأخير كما كان يفعل الفرس، فدققوا في وصف الكلاب والجوارح، وكان الرجز أداة لهذا الوصف.

    وشعراء هذا العصر طبقات يتبع بعضها بعضًا، ولكل طبقة زعماء. وزعماء أولى هذه الطبقات ثلاثة: بشار بن برد، والسيد الحِمْيَري، ومروان بن أبي حفصة.

(٢-١) بشار بن برد

  • نسبه: بشار بن برد بن يرجوخ، كنيته أبو معاذ، لقبه المرعث، أبوه مولى امرأة عقيلية، حرفة أبيه طيان. فبشار عربي عجمي، من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، كثير التبرم بالناس لعماه، متلون في ولائه، يكره العرب ويحث الشعوب على كرههم، ويتعصب لهم أحيانًا ويتشيع للعلويين. كان الناس يزدرونه حتى يخرج عن طوره، ولولا خوفهم لسانه ما انفكوا عنه.
  • شخصيته: ضخم مجدور طويل جاحظ العينين يغشاهما لحم أحمر، فكان أقبح الناس منظرًا وعمى، وفيه يقول حماد عجرد:
    وأعمى يشبه القرد
    إذا ما عمي القرد

    لم يرَ الدنيا قط، وقال والده إنه لم يرَ مولودًا أعظم بركة منه.

    كان متوقد الذهن ذكي القلب، وقد زعم أن العمى يقوي الذكاء فيتوفر الحس وتذكو القريحة. قال الشعر ابن عشر سنين، وما بلغ الحلم حتى هابه الناس للسانه، هجا جريرًا ولم يردَّ عليه.

  • زعامة الشعر: قلَّده إياها رجال عصره لأسباب: هجوه العلماء، اتباع أسلوب البادية وألفاظهم، وتحضير الشعر، كثرة المعلمين عليه، غزله الرقيق الذي أحبه الظرفاء والخالعون ورووه فهبت ريحه، أضف إلى ذلك ما لبشار من صنعة وفن.

    قال الجاحظ: كان بشار يدين بالرجعة، ويكفِّر الأمة، ويقدِّم النار على الطين، حيث قال:

    الأرض مظلمة والنار مشرقة
    والنار معبودة مذ كانت النار

    وكان الأصمعي يشبهه بالنابغة والأعشى، ويقول عنه خاتمة الشعراء.

  • ادعاؤه: معتد بنفسه يرى فيها كل ذكاء، يرى نفسه أشعر الناس وعلى الناس أن يقولوا ذلك ويعترفوا به، وقد قال عن نفسه: من أين يأتيني الخطأ وقد نشأت في حجر ٨٠ شيخًا من بني عقيل الفصحاء، ونساؤهم أفصح منهم. ومع هذا نرى لبشار شعرًا ركيكًا مبتذلًا لا يقوله فصحاء العرب، كقوله:
    ربابة ربة البيت
    تصب الخل في الزيت
    لها عشر دجاجات
    وديك حسن الصوت

    وقوله:

    إنما عظم سليمي قصب
    قصب السكر لا عظم الجمل
    فإذا أدنيت منها بصلا
    غلب المسك على ريح البصل

    وقوله: غنني للقريض يا ابن قنان. فقالوا له: ومن ابن قنان؟ فقال: أَلَكم قِبله دينٌ أو ثأر؟

    وقوله: وهلال السماء في البردان. فسئل: أين البردان؟ فقال: هو بيت في بيتي.

    وقوله، بلسان حماره:

    سيدي خذ بي أتانًا
    عند باب الأصبهاني
    ولها خد أثيل
    مثل خد الشيفران

    فسئل: ما الشيفران؟ فقال: هذا من غريب حماري، فإذا لقيتموه فاسألوه.

  • بشار والنحاة: انتقده الأخفش فهجاه، فاسترضاه وسكت عنه، وصار يحتج بشعره، وكذلك فعل بسيبويه.
  • استهتاره: كان مستهترًا في شعره، خالعًا فاحشًا، فنهاه الخليفة المهدي عن الغزل والتشبب بالنساء وإغرائهن على الفحشاء. وكان قليل الدين لا يصلي، وقد امتحن ذلك أصحابه بوضعهم ترابًا على ثيابه فيرونه لم يقم. وقد سئل في ذلك فقال: الذي يقبلها تفاريق لا يرفضها جملة.
  • نباهته: جاءه رجل يسأله عن بيت فجعل يفهمه فلم يفهم، فقاده إلى السبيل حتى أوصله وقال له هذا البيت:
    أعمى يقود بصيرًا لا أبا لكم
    قد ضل من كانت العميان تهديه
  • صدقه: كان بشارًا يقول الشعر عن غير عاطفة. فهو غير صادق في لهجته. قال ابن الصياح: دخلت على بشار وهو منبطح في دهليزه كأنه جاموس، فقلت له: يا أبا معاذ، من القائل:
    في حلتي جسم فتي ناحل
    لو هبت الريح به طاحا

    قال: أنا. قلت: ما الذي حملك على هذا الكذب، وإنني لأرى أن لو بعث الله الرياح الأربع التي أهلك بها الأمم الخالية ما حركتك من مدخلك؟ وقس على هذا من شعر بشار.

  • كيف مات: هجا المهدي لأنه لم يجزه. ولأنه لا يرعى حرمة محسن أو مسيء، بل يهجو أيًّا كان بسبب وبلا سبب، وكان هجا المهدي ووزيره يعقوب بن داود معًا بقوله:
    بني أمية هبوا طال نومكم
    إن الخليفة يعقوب بن داود
    ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
    خليفة الله بين الرقِّ والعود

    فلما أخبره يعقوب بالهجاء، انحدر إلى البصرة للنظر في أمرها، فسمع أذانًا في وقت ضحى النهار، فقال: انظروا ما هذا الأذان. فقالوا له: بشار يؤذن وهو سكران، فأمر بجلده ٧٠ سوطًا، فكان إذا أوجعه السوط قال: حس. فقالوا: يا أمير المؤمنين انظر إلى زندقته فإنه لا يسمِّي. فقال بشار: ويحكم! أطعام هو فأسمِّي عليه. فلما ضرب ٧٠ سوطًا بان الموت فيه، فألقي في سفينة حتى مات، ثم رمي في البطيحة.

  • بغض الناس له: فلما علم أهل البصرة بموته هنَّأ بعضهم بعضًا، وفي حياته كان السعيد منهم من لا يعرف بشارًا. ولم يمش في جنازته غير جارية له، وفيه يقول شاعر من قصيدة:
    بل زعموا أن أهله فرحًا
    لما أتاهم نعيه سجدوا
  • سخريته: أنشد المهدي قصيدة، وكان خال المهدي ضعيف العقل، فأقبل على بشار يسأله: ما صناعتك؟ فأجابه بشار: أثقب اللؤلؤ. فضحك المهدي وقال له: أتتنادر على خالي؟ فقال بشار: وماذا أصنع به، ألم يرني رجلًا أعمى؟

    رمَحَت رجلًا بغلة، فقال: الحمد لله شكرًا. فقال له بشار: استزده يزدك.

    ومر قوم يحملون جنازة مسرعين بها، فقال بشار: ما لهم مسرعين، أتراهم سرقوه؟

    أنفق غلامه عشرة دراهم على جلاء مرآته، فتعجب بشار من جلاء مرآة لأعمى. فقال: لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة، ما دفعت أجرة من يجلوها ١٠ دراهم.

    سرعة خاطر: قالت له زوجته: لماذا يهابك الناس على قبح وجهك؟ فقال: ليس من حسنه يُهاب الأسد.

    كان جالسًا أمام بيته وبيده مخصرة وأمامه طبق تفاح، فحاول أحدهم سرقته، فضربه بالقضيب. فقال له الرجل: أوَ أنت أعمى؟! فأجابه: يا أحمق، وأين الحس؟!

  • نفسيته: مجَّان مازح، وإنما مزحه مؤلم، كان في السبعين كأنه في ريعان صباه، والدليل أذانه وهو سكران. كان خليعًا شهوانيًّا، شَرِه في الملذات هائج العاطفة أبدًا، تدل على ذلك أشعاره، جريء جسور لا يستحي «الحيا في النظر» غير صبور وغير متقن لعمله، والدليل على ذلك إدخاله في شعره ألفاظًا لا أصل لها، جبان ثقيل الظل يخاف على روحه أيما خوف لأنانيته وحبه لذاته.

    كان يهجو ليعيش لا لأنه يحب الهجاء، وهجاؤه مجموعة عيوب يضعها فيمن ينقم عليه أو يطمع بماله.

  • شعره: وصف وقائع حال تأتي عفوًا بلا تفكير وكد ذهن. غزله وصف أشياء ظاهرة كالألوان والمحسوسات وبعض الحركات. لا يفهم من الحب إلا المادة فقط، فغزله لا يمثل عاطفة بل التهالك على اللذات والاستقتال في سبيلها. غزير المادة، غير متكلف في ألفاظه ومعانيه. شعره كله ترغيب في الفجور، كل هجائه فحش، ونكتته تضحك وتؤلم معًا.

    جمع جزالة العرب إلى فن المحدثين، ليِّن إذا تغزل أو هزل، متين إذا مدح، مدحه لا يخلو من هجاء.

  • نعجة بشار: أهدى إليه صديق من بني منقر أضحية هزيلة فقال:
    وهبتَ لنا يا فتى منقرٍ
    وعجلٍ وأكرمهم أوَّلا
    عجوزًا قد اوردها عمرها
    وأسكنها الدهر دار البلى
    سلوحًا توهمت أن الرعاء
    سقوها ليسهلها الحنظلا
    وضعت يميني على ظهرها
    فخلت حراقفها الجندلا
    وأهوت شمالي لعرقوبها
    فخلت عراقبها مغزلا
    وقلَّبت أليتها بعد ذا
    فشبَّهت عصعصها منجلا
    فقلت أبيع فلا مشربًا
    أُرَجِّي لديها ولا مأكلا
    أم اشوي وأطبخ من لحمها
    وأطيب من ذاك مضغ السلا
    إذا ما أُمرَّت على مجلس
    من العجب سبَّح أو هللا
    رأوا آية خلْفها سائق
    يحثُّ وإن هرولت هرولا
    وكنتَ أمرتَ بها ضخمة
    بشحم ولحم قد استكملا
    ولكن «روحًا» عدا طوره
    وما كنت أحسب أن يفعلا
    فلولا استيحائك خضَّبتها
    وعلقت في جيدها جلجلا
    فجاءتك حتى ترى حالها
    فتعلم أني بها مبتلى
    سألتك لحمًا لصبياننا
    فقد زدتني فيهم عيِّلا
    فخذها وأنت بها محسنٌ
    وما زلت بي محسنًا مجملا

(٢-٢) السيد الحميري

نشأ في العصر الأموي، وقال الشعر وأجاده في العصر العباسي، شيعي المذهب. قال أكثر شعره في الإمام علي وبنيه، ومدح العباسيين وأخذ جوائزهم، وكان يجاهر بحضرة العباسيين بحب علي وبنيه، بيد أنه يكره أعداءهم الأمويين ويفضلهم عليهم ويستبشر بعهدهم.
  • صفاته: كان ضعيف العقل، مضطرب النفس، شعره سهل، ومعانيه منها الجيد والمبتذل، مات ١٧٣.

(٢-٣) مروان بن أبي حفصة

فارسي الأصل، نشأ في العصر الأموي، إلا أن تفوقه في الشعر لم يظهر إلا أيام العباسيين. لم يترك اليمامة التي نشأ فيها، فظل بعيدًا عن التأثير الفارسي، ولذلك تظهر في شعره الرصانة والمتانة، فهو جزل اللفظ صلب المعنى كشعراء المسلمين الكبار.

مدح في أول عهده معن بن زائدة، فأجزل عطاءه.
  • هدفه: ولما طار صيته، ذهب إلى العراق ومدح الخلفاء العباسيين، ووجَّه هذا المدح نحو الدفاع عن الخلافة العباسية، وإنكار حق العلويين فيها، فأجزلوا له العطاء، وكانوا يشترون منه البيت بألف درهم، وقد كان يجوِّد شعره ويبطئ في قوله، وأشهر بيت قاله في الدفاع عن حق العباسيين بالخلافة:
    أنَّى يكون وليس ذاك بكائن
    لبني البنات وراثة الأعمام

    لقد كان تأثير الفرس في هؤلاء قويًّا؛ وخصوصًا بشار بن برد والحميري، أما تأثرهم باليونان فكان ضئيلًا بالنسبة للطبقة التي جاءت بعدهم، وزعماؤها أبو نواس وأبو العتاهية ومسلم بن الوليد.

(٢-٤) أبو نواس

هو الحسن بن هانئ، تلميذ والبة الحباب.
  • كنيته: الأولى أبو علي، إنما قال له خلف الأحمر الذي كان شديد الميل إليه: أنت من أشراف اليمن فتكنَّ بالذوين، فتكنَّى بذي نواس.
  • تربيته: لسوء حظ الأدب، لم ينشأ نشأة صالحة، بل ربي في كنف والبة وأمثاله من الفساق، فكان من شخصيته ما أرانا إياها أدبه وشعره وأخباره.
  • شخصيته: جميل الصورة، خفيف الروح، فصيح اللسان، هازل، سكير، مستخف في الدين.
  • لغته: قال الجاحظ: ما رأيت أحدًا أعلم باللغة من أبي نواس ولا أفصح لهجة منه مع حلاوة ومجانبة استكراه.
  • هو وبشار: قال الجاحظ: «بشار وأبو نواس معناهما واحد والعدة اثنان.» ولكن كان بشار قليل الجلد لا ينقِّح وأبو نواس كثير التنقيح.
  • أثره في الأدب: أحسن بالخروج على خطة الشعر الجاهلي، وترك البكاء على الأطلال، وجعل الشعر شعرًا مصدره الشعور، وأساء إلى الأدب العربي بنقله الغزل من أوصاف المؤنث إلى المذكر، وتلك جناية ووصمة لا تغتفران له.
  • امتيازه: تفوق بوصف الخمرة والمجون والغزل والمداعبة؛ غرامية أو غير غرامية.
    • الخمرة: وصفها كثيرون في كل العصور، ففي الجاهلية وصفها وأجاد عدي بن زيد العبادي، وكانت أبياته تغنى للوليد بن يزيد، وأجاد وصفها الأعشى والأخطل.

      أما أبو نواس فلم يصفها وصفًا فقط سبَقَ فيه مَن تقدَّمه، بل قدسها تقديسًا:

      اثن على الخمر بآلائها
      وسمها أحسن أسمائها
  • شعوبيته: عد النقاد له ما سنرويه لك، خروجًا على الأسلوب القديم، ثم عادوا فعدوه «شعوبية». أما الحقيقة فهي أن أبا نواس مستهزئ بكل شيء، فاسمع ما يقول:
    عاج الشقي على رسم يسائله
    وعجت أسأل عن خمَّارة البلد
    يبكي على طلل الماضين من أسد
    لا درَّ درك قل لي من بنو أسد
    ومن تميم ومن قيس ولفهما
    ليس الأعاريب عند الله من أحد
    لا جفَّ دمع الذي يبكي على حجر
    ولا صفا قلب من يصبو إلى وتد
  • تهتكه: كان خليعًا متهتكًا لا يبالي بحدود الأدب والدين ولا يراعي شيئًا من هذا، قال:
    ألا فاسقني خمرًا وقل لي هي الخمر
    ولا تسقني سرًّا إذا أمكن الجهر
    فعيش الفتى في سكرة إثر سكرة
    فإن طال هذا عنده قصر الدهر
    فبُحْ باسم من أهوى ودعني من الكنى
    فلا خير في اللذات من دونها ستر
    ولا خير في فتك بدون مجانة
    ولا في مجون ليس يتبعه كفر

    وقوله في الخمرة:

    عتقت في الدنِّ حتى
    هي في رقة ديني

    ومن قوله يخاطب أحمد بن أبي صالح:

    ناديته بعدما مال النجوم وقد
    صاح الدجاج ببشرى الصبح مرَّاتِ
    فقلت والليل يجلوه الصباح كما
    يجلو التبسم عن غر الثنيات
    يا أحمد المرتجى من كل نائبة
    قم سيدي نعصِ جبار السماوات
  • من مجونهم: لم يبرع أبو نواس هذه البراعة إلا لأنه صادف أرضًا خصبة وندماء لا ينفكون عن معاقرة الخمرة. ففي ذات ليلة قالوا: أين نجلس الليلة؟ فقال أبو نواس: فلتكن الدعوة شعرًا، والمجيد منا تقبل دعوته. فنظموا في ذلك وكانوا ستة، فأجادوا جميعًا، فكانت الجلسة في القهوة.

    ومن مجون أبي نواس، كما روى ابن منظور، قال: كان أبو نواس مع المصلين في المسجد فإذا بالإمام يقول: قل يا أيها الكافرون … فصاح أبو نواس من وراء: لبيك، فأخرج.

  • رجاؤه: كان رجاؤه بعفو الله عظيمًا كما يقولون، ولذلك أكثر من المعاصي معتمدًا على عفو الله، حتى ختم همزيته المشهورة بهذين البيتين وهما موجهان «للنظام» زعيم المعتزلة الذي كان يقول لا يغفر الله لأصحاب الكبائر:
    قولوا لمن يدعي بالعلم فلسفة
    عرفت شيئًا وغابت عنك أشياء
    لا تحظر العفو إن كنت امرءًا حرجًا
    فإن حظركه بالدين إزراء
  • مدحه: كان عربيًّا خالصًا إذا مدح أو رثى، وقد مدح محمد الأمين وكان نديمه، ومدح البرامكة.
  • هجوه: وقد هجا بظرف فقال:
    خبز المفضل مكتوب عليه ألا
    لا بارك الله في ضيف إذا شبعا

    وقال:

    خان عهدي عمرو وما خنت عهده
    وجفاني وما تغيرت بعده
    ليس لي مذ حييت ذنب إليه
    غير أني يومًا تغديت عنده

    وقال:

    أبو جعفر رجل عالم
    بما يصلح المعدة الفاسدة
    تخوَّف تخمة أضيافه
    فعودهم أكلة واحدة
  • مع الجارية جنان: أحب هذه الأنثى حبًّا صادقًا، وقال فيها شعرًا كثيرًا، ويروون أنه ذهب فحج عندما حجت جنان.

    وفي ذلك يقول:

    حججت وقلت قد حجت جنان
    فيجمعني وإياها المسير

    زهده: ويقال إنه زهد في آخر عمره. ومما قاله في الزهد:

    من اتقى الله فذاك الذي
    سيق إليه المتجر الرابح
    شمِّر فما في الدين أغلوطة
    ورح لما أنت له رائح
  • ما قيل فيه: قال أبو تمام: أبو نواس ومسلم بن الوليد، اللات والعزى وأنا أعبدهما.

    قال النظام: كأنما جمع الكلام له فاختار أحسنه.

    قال إبراهيم بن العباس: إذا رأيت الرجل يحفظ شعر أبي نواس، علمت أن ذلك عنوان أدبه.

    قال العتبي: عندي أشعر الناس أبو نواس، وعند الناس امرؤ القيس.

    قال ابن السكيت: اروِ من المحدثين لأبي نواس فحسبك.

  • خلاصة: متقن اللغة قولًا وعملًا، عربي خالص إذا جد، ظريف إذا هزل. أخذ عن العرب قوافيهم ولفظهم المتين الجزل. أخذ عن الفرس أوصافهم المادية للحياة المتحضرة. أخذ عن اليونان معانيهم الدقيقة واصطلاحاتهم الفلسفية.

    أشد شعراء عصره ثورة على القديم، يفضل الحضارة على البداوة.

    يريد الشعر حضريًّا بألفاظه ومعانيه وأغراضه.

    كان فاسقًا عاصيًا لله معتمدًا على عفوه ومغفرته.

    وقصارى الكلام، كان شعره صورة لعصره، تمثل الحياة فيه.

(٢-٥) أبو العتاهية

  • حياته: أبو إسحاق اسماعيل بن كيسان، ولقبه أبو العتاهية. ولد بالأنبار وكان يبيع الجرار بالكوفة. كان في أول شبابه عشيرًا للخالعين مستهترًا، ثم ظهرت مقدرته الشعرية، فقال الشعر، وطرق أبواب الخلفاء، ونال جوائز المهدي، وأحب جارية للخليفة اسمها عُتبة، فخاب في حبه وتنسك، وصار يقول الشعر في الزهد ويحث على ترك الدنيا وملاذها.

    ولكنه ظل محبًّا للمال، وعلى زهده بقي يمدح الخليفة ورجال دولته. ثم امتنع عن الشعر، فحبسه الرشيد لأنه لم يلبِّ طلبه، وما أطلقه حتى قال الشعر الذي طلبه منه.

    وأدرك المأمون وكان من شعرائه وبطانته ينال جوائزه.

  • آثاره: ديوانه وليس فيه كل شعره.
  • أغراض شعره: غزل ومدح ورثاء وهجاء وعتاب واستعطاف، ثم ترك هذه كلها ووقف شعره على الزهد والوعظ والحكمة والمثل.
  • زهده: روي أنه كان يلبس المِسْح ويقضي الليالي ساهرًا مصليًا، ثم يدع المسح ويعود سيرته الأولى لاهيًا. أما مذهبه في زهدياته فمواعظ أدبية ونظرات في الحياة والموت: الدنيا زائلة فلنحتقرها، ولنقنع بما يُقيتنا. وزهدياته تخاطب العقل لا العاطفة والقلب.

    زهديات أبي نواس صادرة من قلب محترق طافح بحب الحياة، أما زهديات أبي العتاهية فكثيرة التكلف، صادرة عن العقل، وقد اشتهرت بما فيها من حكمة جامعة.

  • قريحته: سيالة، وقد قال عن نفسه: لو أردت أن أتكلم شعرًا لتكلمت. ولكن هذه الدعوى ليست بذات بال فالشعر غير النظم. وهو لو قال نظمًا لكان أصدق.
  • ساحة الملوك: ولأجل كثرة الساقط في شعره، قال أحد النقاد القدماء: شعره ساحة الملوك، في كناستها التراب والذهب.
  • فنه: شعره سهل جدًّا، ولولا الوزن والقافية لكاد أن يكون نثرًا. وله في فنه سيرة بخلاف شعراء عصره الخلعاء، وهذا ما جعل له هذه الشهرة. ولكن لأبي العتاهية وثبات لا يستهان بها إلا أنها قليلة بالنسبة لشعره الكثير.

(٢-٦) أبو تمام

  • نسبه: حبيب بن أوس الطائي، نشأ بجاسم، وهي قرية من ناحية منبج من أعمال حوران. كان يخدم أباه الحيَّاك، ثم ذهب إلى مصر وصار يسقي الماء في جامع عمر. لم يعمَّر كثيرًا، وقد توفي بالموصل، وقبره فيها خارج باب الميدان على حافة الخندق.
  • صفاته: شاعر مطبوع، فطن ذكي، دقيق المعاني، سبق الشعراء إلى المطابقة، السليم من شعره لا يعلق به أحد، ورديئه رذل جدًّا.
  • الرأي فيه: مريدوه يفضلونه على كل سابق ولاحق، وكارهوه يحطون من قدره جدًّا، وينسبون إليه سرقة شعر غيره.
  • دعبل: كان من ألد أعدائه، ويقول: إن أبا تمام كان متبعًا معانيه يسرقها. روى له محمد بن صابر الأزدي من شعر أبي تمام وقال له: كيف تراه يا دعبل؟ فقال: أحسن من عافية بعد يأس. فأخبره أنه لأبي تمام فأجاب: ولعله سرقه.
  • إبراهيم بن العباس: كان يقول له: أمراء الكلام رعية لإحسانك.

    وقال فيه أيضًا: أبو تمام اخترم ولم يستمتع بخاطره.

  • روايتان متناقضتان: روى صاحب الأغاني أن أبا تمام مدح الأمير عبد الله بن طاهر في خراسان بقصيدة يائية هائية، فنثر عليه الأمير ألف دينار، فلم يلتقط منها أبو تمام شيئًا، بل تركها للخدم. وروي أيضًا أنه أنشد أبا دلف القاسم بن عيسى قصيدة يائية أيضًا، فأعطاه خمسين ألف درهم واعتذر له.
  • الحسن بن رجاء: أنشده أبو تمام قصيدته اللامية فسمعها واقفًا، وأحسن صلته على بخله.
  • معانيه: كان يأخذ كثيرًا منها مما يسمعه، ومنها البيت المشهور:
    ليس الحجاب بمقصٍ عنك لي أملًا
    إن السماء ترجَّى حين تحتجب

    أخذه من مخنث يعاتب صديقًا له.

    واتهمه دعبل أنه أخذ قصيدته التي مطلعها: «كذا فليجل الخطب» من مكنف أبي سلمى، قالها في رثاء زفافة العبسي.

  • محفوظاته: كثيرة جدًّا، يقال إنه كان ينشد أربعة آلاف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقطعات.
  • كتاب الحماسة: حبسته الثلوج في همذان عند رجوعه من عند الأمير عبد الله بن طاهر من خراسان، فنزل على أبي الوفاء بن سلامة الذي كان له خزانة كتب نادرة، فطالع فيها كثيرًا، وجمع كتابه «الحماسة» الذي قيل في أبي تمام بسببه: «إنه في انتقاء شعر الحماسة أشعر منه في شعره.»
  • شعره: يفضل تجويد المعنى على تسهيل العبارة. ولما رأى السلاسة تنقصه عمد إلى الجناس والمطابقة والاستعارة، فأثر ذلك في شعره وكان كتكلف ظاهر.
  • ديوانه: ديوانه جمعه أبو بكر الصولي مرتبًا على الحروف الهجائية، وجمعه علي بن حمزة الأصبهاني مرتبًا على الأنواع.
  • هو والبحتري: قال عنه: مداحة نواحة، وكان يقول أيضًا: جيد أبي تمام خير من جيدي، ورديئي خير من رديئه، أرضي تنخفض عند سمائه، والله ما أكلت خبزًا إلا به (لأنه أستاذه).
  • ذاكرته: غريبة جدًّا، قال البحتري: أنشدت سعيد بن أسلم الطائي قصيدتي: أأفاق صب في الهوى فأفيقا. وكان عنده رجل لا أعرفه، فلما انتهيت، قال لي ذلك الرجل: أما تستحي أن تنتحل شعري وتنشده بحضوري؟ وأنشد القصيدة برمتها، فتغير وجه سعيد وخرجت من عنده كاسف البال. وبينا أنا كذلك إذا برجل يدعوني ضاحكًا، فإذا هو أبو تمام وقال: «الشعر لك.» وإنما هذه عادتي أحفظ القصيدة من مرة.
  • المتمثل به: من شعره ١٥٠ بيتًا.

    ومن قصائده المشهورة في المدح قوله في المعتصم: هو البحر من أي النواحي … إلخ. وفي هذه الأبيات يلتقي بزهير.

  • بائيته المشهورة: قالها بالمناسبة الآتية: زحف توفيل بن ميخائيل ملك الروم على البلاد الإسلامية، حتى بلغ زبرطة، مولد المعتصم، وأغار على ملطية وغيرها، فقتل وسبى كثيرين، ومن جملة السبايا كانت امرأة هاشمية لطمها رومي على وجهها، فصاحت «وا معتصماه.» فلما بلغ المعتصم الخبر كانت بيده كأس فطرح الكأس وصاح لبيك لبيك! ثم جهز جيشًا عرمرمًا زحف به على بلاد الروم حتى بلغ عمورية، فحاصرها ورماها بالمنجنيق ودخلها وقتل نحو ٩٠ ألفًا منها.

    وهنا لا بد من هذه الحكاية، فنوردها ملخصة جدًّا؛ قالوا:

    عندما طال الحصار على عمورية، جمع المعتصم المنجِّمين. فقالوا: إنها لا تفتح إلا في زمن نضج التين والعنب. وظهر في ذلك العام نجم مذنَّب تقوَّل المنجمون فيه، وزعموا مزاعم كثيرة. أما عمورية ففتحت قبل الزمان الذي حدده المنجمون، فقال أبو تمام قصيدته الرائعة، وفيها ردَّ على المنجمين وغيرهم.

    وإليك منها ما يشير إلى الحوادث:

    السيف أصدق أنباءً من الكتب
    في حده الحد بين الجد واللعب
    والعلم في شهب الأرماح لامعة
    بين الخميسين لا في السبعة الشهب
    أين الرواية بل أين النجوم وما
    صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
    عجائبًا زعموا الأيام مجفلة
    عنهن في صفر الأصفار أو رجب
    وخوفوا الناس من دهياء مظلمة
    إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
    وصيروا الأبرج العلياء مرتبة
    ما كان منقلبًا أو غير منقلب
    يقضون بالأمر عنها وهي غافلة
    ما دار في فلك منها وفي قطب
    لبَّيت صوتًا زبرطيًّا هرقت له
    كأس الكرى ورضاب الخُرَّد العُرُب
    أجبته معلنًا بالسيف منصلتًا
    ولو أجبت بغير السيف لم تجب
    تسعون ألفًا كآساد الشرى نضجت
    جلودهم قبل نضج التين والعنب

    إلى أن يقول:

    فبين أيامك اللائي نصرت بها
    وبين أيام بدر أقرب النسب
    أبقت بني الأصفر المصفر كاسمهم
    صفر الوجوه، وجلَّت أوجه العرب
  • خلاصة: يعدونه رأس الطبقة الثالثة: يدقق في المعاني كثيرًا، تارة يهمل الديباجة حتى تبتذل، وطورًا ينمقها حتى يظهر أثر التكلف فتعيب.

    جعل الشعر صناعة كغيره من الصناعات التي يتكلفها البشر، حتى لم يترك للسجية أثرًا. متأثر بالفلسفة اليونانية الإسلامية.

    استغل حكمة اليونان في شعره، فزاد في ثروة اللغة العربية من حيث المعنى.

    فتح طريق الحكمة والفلسفة للمتنبي والمعري، اللذين فاقاه.

    تعمُّده المعاني جعل كثيرًا في شعره غامضًا، وقلة اهتمامه جعل في شعره أبياتًا غير قليلة لا يسيغها العربي المعجب بفصاحة لغته.

    تعمد الشعر الجاهلي فجاء بالغريب المكروه لفظًا وتركيبًا.

    يبدع في وصف المرئيات، يشخِّص كل شيء، ومتى اتقدت عاطفته اختفى التكلف الذي يظهر في أكثر شعره. وقد اشتد الإعجاب به من أجل قصيدته الأولى: السيف أصدق … إلخ، التي سبق ذكر بعضها، والثانية في حرق الأفشين ومطلعها: الحق أبلج والسيوف عوار.

    ولعل أبا تمام هو أول الذين دخلوا موضوعهم رأسًا، بدون «مقبلات». حتى قال فيه أحدهم:

    يا نبي الله في الشعر
    ويا عيسى ابن مريم
    أنت من أفصح خلق
    الله ما لم تتكلم

    قال فيه هذا لأنه كان يفأفئ ويتمتم متى تكلم.

(٢-٧) دعبل الخزاعي

  • حياته: أبو علي دعبل بن علي الخزاعي، ولد بالكوفة وأقام ببغداد. من متقدمي الشعراء ومجيديهم، إلا أنه كان هجَّاء خبيث اللسان لم يسلم من لسانه أحد، أحسن إليه أم أساء، ولم يفلت منه خليفة أو وزير أو نبيه شأن. فهو عندي الشاعر السياسي حقًّا وإن تقدمه ابن برد.

    قضى حياته كلها شريدًا هاربًا خائفًا. وقد قال عن نفسه: أنا أحمل خشبتي منذ خمسين عامًا، ولا أجد من يصلبني عليها.

  • أخلاقه: ناكر الجميل، ينسى العطايا، وهو قد هجا الرشيد على إحسانه إليه، وقد زاد على كل هذا اللصوصية، فكان يكمن للناس ليلًا، وقد رصد صيرفيًّا يهوديًّا طمعًا بما معه، فقتله، ولم يكن معه غير ثلاث رمانات في خرقة، فاشتد عليه الطلب فاختفى في الكوفة.
  • قيمته: مر الهجاء، جرت بينه وبين الشاعر أبي أسعد المخزومي مهاجاة شديدة.

    والفرق بينه وبين بشار، أن بشارًا كان أسفل لفظًا وأضيق نفسًا وأضعف تأثيرًا، إذ لم يكن لبشار حزب سياسي يحميه ويؤيده.

    أما دعبل، فكان يدافع عن العلويين ويحتمي عند أهل اليمن.

  • لغته: لغته بالإجمال أصح من لغة بشار، والكثيرين من معاصريه، حتى فضَّله البحتري على مسلم بن الوليد.
  • أمثلة من هجائه: قال يهجو الرشيد لما مات وقبر في الري، وهناك قبر الرضا من ولد علي بن أبي طالب:
    قبران في طوس خير الناس كلهم
    وقبر شرِّهم، هذا من العبر
    ما ينفع الرجس من قرب الزكي وما
    على الزكي بقرب الرجس من ضرر
    هيهات كل امرئ رهن بما كسبت
    له يداه، فخذ ما شئت أو فذر

    في المأمون:

    أيسومني المأمون خطة جاهل
    أو ما رأى بالأمس رأس محمد
    إني من القوم الذين سيوفهم
    قتلت أخاك وشرفتك بمقعد
    شادوا بذكرك بعد طول خموله
    واستنقذوك من الحضيض الأوهد

    في المعتصم:

    ملوك بني العباس في الكتب سبعة
    ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب
    كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة
    خيار إذا عدوا، وثامنهم كلب
    وإني لأُعلي كلبهم عنك رفعة
    لأنك ذو ذنب وليس له ذنب

    وقال في قيام الواثق بالله وموت المعتصم:

    الحمد لله لا صبر ولا جلد
    ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا
    خليفة مات لم يحزن له أحد
    وآخر قام لم يفرح به أحد

(٣) العصر العباسي الأول

  • النثر: تقدم النثر خطوات في آخر العصر الأموي على يد عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد آخر بني أمية.
    كان الإنشاء في العصر الأموي آلة الخطابة التي كان لها الشأن العظيم في سياسة الدولة. فلما ضعف أمر الخطابة في العباسيين بانحلال الأحزاب وضعف الحياة السياسية، وتسلط العجم واعتماد الدولة على الإقناع بالسيف، أصبحت بضاعة الخطابة كاسدة لا يلجأ إليها إلا في الحفلات الكبرى. بيد أنه حل محل النثر الخطابي نثر آخر، وهو:
    • (١) نثر الدواوين الذي يصدر عن الخلفاء والوزراء.
    • (٢) نثر الترسل بين الناس، الذي حل محل الشعر فصار يعبر فيه عن جميع أغراض الشعر.
    • (٣) نثر التأليف، وقد شمل الموضوعات الأدبية والوعظ والإرشاد والعلم والسياسة وكل فن.
    • (٤) النثر الذي عُبِّر عنه «بالأدب الوصفي»، وبه تناولوا الشعر والنثر القديمين بالنقد.

    وكما تنوع النثر تنوعت أساليب الكتاب فيه؛ فمنهم من كان يوجز، ومنهم من كان يطنب، ومنهم من كان وسطًا بين الإيجاز والأطناب، ومنهم من كان ينمق ويسجع، ومنهم من كان يرسله على السجية.

    وفي كل حال اصطبغت الرسائل بالصبغة المدنية الحضرية، فسهل الإنشاء ولان، فجاء منمقًا كالطراز الموشَّى.

  • طاهر بن حسين: وممن اشتهروا بالرسائل: طاهر بن حسين، له مجموعة رسائل ضاعت، إلا رسالة واحدة كتبها لابنه عندما ولاه المأمون مصر، فيها وصايا بجميع ما يحتاج إليه دينًا وخلقًا وسياسة، وهي مدونة في مقدمة ابن خلدون.

    أما أشهر من عرف في هذا العصر من الكتاب فهو ابن المقفع.

(٣-١) ابن المقفع

نشأ أبوه المقفع واسمه دازوبه، في ولاء آل الأهتم، وهم بيت فصاحة ولسن في الجاهلية، فنشأ المقفع وابنه مستعربين فصيحين. كان المقفع عاملًا للخراج زمن يوسف بن عمر والي العراق، فظهرت عليه خيانة في مال الدولة، فضربه الأمير ضربًا تقفعت منه يده، فسمي المقفع. أما ابنه روزبة «ابن المقفع» فنشأ في البصرة يتكسب ببضاعة أبيه، فخدم في دواوين العراق، آخر زمن بني أمية، وجمع بين ثقافتي العرب والعجم.

قرأ آداب الفرس والهنود، وكتب الحكمة التي ترجمها كسرى أنوشروان من اليونانية، فجعله كل هذا واحد زمانه.

اتصل في العصر العباسي بوالي البصرة والأهواز وكتب لهما، وهما عمَّا أبي جعفر المنصور.

وكان إذ ذاك لا يزال مجوسيًّا على دين زرادشت. فكتب وترجم لهما وللخليفة المنصور بعض كتب الأدب وكتب الفلسفة المنقولة عن اليونانية، ثم أسلم على أيديهما وسمي بعبد الله.

أما سبب موته فمختلف فيه؛ فمنهم من قال إن والي البصرة قتله لاتهامه بالزندقة والكيد للإسلام، ومنهم من قال إن المنصور عبد الله بن علي خرج عليه فهزمته الجيوش فاستجار بأخوي المنصور سليمان وعيسى. فطلبه المنصور منهما، فأبيا تسليمه إلا بأمان خطي. فكلَّفهما المنصور أن يكتبا الأمان ليوقعه، فأمرا ابن المقفع، فاحتاط في كتابة الأمان كثيرًا حتى لا يجد فيه المنصور مخرجًا للإخلال بعهده، فأغضب ذلك المنصور، فأغرى به والي البصرة سفيان بن معاوية فقتله.

ولد ابن المقفع سنة ١٠٦ ومات في الأربعين.

كان ابن المقفع كثير الاستهزاء بهذا الوالي، ويقولون إن هذا الوالي كان ذا أنف طويل وإن ابن المقفع كان إذا دخل عليه قال: السلام عليكما، وهذه رواية لا تصدق.

  • ثقافته: كان ابن المقفع نتاج ثقافة فارسية عميقة واسعة لقِّحت بلقاح عربي، فكان من هذا وذاك أدب جم، فهو مدين في أكثر معانيه للفرس، وفي أساليبه وألفاظه للعربية. عاش في العصر العباسي عشر سنوات وشاهد كما شاهد غيره من الموالي اضطهاد العرب واحتقارهم لهم.
  • شخصيته: ابن المقفع قوي في خلقه وعقله وعلمه ولسانه. كان نبيلًا كريمًا، يحافظ على الصداقة جدًّا، ويوصي باختيار الأصدقاء، يدفع نفسه إلى المثل الأعلى، يرغب جدًّا في إصلاح الراعي والرعية، متمسك بآداب اللياقة، دقيق فيما يتطلبه الذوق.

    وصفه الجاحظ فقال: كان فارسًا جوادًا كريمًا جميلًا.

    واسع الاطلاع، متضلع من اللسانين العربي والفارسي، نقل خير ما كتب باللغة الفهلوية، غزير المعاني إذا كتب، وليست كتابته جوفاء. يمعن في اختيار المعنى ثم يمعن في اختيار اللفظ.

    قال محمد بن سلام: سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.

    قال جعفر بن يحيى: عبد الحميد وسهل بن هارون فرعٌ، وابن المقفع ثمرٌ، وأحمد بن يوسف زهرٌ.

  • تآليفه: الأدب الكبير والأدب الصغير، اليتيمة، رسالة الصحابة، كليلة ودمنة.
  • اليتيمة والأدَبان: ترجمة وتأليف، جمع فيها المأثور عن ذوي العقول الراجحة من كل الأمم.
  • اليتيمة: مفقودة، وغلطًا أطلقوا اسم اليتيمة على الأدب الكبير.
  • الأدب الصغير: كلمات حكمية في الأخلاق أشبه بالمأثور من كلام علي. من أمثلته: أربعة أشياء لا يستقل منها القليل: النار والمرض والعدو والدَّين. وبسبب هذا العدد قالوا: أسلوبه رياضي. ولكنه غير مرتب، توضع فيه الفكرة حين تسنح أو ترد، أحيانًا تسند، مثل قوله قالت الحكماء وقال: وأحيانًا لا تسند.
  • الأدب الكبير: كالأدب الصغير، كلمات ولكن مجموعها أطول، مرتبة غالبًا. أهم ما جاء فيه موضوعان: الكلام عن السلطان والولاة ومن يتصل بهما. أجاد الكتابة في هذا الموضوع؛ لأنه اتصل بالولاة فلاحظ ما لاحظ، اتصل بالخلاف بين المنصور وأعمامه، وكان ركنًا من أركانه ومحررًا لوقائعه ومستشارًا في أمره وقارئًا لمثل هذه الأحداث في سير ملوك الفرس.

    والموضوع الثاني منه: في الصديق والصداقة: وقد أجاد أيضًا في هذا الموضوع لتأثره به خلقيًّا كما سبق. فهو يرى في الأصدقاء عماد الحياة ومرآة النفس، ولا عجب أن احتاج إلى الصديق الوفي وهو منقطع لا رحم له. شهد دينًا جديدًا، ودولة تسقط ودولة تقوم، متصل بالخلفاء والولاة، نزَّاع إلى الإصلاح، لا يدري متى يفتكون به. لا يخفي النصيحة ولا يسكت عن ضعف، يصف العلاج بلا حذر. فمن كان في مثل هذا الموقف يحتاج إلى صديق يخلص له الإرشاد.

    فهذان الكتابان أثر من الثقافة الفارسية، فيهما حكم كثيرة ونظم عديدة، لا يخلوان من الثقافة اليونانية ولكنها ضعيفة الأثر فيهما.

  • رسالة الصحابة: ويعني بالصحابة الولاة والخلفاء. يرجح أنه كتبها للمنصور، وهي كتقرير في نقد نظام الحكم إذ ذاك، ووجوه إصلاحه.

    ذكر فيها أولًا غفلة الولاة وعجزهم عن القيام بالإصلاح، ووصف الحالة الاجتماعية بقوله: «وأمة إن أُخذت بالشدة حميت، وإن أُخذت باللين طغت.»

    ثم ابتدأ بشرح حال الجند الذين لم يكن لهم نظام يتقيدون به، ونصح أمير المؤمنين أن يحول بين الجند وبين إدارة الشئون المالية. وأشار بمراعاة الكفاءة بالقيادة وتعليم الجند الكتابة والتفقه بالدين، ودفع رواتبهم في حينها، ثم تقصِّي أحوال الجنود ومعرفة أخبارهم … إلخ.

    وتعرَّض لفوضى القضاء الذي لا يرجع لقانون معروف، إنما هو متروك لرأي القضاة واجتهادهم، وبذلك تتناقض الأحكام حتى في بلدة واحدة. وارتأى أن ترفع المسائل التي يقع فيها الخلاف إلى أمير المؤمنين. وفي الكتاب تعطيف المنصور على أهل الشام؛ لأن العباسيين نظروا إليهم كأعداء للدولة. وتكلم عن الحجاز واليمن واليمامة. وكانت موضع نقمة المنصور؛ إذ خرجت عليه. وسأله أن يولي الصالحين من أهل بيته، وأن تسخو نفسه عن أموالها، إذا لم يمدها بمال من عنده.

    وختم هذا التقرير ببيان تأثير الخليفة إذا صح؛ لأن العامة لا تصلح إلا بصلاح الخاصة، والخاصة لا تصلح إلى بصلاح الإمام.

  • كليلة ودمنة: أقدم كتاب خيالي أدبي في لغة العرب، هندي الأصل، عثر المستشرقون على أبواب كثيرة منه في كتب متفرقة. نقله الفرس إلى لغتهم وزادوا عليه باب بعثة برزويه، وباب ملك الجرذان (هذا ترجيح). ويرجحون أن ابن المقفع نفسه زاد عليه باب عرض الكتاب، وباب الفحص عن أمر دمنة، وباب الناسك والضيف، وباب البطة ومالك الحزين.

    دفعَ ابنَ المقفع إلى ترجمة هذا الكتاب ميلُه إلى الإصلاح الاجتماعي، كما رأينا في الأدبين ورسالة الصحابة؛ ففي كتاب كليلة ودمنة يشرح بعض النواحي الاجتماعية شرحًا وافيًا؛ ينصح بعدم الإصغاء إلى الحاسد النمام، والحذر من العدو، والاعتماد على الصداقة، ويحث الضعفاء على الاتحاد ليتغلبوا على القوي البطاش، وينصح باستعمال الحيلة لبلوغ القصد.

    عاش ابن المقفع في زمنٍ لم تكن الحرية متوفرة فيه، وهو ميال للنقد، ولا يستطيع نقد الخليفة بصراحة؛ لأنه نضج في زمان أبي جعفر المنصور الشديد البأس والبطش، والسريع إلى إعمال السيف يقطع به رأس كل مخالف. قتل كثيرين بالظنة، وتذرَّع في قتلهم بالاتهام بالزندقة. وكان ابن المقفع نفسه أحد هذه الضحايا.

    ولعل ابن المقفع رأى موقفه مع المنصور كموقف بيدبا مع دبشليم، فوصف دبشليم الملك بما يتصف به المنصور من العتوِّ والاستبداد بالرعية والاستهانة بها، وأن بيدبا الفيلسوف وعظه ورده إلى العدل والإنصاف.

    لم يستطع ابن المقفع أن يصارح المنصور بأكثر ما صارحه في رسالة الصحابة خوفًا على رأسه منه، فعمد إلى ترجمة كتاب كليلة ودمنة، وأمثال هذه الكتب تظهر أيام الاستبداد، كما فعل لافونتين.

    ويظهر ما يرمي إليه ابن المقفع في مقدمة الكتاب، إذ أخفى الغرض الرابع فقال عنه ما يأتي: «والغرض الرابع وهو الأقصى، وذلك مخصوص بالفيسلوف نفسه خاصة.» ويظهر بالاستنتاج أن هذا الغرض هو النصح للخلفاء حتى لا يحيدوا عن طرق الصواب، وتفتيح عين الرعية حتى يعرفوا الحق ويطالبوا بتحقيقه. ولعل هذه النزعة كانت من أسباب الإيعاز بقتله.

    لم يترجم ابن المقفع الكتاب ترجمة حرفية، بل عدَّله ليتفق والذوق العربي الإسلامي، وجعل فيه شيئًا جديدًا من روح الدين الجديد، كمجازاة الله بالخير خيرًا، وذكر جهنم، والإخلاص لله تعالى. وقد ظهرت زيادة ابن المقفع من الاطلاع على النسخة السريانية التي ترجمت سنة ٥٧٠م ووجدت في أحد أديار ماردين ونشرت سنة ١٨٧٦م.

    وعلى توالي العصور، دخل على ترجمة ابن المقفع شيء كثير؛ لأن النسخ التي بين أيدينا تختلف عنها اختلافًا كثيرًا. وفي كتاب «نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة» لابن الهبَّارية؛ اختلاف في ترتيب الأبواب، وليس فيه باب الحمامة ومالك الحزين، وسمي فيه إيلاذ وبلاذ وهيلار وبيلار.

  • تأثير الكتاب: لقد أثر هذا الكتاب في اللغة العربية جدًّا؛ فمنهم من نسج على منوال لغته وأسلوبه وعبارته، ومنهم من حذا حذوه، وكثيرون نظموه شعرًا. ولعل أسلوب ألف ليلة وليلة في تعليق القصص ببعضها قد أتى من هنا.
  • ناظموه: أبان اللاحقي، ابن الهبارية، وله منظوم ثالث أكمله عبد المؤمن بن الحسن الصاغاني.
  • مقلدوه: ابن الهبارية بكتاب «الصادح والباغم»، وابن ظفر بكتاب «سلوان المطاع في عدوان الطباع»، وابن عربشاه بكتاب «فاكهة الخلفاء ومناظرة الظرفاء»، وترجم كتاب «مرزبان نامه». وإخوان الصفاء لهم في رسائلهم مناظرة بين الإنسان والحيوان من لون كليلة ودمنة. ويظن جولدزيهر أن اسم إخوان الصفاء مقتبس من كتاب كليلة ودمنة؛ لأنه ورد في أول فصل «الحمامة المطوقة».
  • فضل الكتاب: إدخاله القصص المفصلة على الأدب العربي. للفرس والعرب فيه فضل المحسِّن، وللهند فيه فضل صاحب الفكرة وواضع الأساس.
  • زندقته: قال الجاحظ: ابن المقفع ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد كانوا يتهمون في دينهم. وقال المهدي: ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع.
  • خلاصة: إن مئونة ابن المقفع في كتبه من الثقافة الفارسية، وقلَّ فيها أثر الثقافة العربية الإسلامية؛ لأنه غير متأثر بدين؛ فحكمه مستمدة من تجارب دنيوية حتى ما يتصل منها بالدين.

    لا يعمد إلى السجع إلا ما جاء عفوًا، كلامه من السهل الممتنع، أديب مثقف، فارسي النزعة، مخلص لأصله، نشر آداب أمته وسياستها وتاريخها، نبيل سامٍ، وقد جاءه هذا النبل والسمو عن طريق الفلسفة والعلم لا الدين. يصدق؛ لأن الصدق شرف ورفعة، لا لأن الدين يأمر به. رجل مدني، لم يستند إلى آية أو حديث، أشبه بباسكال في أفكاره.

  • أسلوبه: جيد، وإن ظهرت فيه العجمة، رصين القول شريف المعاني، سهل بيِّن رشيق، يختار الكلمة السهلة الصحيحة الفصيحة، وربما فتش عنها. جمله خالية من أساليب التفنن في كتاب كليلة ودمنة، أما أسلوبه في الأدبين فمنطقي؛ ولذلك صعبت جملته.

    أخذ شيئًا من أسلوب عبد الحميد. وقد اتبع أسلوب ابن المقفع كثيرون حتى ظهر الجاحظ.

(٣-٢) العلوم اللغوية

  • علم اللغة: هو البحث في ألفاظ اللغة من حيث وضعها وأصولها واشتقاقها، وغايته وضع المعاجم، فلم يتم إلا في العصر العباسي الثالث، غير أنهم انتبهوا إليه في أوائل الدولة الأموية فابتدءوا به، وكان من أشهر علمائه الخليل.
  • الخليل: حليم وقور، طاف في البلاد العربية فوقف على ألفاظهم، أستاذه أبو عمرو بن العلاء. كان الخليل زاهدًا، مات في خراسان قبل أن ينهي كتاب العين، فأتمه تلميذه الليث.
  • كتاب العين: انتقده كثيرون، منهم بن مريد، وبقي معروفًا حتى القرن الرابع عشر، فضاع ولم يصلنا منه إلا ما نقله سيبويه والسيوطي، غير أن مختصر الزبيدي له موجود منه نسخة في برلين واسكرباد.

    ومن كتبه: كتاب النغم، وآلات الطرب، وكتاب العروض.

  • قيمته: الخليل هو أول من ضبط اللغة ووزن الشعر. له فضل المستنبط؛ لأنه مهد لأصحاب المعاجم والنحاة. وقد كان واسع العلم، عنده من كل فن خبر.

علم النحو

  • النحو: خوف العرب من فساد اللغة واللفظ المؤدي إلى فساد المعاني، دفعهم إلى ضبط إعراب الكلمات وتصوير الحركات وتحسينها وإعجامها، ومن ذلك توصلوا إلى وضع القواعد.

    يقال إنهم اتبعوا في ذلك السريان والكلدان في كتابتهم. ويرى رِنان أن كتب اليونان المعرَّبة دفعت العرب إلى استعمال قياس لغتهم.

  • أبو الأسود: واضع الحركات بشكل النقط. أخذ طريقته عن الكلدان، وهو أول من ألف في النحو، على نهج السريان، وأول فصل وضعه «التعجب».
  • قيمته: إن لم يستوعب النحو كله فقد أسس علمًا كان شغل العلماء الشاغل، في العصر الأول والثاني العباسيين، فانقسموا إلى مذهبين: البصري والكوفي، وزادوا في المناقضات والتعليلات حتى صيروا كل خطأ صوابًا.

    علماء البصرة أصح حجة وأشد تعقلًا بإيراد البراهين، أما علماء الكوفة فمتعصبون لعصبية البدو، وقد فازوا على البصريين لأسباب سياسية.

  • علماء البصرة: سيبويه، وهو من أصل فارسي، لزم الخليل وأخذ عنه، قصد بغداد وناظر الكسائي فيها، إلا أن الخلفاء نصروا الكوفيين عليه، فنفر منهم وعاد إلى بلاد الفرس ومات في قرية اسمها البيضاء.
  • الكتاب: هذا أثر سيبويه الخالد، قال فيه أبو عثمان المزني: من أراد أن يعمل كتابًا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحِ.

    يقع الكتاب في ٨٢٠ فصلًا، في ألف صفحة. طبع في باريس بمجلدين مع شروح ومقدمة بالإفرنسية بعناية المستشرق داريمبورغ، وطُبع في برلين ومصر.

    الجزء الأول يحتوي على الكلم وأقسامه والفاعل والمفعول … إلخ.

    الجزء الثاني يبتدئ بما ينصرف وما لا ينصرف والنسبة والإضافة … إلخ. وفيه باب الوقف وشروطه، والكلمات الفارسية الأصل.

  • قيمته: كان لكتابه أعظم أثر، وهو أساس مؤلفات النحو من ذلك الزمان حتى يومنا هذا. واشتهر من علماء البصرة اليزيدي والأخفش.
  • علماء الكوفة: الكسائي، أشهر نحاة الكوفة، ولد فيها وخرج إلى البصرة فأخذ عن الخليل، وقدم بغداد فأقامه الرشيد مؤدبًا لابنه المأمون. فارتفعت منزلته عند الخلفاء وتعصبوا له ضد سيبويه، وهو فارسي الأصل أيضًا. طاف البادية حتى قويت لغته.
  • آثاره: ألَّف في النحو والقراءة والأدب والنوادر، ولم يصل إلينا إلا رسالة في لحن العامة، كتبها إجابة لطلب الرشيد.
  • قيمته: بانتصاره على سيبويه علا قدر الكوفيين.

    ومن مشاهير علماء الكوفة: معاذ الهراء، الفراء، ابن السكِّيت.

  • ابن السكِّيت: علَّم ابن المتوكل «المعتز» ثم قتله المعتز؛ لأنه كان متعصبًا للشيعة، وأرسل إلى أبيه ديته عشرة آلاف درهم قائلًا: «هذه دية ولدك رحمه الله.»
  • قيمته: قصير النظر في النحو. أشهر تآليفه: إصلاح المنطق، تهذيب الألفاظ، شرح ديوان الخنساء، وديوان طرفة، وله شعر حكمي إلا أنه جافٌّ.
  • المذهبان: البصري والكوفي: البصرة والكوفة مدينتان أسستا على عهد عمر بن الخطاب. اختلط فيهما العرب والموالي ثم صارتا أهم مركز علمي، فاشتهرتا بعلم النحو واللغة، ثم تفوقت البصرة، ولا يزال مذهبها فائزًا يعوِّل عليه النحاة.

    الكوفيون أكثر استعمالًا للقياس، والبصريون أكثر استعمالًا للسماع؛ أي كما يلفظ الأعراب «البدو».

(٣-٣) العلوم الإسلامية

سميت كذلك لأنها نشأت عن القرآن الكريم وبسببه. أولها الحديث والسنة، وهو ما ورد عن النبي وأقواله وأفعاله وغير مدون في القرآن.
  • الحديث: لمَّا كان القرآن كتابًا دينيًّا منزلًا لا يحسن شرحه إلا بمعنى واحد يتفق عليه الجميع، ولما كان من الصعب الاتفاق على هذا المعنى، أخذ المسلمون يتذكرون سلفًا عن خلف شرح النبي آيات الكتاب وما قاله في كل معنى من المعاني، فحفظ الصحابة ذلك وأخذه التابعون، ولم ينتبهوا إلى هذا العلم إلا في العصر الثالث. وقد هلك معظم الصحابة ومن تبعهم، وكثرت الأحاديث الكاذبة التي كان يصنفها ذوو الأغراض.
  • أول مصنف: أول من صنف في الحديث مالك بن أنس، اعتمد على الحديث المتسلسل، وعلى إخلاص المحدثين وأمانتهم.

    لقد لعبت الشعوبية دورًا عظيمًا في تصنيف الأحاديث وإسنادها للنبي، وغاية هؤلاء إفساد الدين بما يدخلون عليه من بهتانهم.

  • الفقه: هو تطبيق أحكام الشريعة على أعمال البشر لتمييز الحلال من الحرام، ويعرف بعلم الدين أو الفروع. هذا العلم يقوم به العارفون بأمور الدين والقرآن وشرحه وناسخه ومنسوخه كالصحابة والتابعين.

    سمي علماء الدين في أول أمرهم «قرَّاء»، ثم لما انتشرت القراءة سُموا فقهاء. أما استنباط هذه الأحكام فعائد إلى إعمال العقل ودرس الكتاب، وهذا كان سبب اختلاف الشراح في الشرح، والتأويل — التأويل ضد المعنى الحرفي — والاستنتاج. ولهذا كانت غاية الجميع واحدة، وهي غرض الشارح في أحكامه.

    فكان من نتيجة هذا الخلاف أن قسِّم الشرح إلى قسمين: طريقة أهل الحجاز في الحديث، وطريقة أهل الرأي. وعن هاتين الطريقتين تفرقت المذاهب الأربعة:
    • (١) الحنفي: طريقته الدليل العقلي.
    • (٢) المالكي: طريقته الحديث.
    • (٣) الشافعي: مزيج من المذهبين.
    • (٤) الحنبلي: طريقته التثبت في الحديث وطرح كل قياس عقلي.

    وهذه المذاهب الأربعة تكاد تكون واحدًا، وكل الدروب تؤدي إلى الطاحون.

  • البدَع: لم يكد يترجم العرب الفلاسفة الأعجام وتبدأ مدنيتهم بالازدهار، حتى أخذ علماء الدين يطبقون أحكام العقل على القرآن منتقدين ما جاء فيه مخالفًا للعقل، فنشأت البدع.
  • البدعة: هي كل مقالة مبتكرة جديدة في الدين مخالفة للأصول المرعية فيه، وهي كالبروتستانية في المسيحية.
  • ومن البِدع الإسلامية: المعتزلة، الخوارج، المرجئة.
  • الفِرق: كما تفرعت البروتستانية إلى فِرق مختلفة، كذلك تفرعت البدع في الإسلامية.

    فالشيعة المعتدلة مثلًا تكتفي بتكريم الإمام علي وذريته، أما الشيعة المغالية، وهي مجموعة فِرق، فتدعي الحلول في علي وسائر أمته.

  • علم الكلام: هو السلاح ضد البدع، وهو البرهان على العقائد الدينية بالأدلة العقلية، للرد على المبتدعة. موضوعه: معرفة عقائد الدين، وتطبيق حقائق الدين على أعمال البشر. واضعه: أبو موسى الأشعري.

(٣-٤) العلوم الدخيلة

كالهندسة والموسيقى والفلسفة، وهي نتيجة أبحاث المسلمين من رجال العلم بالمدنيات القديمة التي وجدوها أول نهضتهم، فنقلوها إلى لغتهم، وحفظوا خلاصة علم اليونان والكلدان والسريان والهنود والأقباط، فدرسوها وأتموها وبنوا عليها مدنيتهم، وبهذا مهدوا السبيل للنهضة العربية في القرون الوسطى.

ومما يجدر ذكره أن غزاة العرب كانوا أوفر تساهلًا من جميع غزاة الشعوب عن قصد أو عن غير قصد؛ لأن هؤلاء إذا احتاجوا إلى علوم مغلوبيهم طلبوا إليهم فكتبوا المؤلفات بلغتهم الخاصة دون لغة الغالب. أما العرب فكانوا يحضون المغلوبين على اتباع دينهم وشريعتهم ولغتهم.

  • النقل: ابتدأ مع المنصور، وخفَّ قليلًا على زمان المهدي، وهبَّ في زمن الرشيد، وبلغ شأوه في عهد المأمون.
    فنقل العرب:
    • عن اليونان: الفلسفة، الطب، الهندسة، الموسيقى، المنطق، علم النجوم.
    • عن الفرس: السِّيَر، الآداب، الحكم، التاريخ، الموسيقى، علم الفلك.
    • عن الهنود: الطب، العقاقير، الحساب، النجوم، الموسيقى، الأقاصيص.
    • عن المصريين: الكيمياء.
    • عن الكلدان: الزراعة، الفلاحة، التنجيم، السحر، الطلاسم.

      ولم يأخذوا شيئًا عن آداب اليونان ولا عن تاريخهم.

(٣-٥) تأثير النقل

  • الألفاظ: أجبر النقلة على إدخال الكثير من المفردات العلمية في تراجمهم، وأكثرها في الطب والفلسفة. فاضطروا إلى اشتقاق ألفاظ كثيرة من العربية واستعمالها في غير معناها الوضعي الحقيقي؛ وخصوصًا في علم الفقه والبدع الإسلامية وصفات الأدوية ومفاعيلها.

    ولم يخلُ تركيب اللغة من هذا التأثر كما سبق فقلنا. وكان تعبير الكتب العلمية؛ وخصوصًا الفلسفية، لا يضاهي تعبير الكتب الأدبية متانة بسبب استعمال فعل الكون، يوجد، وكثرة الجمل الاعتراضية، واستعمال الفعل المجهول، وإدخال هو بين المبتدأ والخبر.

    وكان من التعبيرات الجديدة اللانهاية واللاأدرية واللاضرورة، الكيفية، الكمية، الماهية، الهوية، ثم بنقل الألفاظ الوضعية أو الاسمية: ماني، ماسية.

  • الفلسفة: تقسم الفلسفة العربية إلى شرقية، ومشاهيرها الكندي، الرازي، ابن سينا.

    وإلى غربية؛ أي أندلسية ومشاهيرها ابن باجه، ابن طفيل، ابن رشد.

    أما أصلها فواحد تقريبًا، يتفرع منها الأفلاطونية المستحدثة التي اشتهرت بأنها توفق بين أرسطو وأفلاطون، وقد زاد عليها العرب التوفيق بين العقائد الدينية والمبادئ الفلسفية — كما فعل المسيحيون قبلهم — والفضل في هذه النهضة للنقلة، وهم:
    • (١) حنين بن إسحاق: ترجم جمهورية أفلاطون، ومنطق أرسطو، وما وراء الطبيعة، وأخلاق أرسطو. هذا الرجل عهد إليه المأمون برئاسة بيت الحكمة، فعمل ما لا تستطيع أن تعمله المجامع. ولم يكتفِ بما أحضر له من الترجمة، بل كان يطوف بنفسه في البلاد ويحضر الكتب النفيسة ويترجمها.
    • (٢) يوحنا بن البطريق: ترجم سياسة أرسطو.
    • (٣) يوحنا بن ماسويه: عرَّب كتبًا عديدة. غير أن الفلاسفة المشهورين لم ينبغوا إلا في القرن الثاني.
  • التاريخ: إن العناية بانتفاء الحديث والرغبة في جمع الكتب وترجمتها؛ وخصوصًا الفارسية منها، دفعت العرب إلى هذا الفن.
    • (١) المغازي: لما اطلع العرب على ترجمة الكتب التاريخية الفارسية اندفعوا فألفوا في هذا العلم؛ علم التاريخ، فجمعوا حوادث دولتهم حادثًا فحادثًا، ومنها تألف تاريخهم.
    • (٢) ابن عقبة: وأول المؤلفين في هذا موسى بن عقبة. وهو الملقب بإمام المغازي؛ لأنه دوَّن مغازي النبي؛ أي حروبه مع المشركين.
    • (٣) ابن إسحاق: أبو عبد الله محمد بن إسحاق، كان له كثير من الأعداء فهرب إلى أقطار عديدة، ثم التقى أبا المنصور، فدعاه إلى بغداد وفيها مات.
      • من آثاره: سيرة الرسول، ضاعت إلا بعض أقسام منها استخرجها أحد المستشرقين الألمان.
      • قيمته: أول من كتب تاريخ الرسول، ولا يزال العلماء ينتقون مما جاء في هذه السيرة مما نقله ابن هشام من الحوادث أو النوادر، فيمحصونها ويدرسون تاريخها كي يتوصلوا إلى تأليف تاريخ عن النبي محمد، ومنهم من قضوا الحياة جادين وراء هذه الغاية.
  • الموسيقى: طبيعي تقدم الغناء عند العرب؛ لأنه كان في الجاهلية يزدهر أوان الأسواق في عكاظ وغيرها.

    أما نظرية الموسيقى فلم يتوسع فيها العرب إلا بعد ازدهار الترجمة عن اليونان، فبحثوا في ذلك بحثًا مليًّا، وكان أكثر البارعين من العلماء والفلاسفة، وهم يذكرونها كاليونان بين الرياضيات، ويجعلون مقامها بعد الهندسة.

    وأشهر من ألَّف بذلك: الفارابي، والكندي، وابن سينا، وثابت بن قرة.

    وقد اشتهر الغناء مع الموسيقى الوترية، فكان للمغنين مراكز رفيعة في عين الخاصة والاعتبار عند الخلفاء. وقد جمع أخبارهم وحوادثهم وبعض طرق صناعاتهم، أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني.

    وأشهر المغنين: إبراهيم بن المهدي، وإبراهيم الموصلي، وابن إسحاق، وغيرهم.

  • الطب: أول أطباء العرب الحارث بن كلدة الثقفي، معاصر النبي. أخذ الطب عن الفرس، وابنه النضر ابن خالة النبي، وقد شايع أخصامه فقتله الإمام علي.
    وبقي هذا العلم محصورًا ببعضِ وصَفاتٍ حتى ترجم العلماء العباسيون كتب أبقراط وجالينوس، فأصبح للطب مصدران أكثر العالم استعمالهما وأضافوا إليهما كثيرًا من معلوماتهم.
    • أشهر الأطباء: آل بختيشوع، نصارى نساطرة، نبغوا في الطب وخدموا الخلفاء العباسيين ٣٠٠ سنة.
    • جرجس بن بختيشوع: وبختيشوع بن جرجس طبيب الرشيد. أما أشهرهم فجبريل بن بختيشوع.

      ومن مشهوري أطباء النصارى المقربين: يوحنا بن ماسويه، وحنين بن إسحاق.

      فحنين هذا ترجم كتبًا فلسفية وطبية، وكان تأثيره أقوى في مجرى الفلسفة.

  • الكيمياء: منبع التفتيش عن حجر الفلاسفة «معنى ذلك، الحجر الذي يحول المعدن ذهبًا». أول من اهتم بهذا، الأمير خالد بن يزيد بن معاوية الأموي. وأشهر علماء هذا العصر جابر بن حيان.
    • (١) جابر بن حيان: عاش في الكوفة صابئيًّا. أما الكتب المنسوبة إليه عند الغربيين في القرون الوسطى فأكثر من ٢٠٠ كتاب، المعروف منها ٢١ في مكاتب أوروبا، أكثرها قد تُرجم إلى اللاتينية والألمانية وطبع في مدن عديدة. نشر منها برتلو الكيماوي المشهور، خمسة كتب مع ترجمتها للإفرنسية.
      • آراؤه: الجمادات كالحيوانات، تولد ثم تنمو وتكبر وتموت. في الأجسام مواد خفيفة وثقيلة طيارة، الأولى مائية والثانية حية، وكل هذه الصفات نسبية.

        فالكبريت والزرنيخ حيان بالنسبة للطَّلْق، ميِّتان بالنسبة للزئبق. وفي كل التحام كيماوي جسم وروح.

        غاية الكيماوي أن يجد روحًا حيًّا، وإكسيرًا قادرًا على تحويل الأجسام، وهذا الإكسير هو حجر الفلاسفة، وهذا الحجر ينتج عن كائن حي. وهنا يختلف الكيماويون في حقيقته، فالبعض يقولون دم أو شعر أو بيض أو مفرزات. فإذا وجد هذا الحجر وسُحق وجُبل بالماء مع بعض العقاقير يتحول إلى إكسير.

        الأجسام الأولية سبعة: الزئبق، الذهب، الفضة، النحاس، الحديد، الرصاص، الطلق.

        وهي تختلف كمالًا، فالذهب أكملها. فعلى الكيماوي أن يربي الباقية، ويقودها إلى الكمال شيئًا فشيئًا.

        اختلف العرب في إمكان الوصول إلى هذه النتيجة، فالرازي يعتقد بصحتها، والكندي وابن سينا ينكران.

      • قيمته: الرأي الشائع أن كل المشتغلين في الكيمياء منذ القدم إلى اليوم يمخرقون ويشعوذون.

        أما علماء عصرنا فرأوا بعد الاختبارات أن مبادئ القدماء لم تكن كلها فاسدة، وإن كانت أعمالهم قريبة من المحال. فنرى مثلًا تحويل المعادن الذي ذكره جابر منذ أكثر من ألف سنة يشتغل به كيماويو القرن العشرين، وقد توصَّل بعضهم إلى شيء منه. ويُعتقد أن أصل المعادن الأورجانوس، وأنه بفضل ما توصل إليه من العلوم الكهربائية عن الذُّرَيْرات الدقيقة التي تتركب منها المعادن، وكيفية التحامها ببعضها، قد يكون لآراء جابر قيمة تذكر.

        فالاختبارات التي أجراها هذا العالم بخصوص المغناطيس وقيمته، والتمغنط به، وفقدان القوة المغناطيسية، مما كان يعد جديدًا في ذلك الزمان، فهو محدد المغناطيس. (حجر يجذب الحديد بقوة روحية لا تلمس ولا ترى. وقد يعرض لهذا الحجر ما يفقده تلك القوة دون أن ينقصه شيء من وزنه.)

        ونسب إليه علماء الغرب اكتشاف الماء الملوكي، وهو مزيج من حامض الأكلور والحامض النتروني.

        ونسبوا إليه الحامض الكبريتي والنتروني ونترات الفضة. وعلى كلٍّ، فقد فتح جابر بابًا واسعًا لكيماويي العرب وغيرهم من بعده.

  • الرياضيات: الحساب والجبر — أصل الأرقام. ينسب الغربيون أصل الأرقام للعرب، والعرب ينسبونه للهنود ويدعونها الأرقام الهندية.
    • (١) الخوارزمي: هو أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي، لا نعرف من حياته إلا أنه كان في بغداد على عهد المأمون.
      • آثاره: له في الحساب كتاب طلبه المأمون فاختصره عن كتاب الحساب الهندي المعروف بسند هند.

        ألَّف كتابًا خاصًّا بالحساب تُرجم إلى اللاتينية، وله أيضًا كتاب في الجبر.

      • قيمته: للخوارزمي قيمة ثمينة؛ لأنه أخرج الجبر والهندسة من الغشاوة القديمة التي تغطي العلوم الهندسية القديمة، وألبسها الصراحة العربية، كما يقول المستشرق كرالوفا. ومما أتحف به الخوارزمي علم الرياضيات، بعض قواعد وطرق اكتشفها وحسَّنها؛ منها قاعدة الخطأين، ومنها الطريقة الهندسية لحل المربعات المجهولة، وهي اليوم تسمى بالمعادلة من الدرجة الثانية.
  • الهندسة: يونانية الأصل، أول من كتب فيها الحجاج الحسين من نقلة الرشيد، فترجم أصول إقليدس، ثم صلحها على عهد المأمون. طبعت هذه الترجمة في لندن. أما مهندسو العرب المشهورون فسيأتي ذكرهم.
  • الفلك والنجامة: ترجم كتاب بطليموس الحسين المذكور، وكان أول عالم في هذا الفن إبراهيم بن حبيب الفزاري، ألف جداول حساب العرب وصنع أسطرلابًا. وخلفه ابن محمد فدرس طريقة النجامة الهندية.

    ومن علماء هذا الفن يعقوب بن طارق، كان يعاصر هؤلاء، وهو مذكور بين المهندسين الذين خططوا بغداد.

  • الفيزياء: استفاد العرب في أول عهد العباسيين أشياء من علم الحيل أثناء نقلهم عن اليونان. ولم يشتهر هذا العلم مع علمَي الهندسة والنجامة إلا عندما نبغ أبناء موسى وأبناء شاكر وقسطا بن لوقا والفيلسوف الكندي، وسيأتي الكلام عنهم.

(٣-٦) الأدب في العصر الأول

  • الرواة: الأديب عند العرب هو العارف ببعض العلوم أو بها كلها.

    وعلومهم: النحو واللغة والتصريف والعروض وأخبار العرب وأنسابهم.

    وقالوا: الأديب، هو كل من يلمُّ بأحسن كل علم، أما العالم فهو من يتقن فنًّا من العلم.

    وعلى كلٍّ، المراد بالأدب جمع أقوال العرب وأشعارهم وأمثالهم وأخبارهم، مع نقد ونظر في صحتها، للاستعانة بها على تفسير القرآن وضبط ألفاظه وتفهُّم أساليبه، أخذًا بقول ابن العباس: إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله لم تعرفوه، فاطلبوه من أشعار العرب؛ لأن الشعر ديوانهم.

    ظهر هذا الفن في الدولة الأموية، لحاجة الفقهاء لمعرفة عادات العرب القديمة وأقوالهم وطرق تعبيرهم، ليتمكنوا من فهم القرآن وشرحه، فاختص رجال عديدون بدرس الشعر القديم مع حفظه، ودرس الأمثال وأخبار العرب وغير ذلك. وعلى هذه الطريقة أخذ الأدب العربي ينمو رويدًا رويدًا، فما توطدت أركان الدولة العباسية حتى نضج هذا العلم وأُلِّفت فيه الكتب. على أنه لا يسع الباحث إلا أن يتساءل: هل هؤلاء الرواة صادقون فيما قالوا؟ وهل نقلوا رواياتهم عن رجال ثقة؟

  • الجواب: كثيرون من الرواة شكَّ الأقدمون في صدقهم، ومنهم حماد وابن الكلبي وخلف الأحمر.

    غير أن المحققين من رواة العصر العباسي الثاني؛ مثل أبي الفرج الأصبهاني وابن عبد ربه وابن قتيبة وأبي القايم البصري، اشتهروا بنقد هذه الروايات وتبيُّن مواضع الضعف منها، وقد نجحوا في أكثر أعمالهم. ويمكننا القول إن أكثر الأقوال عن شعر العرب مقبولة صحته، ما لم يظهر لنا برهان واضح مقنع على إنكاره.

    أما أشهر أدباء أو رواة هذا العصر فهم:

أبو عبيدة

  • حياته: هو معمَّر بن المثنى، يهودي الأصل، ولد بالبصرة ونشأ على بغض العرب. كان شعوبيًّا خارجيًّا، مرهوب الجانب، خبيث اللسان، ألثغ، يلحن عمدًا إذا قرأ أو تحدث، وإذا أنشد الشعر لم يقِمْ وزنه. ومن قوله: النحو شؤم كله.

    كان قذر الثياب. درس على أبي عمرو بن العلاء، ودرس أبا نواس. استقدمه الوزير ابن الفضل إلى بغداد، فكان يؤلف ويجيد، غير أنه جرح العرب أجمع بكتابه «المثالب»، فكثر أعداؤه، وسُمَّ بموز فمات، ولم يسِرْ بجنازته أحد لكرههم له. وكان بينه وبين الأصمعي مساماة ومفاخرة.

  • آثاره: مؤلفاته بلغت المائتين في النحو واللغة وأخبار العرب وأيامها، لم يبقَ منها إلا القليل؛ ككتاب نقائض الفرزدق وجرير. طبع في لندن بثلاثة مجلدات سنة ١٩٠٥.
  • قيمته: عليم خبير بالأنساب والأخبار، يروي شعرًا كثيرًا، أجمع الكثيرون على أنه مخلص أمين فيما كان يذكره، ولا سيما فيما يتعلق بمفاخر العرب. له الفضل بفتح الطريق لكثير من جامعي أخبار العرب؛ كصاحب الأغاني الذي استفاد كثيرًا من كتابه أيام العرب.

    ركيك العبارة، بخلاف الأصمعي الذي قلَّ عنه علمًا، وكان يفوقه تعبيرًا، ولهذا قال أبو نواس: الأصمعي بلبل في قفص، وأبو عبيدة جلد قديم طُوي على عِلْم.

الأصمعي

  • حياته: الأصمعي هو عبد الملك بن قريب الباهلي، ولد بالبصرة، ودرس على أبي عمرو بن العلاء، وتعلَّم نقد الشعر عن خَلَف. استدعاه هارون الرشيد وألحقه بمجلسه. كان شديد التدين حتى تجاوز الحد. رجع في شيخوخته للبصرة ومات فيها. اشتهر بقوة ذاكرته حتى قيل إنه حفظ ١٦٠٠٠ أرجوزة.
  • آثاره: ذكر ابن النديم أربعين كتابًا، نعرف منها الأصمعيات، مجموعة شعرية، ورجز العجَّاج، وهو كتاب له في اللغة، فيه أسماء الوحوش. وكتاب الإبل، وكتاب خلق الإنسان، وكتاب الخيل، وكتاب الشاء، وكتاب الدارات، وكتاب النبات والشجر.
  • قيمته: حاز شهرة بعيدة في حياته ومماته، فأصبح اسمه مرادفًا للفظة عالم وأديب ومطَّلع. ولهذه الشهرة سبب؛ وهو كثرة اشتغاله بدرس محالِّ العرب كما في كتاب الدارات، وأصل مفردات اللغة ومعانيها، وأسماء أعضاء الحيوانات والنبات وغير ذلك. وقد انتصر على خصمه أبي عبيدة بحادثة الفَرَس المشهورة.

محمد بن سلام

اسمه أبو عبد الله بن سلام الجمحي. كان عالمًا بالشعر والأخبار. ذكر له ابن النديم كتابًا في بيوتات العرب وآخر في مدح الأشعار.
  • أشهر تآليفه: طبقات الشعراء، طبع في لندن. بدأ فيه بنقد الشعر وطرق روايته وتاريخه والمنحول منه، ثم قسم الشعراء طبقتين: جاهليين وإسلاميين، وكل طائفة عشر طبقات، في كل طبقة أربعة شعراء، وألحق بشعراء الجاهليين طبقة لأصحاب المراثي، ثم ألحق بهم شعراء القرى وهي: المدينة ومكة والطائف واليمامة والبحرين.
  • قيمته: مع محمد بن سلام يبدأ دور تمحيص الشعر. كان الأدباء قبله يروون الشعر عن غيرهم، أما هو فابتدأ بنقد الرواة، وأخذ يقابل بين الروايات ويفاضل بين الشعراء، وتبعه الأدباء بعده في ذلك. ولكتابه قيمة تُذكر وشأن كبير، ذكره الكثيرون واستشهدوا به، وكان أول من قسم الشعراء إلى طبقات.

    غير أن انتقاده يكاد ينحصر بإيراد أحاديث وأحكام من تقدمه. ثم لا يخفى أن تقسيمه هذا ووضعه أربعة شعراء في كل طبقة لمما يؤيد الانتقاد.

أبو زيد القرشي

  • حياته: محمد بن الخطاب، بصري، اشتهر بالنحو ودعاه سيبويه «بالثقة». صار من مشاهير الرواة في النوادر واللغة.
  • آثاره: جمهرة العرب: جمع فيه ٤٩ قصيدة، قسمها إلى سبع طبقات، كل طبقة ٧ قصائد. صدَّره بمقدمة انتقادية في الشعر واللغة، وأقوال الشعراء، واختلاف الناس في قيمته، والمفاضلة بينهم، وصفاتهم وبعض أخبارهم.
  • قيمته: كان لهذا الكتاب تأثير لما فيه من نقد الشعراء، والمقابلة بين لغته وبين لغة القرآن وأقوال الأدباء في الشعر والشعراء. غير أننا نرى فيه ما في كتاب ابن سلام من عدم الشخصية؛ أي لا آراء خاصة.

    نقل أحكام الأدباء دون أن يرتبها، ولم يردها إلى أحكام عامة ومبادئ نقدية ليستخلص منها حكمًا خاصًّا به، كما هو شأن نقاد اليوم.

    وعلى كلٍّ، فهو قد خطا خطوة وإن قصيرة، ككل شيء في أول نشأته.

(٤) العصر العباسي الثاني

  • العهد التركي: يبدأ العصر التركي العباسي بخلافة المتوكل، وينتهي بدخول الديلم وتأليفهم الدولة البويهية.
  • نفوذ الأتراك: امتاز هذا العصر بنفوذ الأتراك فيه وتسلطهم على الخلفاء. أدخلهم المعتصم؛ لأن أمه تركية، ليقاوم بهم نفوذ الفرس. وعززهم المتوكل لكرهه الشيعة والفرس، «أمر بهدم قبر علي بن الحسين كرهًا.»

    لقد بلغ من أمر الأتراك أن استبدوا بالخلفاء، فكانوا يقتلونهم وينصبون من شاءوا منهم؛ «فالمتوكل قتله غلام تركي.» وعلى عهد ابن المعتصم والمعتز بن المتوكل استفحل أمرهم واستبدادهم.

    فلما تولى المعتز أحضروا المنجمين وقالوا لهم: انظروا كم يعيش الخليفة. فقال من كان بالمجلس: مهما أراد الأتراك. وهكذا كان، فإنهم قتلوا المعتز شر قتلة، وسملوا عيني المستكفي، وصار القاهر فقيرًا فحبسوه، فكان يلتف بقطن جبة، وفي رجله قبقاب خشب.

    وأخيرًا صار الخليفة آلة بيد الأتراك يحلف يمين الطاعة لهم.

  • نفوذ الخدم: ثم جاء نفوذ الخدم في هذا العصر، ففيهم كان يحتمي الخلفاء من الأتراك. وقد كان للمقتدر من الخدم ١١ ألفًا.

    وفي هذا العصر انتشرت الرشوة والفساد، فأصبح كل حاكم يهمه أن يحتفظ لنفسه بما يستطيع الوصول إليه من المال، وكثر الاغتيال، فالخليفة يخاف على نفسه من جنده وحشمه، والحاكم يخاف على نفسه من الخليفة، والوزير يخاف على نفسه من الجميع. وكان كل هؤلاء معرضين لتصفية الأموال وحجز الممتلكات. وقد تقيدت الأفكار بداعي الاستبداد والقتل.

مميزات هذا العصر الأدبية

  • (١)

    أثَّر الفساد السياسي في الآداب، ولا سيما ما كان فيها نفسيًّا؛ كالشعر والإنشاء، وقُيدت الأفكار، وقلَّ النابغون. وكان للعلوم السبق على الآثار النفسية.

  • (٢)

    ظهر انقلاب في ألفاظ اللغة، فتوسعت معاني بعضها حتى خرجت عما وُضعت له في الأصل.

  • (٣)

    استقر الخط العربي على ما وصل إلينا. وكان أول من وضع هذه القاعدة ابن مقلة سنة ٢٨٣. مات في السجن بعد أن صودرت أمواله وقطعت يده ثم لسانه.

(٤-١) الشعر

مميزات الشعر

  • (١)

    توسع الشعراء في البديع والزخرفة، وكان قد ابتدأ بذلك بشار وأبو تمام، فأتمه في هذا العصر البحتري، وزاد عليه ابن المعتز.

  • (٢)

    كان شعراء العصر الأول قد ابتدءوا مع أبي نواس بوصف مجالس الأنس والزهريات، فتوسع نظَّامها في هذا العصر، ولطفت تشابيهها مع ابن المعتز.

  • (٣)

    أخذت العلوم الفلسفية تؤثر بالشعر، فظهر التلميح إليها في هذا العصر، على أنها لم تزدهر إلا في العصر الثالث أيام المتنبي ثم المعرِّي.

  • (٤)

    إن التضييق على الحرية، وعدم التبسط في الأغراض السياسية، وضعف شوكة الأحزاب المختلفة، أثرت في الآداب النفسية، فقلَّ عدد الشعراء ولم يشتهر منهم إلا أصحاب الشاعرية القوية.

  • (٥)

    كان من نتيجة ذلك أنهم بدءوا يتذمرون ويتشكون من ذهاب من يعرفون قدر الشعر، على حدِّ قول ابن الرومي:

    ذهب الذين تهزهم مُدَّاحهم
    هزَّ الكلمة عوالي المران
  • (٦)

    نبغت طبقة من الكتاب الذين انتقدوا الشعر وروايته، فكانوا في العصر السابق ينظرون فيه بلا تمحيص، فصاروا بهذا العصر يتدبرون معانيه وأساليبه بعين النقد، حتى أخذ هذا الفن يستقل عن بقية الفنون.

ابن الرومي

  • أصله: من اسمه تعرف أنه رومي الأصل غير عربي، وهو من السوقة. غالى الذين ترجموا له ودرسوه فنسبوا إلى أصله أشياء كثيرة رأوها في شعره.

خاصياته

  • (١)

    طول قصائده، وهذا دليل على كثرة أفكاره.

  • (٢)

    هجوه مر بذيء أحيانًا، يخرجه بشكل صورة هزلية.

  • (٣)

    خلَّاق للمعاني النادرة، يأخذ الأفكار المبتذلة فيأتي بصور ووجوه جديدة لم يسبقه إليها شاعر.

  • (٤)

    تهافته على المعاني جعل شعره غير منقَّى.

  • (٥)

    مبتدع لا متبع.

  • (٦)

    أطول الشعراء نفَسًا.

  • (٧)

    مضطرب المزاج حاد الشعور.

  • (٨)

    قصيدته ليست ذات موضوعات متعددة كغيره من الشعراء.

  • شراهته: تظهر شراهته وحبه للطعام من نظمه في الطعام والشراب على مختلف أنواعه.
  • تطيُّره: كان كثير التطيُّر، يحبس نفسه أيامًا في بيته بلا طعام ولا شراب، إذا تشاءم.
  • هجاؤه: كان هجَّاء لا يخاف أحدًا. وقد قُتل بسبب هجائه كما حصل لغيره من شعراء عديدين.

    أجاد العتاب والهجاء؛ لأنه تأثر بمعاملة أهل عصره له، وإعراضهم عنه، حتى كان يجوع ويعرى أحيانًا، وقد طلب الكسوة والرغيف، كما نقرأ في شعره.

  • خموله: من أسباب خموله تطويله القصائد إلى حدٍّ يُمَل، وقلة حيلته، وهجوه الأمراء، وبعده عن الناس لتطيره، وأسلوبه الذي لم يألفوه.
  • عبقريته: كان يختلف عن شعراء العرب بفكره وأدبه، ولعل لأصله الرومي يدًا في ذلك.
  • نظره للطبيعة: كان يعشقها كأنها من لحم ودم، وهذا ظاهر في شعره. ينظر إليها نظرة طبيعية كأنها أنثى حقًّا. وهذا بعض ما قاله فيها:
    فهي في زينة البغي ولكن
    هي في عفة الحصان الرزان

    وقوله:

    تبرَّجت بعد حياء وخفر
    تبرج الأنثى تصدَّت للذكر
  • الألوان: كان محبًّا للألوان، يكثر من ذكرها.
  • حظه: ولد في خلافة المعتصم، وأدرك الواثق والمتوكل والمنتصر والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد، فلم يؤاسه أحد منهم ولا وهبوه شيئًا، فكان فقيرًا. يسمعون قوله في وصف مأكولاتهم ولا يجودون عليه بفضلاتهم، بل كانت توصد الأبواب دونه.
  • خصاصته: يدل عليها طلبه الثياب ليتقي البرد، ومنها قوله لأبي جعفر النوبختي:
    جعلت فداك لم أسألـْ
    ـكَ ذاك الثوب للكفن
    سألتكه لألبسه
    وروحي بعدُ في البدن
  • ضعفه: اغتصبت داره أنثى، فقال يخاطب الوزير عبد الله بن سليمان:
    تهضمني أنثى وتغصب جهرة
    عقاري، وفي هاتيك أعجب معجب
    فلا تسلمني للأعادي وقولهم
    ألا من رأى صقرًا فريسة أرنب
  • أصله: لم يكن هذا الشاعر يتبرأ من أصله كغيره من الشعراء المولَّدين، بل يشير إلى أنه مولى بني العباس بقوله:
    أنا منهم بقضاء من ختمت
    رسل الإله به وهم أهلي
    مولاهم وغذي نعمتهم
    والروم حين تنصني أصلي

    لم يكن كأبي نواس تارة نزاريًّا وطورًا يمنيًّا، وأحيانًا عجميًّا. وقد هجا إسماعيل بن بلبل لانتسابه إلى شيبان زورًا، حيث قال فيه:

    تشيبن حين همَّ بأن يَشِيبا
    لقد غلط الفتى غلطًا عجيبًا
  • شخصيته: ساخط على الحياة، ناقم على العصر وأبنائه، نفسه متألمة جدًّا من فقره، قال:
    شرطٌ خولوا عقائل بيضا
    لا بأحسابهم بل الأنساب
    فإذا ما تعجب الناس قالوا
    هل يصيد الظباء غير الكلاب
    لم أكن دون مالكي هذه الأمـ
    ـلاك لو أنصف الزمان المحابي
  • شكله: قد وصفه لنا في هذا البيت:
    أنا من خفَّ واستدقَّ فما
    يثقل أرضًا ولا يسد فضاء
    إن لي مشية أغربل فيها
    … … … …

    ومع هذا فقد شاخ قبل الأوان.

  • سخره: قد كان على حظٍّ كبير من السخر والاستخفاف، قال:
    أطلِقْ الجرذان في الليل
    وصِحْ هل من مبارز

    وقوله في بخيل:

    فلو يستطيع لتقتيره
    تنفس من منخر واحد

    هجوه: قال يهجو طبيبًا:

    أفنى وأعمى ذا الطبيب بطبه
    وبكحله الأحياء والبصراء
    فإذا مررت رأيت من عميانه
    أُمَمًا على أمواته قرَّاء

أسباب هجائه

  • (١)

    سبُّ الناس شعره وانتقادهم له.

  • (٢)

    قيام الكتَّاب والحجَّاب في سبيل رزقه ومنعهم إياه من الوصول إلى من يرجو عطاءه.

  • (٣)

    رد الناس مدحه وحرمانه العطاء كما يتضح لنا من هذه الأبيات:

    رددتَ إليَّ مدحي بعد مطل
    وقد دنَّست ملبسه الجديدا
    وقلتَ امدحْ به من شئت غيري
    ومن ذا يقبل المدح الرديدا
    ولا سيما وقد أعقبت فيه
    مخازيك اللواتي لن تبيدا
    وما للحي في أكفان ميت
    لبوس بعدما امتلأت صديدا
  • عتابه: كان يحاول أولًا الاستمالة باللطف، ثم بالتذلل، ثم تذكيرهم بواجب الصداقة، والمحافظة عليها لأنها نادرة الوجود، كقوله:
    ثم يخفى عليك أني صديق
    ربما عز مثله في الغلاء

    وهناك أصدقاء يتكبرون عليه يعاتبهم بشدة وقسوة عظيمين، ويتهددهم بهجائه المر المقذع، وهذا عتابه للقاسم:

    لاقيتني ساعةَ لاقيتني
    أثقل خلق الله أجفانا
    كأنما كنت تضمنت لي
    رد شبابي كالذي كانا
    أو كل ما لم يستطع فعله
    عيسى ولا موسى بن عمرانا
    أنت حلول حائل عهده
    تصبغك الساعات ألوانا
  • هو وابن المعتز: قيل له: لماذا لا تشبِّه مثل ابن المعتز؟ فقال: أنشدوني ما استعجزتموني عنه.

    فأنشدوه قول ابن المعتز في الهلال:

    انظر إليه كزورق من فضة
    قد أثقلته حمولة من عنبر

    فصاح: وا غوثاه! هو ابن خليفة يصف ما في بيته وأنا أي شيء أصف؟! وأنشدهم قوله في وصف قوس قزح:

    وقد نشرت أيدي الجنوب غمائما
    من الجو دكنًا والحواشي على الأرض
    يطرِّزها قوس السحاب بأخضر
    على أحمر في أصفر إثر مبيض
    كأذيال خود أقبلت في غلائل
    مصبغة والبعض أقصر من بعض

    وله في وصف قالي الزلابية وخباز الرقاق، شعر نفيس.

    وله في هجو الورد بيتان مشهوران يدلان على دقة تصوير ولكن بلا ذوق.

  • خلاصة: أطول الشعراء نفسًا، طبعه حاد، كثير الإنتاج، حاد الشعور حتى الهوج. مشوش المزاج إلى حد التطير. شعره سلس، سهل الألفاظ حتى الركاكة. بارع في عتابه، لسانه مر في هجائه. هجَّاء في معرض الرثاء. قصيدته ذات موضوع واحد، لا تنقُّل فيها.

    ادعى أنه عباسي كما مر بك، وفي إحدى قصائده برهن على أنه متشيع ومتعصب لهم. ولو حظي بمن ينقِّي له شعره، لكان له أروع ديوان.

البحتري

  • نسبه: هو الوليد بن عبد الله، وينتهي بطيء بن أدد بن يعرب بن قحطان.
  • كنيته: أبو عبادة، ولقبه البحتري.
  • منزلته: شاعر فصيح، حسن المذهب، نقي الكلام، مطبوع، حسن التصرف في جميع أنواع الشعر إلا الهجاء.
  • هجاؤه: عندما دنت وفاته أمر ابنه بحرق كل ما قاله في الهجاء.
  • تشبيهه: كان يتشبَّه بأبي تمام وينحو نحوه في البديع، ويتخذه إمامًا. وقد قال عن نفسه إنه تابع له.
  • أبو تمام: ساعد البحتري لمَّا رآه بحمص، فكتب لأهل المعرة يوصيهم به خيرًا فوظفوا له بأربعة آلاف درهم، فكان أول مال أصابه. وهذا كتاب أبي تمام لأهل المعرة:

    يصل كتابي هذا على يد الوليد بن عبادة الطائي، وهو على بذاذته شاعر فأكرموه.

  • قذارته: كان من أوسخ خلق الله ثوبًا وآلة.
  • بخله: كان أبخل الناس على كل شيء، وكان له أخ وغلام معه في داره فكان يقتلهما جوعًا، فإذا بلغ جوعهما أشده، جاءا بَكِيَّينِ فيرمي إليهما بثمن قُوتِهما مضيِّقًا مقتِّرًا ويقول: «كُلا، أجاع الله أكبادكما وأطال إجهادكما.»
  • من أمثلة بخله: قال أبو مسلم الأصفهاني: دخلت على البحتري فاحتبسني عنده، ودعا بطعام ودعاني إليه فامتنعت من أكله، وكان عنده شيخ شآم لا أعرفه، فدعاه إلى الطعام، فتقدَّم وأكل معه أكلًا عنيفًا، فغاظه ذلك فالتفت إليَّ وقال: أتعرف هذا الشيخ؟ هذا شيخ من بني الهجيم الذين يقولون فيهم:
    وبني الهجيم قبيلة ملعونة
    حصُّ اللحى متشابهو الألوان
    لو يسمعون بأكلة أو شربة
    بمعان أصبح جمعهم بمعان

    فجعل الشيخ يشتمه ونحن نضحك.

  • ارتجاله: مرَّت صبية بالمتوكل بديعة جدًّا ومعها كوز ماء، «اسمها برهان»، فسألوها لمن هذا الماء؟ فقالت: لستِّي. فقال المتوكل: صُبِّيه في حلقي. فشربه وقال للبحتري: قل في هذا شيئًا. فقال:
    ما شربة من رحيق كأسها ذهب
    جاءت بها الحور من جنات رضوان
    يومًا بأطيب من ماء بلا عطش
    شربته عبثًا من كف برهان
  • الإنشاد: أنشد البحتري المتوكل قصيدة، أولها:
    عن أي ثغر تبتسم
    وبأي طرف تحتكم
    قل للخليفة جعفر الـ
    ـمتوكل بن المعتصم
    أسلم لدين محمد
    فإذا سلمت له سلم

    وكان البحتري من أكره الناس إنشادًا، يتشادق ويتزاور في مشيه مرة جانبًا ومرة القهقرى، ويهز رأسه ومنكبيه، ويشير بكمِّه، ويقف عند كل بيت قائلًا: أحسنتُ والله، لماذا لا تقولون لي أحسنتَ؟

    فضجر المتوكل من هذه الحالة، فقال للصيمري الذي كان حاضرًا: أما تسمع؟ بحياتي تهجوه. فقال الصيمري:

    في أي سلح ترتطم
    وبأي كف تلتقم؟

    والقصيدة طويلة يختمها بقوله: وعلمت أنك تنهزم.

    ففر البحتري من الديوان، وضحك المتوكل كثيرًا وأمر للصيمري بالجائزة المعدة للبحتري.

  • امتيازه: يمتاز في المدح. له مقدرة على تصوير أخلاق الممدوح. أبدع في وصف القصور البديعة وما فيها من مشاهد كالبرك وغيرها، واشتهر بوصف بركة المتوكل وقصر المعتز بالله.

    وأشهر قصائده في الوصف، وصف الإيوان بقصيدته السينية.

  • كتبه: ديوانه: جمعه أبو بكر الصولي على الحروف.
  • حماسته: له ديوان حماسة. وحماسته كحماسة أبي تمام، إلا أنها أكثر أبوابًا، تخلو مما تنبو السماع عنه. وله أيضًا كتاب معاني الشعر.
  • مدحه: من قصائده المشهورة، تهنئة بعيد الفطر رائية القافية.

    ومن قوله في الوصف:

    ذعر الحمام وقد ترنَّم فوقه
    من منظر خطر المزلة هائل

    وقال في الطيف:

    إذا ما الكرى أبدى إليَّ خياله
    شفى قربه التبريح أو نقع الصدى
    إذا انتزعته من يديَّ انتباهة
    حسبت حبيبًا راح مني أو غدا
    ولم أرَ مثلينا ولا مثل شأننا
    نعذَّب أيقاظًا وننعم هجَّدا
  • من حكمه:
    أقوى العواقب يأس قبله أمل
    وأعضل الداء نكس بعد إبلال
    والمرء طاعة أيام تنقُّله
    تنقُّل الظل من حال إلى حال
  • شعره: يجيد سبك الألفاظ أكثر من المعنى. معانيه من وحي الخيال، لا من العلم والمنطق كالمتنبي وأبي تمام، فأعاد بذلك للشعر ما فقده من روعة وبهجة ديباجة. شعره عذب جزل فصيح. امتاز بذلك على أبي تمام أستاذه، ونهج طريقته هذه معاصروه ومن جاءوا بعده، فعُرف بأسلوبه هذا الذي دعي بالطريقة الشامية.
  • خلاصة: جرَّب أولًا أن يتعرض للشعر السياسي فلم ينجح به لفوات الأوان، فسلك مسلك أبي تمام، ولكنه توسط بعض الشيء، فمال إلى الناحية العربية الخالصة، فقلل من البديع ودقق في المعاني.

    وصَّاف ماهر، يميل إلى وصف الحضارة المادية أكثر من ميله إلى وصف المعاني.

    مصور ماهر للعواطف الإنسانية، يرثي فيُبكي، ويستعطف فيستميل، ويبلغ ذلك بلا عناء. خفيف الروح إذا تغزَّل، موفَّق إذا مدح، شعره رنَّان حتى قالوا فيه: أراد أن يشعِر فغنَّى. وقال هو: من الوفاء إجادة الرثاء.

    ومع كل ما تقدم من جمال الوصف، كان مغرورًا بنفسه معجبًا بها، ثقيل الظل، مبغوضًا. في شعره غثٌّ ساقط، إلا أن القسم الأكبر منه على جانب عظيم من الطلاوة والدقة، أو براعة التصرف في المعاني والألفاظ، ينتقل بفكره إلى آخر منطقة.

ابن المعتز

  • اسمه: عبد الله بن المعتز بن المتوكل.
  • لقبه: المرتضي بالله.
  • خلافته: كانت يومًا وليلة، ولذلك لم يعدَّ من الخلفاء.

    أوصى المكتفي بالله لابن أخيه جعفر بن المعتضد، ولقَّبه المقتدر بالله، وكان عمره ١٣ سنة، فساد الخدم والنساء واستولوا على الأمور، فصعب ذلك على القضاة والقواد فأوصوا الوزير العباس بن حسن في خلعه ومبايعة ابن المعتز، فقتلوا الوزير وخلعوا المقتدر سنة ٢٩٦.

    بايعوه بالخلافة مرغمًا، وطلبوا من المقتدر أن يخلي دار الخلافة لينتقل إليها ابن المعتز، فأطاع واستمهلهم للغد، وفي تلك الليلة فرَّ إلى الموصل ولم يبقَ في الدار إلا خادمه مؤنس، وخازنه موسى، فبلغ ذلك ابن المعتز، فسار ومعه وزيره محمد بن داود وظن أن الجند يتبعه فخذل، واختفى مع وزيره خوفًا من الغوغاء التي انتشرت في بغداد ثلاثة أيام.

  • مقتله: فلما رأى المقتدر ضعف خصمه، عاد إلى بغداد في العسكر وقبض على خصومه فقتلهم، أما ابن المعتز فاختفى عند ابن الجصاص، فعرف مكمنه وقبض عليه، وقُتل خنقًا، ولُفَّ في كيس وسُلِّم لأهله هكذا.
  • صفاته: حسن الأخلاق، واسع الاطلاع على زبدة العلوم وفنون الأدب، كثير المطالعة، مولع بالشطرنج، حسن المذاكرة، شريف الهيئة، يحب الطِّيب والتضمخ به، جذل طروب، جواد على أهل الأدب بماله، كان لا يخرج من عنده أديب أو نديم إلا بصلة وطِيب، وكان يشرب معتمدًا على عفو الله:
    وأشربها وأزعمها حرام
    وأرجو عفو ربٍّ ذي امتنان
  • البديع: مغرم به لدرجة قصوى، وخصوصًا في الاستعارة والتشبيه، وهو أول من ألَّف في البديع، جمع منه ١٧ بابًا ثم عقبه قدامة فزاد ١٣ بابًا، وجاء بعدهم كثيرون فزادوا عليه حتى بلغ ما بلغ.
  • البلاغة: حددها بقوله: هي البلوغ إلى المعنى ولم يطل سفر الكلام.
  • في نديم: قال في نديم جُدِّر ولم يؤثِّر به الجدري:
    لي قمر جُدِّر لما استوى
    فزاده حسنًا فزادت همومي
    أظنه غنَّى لشمس الضحى
    فنقَّطته طربًا بالنجوم
  • النميري: صلى النميري صلاة خفيفة وسجد سجدة طويلة جدًّا فقال فيه:
    صلاتك بين الورى نقرة
    كما اختلس الجرعة الوالغ
    وتسجد من بعدها حسرة
    كما ختم المزود الفارغ
  • عطفه: قال في مغنية محسنة ولكنها قبيحة:
    قلبي وثَّاب إلى ذا وذا
    ليس يرى شيئًا فيأباه
    يهيم بالحسن كما ينبغي
    ويرحم القبح فيهواه
  • وصفه: كان مولعًا في الوصف إلى حد بعيد يتقنه جدًّا، وأكثر شعره قوامه الوصف الدقيق في أشياء كثيرة، وخصوصًا مجالس الأنس وما إليها.
  • القمر: هجا القمر، مخالفًا بذلك شعراء الزمان فقال:
    يا سارق الأنوار من شمس الضحى
    يا مثكلي طيب الكرى ومنغصي
    أما ضياء الشمس فيك فناقص
    وأرى حرارة نارها لم تنقصِ
    لم يظفر التشبيه منك بطائل
    متسلخ بهقًا كلون الأبرص
  • الخلافة: الأبيات التالية تدل أصدق دلالة على ابن المعتز وميوله:
    قليل هموم القلب إلا للذة
    ينعم نفسًا أذنت بالتنقل
    فإن تطلبه تقتنصه بحانة
    وإلا ببستان وظل مظلل
    ولست تراه سائلًا عن خليفة
    ولا قائلًا من يعزلون ومن يلي
    ولا صائحًا كالعير في يوم لذة
    يناظر في تفضيل عثمان أو علي
  • سخطه:
    كن جاهلًا أو فتجاهل تفزْ
    للجهل من ذا الدهر جاه عريض
    والعقل محروم يرى ما يرى
    كما ترى الوارث عين المريض
  • من رائع شعره: قوله:
    عجبًا للزمان في حالتيه
    وبلاء وقعت منه إليه
    رب يوم بكيت فيه فلما
    صرت في غيره بكيت عليه

    وهذا وصفه موكب الصلاة على المعتصم:

    قضوا ما قضوا من حقه ثم قدموا
    إمامًا يؤم الخلق بين يديه
    وصلوا عليه خاشعين كأنهم
    صفوف قيام للسلام عليه

    ومن بديع وصفه، وهو يدل على حبه السمر:

    وأبكي إذا ما غاب نجم كأنني
    فقدت صديقًا أو رزئت حميما
    فلو شقَّ من طرف الليالي كواكب
    شققت له من ناظري نجوما

    وقد نُسب إليه موشح لطيف جدًّا أطلبه في موضعه، ولا نستطيع أن نقول عن الأسبقية، أَلَهُ هي أم لغيره من الأندلسيين.

    في غلام:

    رشأ يتيه بحسن صورته
    عبث الفتور بلحظ مقلته
    وكأن عقرب صدغه وقفت
    لما دنا من نار وجنته

    في الهلال:

    انظر إلى حسن هلال بدا
    يهتك من أنواره الحندسا
    كمنجل قد صيغ من فضة
    يحصد من زهر الدجى نرجسا
  • زهده:
    ولقد قضت نفسي مآربها
    وقضيت غيًّا تارة ورَشد
    ونهار شيب الرأس يوقظ من
    قد كان في ليل الشباب رقد

    وقال:

    أعاذل قد كبرت على العتاب
    وقد ضحك المشيب من الشباب
    رددت إلى التقى نفسي فقرت
    كما رد الحسام إلى القراب
  • آخر ما نظم:
    يا نفس صبرًا لعل الخير عقباكِ
    خانتك من بعد طول الأمر دنياك
    مرت بنا سحرًا طير فقلت لها
    طوباك يا ليتني إياك طوباك
    ورُبَّ آمنةٍ كانت شبيهتها
    ورُبَّ مطلقة من بين إشراك
    أظنه آخر الأيام من عمري
    ويوشك اليومَ أن يبكي لي الباكي
  • مذهبه: يظهر أنه حنفي بدلالة قوله في الخمر المطبوخة وهو معنى بديع:
    خليلي قد طاب الشراب المورَّد
    وقد عدت بعد النسك والعود أحمد
    فهاتا عقارًا في قميص زجاجة
    كياقوتة في درة تتوقد
    يصوغ عليها الماء شباك فضةٍ
    له حلق بيض تحل وتعقد
    وقتني من نار الجحيم بحرها
    وذلك من إحسانها ليس يجحد
  • الطرديات: وله في الطرديات شعر كثير جيد لا محل لذكره هنا.
  • آثاره: ديوانه، كتاب البديع، مختصر طبقات الشعراء، أشعار الملوك، كتاب الشراب.
  • حياته: ملاهٍ وأنس – حياة ملوك – شعره مرآة حياته.
  • خلاصة: رجل عربي قحُّ، ترفَّع عن بذيء اللفظ ومبتذل المعنى. جميل الأفكار، مختار اللفظ، دقيق التعبير، شعره خالٍ من الزلفى، يحب الفن للفن، ألهى عقله بالشعر كما التهى بالصيد والشراب والزينة. هو في العباسيين كالوليد في الأمويين، والفرق بينهما أن ابن المعتز شاعر الصنعة، والوليد شاعر السليقة، وكل منهما أجاد في ناحيته.
  • ميزة شعره: رقة وانسجام، وسهولة لفظ وتعبير، وهذا ناتج عن أخلاقه وتربيته.

    لم يمدح إلا نادرًا وعن اقتناع بوجوب المدح. معظم شعره في وصف الجنائن ومجالس الخلَّان، وأندية الطرب وجمال الطبيعة، والصيد والكلاب، والبواشق والبئزان.

    أبرع شعراء العرب استعارة وتشبيهًا ووصفًا. فإذا صح قولهم: كلام الملوك ملوك الكلام، فذلك ينطبق على ابن المعتز في زمانه.

    الخلاصة: إن في شعره رقة الملوك، وغزل الظرفاء، وهلهلة المحدثين.

  • خلاصة عامة: شعراء هذا العصر يمتازون عن الذين تقدموهم بأنهم جمعوا بين الغزل والعلم، فكانوا شعراء ومؤلفين، إلا ابن الرومي فإنه كان شاعرًا فقط.

(٤-٢) النثر

  • الإنشاء: إمام الإنشاء في العصر العباسي الأول ابن المقفع، أطال الجملة وصرفها عن إيجاز الراشدين إلى تنميق عبد الحميد، واشتهر أسلوبه في إنشاء كليلة ودمنة، وهو أسلوب الكتاب؛ أي الإنشاء المرسل، بلا تسجيع ولا تقطيع، فتبعه الكثيرون. حتى ظهر الجاحظ في هذا العصر، فقصر الأسلوب القديم وجعل الجملة قطعًا صغيرة، وأدخل في الدعاء الجمل الاعتراضية، فتبعه كثيرون حتى أطالوها فأضحت غامضة.

    كانت الأفكار في صدر الإسلام وما قبله، جامعة مختصرة عامة غير مفصلة، فجاء التعبير موجزًا بليغًا، فلمَّا توسع الفكر وفصِّلت معانيه طال الإنشاء واتسع، فابتدأ هذا الأسلوب بعبد الحميد، ثم جاء ابن المقفع فخلا نثره من التسجيع والتقطيع؛ لاتصال المعاني بالأفكار وخروجها من بعضها البعض، فكان الإنشاء المرسل.

    ثم جاء الجاحظ، وأدخل أسلوبه المعروف؛ أي عبارات قصيرة كالشعر ولكن دون قافية ووزن. وكان هذا الإنشاء عنوان التفكير المفصَّل غاية التفصيل، والرجوع إلى الذات.

  • العلوم اللغوية: عرفنا فيما تقدَّم كيف نشأ علم اللغة وتوسَّع، وذكرنا من مشاهيره الخليل. أما في هذا العصر، فاتسع هذا العلم توسعًا كبيرًا، وظهرت الكتب المطولة التي مهدت السبيل للمعاجم اللغوية التي نضجت في العصر الثالث، وكان من أشهر اللغويين في هذا العصر: المبرِّد.
    • (١) المبرِّد: أشهر تآليفه: «الكامل»، وهو كتاب أمالي ولغة ونحو. المبرد يمثل الثقافة العربية في العصور العباسية؛ لأنه لم يعتمد على أدب أجنبي، وهو شديد النزعة إلى العروبة، وخصوصًا أبناء قومه الذين أشاد بذكرهم في كتابه هذا، وروى ما له علاقة بأمجادهم.
    • (٢) ابن دريد: صاحب المقصورة الدريدية. وله كتاب جمهرة العرب، وهو معجم مرتب على حروف الهجاء، وكتاب الاشتقاق، وهو قاموس في أسماء القبائل العربية.
    • (٣) عبد الرحمن الهمذاني: من تآليفه: الألفاظ الكتابية، وهو كتاب فيه مترادفات، ألفاظ وجمل يستعملها الكتَّاب.
  • علم النحو: فساد مَلَكة اللسان أدى إلى وضع القواعد، وكان أسبق الناس إلى ذلك الخليل. وسبب فساد اللغة الامتزاج بالأعاجم ومخالطتهم بالسكنى والزواج.
    وقد رأيت فيما مضى مذهبَيِ البصريين والكوفيين وغلوهما. أما في هذا العصر فنشأ مذهب بين بين، وهو مذهب البغداديين، أشهر أركانه المازني، وهو أول من دوَّن علم الصرف منفردًا عن النحو.
    • (١) ثعلب أبو العباس: ألَّف كتاب الفصيح المعروف باسمه «فصيح ثعلب»، وله أيضًا قواعد الشعر وشرح ديوان زعير، وديوان الأعشى، وكتاب الأمالي المعروف باسم: «مجالس ثعلب».

      فهؤلاء الكتَّاب لم ينصرفوا إلى اللغة وحدها، بل كتبوا في الأدب كما رأيت.

(٤-٣) العلوم الدخيلة

  • النقل: رأينا في العصر العباسي الأول أن جلَّ همِّ الخلفاء كان لنقل الكتب العلمية إلى العربية، وظل هذا العمل موضوع الاهتمام في أوائل العصر الثاني، فكان خير تمهيد للتآليف العلمية. أما نَقَلة هذا العصر فمنهم:
    • (١) إسحاق بن حنين: كان طبيبًا أيضًا. أكثر منقولاته في الفلسفة عن أرسطو، ونقل كتاب إقليدس.
    • (٢) قسطا بن لوقا: نصراني بعلبكي، أتقن اليونانية والعربية والسريانية، واتصفت ترجماته بإقامة العبارة ورشاقة التعبير.
    • (٣) متى أبو بشر: ابن يونس، ترجم كتاب أرسطو في الشعر.
    • (٤) يحيى أبو زكريا: ابن عدي، نصراني من اليعاقبة.

العلوم الطبيعية

أشهر فروع علم الطبيعة التي اشتغل فيها العرب في هذا العصر هي: الطب، الكيمياء، الطبيعيات.
  • الطب: اشتهر به أبو بكر الرازي، جالينوس العرب، ويسميه الإفرنج Rases.
  • آثاره: كتاب الحاوي: ملخص الطب، كتاب الجامع، برء الساعة.
    • (١) الطب المنصوري: يحتوي على عشرة كتب منها: الجدري والحصبة، وهو ما ألف في هذا الموضوع، وقد بقي زمانًا طويلًا الكتاب الوحيد من نوعه. طبع في المطبعة الأميركية. ويُنسب للرازي طريقة استحضار الحامض الكبريتي «زيت الزاج» باستحضار كبريتات الحديد، ويُنسب إليه اكتشاف الكحول.
    • (٢) سنان بن ثابت: له عدة رسائل في الطب والهندسة والهيئة والتاريخ، منها كتاب التاجي، قدمه إلى تاج الله عضد الدولة بن بويه.
  • الكيمياء والتاريخ الطبيعي: أشهر من يُذكر في هذا العلم أبو بكر بن وحشية. أشهر تآليفه كتاب الفلاحة النبطية، كتبه زاعمًا أنه نقله عن النبطية. والراجح اليوم أنه تأليفه، ولم يترجمه. أدخل فيه بعض مغامز ضد الإسلام، يقصد من ذلك أن يُظهر بطريقة فنية ما للكلدان من السبق في المدنية، وما في ديانة البابليين من الميزة على الإسلام.
  • الهندسة: للعرب فضل يُذكر في علم الهندسة، نقلوا علوم اليونان وأوصلوها إلى أوروبا في القرون الوسطى مع شروحهم عليها وتعاليقهم، وكان من آثارهم المشهورة أصول إقليدس، وكتاب المجيسطي لبطليموس، والكتاب الخامس والرابع من مخروطات فولمبوس.
    • (١) ثابت بن قرة: أما المشهورون في الرياضيات فهم: ثابت بن قرة، ترك نحوًا من ١٥٠ تأليفًا في العربية و١٦ في السريانية، أهمها ترجمة المجيسطي لبطليموس.

      شرح كتاب أرسطو، وكتب مقدمة أصول إقليدس، وله رسالة في حل الصعوبات الموجودة في جمهورية أفلاطون.

      كان صابئي المذهب، قُطِع من مجمع قومه لآراء أنكروها عليه، عاش بين منجمي المعتضد مقرَّبًا منه، يُقبِل إليه دون وزرائه وخاصته. وكان أيضًا من المبرزين في الطب والفلسفة، ومن النقلة المشهورين.

    • (٢) أبناء موسى شاكر: محمد وأحمد والحسن. كان أبوهم في حداثته حراميًّا ثم تاب.

      اشتهر أبو جعفر محمد في الهندسة والنجوم، واشتهر أحمد في علم الحيل، واشتهر الحسن في الهندسة وكان وافر المقدرة في الاستنتاج.

      فالحسن هذا لم يقرأ في كتاب إقليدس إلا قليلًا، أما بقية العلم فاخترعه من عند نفسه. كان له مرصد على جسر بغداد، أكثروا بواسطته الأرصاد والتحقيقات في سير النجوم، وألفوا فيها رسالات عديدة، وكذلك في الموازين والأشكال المخروطة، وقياس الدائرة، وخواص الزوايا.

      وقد ترجم كتابه في قياس الأشكال المسطحة إلى اللغة اللاتينية.

  • مساحة المثلثات: لم يعرف اليونان علم مساحة المثلثات بالمعنى الذي نعرفه اليوم؛ أي تلك الطريقة التي تحوِّل الأعمال الحسابية إلى مثلثات وحل زواياها. فهذه الطريقة السهلة كان الفضل للعرب في اكتشافها، فكان علم الرياضيات.
    • (١) البتَّاني: أبو عبد الله بن جابر البتَّاني، نسبة إلى بتَّان، ناحية من حرَّان. كان أصله صابئيًّا، اشتغل برصد الكواكب في الرقَّة على الفرات مدة ٤٨ سنة، وكان مرصده كثير الآلات الفلكية، بعضها من مخترعاته.
      • آثاره: أشهرها الزيج الصابي، نسبة إلى دينه. والزيج اسم كل كتاب تُعرف به أحوال الكواكب وحركاتها، ويؤخذ منه التقويم. وهو قسمان، ذكر فيه خلاصة أرصاده ومراقباته ومعلوماته عن النجوم ومجاريها والفلك وطبقاته. تُرجم إلى اللاتينية وطُبع مرات. في الجزء الثالث منه يستعين المؤلف بالمثلثات في قياس أبعاد الكواكب.
      • قيمته: قال ابن العبري: لا يُعرف أحد في الإسلام بلغ مبلغه بتصحيح أرصاد الكواكب وامتحان حركاتها. وإننا نتحقق ذلك إذا عرفنا التأثر الذي أحدثته ترجمة كتابه في أوروبا، حتى كان أعظم الفلكيين يُعجب به في أواخر القرن الثامن عشر. وكفى البتَّاني فخرًا استبداله أوتاد الدائرة بالجنوب، ووضعه لهذه الطريقة علمًا اسمه علم المثلثات.
  • أبو معشر الفلكي: تعلَّم علم النجوم بعد بلوغه السابعة والأربعين من عمره، وكان مدمنًا للخمرة.
  • الفلسفة: اختص العصر العباسي الأول، من حيث الفلسفة، بنقل الكتب، فانتشرت بين المفكرين وطالعوها. فما ظهر العصر العباسي الثاني حتى بدءوا بالتأليف من عندياتهم، فكان من فلاسفة العرب الأولين: الكندي والفارابي.
    • (١) الكندي: فيلسوف العرب؛ لأنه عربي الأصل، وهو أمر يستحق الذكر؛ لأن أكثر الفلاسفة الذين كتبوا في العربية كانوا من شعوب غير عربية.

      ذُكر له مؤلفات بلغ بها بعضهم المائتين، ولم يصلنا منها إلا بعض مقاطع في العلوم مع أربع رسائل فلسفية بترجمتها للاتينية، واحدة منها في العقل والمعقول، وأخرى في العناصر الخمسة: المادة والهيئة والحركة والزمان والمكان.

    • (٢) الفارابي: «المعلم الثاني» — الأول أرسطو — تركي الأصل، أتى بغداد وتعلم العربية، ثم جاء الشام، قصد سيف الدولة بحلب وصحبه حتى مات.
      • آثاره: في جميع العلوم المعروفة في عصره، أشهرها: كتاب المدينة الفاضلة، السياسة المدنية، إحصاء العلوم.
  • الجغرافيا والتاريخ: هي من العلوم الدخيلة عند العرب. قبل الإسلام، كان العرب يعرفون مساكن الجزيرة ومحلاتها، مهتدين بالكواكب بسبب النجعة والقوافل. فهذه معلوماتهم قبل الإسلام. أما بعده، فشعروا بالحاجة إليها، وقد فرض على الجميع الحج، فلزمهم معرفة موقع المدينة ومكة وطرقاتها والقبلة، باتجاههم إليها وقت الصلاة.

    والفتوحات التي جعلت البلدان تحت سلطة الخلفاء، فكان من اللازم معرفة مواقعها وبُعد بعضها عن بعض ومحصولاتها، ليسنُّوا عليها الخراج، وليتمكن أصحاب البريد الوصول إليها بلا تردد، فتسهل المواصلات.

    كان قد ترجم النقلة كتاب الجغرافيا لبطليموس، فدرسه الناس وتوسعوا فيه، وكان أول عملهم شرح هذا الكتاب، حتى كان العصر العباسي الثاني، فألفوا الكتب الخاصة في الجغرافيا العربية. وأهم المؤلفين في هذا العصر هما: ابن قرادية واليعقوبي.
    • (١) ابن قرادية: فارسي الأصل، نشأ ببغداد، واشتهر بكتاب المسالك والممالك، طُبع في مجلة أسيوية. منه فوائد كثيرة تاريخية، فضلًا عن تقاسيم المملكة وطول المسافات بين البلاد.
    • (٢) اليعقوبي: تآليفه: كتاب البلدان، وتاريخ الخلفاء العباسيين.

(٤-٤) التاريخ

وُلد في عصر الأمويين ونضج في العصر العباسي

لم يكن للعرب تاريخ سوى شعرهم في جاهليتهم، أما في صدر الإسلام، فكان من التاريخ سيرة النبي ومغازيه، والحوادث التي وقعت في أيامه وأيام الصحابة.

نزع العرب إلى تدوين التاريخ في العصر الأموي، فكتبوا أولًا تاريخ الأمم الأخرى؛ لرغبة الخلفاء والقواد في الاطلاع على أحوالهم عبرة واقتداء. وعلى هذا الأساس بُنيت أسس التاريخ الإسلامي. فقبل الإسلام، كان تاريخهم في الشعر، وفي صدر الإسلام، كان مؤرخوهم الرواة والعارفون بعلم الأنساب الذي تتوقف عليه منزلة القبائل والأفراد.

أما أول من دوَّن في التاريخ فهو عبيد بن سارية.
  • عبيد بن سارية: ألَّف كتاب الملوك وأخبار الماضين لمعاوية، وذكر ابن خلكان تأليفًا لابن منبه، المتوفي ١١٦، في ملوك حِمْير وأخبارهم.

    إذن بدء التاريخ يكون حقًّا في العصر الأموي، بالاطراد من مدح المشاهير في تحقيق الأنساب لأجل العطاء. إنما كل هذا ذهب ضياعًا.

    وفي العصر العباسي الأول، تمهيد السبيل لتأليف التواريخ العامة والخاصة؛ فابن هشام يكتب سيرة النبي والمغازي والفتوحات.

    الواقعي يكتب في الفتوحات والمغازي، ثم طبقات الشعراء لابن سلام، وطبقات الصحابة لابن سعد.

    وفي العصر العباسي الثاني، ظهر التاريخ بمعناه الحقيقي، وامتاز هذا العصر بكتابة التاريخ العام الشامل لأخبار القدماء والمحدثين، فصار المؤرخون في هذا العصر ينقسمون إلى أربعة أقسام:
    • مؤرخو الفتوح: البلاذري – فتوح البلدان.
    • مؤرخو أخبار العرب وشعرائهم وطبقاتهم.
    • مؤرخو التاريخ الخاص: تاريخ كل بلد وأمة على حدة.
    • مؤرخو التاريخ العام: الطبري.
  • الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، فارسي الأصل، ولد بآمل من أعمال طبرستان. سافر لمصر وسوريا والعراق. أقام ببغداد يعلِّم الحديث والفقه، وفيها كتب تأليفه الكبير. كان في أول عهده شافعي المذهب، ثم اختار لنفسه مذهبًا فلم ينجح. اشتهر بمقدرته على التأليف. قيل عنه إنه كان كل يوم يسوِّد أربعين صحيفة على مدة أربعين سنة. وقد توفي ببغداد.
    • آثاره: أشهر كتبه تاريخ الرسل والملوك، طبع بعد تعب كثير وعناية عجيبة بأحد عشر مجلدًا، في لندن. وهو تاريخ عام يبتدئ بآدم وينتهي بالطبري صاحبه.

      وله كتاب تهذيب الآثار، في الفقه على مذهب جديد اختطه لنفسه، تكلم فيه عن اختلاف الفقهاء الأربعة، فقال ابن حنبل لم يكن فقيهًا لكن محدِّثًا، فنقم عليه الحنابلة فضايقوه. ولما مات دفن ليلًا في داره خوفًا منهم.

      وله التفسير الكبير، طبع في القاهرة.

    • قيمته: أعظم مؤرخي هذا العصر، بل العرب في كل عصر؛ لأنه جمع في كتابه أخبارًا عديدة كنا خسرناها لولاه.

      وتاريخه الفريد في بابه هو مختصر تاريخه الأكبر، تراجَع تلاميذه عن نسخه فاختصروه.

      وهو، فوق كل هذا، مفسر وفقيه ضليع يفوق غيره من المفسرين.

  • البلاذري: من تآليفه: فتوح البلدان. كان شاعرًا وكاتبًا ومترجمًا، ينقل من الفارسية إلى العربية.

    نشأ ببغداد وتقرَّب من المتوكل والمستعين والمعتز. ذكر في كتابه فتوح البلدان أخبار المسلمين خبرًا خبرًا، وأنساب الأشراف منهم.

  • أبو بكر الصولي: ألَّف تاريخًا للشعراء، رتَّب أسماءهم على أحرف الهجاء. ويُعرف بالشطرنجي؛ لأنه كان ألعب أهل زمانه فيه. أصله من ملوك جرجان. كان نديم الخلفاء. جمع أشعارًا كثيرة كما فعل السكري بالقدماء.

    وله تآليف أُخَر في أخبار آل عباس وأشعارهم، ولكنه لم يتمه.

(٤-٥) الأدب

تحول الأدب في هذا العصر عما كان فيه في العصر السابق، فتقدم لأسباب، منها تغيُّر عقلية الخلفاء والولاة، ومعيشة الشعب، والتأثر بالعلوم المنقولة.

لم تبقَ في الخلفاء تلك الرغبة القوية في الاطلاع على أخبار العرب ومنازعاتهم وأمثالهم وحوادثهم الشعرية، التي كانت تدفع الأدباء السالفين كالأصمعي وخلف الأحمر وحماد؛ إلى قطع البراري والتعرف إلى القبائل، لجمع أخبار الشعراء والمتاجرة بها. فانصرف من كان من هذا النوع عن غاية التجارة إلى غاية العلم، فدققوا في صناعتهم، وأخذوا يشتغلون بنوع آخر معها، حتى ندر وجود أدباء لم يشتغلوا إلا بالأدب.

أما الأسباب فلأن البيئة أصبحت غير عربية، الحكام أعاجم لا تهمهم أخبار العرب وحكاياتهم، والشعب كأمرائه لا يكترث للعربية، فاعتاض رواته عن الشعر العربي وأخبار العرب، بالقصص من مصدر غريب، مثل ألف ليلة وليلة.

وكان أن فساد الحكومة، والنزاع الدائم على الخلافة، ومصائب الخلفاء وكبار القوم، دفع الأدباء إلى تعزية الجمهور المصابين وتخفيف وقع النكبات بالأقوال الحكمية، ومبادئ الزهد، وأخبار رجال الدنيا وأصحاب الفضيلة. فكثرت هذه الأنواع، وحلَّت من كتب العرب مقامًا فسيحًا.

أما ما استفاده أدباء العرب في هذا العصر من كتب الأقدمين، فهو روح التقسيم والترتيب، وجمع أطراف الموضوع في مقام واحد، وفصل كل موضوع عن غيره، فقاموا يميزون بين الأدب والنحو واللغة، يجمعون مظاهر كل فن في كتب مستقلة، يبوِّبونها بطرق مرتبة سهلة المأخذ.
  • السكري: كان من النحاة، وكان راوية العصر بين جميع الشعراء، وأهم ما بين أيدينا من أشعار الجاهليين وصدر الإسلام إلى أيامه، هو من جمعه.
    • من تآليفه: شعر القبائل، ديوان الهزليين، أخبار اللصوص، شعر الأفراد، جمع أشعار الكثيرين من الجاهليين كامرئ القيس والنابغة … إلخ.
  • قدامة بن جعفر: كاتب بغدادي، كان أبوه نصرانيًّا وأسلم في أيام المستكفي.
    • آثاره: ألَّف كتبًا عديدة لم يصل إلينا منها إلا كتاب الخراج في الجغرافية، وكتاب نقد الشعر، ونقد النثر. وهذان الكتابان الأخيران من خير ما كُتب في ذلك الزمان.
  • الوشاء: عاش في أواخر القرن الثالث للهجرة. أديب ظريف نحوي، له تآليف لم يصل إلينا منها إلا كتاب الموشَّى، الفريد في بابه، وهو يمثل ذلك العصر، ولا سيما وصف الأدباء، على اختلاف الطبقات، بما كانوا يكتبونه من الأشعار عن الشباب والعصائب.
  • ابن قتيبة: أديب نحوي قاضٍ، ولد في الدينور فنُسب إليها. علم ببغداد. جمُّ المعارف، واسع الاطلاع، جريء في قول الحق، ألَّف بالحديث والأدب واللغة والتاريخ.
    • آثاره: كتاب الشعر والشعراء، فيه تراجم الشعراء والمشهورين الذين يعرفهم جلُّ أهل الأدب، ويُحتج بأشعارهم في النحو وكتاب الله، وهم المشهورون من شعراء الجاهلية وصدر الإسلام زمن المؤلف، وقد أورد أمثلة من أشعارهم ونظر فيها وانتقدها.
    • أدب الكاتب: يحتوي على ما يحتاج إليه الكاتب الأديب في صناعة الكتابة من الاطلاع على الآداب والعلوم، مع إصلاح ما كان يقع فيه الكتَّاب من الغلط والوهم في معاني الكلمات والتركيب. وقسَّمه إلى ثلاثة أقسام: (١) إقامة الهجاء؛ أي الإملاء. (٢) تقويم اللسان. (٣) الأبنية.

      لُخِّص هذا الكتاب وشُرح ثلاث مرات. وله كتاب الشعر الكبير، خُطَّ بالقسطنطينية. وكتاب عيون الأخبار، عشرة كتب، طُبع حديثًا في مصر.

      وله في غير الأدب كتب عديدة:
      • (١) كتاب المعارف: وهو خلاصة تاريخ الخلفاء والصحابة ومغازي النبي وأحاديث القرَّاء وأهل العاهات وأخبار ملوك العجم.
      • (٢) الإمامة والسياسة: تاريخ الخلافة من وفاة النبي إلى عهد المأمون مع شروطها.
      • (٣) التسوية بين العرب والعجم: فيه تفضيل العرب على العجم.
      • (٤) كتاب الرحل والنزل: في اللغة.
    • قيمته: عالم باللغة والنحو، والتاريخ والفقه والأدب. وهو أول أديب اشتغل بالأدب مع غيره من العلوم. أما ما يهمنا الآن فهو قيمته في الأدب.

      لقد استفاد كثيرًا من علومه المختلفة، فأدخل روحًا جديدًا في الانتقاد؛ أي إنه كان جريئًا تجاوز نقد الظاهر إلى المعنى، ففنَّد كثيرًا من مصطلحات الأدباء.

      ومن اطلع على كتابه، عيون الأخبار، يرى فيه شيئًا من كل آداب الأمم.

الجاحظ

  • ترجمته: اسمه أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب. جده عبدٌ أسود كان جمَّالًا لعمرو بن الكناني.

    وُلد في البصرة، وكان في أول عهده بيَّاع خبز وسمك. لقِّب الجاحظ لدمامة خلقه، وجحوظ عينيه. استدعاه المتوكل لتهذيب ولده، فاستبشع سحنته، فصرفه بعد أن أمر له بشيءٍ من المال.

  • انتحاله: كتب في أول عهده، ونسب ما كتبه إلى الأقدمين كابن المقفع وسهل بن هارون.
  • سجنه: سجن في عهد المتوكل، عدو المعتزلة. وسبب سجنه طريقته «الجاحظية» المعروفة باسمه، وهي تخالف آراء السنَّة والمعتزلة.
  • دينه: قال ابن أبي دؤاد: أثق بظرفه، ولا أثق بدينه.
  • مرضه: أصيب في آخر حياته بالفالج، وفي ذلك قال:
    عليل في مكانين
    من الأسقام والدين

    وكان يقول: وماذا تصنع بلعاب سائل، وشقٍّ مائل، ولون حائل!

    ومما قاله لابن أخته: لم يبقَ لي من ملاذ الدنيا إلا ثلاث: ذمُّ البخلاء، وحكُّ الجرَب، وأكل الحديد.

  • مع المبرد: قال المبرد: زرت الجاحظ في آخر أيامه، فقلت: كيف أنت؟ فأجاب: كيف يكون من نصفه مفلوج لو نشر بالمناشير لما أحس به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه، والأمرُّ في ذلك أني قد جزت التسعين!
    أترجو أن تكون وأنت شيخ
    كما قد كنت أيام الشباب
    لقد كذبتك نفسك ليس ثوب
    خليق كالجديد من الثياب
  • الجاحظية: كان بادئ أمره تلميذًا للنظام، والنظام كان يسير على مبادئ أرسطو وتلامذته، محكِّمًا العقل في الوحي. أما الجاحظ فرأى جفاف تلك الفلسفة «اليونانية المنطقية»، فلجأ إلى تطبيق مبادئه على التاريخ والاختبار، فانفرد عن المعتزلة وأسس مذهبًا جديدًا في الفلسفة اللاهوتية، عُرف «بالجاحظية».

المعتزلة

مبادئها

  • (١)

    القول بالمنزلة بين المنزلتين، «كقضية المطهر في الكثلكة.»

  • (٢)

    القول بالقدَر، وأن الله لا يخلق أفعال الناس، بل هم يخلقون أعمالهم، ومن أجل ذلك يثابون ويعاقبون.

  • (٣)

    التوحيد؛ أي إن الله ليس له صفات أزلية زائدة على ذاته.

  • (٤)

    القول بسلطة العقل وقدرته على معرفة الحسن والقبيح، ولم يرد بهما شرع؛ أي إن الشرع لم يجعل الشيء حسنًا بأمره به.

الجاحظية

أما الجاحظية فتخالف المعتزلة فيما يأتي:
  • (١)

    ليس للعباد كسب سوى الإرادة، أما الأفعال فجبرية يأتيها العباد طبيعة.

    فيستنتج من هذا أن لا فضل لهم بالعمل، ثم يتخطى إلى أنه لا ثواب ولا عقاب، كما لا يثاب الإنسان ولا يعاقب على تركيب بدنه ولونه.

  • (٢)

    أهل النار يصيرون إلى طبيعة النار ولا يدخلون فيها.

  • (٣)

    الجاهل بالله معذور والعالم محجوج.

  • (٤)

    خلق القرآن.

  • شكله: كان شنيع الشكل بشع الصورة، وقد قيل فيه:
    لو يخلق الخنزير خلقًا ثانيًا
    ما كان إلا دون قبح الجاحظ
  • ثقافته: أخذ العربية من المربد ومن الأصمعي وأبي زيد، واليونانية من مناظرة علماء الكلام ومشافهة حنين بن إسحاق وابن سلمويه. وحذق الثقافة الفارسية من كتب ابن المقفع وأخذه عن أبي عبيدة. وتوسع في الثقافات كلها من مطالعة الكتب كلها، فعرف المسيحية كما فهم اليهودية والمانوية، فجاءت ثقافته مجموعة ثقافات.

    ولقد كان الزمان أكبر مثقِّف للجاحظ؛ فقد وُلد في خلافة المهدي، ونشأ في خلافة الهادي، وشبَّ في عهد الرشيد، وشهد صراع الأمين والمأمون، ونضج في عهد ازدهار المعتزلة، واشترك في جميع الأبحاث العلمية والفلسفية. رأى الفرس وغلبتهم، والترك وسطوتهم وحلولهم محلَّ الفرس. كما عاين دولة الواثق تنهج نهج المعتصم، والمأمون يناصر الاعتزال، والمتوكل يشرِّدهم. ومرت عليه دولة المنتصر والمستعين والمعتز، وهو يعاني الفالج والنقرس، حتى مات في عهد المهتدي بالله.

    فحياة الجاحظ تاريخ قرن بكامله، وهو زهرة القرون العباسية، وقد مر في كل أطوار الحياة؛ من ولد يبيع خبزًا وسمكًا بسيحان، إلى رجل يخالط العلماء، إلى كاتب مثقف يغتني بما ألَّف، ويمتلك ضيعة تنسب إليه، ويبني قصرًا، ويقتني عبيدًا خدموا في قصور الملوك.

    رحل إلى بغداد زمنًا، ثم إلى دمشق وأنطاكية، وهذه ثقافة جديدة اكتسبها من غير الكتب بدرس طبائع الناس وأخلاقهم ومعرفة دخائلهم.

    ولهذا ترى في كتبه شيئًا ملموسًا عن الحياة، فكأنك تراها وتذوقها من وصف الجاحظ، وهذا لا تراه إلا في كتب الجاحظ. فكامل المبرد، وأمالي القالي، وعيون ابن قتيبة، لا تريك شيئًا من هذا؛ ولهذا نرى كتب الجاحظ أغزر مصدر لدرس الحياة الاجتماعية في هذا العصر.

  • كتبه: كتب الجاحظ في كل شيء؛ من صفات الله إلى القيان والحُول والعور، والحيوانات والدبابات والحشرات. مزج العلم بالأدب، نظريات وتجاريب، أخبار وحوادث واقعية. مزج الشعر الجاهلي بالإسلامي، بعلم أرسطو، بطب جالينوس، وآي القرآن بالحديث، ورأي الطبيعيين والدهريين، واليهودية بالنصرانية والزردشتيين والمانويين.
  • أسلوبه: مزج كل هذه الأشياء ببعضها، والقارئ يقبلها منه لخلطه الجد بالهزل، ومزج اللقمة بكثير من الحلوى، حتى إذا أعدَّك للبكاء، رماك بنادرة تمعن منها في الضحك. واضح البرهان، جزل اللفظ، سريع التنقل من حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة. غلبت عليه النزعة الأدبية في كل ما كتب، حتى في كتاب الحيوان. يتخير خير الألفاظ وأحسن التعبيرات، ويفر سريعًا من الأسلوب العلمي إلى مناحي الأدب، من شعر أو حكمة أو نادرة.
  • البيان والتبيين: آخر ما ألَّف الجاحظ، بدأ بالتعوذ من العِيِّ، وساق الشعر في ذمه، وانتقل إلى فصاحة اللسان، ثم إلى اختلاف لغات العرب. وتكلم عن اللثغة، ومنها انتقل إلى عيوب اللسان، فنحنحة الخطباء، وعدَّد كثيرًا منهم، ثم تكلم عن الألفاظ المتنافرة، وتوصَّل منها إلى اللكنة.

    هذا في الباب الأول، ثم عقد بابًا للبيان، وذكر بلغاء وخطباء وأنبياء وفقهاء وأمراء، ثم تكلم عن البلاغة واللسان والصمت، وأسماء كهَّان وعلماء قحطان وأمرائهم … إلخ.

    أما الجزء الثاني، ففيه يقول: إنه ردٌّ على الشعوبية. ولكنه روى الأحاديث والخطب والألغاز والحكم، وتكلم عن اللحن والحمقى والمجانين، وكتب وصايا ونوادر لبعض الأعراب … حتى إذا أتمَّ الجزء الثاني جاء الجزء الثالث، وأوله كتاب العصا في الرد على الشعوبية، ثم كتاب في الزهد، تكلم فيه عن النساك وكلامهم وأخلاقهم ومواعظهم. ثم باب في دعاء السلف الصالحين والمتقدمين، ودعاء الأعراب، ثم مقطعات في نوادر الأعراب وأشعارهم.

  • الحيوان: كتاب الجاحظ الشهير، ألَّفه لبيان الحجج على حكمة الله السامية وقدرته العجيبة … إلخ، ومما قاله: إن أهمية الحيوانات جعلت سورًا من القرآن الكريم مسماة باسمها، كسورة البقرة، وغيرها. وهذا الكتاب مزيج أيضًا من جد وهزل وحكمة وتاريخ وعلم، إلى لذع وإحماض ومجون مكشوف.

    ويخبر الجاحظ أنه في هذا الانتقال العجيب يصادف عناءً ما كان يصادفه لو كتب في موضوع واحد.

    أما مصادر هذا الكتاب فكثيرة: القرآن، التوراة، الإنجيل، حديث، أخبار، أشعار، أمثال مضروبة، كُتب قرأها في فنون شتى، محادثة أطباء وتجَّار وذوي حرف، وتجارب جربها بنفسه في الحيوان والنبات، وسَفَر وسماع لمن مارس الأسفار وركب البحار وسكن الصحاري وسلك الأودية.

    وفي كل ما حدث لم يقبل عقله خرافة، بل يهزأ بمن يقبلها. وهو يشك، حتى يجرب وتثبت النظرية. وهو يلاحظ في أبحاثه ملاحظات كأنه فيها من علماء هذا الزمان.

    إن الثقافات التي وصفنا الجاحظ بها تظهر في كتابه هذا أكثر منها في كتابه الأول.

    فمن أهم العناصر التي اعتمد عليها الجاحظ في كتاب الحيوان، ما كتبه أرسطو عنها، وهذا الكتاب نقله إلى العربية ابن البطريق، كما يقول ابن النديم في فهرسته صفحة ٢٥١.

    قد ذكر الجاحظ أرسطو في كتابه باسم صاحب المنطق؛ أي أرسطو، وصرح باسمه أيضًا. إن موقف الجاحظ منه كان موقف العالم الجريء، فلم يُصَب أمامه بشلل الفكر، كما أصاب ابن سينا وغيره من الفلاسفة في الشرق والغرب، إذ لم يقدموا على مناقشته. أما الجاحظ، فكان يضع أرسطو في مخبره يمتحنه ويجربه، ويخطِّئه أحيانًا، ثم يقارن بين قول أرسطو وبين قول شاعر جاهلي أو إسلامي، ويفاضل بينهما، فيكون طورًا مع أرسطو وحينًا عليه.

    وإليك برهانًا هذه الحكاية. قال الجاحظ: زعم صاحب المنطق أنْ قد ظهرت حية لها رأسان، فسألت أعرابيًّا عن ذلك، فزعم أن ذلك حق. فقلت له: فمن أي جهة الرأسين تسعى؟ ومن أيهما تأكل وتعض؟ فقال: أما السعي، فلا تسعى، ولكنها تسعى إلى حاجتها بالتقلب، كما يتقلب الصبيان على الرمل؛ وأما الأكل، فإنها تتعشى بفم وتتغدى بفم؛ وأما العض، فإنها تعض برأسيها معًا. وختم القصة بقوله عن الأعرابي: «فإذا به أكذب البرية.»

    فلا يظنن أحد أن كتاب الحيوان لا يتناول إلا الحيوان فقط، فهو فيه كثير التنقل من موضوع إلى آخر كما وصفناه. ففيه شيء من علم الفراسة عن أقليمون، ومن الطب عن جالينوس، وفيه يتكلم عن الفرس وأديانهم، وعن اليهودية والمسيحية، وعن أشياء لا تخطر ببال.

    وقصارى الكلام، أن كتاب الحيوان معرض لكل الثقافات: عربية ويونانية وفارسية وهندية، ومعرض أيضًا للثقافات الدينية: مانوية وزردشتية ودهرية ويهودية ونصرانية وإسلامية.

    وقد أثَّر أسلوب الجاحظ هذا فيمن كتب بعده، فجاءت كل كتب الأدب تقريبًا غير مبوَّبة، يكثر فيها الاستطراد.

  • كتاب البخلاء: لم يكتب كاتب في مواضيع مختلفة كما كتب الجاحظ. وقد أعرب في كل موضوع عن مقدرة لا يضارعه فيها أحد، فهو في كل موضوع من موضوعاته يعرب عن شخصية جديدة، وإنه في بخلائه غيره في الحيوان والبيان والتبيين. ولعله أول من عني بالأسلوب العلمي في كتاب الحيوان، وإن كان يستطرد إلى حكايات تنفي الملل عن القارئ. وهو أول من عني بالألفاظ الوضعية التي تؤدي الفكرة على حقها، بألفاظها الوضعية، وقد صارت هذه الألفاظ أداة للأسلوب الذي ابتدعه.

    يخال القارئ أن كتاب البخلاء حكايات ونوادر مضحكة، مع أنها أعمق دراسة للنفس البشرية، تحل الأعمال وبواعثها وأغراضها. فالجاحظ هنا عالم نفساني قبل أن وجد هذا العلم، يمارس بلباقة لا توصف بين النظرية والتطبيق، فيجلو لنا الأشخاص أيما جلاء.

    كتاب البخلاء تناول ناحية واحدة من النفس، هي البخل، فقلَّبها على جميع وجوهها، ونظر إليها من كل جانب. ولو عني الجاحظ في جميع مناحي النفس لجاء عمله تامًّا، ولكنه وضع أساسًا لهذا العلم وشقَّ طريقه للناس، فلو طلبنا اليوم إلى أكبر علماء النفس أن يحلل نفسية البخيل ما استطاع أن يكتب مثل كتاب البخلاء، لا من حيث التحليل الدقيق، ولا من حيث الفن الرائع، وإذا ضاهاه أحد في فن القصِّ قصر عنه في الفكاهة والسخر العميق.

    ولئن كتب موليير واصفًا بخيلًا واحدًا، فالجاحظ لم يدع بخيلًا يفلت منه، وكل ذلك بروح مرحة ونفسية فكهة ساخرة. مزج الجد بالهزل، والفلسفة بالفن، والتفكير بالاطلاع الواسع.

    استطاع أن يكون مصوِّرًا يحسن رسم الشخوص ومزج الألوان. يروح ويجيء بخفة الطير. هو قصصي ماهر يجيد سَوْق قصته إلى غرضه. وإني لإخال الجاحظ قد عرف هؤلاء الأشخاص الذين تحدث عنهم وعايشهم، فأحسن تصويرهم ولم يدع خطًّا واحدًا.

    لست أظن أن أحدًا يستطيع أن يكتب بمثل هذا التفصيل قصة بخيل كالكندي، صاحب بيوت الكراء في البصرة، إن الجاحظ مطبوع على الجدل، ولهذا نرى في بخلائه هذه الصفة بارزة جدًّا.

    خذ مثلًا لذلك عبد الرحمن آكل الرءوس، لترى كيف يغوص الجاحظ على الأعماق، فينتقد ويجادل حتى يشبع نفسه المتعطشة إلى مثل هذا الكلام.

    من عادة القصصي أن يعرِّفك بمن يتحدث عنه، بوصفه لك ظاهريًّا، أما الجاحظ فما عمل شيئًا من هذا، ولكنه رسمه لك نفسيًّا فتتخيل أنت ظاهره.

    إن كتاب البخلاء أثر فني فيه روح القصص وحكمة الفيلسوف الناقد الاجتماعي.

  • خلاصة: الجاحظ أقدر الناس حجة، يستهزئ بكل أمر، حاضر النكتة.

    شخصيته بارزة في كل شيء؛ ففي حياته شخصية بارزة لا تمتزج بغيرها من الشخصيات، وفي آرائه متكلم شخصي، وفي إنشائه أديب شخصي. هو الرجل الذي يكوِّن نفسه ويطبعها على غرار خاص. وكلمة «نسيج وحده» كأنما كُتبت لتقال في الجاحظ.

    وإذا كان الأدب هو الإلمام بكل فن، فالجاحظ هو الأديب، هو الكاتب الفريد الذي يأسر قارئه، وإن حدَّثه عن أتفه الأشياء.

  • الترتيب: لا ترتيب ولا نظام عنده ولا تبويب فيما يكتب، فأسلوب الجاحظ هو أنه لا أسلوب له، وأسلوبه منبثق من شخصيته. هو أشبه بديكارت القائل لخادمه: لا تخربط عدم نظام مكتبي.

    الجاحظ في الشرق، كفولتير في الغرب؛ هو مزيج من كل ما عرفه العرب من ثقافات.

  • عود إلى ابن قتيبة: صاحب عيون الأخبار هذا، هو بالجاحظ أشبه من حيث امتزاج الثقافات، وقد ألَّف مثله، إنما كان أكثر ترتيبًا. عاصر الجاحظ، وانتقده بأنه يعبث بالدين وبكل شيء.

    فهذا رجل جدٌّ ودين من رؤساء أهل السنة، مطلع كل الاطلاع على التوراة والإنجيل، وقد أكثر النقل عنهما، وبكلمة مختصرة، نقول: إن ثفافته واسعة دينيًّا ومدنيًّا، ولكن ليس في أسلوبه طلاوة الجاحظ.

(٤-٦) تطور اللغة

في العصر الأموي، كانت الدولة عربية في كل شيء؛ خليفة وجنود وقواد وعمال. كانت العصبية شديدة للعرب، وسيادتهم على الشعوب قوية. احتقار وامتهان لكل ما هو غير عربي.

لم يحدث تغيُّر جوهري في اللغة، فما فتئت تجري مجراها وترتقي رقيها الطبيعي، حسب العمران الجديد، دون أن تنتقص أو تزيد في أفكارها ومعانيها.

في ذلك الوقت، تعرَّبت الشعوب الخاضعة لسلطة العرب، فدانت بدينهم وتكلمت بلغتهم، وإن كان بلحن، ثم تحركت الشعوب المغلوبة، وانتشر روح الشعوبية بينهم، وازدادوا يقظة للنهوض عندما رأوا أن الفاتحين الذين غلبوهم لا يفوقونهم بشيء.

وكان الفرس في مقدمة الشعوب الثائرة ضد العرب. أوجدوا دولة جديدة، عربية برئيسها وأجنبية بدولتها؛ أي برجال الحكومة الذين كانوا من غير العرب، من الفرس والموالي، فضعفت العصبية العربية، وتمكَّنت الشعوبية، وتكوَّنت دولة جديدة، قوامها الفرس وأركانها السريان والترك والبربر … إلخ، فأخذ كل واحد من هؤلاء الشعوب يُخرِج من خزائن آدابه ذخائر علومه التي طابت للخلفاء، وما امتازت به أمته، فحصلت ثروة عظيمة للغة، فزادت ألفاظها الوضعية من ترجمة اللغة الأجنبية، أو بنقلها إلى اللغة العربية بلفظها الأصلي، أو بتعريبها، فلطفت العبارة بما أُدخل فيها من التجمُّل والتلطُّف، حسب عادات الشعوب المتمدنة.

أما في العصر العباسي الثاني، فتلاشت تلك العصبية العربية، وضعفت الخلافة، واشتدت الدولة الأعجمية وقويت. استعان المتوكل بالأتراك لا بالعرب لضرب الفرس؛ لأن العرب ضعفت ثقتهم بالخليفة، وقلَّت قيمتهم. فقاوم الأتراك الفرس، واضطهدوا الخليفة، واتفقوا مع الفرس بمناضلة العرب، فتسرب الضعف إلى اللغة العربية، فأصبح بعض الأمراء يدفعون الكتبة ليؤلفوا بلغة أجدادهم، ويقصوا أخبار قومهم؛ كالدقيقي والفردوسي.

(٥) العصر العباسي الثالث

  • ضعف الخلفاء: في أيام القاهر كان مبدأ دولة بني بويه، وذلك سنة ٣٢٠. أدى إلى ذلك استبداد الأتراك بالسلطة، فاختلَّ نظام الملك، وكثرت الفتن والثورات، فاستقلَّ كل حاكم بالبلاد التي يحكمها.

    وفي سنة ٣٢٣ اضطر الراضي أن يقلد محمد بن رائق الوزارة وإمارة الجند، ولقَّبه أمير الأمراء. وخُطب لابن رائق في البلاد على المنابر، وفُوِّض إليه الخراج في جميع البلاد، ومن ثم أصبحت الخلافة رسمًا دينيًّا صوريًّا، وأصبح الخليفة وليس بيده من سياسة الملك شيء، بل الأمر كله بيد أمير الأمراء، وليس للخليفة إلا الخطبة والسكَّة، بل يشركه في الخطبة أمير الأمراء.

    فانقسمت المملكة هكذا: لم يبقَ للخليفة غير الخلافة وأعمالها، والحكم فيها لابن رائق. أما باقي الأطراف فكانت: البصرة بيد ابن رائق، وخوزستان بيد أبي علي محمد بن إلياس، والري وأصفهان والجبل في يد ابن بويه ركن الدولة، وهو وشمكير بن زيار يتنازعان عليها، والموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يد بني حمدان، ومصر والشام في يد الإخشيد محمد بن طغج — وإخشيد لقب ملوك فرغانة ومعناه ملك الملوك — والمغرب وأفريقيا في يد القائم العلوي، والأندلس في يد الناصر الأموي، وخراسان وما وراء النهر في يد نصر الساماني، وطبرستان وجرجان في يد الديلم، والبحرين وعمان في يد أبي طاهر القرمطي.

    أما الراضي فمات سنة ٣٢٩، وهو آخر خليفة انفرد بتدبير الخلافة، وآخر خليفة خُطب له على منبر يوم الجمعة، وآخر خليفة كانت نفقته وخدمه وحجابه وكل شئونه على قواعد الخلفاء المتقدمين. أما إمارة بني بويه، فأعلنها المستكفي ولقَّبه معز الدولة، ولقَّب أخاه حسنًا ركن الدولة، ولقَّب أخاه عليًّا عماد الدولة، وضرب أسماءهم على النقود. ولما عزم المستكفي على الفتك بابن بويه، شعر ابن بويه بذلك فخلع الخليفة سنة ٣٣٤ وسجنه حتى مات ٣٣٨.

    وسلب بنو بويه كل سلطة الخلافة، ولم يبقَ للخليفة إلا كاتب يدير أملاكه. واستعاد معز الدولة بن بويه مدنًا كثيرة حتى بلغ ما لم يبلغه قبله إلا الخلفاء.

    أما دولة الفاطميين، فظهرت سنة ٣٥٨ على يد جوهر القائد، فبايع الناس الفاطميين وانقطعت الخطبة عن بني العباس، وبنى جوهر القاهرة لإسكان الجند فيها. وأول خليفة دخلها هو المعز سنة ٣٦٢، ثم ملك دمشق وغيرها.

    وفي أواخر هذا العصر، ضعفت الدولة الأموية في الأندلس حتى انقرضت سنة ٧٠٤، بعد أن دامت ٢٦٨. وقسِّمت، وامتلك كل عامل المنطقة التي كان يحكمها، وذلك كما جرى في الدولة العباسية كما رأيت. وظلت تنتقل في يد ملوك الطوائف إلى أن خرجت من المسلمين تمامًا في أيام بني الأحمر سنة ٨٩٧.

  • اللغة في هذا الطور: رأيت فيما تقدم تجزؤ الدولة، وفي كل هذا لم يستغنِ الأمراء عن اتخاذ اللغة الفصحى العربية لغة رسمية في التعبد والتعليم والسياسة، إلا أن هذه اللغة اصطبغت بصبغة قومية في بعض أحوالها.
  • فارس والعراق: فالفرس في العراق وفارس وخراسان، حاولوا إنشاء آداب جديدة بلغتهم الفارسية الحديثة، فأفلحوا في الأدب، ولكنهم لم يستطيعوا أن يجعلوها لغة العلم والاشتراع والتعليم والسياسة؛ لخلوها من الاصطلاحات الحديثة، فظلت اللغة العربية صاحبة النفوذ والسيادة في جميع الممالك الشرقية التي اشتُقت من الدولة العباسية، ببذل كل ملك جهده في ترغيب العلماء والأدباء والكتاب والشعراء والأطباء والمهندسين في الإقامة عنده، تأييدًا لملكه وزينة لدولته.

    فبقيت سوق الأدب رائجة أكثر من قرنين، ثم اضمحلَّت بالتدريج بتغلُّب النزعات القومية، وانقراض العلماء والأدباء المطبوعين بطابع الدولة العباسية، حتى خرج التتار، في أواسط القرن السابع، وخربوا ملكهم وقتلوا علماءهم وبددوا كتبهم، فجمدت اللغة العربية في أواسط آسيا جمودًا لم تنتعش بعده.

  • الشعر: عاش شعراء كثيرون في هذه الممالك الشرقية يكتبون في دواوينها، ويمدحون وينادمون ويُملُون في مدارسها، ومنهم من كان يتنقل من مملكة إلى أخرى. لم يجاروا شعراء الشام ومصر والجزيرة والأندلس لأنهم في بيئة أعجمية، ومع ذلك سلكوا مسلك الشعراء المتقدمين في أغراضهم من مديح وغزل ورثاء ووصف وفخر، بضعف قليل في البلاغة واختراع المعاني.

    إنما حدث الشعر التهكمي المضحك على لسان ابن سكَّرة وابن حجاج في بغداد، ثم انتشر هذا النوع، وهو بمنزلة جرائدنا الهزلية اليوم.

    وظهر نوع آخر، وهو شعر فلسفي يشرح بعض الحقائق الفلسفية وحركة الأجرام السماوية؛ كشعر ابن سينا والرازي وابن التلميذ الطبيب، وشعر آخر صوفي رمزي نشأ في العراق ثم انتقل إلى الشام ومصر، كما في شعر الحلاج والشبلي والقشيري.

    وهجر الشعراء استعمال الغريب من اللفظ والغويص من الأسلوب، واستعملوا ألفاظًا أعجمية واصطلاحات فنية ومحسنات بديعية وألفاظ مجون وسخف.

    أما المعاني المخترعة فكانت في شعر البغداديين؛ لأنهم فاتحو باب الهزل، الفن الجديد. ولكن بين شعرائهم الهزليين شعراء ألمُّوا بالمعاني الشريفة والأخيلة الرائعة، وتنزهوا عن هذا الخليع؛ كالشريف الرضي ومهيار الديلمي.

    وقد كان شعر أهل العراق عامة أرقَّ أسلوبًا وأفصحَ لفظًا من شعر أهل فارس وخراسان.

  • مصر والشام: انتشر العرب في مصر والشام بعد الفتح الإسلامي؛ لخصبهما وقربهما من الجزيرة، فغلبت لغتهم وآدابهم ودينهم على لغة الروم والقبط. ولما ضعفت بغداد، وقعت مصر في أيدي الطولونيين فالإخشيديين فالفاطميين غنيمة باردة، فكانت مصر أخيرًا عاصمة لخلافة عربية علوية ضخمة ذات حضارة عالية، وعاشت هذه الدولة ٢٧٠ سنة، فصبغت مصر والشام بصبغتها في بعض الاعتقاد، وأكثر العادات والأعياد، وكانت حضارتها في الصناعات أساسًا للفن العربي الإسلامي، إلى وقتنا هذا.

    أحبَّ وزراء هذه الدولة وأمراؤها وخلفاؤها العلمَ والأدب والشعر أقصى محبة، فهاجر الأدباء إلى مصر من كل فجٍّ، فجلس الخلفاء للشعراء في الأعياد يستعرضون بضاعتهم وأجازوهم أسنى الجوائز. ولم يُخمد هذه الشعلة المدنية إلا نشوب الحرب الصليبية ومنازعة مواليهم لهم كما أصاب الدولة العباسية، فأباد صلاح الدين الأيوبي خلافتهم الفاطمية، وأسس دولة كردية في النَّسَب مستعربة في اللسان والنزعة، على أنقاضها. انتفعت الدولة الأيوبية بحضارة الفاطميين، وأحلَّت محلَّ مذهبهم الشيعي الباطني، مذهب أهل السنة. أما المملكة الأيوبية فقوَّضها مماليكها التركمان.

  • الشعر: كانت دار الخلافة أي معرض للأدباء والعلماء والشعراء والكتَّاب، يهاجرون إليها من مصر والشام اللتين لم تكونا في شباب الدولة العباسية إلا ولايتين مرجعهما بغداد، فكان الشاعر المشهور لا يطير صيته إلا إذا هاجر إلى بغداد، كما حصل للبحتري وأبي تمام، أما الأديب والشاعر والعالم الذين لا يقوون على المهاجرة والأسفار فيظل ذكرهم خاملًا.

    ولهذا لم تكن الفسطاط والإسكندرية ودمشق بيئة صالحة في ذلك الوقت لإقامة الشعراء، ولكن لمَّا ضعفت بغداد قاسمتها مصر والشام العناية بالأدب والشعر والفنون، فعاش فيهما شعراؤهما ولم يرحلوا إلى غيرهما إلا قليلًا. والمثل دويلة سيف الدولة الصغيرة في شمالي الشام، فقد التفَّ فيها حول أميرها جمهرة من الشعراء والأدباء والفلاسفة والنحاة … إلخ. من الشام ومختلف الأقطار، من لم يُرَ مثله في باب خليفة، بل إن شاعر سيف الدولة لم يبالِ بخليفة بغداد ووزيرها المهلبي عند مروره بها قاصدًا عضد الدولة.

    فالشعر زمن الأيوبيين والفاطميين لم يطَّرد تقدمه؛ لطول هذا العصر وتقاصر همم الملوك في أواخره عن معاضدة أهله، فانصرف الشعراء أخيرًا إلى الخدمة في الدواوين، وظلوا ينظمون الشعر إما تكمُّلًا وتظرُّفًا أو تملُّقًا للرؤساء وتقرُّبًا منهم.

    لذلك كان مبدأ هذا العصر بمصر والشام نهاية ما وصل إليه الشعر العربي من الارتقاء، كما في شعر المتنبي وأبي فراس والمعري، لقرب عهدهم بالعصر العباسي السابق وتأدُّبهم بأدبه.

    وأخذ الشعر يتحول رويدًا رويدًا إلى صورة وطنية قومية، بسبب ما نشأ في مصر والشام في قرنين من حضارة خاصة ومذاهب مختلفة شيعية وباطنية وصوفية وسنية، وكلها ذات تقاليد ورسوم حديثة، وبسبب ما دهم البلاد من الحروب الصليبية التي غيَّرت مجرى الحكم ونُظُمه وطرق الكسب والمعيشة، وشغلت الناس عن الاستزادة من العلم والأدب.

  • صفات الشعر: بقيت فنون الشعر وأغراضه كما كانت قديمًا مستعملة في الشام ومصر، ثم استدعت حوادث العصر السياسية وتشكيل التربية الخلقية والأدبية والثقافة العلمية خصوصًا؛ بعض توسع في أغراض الشعر القديمة، أو تنويع فيها أو زيادة عليها، فكان ما يأتي: أنْ توسَّع شعراء الشام في وصف الطبيعة، وذلك قبل أن تجتاح بلادهم الحروب الصليبية؛ ولذلك سببان:
    • الأول: اتساع مجال الخيال الجميل عندهم، ووفرته لديهم بجمال بيئتهم وكثرة مناظرها الرائعة، كالجبال الشاهقة المكللة الغيوم والثلوج، والمروج والجداول، والحدائق، إلى صحة الهواء واعتدال الفصول وتميُّز بعضها من بعض.
    • الثاني: قرب الشام من العراق، منشأ الحضارة الإسلامية ومنبت علماء اللغة والشريعة والحكمة، وقربها من الجزيرة مهد الفصاحة الأوَّلي، وكان عند أهلها في ذلك العهد بقية منها. واتصالهم بالشام أيسر عليهم من الاتصال بمصر، ولذلك نرى سكان شرقي الشام حتى وقتنا هذا من أهل البدو أو المتطبعين بطباعهم.

    ولقرب الشام من العراق أبقى فيهم في مطلع هذا العصر مَلَكة التكمُّل بالمعرفة والعلم، والتزوُّد من العلوم الإسلامية، والفلسفة المنقولة عن الأوائل، التي رسخت في أذهان نشء هذا الزمان بالعراق والجزيرة وشمالي الشام.

    كل هذا من الأسباب التي تنمِّي مادة الخيال، وتجمِّل صوره وتشكِّلها بما لا يحصى، ويجود اللفظ؛ ولذلك نجد أشهر الوصَّافين من الشاميين؛ مثل كجاشم والصنوبري والوأوأ، فكجاشم من الرملة فلسطيني، والصنوبري حلبي من شعراء سيف الدولة، والوأوأ دمشقي وهو القائل:

    فأمطرت لؤلؤًا من نجرس وسقت
    وردًا وعضت على العناب بالبرد

    وتوسَّع شعراء الشام في وصف المعارك الحربية؛ لكثرة وقوعها بين دول الجزيرة والشام ومصر من جهة، والروم البيزنطيين والإفرنج الصليبيين بعدئذ من جهة.

    فشعراء سيف الدولة؛ كالمتنبي وأبي فراس والنامي والببغاء، وشعراء نور الدين بن زنكي وصلاح الدين الأيوبي، ممن يجيدون وصف المعارك الحربية (العماد الأصبهاني والجواني ممن مدحوا صلاح الدين).

    وتوسَّع شعراء الشام في الحِكَم والأمثال، كما فعل المتنبي، ونقْدِ العادات وشرح الفلسفة وإحسان معاملة الحيوان، كما فعل المعري.

    وتنوعت التهاني؛ وخصوصًا في مصر، بسبب الأعياد التي كان يقيمها الفاطميون؛ كوفاء النيل، وفتح الخليج، ومولد النبي، والنيروز المصري، وقافلة الحاج.

    وتنوع الشعر الصوفي بتنوع الكنايات والرموز عن أسراره بالغزل والخمريات ووصف السير والسرى، ثم خرج عن طريقة الرموز والكتابة إلى تقرير حقائق التصوف وتقسيم مقاماته وأحواله.

  • ديباجة الشعر: كان في هذا العصر لا يزال رصينًا جزلًا ممزوجًا ببعض الغريب، ولا سيما شعراء الشام؛ لغلبة البداوة على أهليه، كما في شعر المتنبي وأبي فراس والمعري.

    ولما تغلبت الدولة الفاطمية وغلبت حضارتها وعلومها وفلسفتها ورخاؤها، مال الأدباء فيها إلى الظُّرف والتملُّح في كل شيء، فاستدعى ذلك رقة اللفظ، ولطافة المبنى، والميل إلى المحسنات اللفظية، فاشتهرت هذه الطريقة في أواخر العصر الفاطمي بين المصريين من أمثال القاضي الفاضل، وابن سناء الملك، وابن النبيه، وابن مطروح، ثم انتهت بالبهاء زهير، فتبسَّط فيها حتى قربت من درجة لفظ العامة، وسرى هذا الروح إلى شعراء الشام.

(٥-١) الشعراء

المتنبي

  • نسبه: يرجع لأبيه المعروف بعبدان السقَّاء الذي كان يستقي في الكوفة على جمله لأهل محلة فيها اسمها كندة، ليس إلى القبيلة المعروفة.
  • ذاكرته: يروون عن قوة ذاكرته أنه كان عند ورَّاق، فعُرِض كتاب للأصمعي فيه أكثر من عشرين ورقة، فأطال أبو الطيب النظر فيه، فإذا به قد حفظه، (القصة).
  • تحصيله: تنقَّل به والده عندما رأى نبوغه، فجاء به إلى بلاد الشام، فجالس الكثيرين من علماء زمانه، كالزجاج وابن السراج والأخفش وابن دريد، وغيرهم.
  • في اللغة: حصَّل كثيرًا، حتى سأله مرة أبو علي الفارسي: كم لنا من الجموع على وزن فِعلى؟ فأجابه بلا تردد: حِجلى وظِربى. قال أبو علي: وفتشت كثيرًا فلم أجد لهما ثالثًا.
  • حبُّه للسيادة: دفعه إلى طلب السلطة والمجد، فدعا بعض شبان الكوفة إلى بيعته فبايعوه، فسُجن. فاستعطف الوالي بقصيدة منها:
    تعجَّلت فيَّ وجوب الحدود
    وحدي قبيل وجوب السجود
  • طموحه: لم يستفِدْ من هذا الدرس، بل فكَّر بمطمح أعلى، وهو ادعاء النبوة في بادية السماوة، فأخذ يتلو على الأعراب كلامًا منمَّقًا روى بعضه علي بن حامد وهو: «والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار، امضِ على سننك، واقفِ أثر من قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه وضل عن سبيله.»

    فتبعه بعض القوم من بني كلب وكلاب وعبس، فسجنه لؤلؤ أمير حمص، ثم استتابه وأخلى سبيله. المعري يكذِّب الرواية، أما المتنبي فقد قال عندما سئل عن ذلك: هذا شيء كان في الحداثة.

  • طمعه بولاية: انصرف المتنبي عن هذه الأفكار إلى الأدب، فكان الشاعر الخالد، ولكنه ظل يحنُّ إلى السيادة والولاية، كما يتضح ذلك مما قاله لكافور:
    وغير كثير أن يزورك راجل
    فيرجع مَلْكًا للعراقين واليا
    إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية
    فجودك يكسوني وكفُّك تسلبُ

    فمن حسنات الدهر إلى الأدب العربي أن المتنبي لم يوفَّق في مطالبه الأولى.

  • سيف الدولة: كان ملك حلب، محبًّا للأدب يعرف جيد الشعر ويجيده في بعض أوقاته، أغدق عطاياه على الشعراء منافسًا بذلك الخلفاء حتى قال المؤرخون: لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء الكبار ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر.
  • اتصاله به: رآه سيف الدولة في أنطاكية عند أبي العشائر الحمداني، فقدَّمه إلى سيف الدولة وأثنى على مكانته الأدبية.
  • لزومه له: لزم سيف الدولة فمدحه بما لم يمدح به أحد، ويكاد أن يكون نصف شعره في سيف الدولة، فخلد له ذكرًا أبديًّا.
  • حساده: وهذا أكثرَ حسَّاده والواشين به، فجرى له مع سيف الدولة ومع الشعراء حوادث جمَّة لم يسلم بها شرفه من الأذى، وأهمها ضرب ابن خالويه له بمفتاح فشجَّ رأسه.

    فترك سيف الدولة، وسافر إلى دمشق، ومنها إلى الرملة في فلسطين فمصر.

  • مع كافور: حلَّ المتنبي دمشق لأنها لم تكن في حكم سيف الدولة، وتعرَّف إلى يهودي يُعرف بابن ملك. فسأله اليهودي أن يمدحه، فأبى ذلك أنفة. وكان كافور يطلب المتنبي من اليهودي، فأجابه المتنبي: أنا لا أقصد العبد، وإن دخلت مصر فما قصدي إلا ابن سيده. فكتب اليهودي لكافور بذلك.
  • في الرملة: وملَّ المتنبي الإقامة في دمشق، فسار إلى الرملة، فخلع عليه أميرها الحسن بن طغج، وحمله على فرس كريم بموكب ثقيل، وقلَّده سيفًا مرصَّعًا. وعلم كافور بذلك، فطلبه من أمير الرملة.

    فذهب المتنبي إليه، فأخلى له دارًا وخلع عليه، فمدحه بقصائد رائعة انتقامًا من سيف الدولة عدو كافور الألد. وإليك هذا التعريض:

    قواصد كافور توارك غيره
    ومن قصد البحر استقلَّ السواقيا
    فجاءت بنا إنسان عين زمانه
    وخلَّت بياضًا خلفها ومآقيا

    ومدح أيضًا سيد كافور ابن الأخشيد، فأكرمه جدًّا، حتى صار يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفَّان وفي وسطه سيف ومنطقة بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق.

  • طمعه بكافور: مدح كافورًا طمعًا بالإمارة، علَّله بها كافور، ولكنه لم يصْدُق، فيئس المتنبي، وعوتب كافور على إخلافه الوعد، فقال: يا قوم، من ادعى النبوة بعد محمد، ألا يدعي الملك مع كافور! فحسبكم.
  • كافور: عبد أسود مخصي، مثقوب الشفة السفلى، عظيم البطن، مشقق القدمين، ثقيل البدن. كان عبدًا لأبي بكر محمد بن طغج صاحب مصر، فتوفي عن ولد صغير فانفرد كافور لخدمته واستبد بالملك دونه. ومع كل تلك البشاعة كان داهية ألمعيًّا.
  • أنفته: لما قنط من كافور خرج حانقًا هاربًا من عنده، ونظم فيه قصائد هجو مُرَّة ومقطعات أليمة، فجدَّ كافور في طلبه فلم يدركه، أما المتنبي فلم يعد إلى حلب، بل ذهب إلى بغداد على عهد الخليفة المطيع لله العباسي.

    رغب وزيره المهلبي أن يمدحه، فأبى مترفعًا عن مدح غير الملوك، فاغتاظ الوزير وحرَّش به شعراء بغداد فتناوشوه، فلم يجبهم أبدًا، فسئل في ذلك فقال: لقد فرغت من إجابتهم من زمان، بقولي:

    أفي كل يوم تحت ضبني شويعر
    ضعيف يقاويني قصير يطاول
  • مع ابن العميد: وقد راسله ابن العميد من أرجان، وهو وزير ركن الدولة، فمدحه وأقام عنده مدة، وله معه مساجلات عدة.

    وقد انتقد ابن العميد قصيدته: بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا … إلخ، فأجابه المتنبي بقصيدة يعتذر عن ضعف تلك، ومطلعها: جاء نيروزنا وأنت مراده.

    وأصبح يدقق جدًّا فيما يقول في ابن العميد النقَّادة.

  • مع الصاحب بن عباد: راسله الصاحب بن عباد ولم يكن استوزر فلم يجبه، فغاظه ذلك منه وتجنَّد لانتقاده وإظهار معايبه، وهذا سبب عدائه للمتنبي.
  • عضد الدولة: ترك ابن العميد وذهب إلى عضد الدولة فحظي عنده وفاز بأمانيه. ولم يطل إقامته عنده بل رجع إلى بغداد وودَّعه بقصيدة كانت آخر ما نظم.
  • مقتله: خرج من شيراز ميممًا بغداد ومعه كثير من الأموال والتحف، فاعترضه فاتك بن جهل الأسدي مع عدة من أصحابه فاقتتلا، فقُتل المتنبي وابنه محمد وغلامه مفلح.
  • السبب: هجوه ضبة ابن أخت فاتك هذا. حذَّر المتنبي من المكيدة أبو نصر الحلبي، فأجابه المتنبي: أَبِنَجو الطير تخوفني، ومن عبيد العصا تخاف عليَّ؟! والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات، وبنو أسد عطاش لخمس، وقد نظروا الماء كبطون الحيات، ما جسر لهم خف أو ظلف أن يرده. معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة عين!

    فقال له أبو نصر: قل إن شاء الله. فقال: هي كلمة مقولة لا تدفع مقضيًّا ولا تستجلب آتيًا.

  • دفاعه: قاتل المتنبي حتى أحس بالضعف، فعمد إلى الفرار. فقال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار وأنت القائل:
    الخيل والليل والبيداء تعرفني
    والسيف والرمح والقرطاس والقلم

    فأجابه أبو الطيب: قتلتني، قتلك الله! وحمل على الأعداء فقُتل.

  • رثاؤه: رثاه معظم شعراء زمانه.
  • كبرياؤه: أدت به إلى المبايعة والنبوة والموت.

    كان يرى نفسه مساويًا للملوك والأمراء وأعظم كثيرًا منهم. كان يشترط على ممدوحيه ألا ينشدهم إلا جالسًا، وألا يقبِّل الأرض بين أيديهم. ولما سئل أن يعيد إنشاد قصيدته واقفًا ليسمعها كل الجمع، قال: لكل امرئ من دهره ما تعودا … وهو مطلع القصيدة المذكورة، وأعاد إنشادها جالسًا. وقد قال فيه من رثاه: كان من نفسه الكبيرة في جيش، ومن كبرياءه في سلطان.

  • بخله: يروي مبغضوه عنه قصصًا كثيرة في البخل، لا محل لذكرها هنا.
  • ديوانه: لم يُعنَ بديوان شاعر كما عني بديوانه، فقد شرحه كثيرون، وكثيرون كتبوا كتبًا بشأنه.
  • سير شعره: لم يُتناقل شعر شاعر تناقل شعر المتنبي، فما كان ينظم قصيدة حتى تتناقلها الألسن وتجوب البلاد. وقد أراد ابن العميد قبل أن يتصل به أن يمحو ذكره فلم يفلح.
  • شهرته: لم يحُزْ شاعر شهرة المتنبي. أما أسبابها فهي:

    (١) مقدرته ونبوغه. (٢) كثرة حسَّاده. (٣) تحامل العلماء والنقدة علي. (٤) كان عصره عصر منافسة بين الملوك والأمراء. (٥) إقلاله، فكل شعره ٥٤٩٤. (٦) كان جريئًا في أسلوبه، يحاول أن يوجد لنفسه أسلوبًا خاصًّا، وهذا هو الشاعر.

  • قيمة شعره: عاديٌّ ومسفٌّ في الشعر الذي لا يلائم فطرته، ولا يجاريه شاعر في تصوير ما تتألم منه نفسه، فيرمي إلى الإبداع وإلى إتيان ما يتفرد به. فهو شاعر قوي في مبادئه، قوي في خياله وتصوره، قوي في فلسفته. شاعر بما في نفسه من قوة ونبوغ، يراها فوق كل شيء حتى فوق نفسها.
  • مدحه: نراه قد بالغ كثيرًا في مدحه، وهذا ناتج عن إعمال قريحة لتروي ظمأ الملوك المتنافسين في ذلك الزمان. ومن لاحظ مدح المتنبي يرى أنه كان يعود إليه من مدحه الملوك جزء من المدح يختص به نفسه، وهذا يتفهمه من طالع قصائده المدحية بإمعان.
  • فخره: قد كان يفخر في كل ما ينظم، يفخر في المدح، يفخر في الرثاء، يفخر في الحكمة، والقوة تتجلى في كل ما يقول وينظم. حتى كان يؤدي افتخاره إلى احتقار الملوك، ويفتخر حتى على الفخر كقوله:
    وليفخر الفخر أنني غدوت به
    مرتديًا خيره ومنتعله
  • حكمته: ترمي إلى القوة والطموح والمطامع الكبيرة والتفاني والجرأة. ويرى الظلم من طبيعة الناس، ومن لا يظلم، فلأنه عاجز. يحب الوفاء والصدق، ويكره كل تصنُّع.
  • معتقده: في بعض أشعاره نراه مشككًا، وفي غيرها نرى له رأيًا كرأي الدهريين والعدميين:
    تبخل أيدينا بأرواحنا
    على زمان هنَّ من كسبه
    فهذه الأرواح من جوه
    وهذه الأجسام من تربه
  • تدينه: لم يكن متدينًا، بل كان رجلًا ماديًّا يحب المال، يعتقد أنه سبب كل عظمة وشرف وفرح في الحياة. ويظهر عدم تدينه من عدم احترامه للأنبياء، وذكرهم كأحد أفراد الناس.
  • أفكاره: عُزي إليه سرقات كثيرة من حيث الأفكار؛ فمنهم من قال إن أفكاره الفلسفية مأخوذة عن أرسطو، وفي كتاب الوساطة شيء كثير يدل فيه مؤلفه على المواطن التي يتفق فيها المتنبي مع الشعراء الذين تقدموه.
  • التعقيد: اعتماده على المعاني جعل في شعره كثيرًا من التعقيد، وارتكب جوازات كثيرة، ومخالفات كثيرة لما ألفه العرب قبله. واستعماله الثقيل والضعيف أكثر السفاسف في شعره. قد أكثر استعمال التصغير للتحقير والازدراء.
  • الخلاصة: كان المتنبي في شعره كمن يلقي درسًا على الإنسانية أجمع، وكان يرى أن كلامه القول الفصل، يقطع في كل ما يقول، كأن لا خلاف عليه، ولا يعبأ برأي سواه.

    وهذا جعله مبتدعًا لا متبعًا.

ابن هانئ الأندلسي

  • نسبه: هو أبو القاسم محمد بن هانئ الأزدي الأندلسي، وُلد بإشبيلية ٣٢٦، اتصل بعامل إشبيلية زمن المستنصر الأموي، فمدحه بقصائد غرَّاء.

    اتُّهم بالزندقة والكفر لاشتغاله بمذاهب الفلاسفة، وظهر ذلك الأثر في شعره لوصفه الممدوح بصفات المعبود، فنقم لذلك أهل إشبيلية فأشار عاملها عليه بالهجرة، فهاجر إلى المغرب ومدح ولاته من قبل المعز الفاطمي، فاتصل خبره بالمعز فدعاه إليه ومدحه بإفريقية، ودخل في دعوة الفاطميين فاتخذه المعز شاعرًا لدولته.

    ولما فُتحت مصر على يد جوهر وبنى القاهرة ورحل المعز إليها، أراد ابن هانئ اللحاق به، فتجهَّز وتبعه، ولما وصل إلى برقة نزل على بعض أهلها، فأقام عنده في مجلس أنس، يقال إنهم عربدوا عليه وقتلوه وعمره ٣٦ سنة، ويقال أيضًا إنه وُجد مشنوقًا بتكة سراويله. روي أنه عندما بلغ المعز خبر موته قال: هذا شاعر كنا نرجو أن نفاخر به الشرق.

  • أخلاقه: كان غير ديِّن، خالعًا كافرًا.
  • لقبه: متنبي الغرب.
  • صراحته: كان صريح القول والفعل، لا يبالي بأحد ولا بعواقب الصراحة، ومبالغته بها قتلته. وهذه المبالغة في الصراحة أدت إلى تطرفه في الأفكار والمديح حتى قال لممدوحه:
    ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار
    فاحكم فأنت الواحد القهار

    وقوله:

    هو علة الدنيا ومن خلقت له
    ولعلة ما كانت الأشياء

    شعره: قيل فيه:

    إن تكن فارسًا فكن كعليٍّ
    أو تكن شاعرًا فكن كابن هاني

    هو كبير شعراء الأندلس، غير مدافع، سليم التفكير، سلس التعبير، عالج كثيرًا من مشاكل الحياة وأحوال الاجتماع.

  • تأثره بالمتنبي: اطَّلع على شعر المتنبي وهو معاصره، فنسج نسجه في الحكمة والفلسفة والأمثال، وفاقه في المبالغة التي لم نسمع بمثلها في الشعر العربي.
  • وصفه: يجيد وصف ما يراه إجادة نادرة، ولذلك سموه متنبي الغرب، تشبيهًا له بأبي الطيب، إنما بين الاثنين فرق: المتنبي مبتدع، وابن هانئ متبع. شعره يقرقع، كما قال المعري.

    وأشهر قصائده:

    فتقتْ لكم ريح الجلاد بعنبر
    وأمدَّكم فلق الصباح المسفر
    وجنيتم ثمر الوقائع يانعًا
    بالنصر من ورق الحديد الأخضر

    وقال في مدح جوهر إذ فتح مصر:

    رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع
    وقد راعني يوم من الحشر أروع
    غداة كأن الأفق سد بمثله
    فعاد غروب الشمس من حيث تطلع
  • خلاصة: شعره جزل اللفظ، فخم العبارة، أشبه بالأعشى في الرنة، وكبشار وأبي تمام في الديباجة. يجيد الاستعارة والتشبيه، وقد أكثر منهما جدًّا. يطيل القصائد ويبالغ أشد المبالغة، وأظن أن موقفه مع الفاطميين كان يستدعي ذلك، وقد يكون معتقدهم مهَّد لذلك.

    من شعره المتداول: فتكات لحظك أم سيوف أبيك … إلخ.

أبو فراس

  • نسبه: هو أبو فراس الحرث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان، ابن عم سيف الدولة الحمداني، أمير حلب. رافق سيف الدولة في غزوات عديدة ببلاد الروم.

    أُسر أبو فراس مرتين؛ في المرة الأولى لم يتعدَّ به العدو قلعة خرشنَّة، أما في المرة الثانية فحُمل إلى القسطنطينية، وأقام في الأسر أربع سنين. له في هذا الأسر قصائد عدة تُعرف بالروميات، وهي رقيقة جدًّا. فيها عتاب شديد لسيف الدولة؛ لأنه لم يسرع إلى المفاداة.

  • شخصيته: كان أبيًّا جدًّا، كبير النفس، فارسًا مقدامًا، شجاعًا عظيم الشأن. مدح ابن عمه سيف الدولة إنما بإباء الملوك وعزة الأمراء. حر الخصال، صادق اللهجة، ملء برديه الأريحية العربية.

    كان المتنبي يتجنبه ولا ينبري لمباراته ولا يجاريه، لنفوذه.

  • عاطفته: ظهرت رقته وحنانه وبره ولطف شعوره في منفاه، إذ قال ذلك الشعر الرقيق في رومياته.

    فوا عجبًا من هذا الفارس الشجاع الذي يفلق الهام، كيف تحوَّل إلى شخص فاقت عواطفه عاطفة الأمهات. فاسمع شعره في روميات تحس هناك عاطفة تتدفق كالبحر الزاخر.

  • موته: لم ينعم أبو فراس بالانفكاك من الأسر حتى داهمته المنية. أراد بعد موت ابن عمه سيف الدولة أن يستقلَّ بإمارة حمص، فاعترضه أبو المعالي ابن سيف الدولة، وجرت حرب بينهما قُتل فيها أبو فراس سنة ٣٥٧، وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين.
  • شعره: فخم المعنى، جزل اللفظ، خالٍ من العيوب التي تراكمت في شعر المتنبي، يجمع بين الحسن والجودة، والعذوبة والفخامة، والسهولة والمتانة. وهو مرآة عواطفه الشريفة، تلمس في شعره رواء الطبع وإباء الشريف، يمشي على آثار السلف فجاء شعره صورة لشعرهم، ولولا العاطفة لما عاش ذلك الشعر.

    أما ما قاله صاحب اليتيمة عن أن المتنبي لم يمدحه مع أنه مدح من أمراء آل حمدان من هم دونه، وعدَّ ذلك من المتنبي تهيُّبًا لمقام أبي فراس وإجلالًا لا إغفالًا وإخلالًا، فهذا حكم في غير موضعه، فكيف يمدحه أبو الطيب وهو يعلم أن أبا فراس مناظر له، وكان يتعقَّب سقطاته وينسب إليه الأخذ عن هذا وذاك؟!

  • الخلاصة: إن شعر أبي فراس على نمط واحد ليس فيه ما في شعر أبي الطيب من رديء، ولكن الجو الذي حوَّم فيه أبو الطيب لم يحوِّم شاعر فيه، وقد يكون هواؤه لا يلائم صدورهم فقصروا عن التحويم فيه.

الشريف الرضي

  • حياته: وُلد في بغداد، وتلقى العلوم فيها. اعتقل والده وحُبس وصودرت أملاكه، ثم أُفرج عنه فعادت إلى الشريف غبطته.

    اتصل الشريف بالخليفة الطائع ومدحه بإخلاص كما مدح القادر، ثم مال إلى بعض الوزراء والملوك طمعًا بالخلافة التي كان يؤمِّله فيها أبو إسحاق الصابي، وتوفي ولمَّا يبلغ منها أربًا.

  • آثاره: ديوان شعر فخم، وجمْعُهُ نهج البلاغة للإمام علي.
  • شعره: موضوعه التغني بحبه وآلامه وآماله، وافتخاره بنفسه وبأصله. قال الغزل بعزة نفس وفخر. قوله فيه مبتكر أحيانًا، وأسلوبه نقي الديباجة فخم.

    قال الرثاء صادقًا مخلصًا، وخصوصًا في رثاء الحسين. وقال المدح بعزة النبلاء، وأرسل الفخر رصينًا بلا تبجح. كان فخره بأصله ومكارم أجداده بخلاف المتنبي. عبارته تقليدية بخلاف عبارة المتنبي، وقد وصف موكب الحج، والشيب والطبيعة.

    كان أسلوبه مزيجًا من البداوة والحضارة، سامي الخيال، حافلًا بالصور الرائعة والعبارة المتماسكة.

أبو العلاء المعري

  • حياته: وُلد في معرة النعمان، ومرض صغيرًا بالجدري فانطفأت عيناه، وهو يقول: إنه يذكر اللون الأحمر.

    أخذ عن والده مبادئ العلم، ثم قصد حلب وتحدث إلى علمائها وزار مكتباتها، ثم ذهب إلى أنطاكية واللاذقية وعاد إلى طرابلس، وأخيرًا قصد بغداد وجالس علماءها في مجالس العلم والأدب، ولما بلغه نعي أمه رجع إلى المعرة وحبس نفسه في بيته، وسمِّي رهين المحبسين؛ أي العمى والبيت. ترك هو الدنيا فجاءت الدنيا إلى بيته الذي أصبح مزارًا لكبار العلماء والأدباء وطلاب العلم.

  • شخصيته: زاهد في حطام الدنيا، كبير النفس، متوقد الذكاء، تروى عن ذاكرته أخبار كالأساطير. وهو من نوابغ العميان العالميين.
  • أبو العلاء الشاعر: هو شاعر في ديوانَيْه: سقط الزند وضوء السقط. وأغراض هذين الديوانين: فخر ورثاء ووصف ومدح.
  • أبو العلاء الفيلسوف: في ديوان اللزوميات، طرق المعري جميع القضايا التي تشغل العقل الإنساني. واللزوميات مجموعة آراء المعري في المشاكل العقلية. يؤلِّه العقل. عاش نباتيًّا وتحدث عما وراء القبر، وقبَّح الزواج وأساء الظن بالمرأة.
  • أبو العلاء الناقد: في رسالة الغفران، يتولى أبو العلاء النقد اللغوي والنحوي لأنه كان من العلماء، فنَقَدَ الأدب واللغة والتاريخ والمجتمع والدين، وكان في هذه الرسالة ساخرًا من الطراز الأول، يهزل وتحسبه حادًّا، وما هو إلا هازئ بأقدس عقائد الناس.
  • قيمته الفنية: لا يبالي أبو العلاء في لزومياته بخلق الصور البيانية، بل يريد أن يفضَّ مشاكل فكرية، ومع ذلك ظهرت في أسلوبه خاصة الهزء والظرف والفكاهة. وفي الجملة: أبو العلاء والمتنبي هما الشخصيتان العربيتان اللتان لا نظير لهما في قول الحكمة.
  • آراؤه ومعتقداته: إن هذا التضارب والتناقض يظل يواجهنا مع المعري حتى نعلم أنه فاطمي المعتقد. كان معاصرًا للحاكم بأمر الله ومشايعًا له، ومن يتتبع تطوراته الفكرية يظن أنه مضطرب التفكير، في حين أنه ذو عقيدة، مهما كان شأنها، تظل عقيدة. وقد أثبتت الأيام صحة ما تخيل هذا الأعمى الذي رأى ما لم يره المبصرون.

    ألا تقوى أن تقول إن أبا العلاء كان على حق بعدما رأيت هذا الفتح المبين في عالم الفضاء؟! أما قَلَبَ هذا الاكتشاف الفضائي المعتقدات رأسًا على عقب؟!

    قال المعري:

    ولو طار جبريلٌ بقية عمره
    من الدهر ما استطاع الخروج من الدهر

    فإلى أين أيها العلماء؟

    وفيما يعتقد البشر، يقول المعري المشكِّك:

    في اللاذقية ضجةٌ
    ما بين أحمد والمسيح
    قسٌّ يعالج دلبة
    والشيخ من حنق يصيح
    كل يصحِّح دينه
    يا ليت شعري ما الصحيح

    ثم يوجه مدفعه الرشاش نحو جميع المذاهب فيقول:

    عجبت لكسرى وأشياعه
    وغسل الوجوه ببول البقر
    وقول النصارى إلهٌ يُضام
    ويُظلم حيًّا ولا ينتصر
    وقول اليهود إلهٌ يحب
    رشاش الدماء وريح القتر
    وقوم أتوا من أقاصي البلاد
    لرمي الحجار ولثم الحجر
    فوا عجبًا من مقالاتهم
    أيعمى عن الحق كل البشر؟

    وإذا سألناه ما هو الحق، أتراه يسكت أم يجيب، كما سكت السيد أمام بيلاطس؟! ولكنه يومئ من بعيد قائلًا:

    أمور تستخف بها حلوم
    ولا يدري الفتى لمن الثبور
    كتاب محمد وكتاب موسى
    وإنجيل ابن مريم والزبور

    وها هو قد بدأ يوضح:

    إذا رجع الحصيف إلى حجاه
    تهاون بالمذاهب وازدراها
    وهت أديانهم من كل وجه
    فهل «عقل» تشد به عراها

    انتظر قليلًا لتصدق أكثر ما قال فيلسوفنا:

    هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت
    ويهود حارتْ، والمجوس مضلله
    اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
    دينٍ وآخر ديِّنٌ لا عقل له

    وأخيرًا يدعونا إلى عبادة العقل فيقول:

    أيها الغر إن حُبيت بعقلٍ
    فاعبدنه فكل عقل نبي

    وأخيرًا يحل مشكلة المشاكل كما يرى هو فيقول هازئًا:

    أأترك شربها صهباء صرفًا
    لما وعدوه من عسلٍ وخمر
    حياة ثم موت ثم حشر
    حديث خرافة يا أم عمرو

    وآخِرًا يبوح بما عنده، وإذا شئته كاملًا فارجع إلى كتابي «زوبعة الدهور»، قال موضحًا رأيه في نهاية النهاية:

    ضحكنا وكان الضحك منا سفاهةً
    وحُقَّ لسكان البسيطة أن يبكوا
    تُحطِّمنا الأيام حتى كأننا
    زجاج ولكن لا يعادله سبك

    وفي موضع آخر يعترف بخلود النفس، ويرى الجسد كباقول حبر فرغ مما فيه، فطرح بين سقط المتاع، ثم يضحك هازئًا كعادته:

    فيا ليتني هامد لا أقوم
    إذا نهضوا ينفضون اللمم

    وليس أبو العلاء بمخترع مذهب التقمص، فعلى هذه فريق من فلاسفة اليونان ومن عندنا كان جبران على هذا المذهب.

    وآخِرًا نقول إن أبا العلاء قد عالج جميع القضايا الفكرية وجمعها في «لزومياته» و«فصوله وغاياته»، فكأنه نظر بعين بصيرته فرأى ما لا يرى قبل حدوثه، وهكذا يكون العبقري حقًّا.

الطغرائي

هذا لقب عُرف به واشتهر، وهو من المتفوقين في عصره في صناعتي المنظوم والمنثور، وأشهر ما قاله شعرًا هو قصيدته التي تعرف بلامية العجم، تقابل لامية العرب. وكلا الشاعرين، الشنفرى والطغرائي يصوِّر لنا في لاميته أروع صورة لحياته وعصره الذي عاش فيه.

وكما تمتاز لامية العرب بالوعورة كذلك تمتاز لامية العجم بالسهولة التي سار الشعر إليها، وكما يفتخر الشنفرى بأسلوب حياته الوعر، جاء الطغرائي يتغنى بالحكمة تغنيًا، ويندب زمنًا كان فيه سيدًا، وظل كذلك حتى قُتل.

حكمة الطغرائي بنت الاختبار، ومعانيه مستمدَّة من تجاريبه، كل هذا يبدو لك جليًّا لأول نظرة في لاميته المشهورة، وكان بيت بشار الذي قاله في وصف شعره ينطبق عليها:

وشعر كنور الروض لاءمت بينه
بقول إذا ما أنجد الشعر أسهلا

ابن الفارض

شاعر مشهور لم تفارقه السهولة رغم ثقله وتصيده أنواع البديع، وقد شُرح ديوانه الصغير وطُبع في باريس. شرحه النابلسي الذي كان صوفيًّا من طراز ابن الفارض.

وأشهر شعره قصيدته الطائرة الشهرة:

شربنا على ذكر الحبيب مدامة
سكرنا بها من قبل أن يُخلق الكرم

وقد تفنن الجماعة في تفسيرها حتى يعتقد القارئ أن ناظمها عاشق إلهي، حتى هزئ أحد الشعراء إذ قال يخاطب الصوفيين:

أقال الله حين عشقتموه
كلوا أكل البهائم وارقصوا لي

(٥-٢) النثر الفني

  • مميزاته: كتابة الترسل والإنشاء.

    لما كان هذا النوع من النثر من الرسائل والمقامات والأخبار والقصص والسِّيَر مثارًا للخيال ومظهرًا لحركات الوجدان والشعور وإظهار التفوق في براعة القول والحذق في الصناعة اللفظية، اصطبغ العصر وما بعده من العصور بصبغة يغلب فيها تفضيل جانب اللفظ على جانب المعنى، فالتزم فيها السجع القصير الفقرات غالبًا، واستُعملت الأساليب الشعرية في الشرح والاستدلال بالإكثار من الأخيلة والتشبيهات والاستعارات البديعة، وقلَّت المعاني المخترعة، فاضطر الكاتب إلى حل كثير من أبيات الشعر ذوات المعاني الجميلة، وإلى الاقتباس من القرآن والحديث، حتى سمَّى الأدباء هذا النوع من الشعر: المنثور.

    وأول من أشاع هذه الطريقة ابن العميد وزير آل بويه، وقلَّده كثير ممن عاصروه وجاءوا بعده، وأعظم نموذج لها مقامات الحريري، كان ابن العميد رأس كتَّاب الشرق، ومع أنه إمام طريقة الشعر المنثور، لم تنحطَّ كتابته في البلاغة كما انحطت كتابة تابعيه في طريقته من المتأخرين، حتى قيل: بُدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد.

    وتخرَّج على يده الصاحب بن عباد الذي أُولع بالسجع والجناس. ومن أئمة هذه الطريقة بديع الزمان، وأبو بكر الخوارزمي، والصابئ، والحريري.

    وظلت هذه القيود في الأدب حتى النصف الأخير من القرن التاسع عشر، كانوا يقلدون المقامات والرسائل، حتى جاء أحمد فارس الشدياق وثار عليها في كتابه الفارياق.

ابن العميد

  • أصحاب الأساليب: خمسة: عبد الحميد، ابن المقفع، الجاحظ، ابن العميد، القاضي الفاضل.
  • ابن العميد: هو الأستاذ الرئيس الوزير أبو الفضل محمد بن الحسين العميد، كاتب الشرق وعماد ملك آل بويه ورئيس وزرائهم.

    فارسي الأصل من أهل مدينة قم. كان أبوه كاتبًا بليغًا من كبار كتَّاب الدولة السامانية، فنشأ ابنه مولعًا بالعلوم العقلية واللسانية، فبرع في علم الحكمة والنجوم، ونبغ في الأدب والكتابة. رحل عن أبيه إلى آل بويه، وتقلَّد الأعمال الكثيرة في دولتهم حتى تولى وزارة ركن الدولة — أبو عضد الدولة الشهير — فساس الملك أحسن سياسة، وقلَّد البرامكة ففتح بابه للشعراء والعلماء والفلاسفة، يشاركهم في كل علم إلا الفقه، وظل كذلك حتى مات سنة ٣٦٠.

  • شخصيته: كان ذا منزلة عالية لعلمه ومقامه السياسي، حتى أُطلق عليه اسم الجاحظ الثاني. ومَن طالع قصائد المتنبي في مدحه يرى أن المتنبي لم يتواضع لأحد تواضعه له.
  • أسلوبه: من الإنشاء الكثير التنميق، فهو أول من فتح باب الولوع بالرسائل البديعية، متوخيًا فيها السجع القصير الفقرات، مقتبسًا الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة، مشيرًا إلى الحوادث التاريخية المشهورة، ناثرًا الأبيات الحكمية مؤثرًا الحلية البديعية، كالجناس والمطابقة، مضمنًا الأمثال السائرة. وقد حاكاه فحول عصره وأخذوا عنه وقلدوه، إلا أنه أقلَّ سجعًا منهم وأقرب إلى الطبع.
  • شعره: له شعر رائق، إلا أن صبغة النثر والعلم تظهران فيه.
  • مرضه: كان قليل الحظ من العافية، مصابًا بالقولنج والنقرس وتشنج الأعضاء، سأل الصاحب بعد أن عاد من بغداد قائلًا: كيف رأيت بغداد؟ فأجابه: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد.
  • آثاره: له مجموع رسائل في الفلسفة والنصح والعتاب.
  • ملاحظة: كان ابن العميد مولعًا باستعمال حروف الجر، وإليك المثل: كتابي إليك وأنا مترجع بين طمع فيك ويأس منك، وإقبال عليك وإعراض عنك. إلى أن يقول: ولا جرم أن وقفت بين ميل إليك وميل عليك، أقدِّم رجلًا لصدمك وأخرى عن قصدك، وأبسط يدًا لاصطدامك واجتياحك. ومنها: كيف وجدت ما زلت منه، وكيف تجد ما صرت إليه.

الصاحب بن عباد

  • نشأته: هو كافي الكفاة أبو القاسم إسماعيل الصاحب بن عباد وزير آل بويه، وكاتبهم.

    وُلد سنة ٣٢٦ بطالقان من قزوين، كان أبوه كاتبًا من خيرة كتَّاب آل بويه، تعلَّم العلم والأدب من أبيه، ثم اتصل بابن العميد فلزم صحبته وتولى كتابة خاصته، ثم وزر لمؤيد الدولة من آل بويه، ثم لأخيه فخر الدولة، حتى أصبح له في ملكهما اليد النافذة المطلقة، وظل كذلك حتى مات سنة ٣٨٥.

  • صفاته: كريم الأخلاق، سليم الذوق، أريحي جواد يحب العلم والعلماء، مولع بجمع الكتب القيمة النفيسة. كان مجلسه حلبة علم وأدب، يساجل فيها العلماء والشعراء، سيَّال القريحة، سريع العارض، حاد النكتة، كان أكثر كرمًا من ابن العميد، نقَّادة صادق النظر في الشعر والنثر، تعقَّب شعر المتنبي وأكثر من نقده.
  • أسلوبه: هو أسلوب ابن العميد، ولم يسمَّ بالصاحب إلا لأنه صحب ابن العميد وأخذ عنه، إلا أنه أُولع بالجناس والسجع جدًّا حتى قيل فيه: إنه لا يترك سجعة ولو انحلت باستعمالها عروة الملك! يعد ثاني ابن العميد بين الكتَّاب.
  • شعره: له شعر رائق، متأثر بالنثر أيضًا كابن العميد، إلا أنه أقرب إلى الشاعرية من أستاذه، فهو يتعمد المعاني العلمية والشرعية والفلسفية وغيرها من المعاني تزيينًا لشعره، ولا أرى حملته على المتنبي إلا حسدًا وتشفيًا؛ لأنه لم يجبه على مراسلته له كما سبق.
  • آثاره: المحيط في اللغة «سبع مجلدات» مجموعة رسائل، كتاب الوزراء، الكشف عن مساوئ شعر المتنبي. وله توقيعات بديعة جدًّا، ونكات لطيفة فيها التلاعب بالألفاظ الذي كان مولعًا به.

    من شعره:

    أترى القاضي أعمى
    أم تراه يتعامى
    سرق العيد كأن
    العيد أموال اليتامى

المقامات

معناها اللغوي محل الإقامة، وهي قصة قصيرة يرويها واحد دائمًا، كما أن بطلها واحد، وهذا البطل شحاذ كثير الحيل، تارة يتعامى، وطورًا يلبس جبة الواعظ وحُلَّة العالم. والعقدة فيها من طراز واحد؛ أي إن الرَّاوية يعرف أن البطل محتال كذاب فيما يدعي.

مبدع المقامة هو بديع الزمان الهمذاني، والذين جاءوا بعده له تبع، ولم يجارِهِ إلا الحريري، وهو أصح لغة من البديع.

أما الغاية من المقامة فهي إظهار البراعة في الإنشاء أو جمع الألفاظ اللغوية لا القصة، ولكن بديع الزمان وفِّق في بعض مقاماته فجاءت كأقاصيص اليوم.

أما المغزى فيفيدنا كيف كانت الكدية والتكالب على جمع المال، وقد كثر المحتالون في ذلك العصر فصوَّرهم البديع متأثرًا بالجاحظ.

والذي يعجبني من بديع الزمان خَلْقُه في ذلك الزمان بطلًا سمَّاه بشر بن عوانة، فظل العلماء والأدباء يعتبرونه شخصًا حقيقيًّا، وعدوا قصيدته التي أولها: أفاطم لو شهدت ببطن خبت، من روائع الشعر. وهذا ما أطلقتُ عليه اسم طلسم الشهيرة.

وبقي السر مغطى بقشرة بصلة — كما يقول مثلنا — حتى قام الأستاذ بطرس البستاني ففتش عن آثار أقدام ابن عوانة عبر مجاهل تاريخ الأدب العربي، فلم يظفر بشيء، فبيَّن للناس أن ابن الأثير وقع في الفخ حين قابل بين ابن عوانة والبحتري والمتنبي، ففضَّل ابن عوانة على البحتري؛ لأنه اعتقد أنه السابق إلى صوره ومعانيه في وصف القتال مع الأسد.

لقد مر على ابن عوانة ألف سنة وهو ينعم بجلال التاريخ إلى أن هُتك ستره، فبلغ بذلك بديع الزمان قمة الفن حين كذب على الشعراء والمؤرخين، وجازت عليهم كذبته عشرة قرون.

بديع الزمان الهمزاني

  • حياته: أبو الفضل أحمد بن حسين. نشأ بهمذان، ودرس العربية والأدب ونبغ فيهما، ثم ضرب في الأرض يتكسب بأدبه. أقام بنيسابور مدة أملى بها ٤٠٠ مقامة بلفظ رشيق وسجع رقيق، طبع على غرارها الحريري، حينما جادل الخوارزمي وتغلب عليه، فاشتهر وخلا له الجو بموت الخوارزمي، فوفد على الملوك والأمراء، حتى صاهر أعيان هراة التي استوطنها، فحسنت حاله، إلا أنه مات في الأربعين من عمره سنة ٣٩٨.
  • المقامة: أطلقت المقامة في ذلك العصر على قصة خيالية أنشئت بعبارة مسجوعة غالبًا، محلَّاة بأنواع البيان والبديع، مشتملة على كثير من الغريب.

    بدأ بهذا النوع من الأدب بديع الزمان، وحذا حذوه الحريري وغيره، ولا عيب في هذه القصص الصغيرة، إلا أنها ترمي غالبًا إلى الاحتيال وطلب الرزق عن طريق النصب. هي مفيدة بأسلوبها وحفظها ألفاظًا كثيرة، إلا أنها غير شريفة المبادئ، لا تعلم عزة النفس.

  • شخصيته: كان بديع الزمان حاد الذكاء قوي الذاكرة، كاتبًا مترسلًا مجيدًا، وشاعرًا مبدعًا، سريع البديهة، مرَّ الهجاء.
  • أسلوبه: ليِّن العبارة سهلها، قصير السجع. كل هذا يدل على أنه غير متعمل في الصنعة، وأنه غزير المادة.
  • آثاره: المقامات، التي لم يصل إلينا منها إلا ٥٣ مقامة، ديوان رسائل ومقالات ومناظرات، وديوان شعر.

    كان كصاحبيه، ابن العميد والصاحب، مولعًا بالجناس والطباق وغيرهما من أنواع البديع، وقد زاد عليهما المقامات التي أبدعها وتفوَّق فيها، فلم يبلغ أحد بعده ما بلغ.

    راجت المقامات رواجًا عظيمًا حتى نسج على منوالها كثير من الأدباء، وظلت متبعة حتى آخر القرن التاسع عشر، فتحولت مع ناصيف اليازجي إلى صناعة لفظية؛ إذ كان يتبع آثار الحريري لا البديع والبهلوانيات. وإلى ركاكة وسجع بارد مع نقولا الترك وغيره، حتى كان بعض الأدباء المقلدين يتراسلون بشكل مقامات.

(٥-٣) القصص

لم يهتم العرب لهذا النوع في بدء نهضتهم. ترجموا كل شيء إلا القصص، فلم يترجموا لا الإلياذة ولا غيرها من قصص اليونان والرومان. وأول كتاب قصصي رأيناه في الأدب العربي هو كليلة ودمنة وغيره من الكتب المترجمة عن الفارسية والهندية.

أما القصص التي نراها بين أيدينا اليوم فهي من تأليف هذا العصر، منها ما هو مترجم ومنها ما هو من وضع العرب.

كانت القصص في أول عهدها كأخبار تُروى عن أيام العرب وحوادثهم تشجيعًا للجنود وتحميسًا لهم، إلى أن صارت تنمو بتناقل الرواة، ثم نَمَت وكبرت وجُمعت ولم يذكر اسم واضعيها، كما جرى في أكثر القصص عند الإفرنج. أما القصص الناضجة فلم يصل إلينا منها إلا قصة عنترة المشهورة.
  • قصة عنترة: هي أكبر القصص العربية المملوءة بالحماسة وأخبار الحروب. تمثِّل أخلاق العرب في جاهليتهم وحروبهم وعاداتهم. معظم أسماء أبطالها حقيقية، إنما فيها مبالغة ككل رواية من نوعها.

    وضعت في آخر هذا العصر، ألَّفها يوسف بن إسماعيل في زمن الخليفة العزيز بالله الفاطمي. حدثت ريبة في بيت هذا الخليفة فأصبحت حديث الناس في مجالسهم، فأشار على المؤلف بوضع هذه القصة ليشغل الناس بها عنه، وهكذا كان. من المعقول أنها لم توضع كما هي اليوم، إنما أخذت تضخم تدريجيًّا، ككل الأخبار من هذا النوع.

    هي أحسن القصص العربية مغزى؛ فهي ترمي إلى الإباء والعفة والسمو، بخلاف كتاب ألف ليلة وليلة، وقصص اليوم التي تعلِّم الفساد الأخلاقي.

  • قصص أُخَر: وقد وضع العرب قصصًا أُخَر، منها قصة البراق، وقصة بكر وتغلب، وقصة شيبان وكسرى أنوشروان، ووضعوا أيضًا قصصًا غرامية، بعضها ضاع وبعضها أدخلوه في كتاب ألف ليلة وليلة.
  • ألف ليلة وليلة: هي مجموعة قصص متسلسلة، ينبثق بعضها من بعض كأساطير كليلة ودمنة، اختلف الناس في تاريخها: فمن قائل إنها معرَّبة، ومن قائل إنها مترجمة، وهي على ما نظن ككتاب كليلة ودمنة، مترجمة في الأصل وقد زاد عليها العرب أشياء كثيرة من حوادثهم وأخبارهم.
  • موضوعها: تمثِّل الآداب الاجتماعية في القرون الإسلامية، وهي تمثل ما قرأناه وكتبناه في هذا الدرس عن حياة العرب في هذه العصور، وانغماسهم في اللهو والترف.

    وفيها أيضًا أخبار جن وعفاريت، وقصص غريبة عجيبة تصوَّرها العقل البشري في ذلك الزمان، وقد تحقق بعضها اليوم. وليست الخرافات بضاعة جديدة عند العرب في كتابهم هذا، بل هي مألوفة في ذلك العصر وفي كل عصر.

(٥-٤) النحو واللغة

كثر النحاة في هذا العصر، ولكنهم لم يأتونا بشيء جديد، فلم يؤلِّفوا من عند أنفسهم، بل كانت كل أعمالهم في الشرح والتعليق والإعراب. أشهرهم:
  • ابن خالويه: همذاني الأصل، جاء بغداد ثم رحل إلى الشام واتصل بسيف الدولة فقدَّمه. له محاضرات ومناقشات، وكان من أعداء أبي الطيب المتنبي.

    وله رسالة في إعراب ثلاثين سورة، وكتاب الشجر، وأشهر كتبه كتاب ليس في كلام العرب، موضوعه الشواذ العربية، طبع في مصر.

    وقد قرأت له شعرًا أشبه بشعر الصاحب المتكلف، كله صنعة وطباق.

  • الزبيدي: من علماء النحو في الأندلس، واسمه أبو بكر محمد من إشبيلية. تولى القضاء وكان شاعرًا. له كتاب طبقات اللغويين في المشرق والأندلس، وكتاب الواضح في النحو، وكتاب الاستدراك على سيبويه.
  • ابن جني: موصلي الأصل، قرأ على أبي علي الفارسي. أشهر نحاة هذا العصر، وله شعر جيد، إنما غلب عليه النحو، وله فلسفة ونقد. أما أشهر كتبه فهي: الخصائص في اللغة، يبحث في أصول النحو، واشتقاق اللغة. سر الصناعة في النحو، يبحث في الحروف ومخارجها والحركات وما يناسب تقاربه منها في اللفظ. شرح شعر المتنبي.
  • اللغة: نضجت في هذا العصر علوم اللغة ونشأت المعاجم اللغوية، فدونوها على حروف المعجم أو على المعاني. وأشهر هؤلاء:
    • القالي: أبو علي، من بغداد، من حفَّاظ اللغة والشعر ونحو البصريين، تنقَّل بين بغداد والموصل، ونُفي في قرطبة. من آثاره كتاب الأمالي، وهو ككتاب المبرد. وله كتاب النوادر.

(٥-٥) المعاجم اللغوية

وضع نواتها الخليل في كتاب العين، إلا أنها لم تتم إلا في هذا العصر. أما مصادرها فما نقل عن الرواة المتقدمين كحماد والأصمعي وأبي عبيدة. دوِّنت أولًا في كتب مستقلة كل موضوع على حدة، ككتب الإبل وأسماء الوحوش، والخيل والشاء، والنبات والشجر … إلخ.

وكذلك كتب النوادر؛ أي ما ندر استعماله في اللغة، ككتب الكسائي والشيباني والقالي … إلخ.

وكتب الغريب في اللغة وشروح الشعر، وكل ما كتب في اللغة واشتقاقها، من أضداد وأشباه ونظائر.

فهذه المؤلفات وأمثالها كانت مصدرًا لأصحاب المعاجم، بيد أن مؤلفي المعاجم لم يعتمدوا عليها وحدها، بل رجعوا أيضًا إلى التحقيق من ألسنة العرب.

  • أقدم المعاجم: كتاب العين للخليل، مرتب على الحروف الأبجدية، ثم جمهرة ابن دريد، ثم البارع للقالي، ثم كتاب التهذيب للأزهري، وهو ابن الأزهر من هراة، رتَّبه على مخارج الحروف ككتاب العين. ثم كتاب المحيط للصاحب بن عباد، مرتب على الحروف الأبجدية كما هي اليوم، أكثرَ فيه الألفاظ وقلَّل الشواهد. والمجمل لابن فارس، اقتصر فيه على الألفاظ الهامة المستعملة معتمدًا على السماع.

    ومن كتبه المتداولة، كتاب الصاحبي ألَّفه للصاحب بن عباد، موضوعه فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، بحث فيه في أصل اللغة وخصائصها واختلاف لغاتها بحسب القبائل.

  • الصحاح للجوهري: أصله من فاراب ببلاد الترك. كان هذا عالمًا كبيرًا في اللغة، سافر إلى الجزيرة وغيرها وخالط ربيعة ومضر، فأتقن اللغة وعاد يعلِّم ويؤلِّف في نيسابور، وهناك ألَّف كتابه الصحاح فأسماه تاج اللغة وصحاح العربية، رتَّبه على حروف الهجاء، مرتبًا الكلمات على آخر حرف منها.
  • ابن سيده: أندلسي من مرسية. كان ضريرًا وأبوه ضرير، وهو من علماء اللغة، فأخذ عنه كتابه المحكم رتَّبه على ترتيب كتاب العين. وهو محكم الضبط دقيق، عوَّل عليه صاحب القاموس في تأليف كتابه. وله المخصص أيضًا وهو كتاب مرتَّب المواد حسب المعاني.
  • الفهرست: أول من كتب في هذا العلم ابن النديم الورَّاق البغدادي، ولولا هذا الكتاب لضاع كثير من آداب العرب. أما كتابه الموسوم بالفهرست، فهو يتضمن وصف لغات الأمم من عرب وعجم وخطوط وصور أمثلة منها. ثم كتب الشرائع المنزلة، ثم العلوم، فذكر النحاة واللغويين وتاريخهم وأسماء كتبهم وأصحاب الأخبار والسيَر والشعر والشعراء والكلام والمتكلمين والفقهاء والحديث والمحدثين والفلسفة والعلوم القديمة والخرافات والعزائم والسحر والشعوذة والمذاهب والمعتقدات والكيمياء وأصحابها، وفي كل باب تفاصيل في سيرة كل مؤلف وأسماء كتبه.

    وهذا الكتاب نفيس جدًّا، بل هو مرجع لكل أديب.

(٥-٦) العلوم الطبيعية

نبغ في هذا العصر علماء لا يُشقُّ لهم غبار، وقد أقبل الناس على الطب كثيرًا حتى قيل: إن الذين امتُحنوا لنيل الإذن بالتطبيب في عهد المقتدر بالله أول القرن الرابع، بلغ عددهم ٨١٠، وبلغ عدد أطباء النصارى في خدمة المتوكل ٥٦ طبيبًا، وكان يجلس مع سيف الدولة على المائدة ٢٤ طبيبًا، وكان أطباء للخلفاء وأطباء للجيش. وكان الامتحان يجري على الأطباء والصيادلة بالتدقيق، واشهر أطباء هذا العصر ابن سينا.
  • ابن سينا: الشيخ الرئيس الفيلسوف الطبيب، أرسطو العرب وأبقراطهم. اسمه أبو علي الحسين بن عبد الله، أبوه من بلخ، سكن مملكة بخارى. نشأ ابن سينا في بخارى، حفظ القرآن وتعلم الفقه، وما بلغ السادسة حتى تعلم المنطق والهندسة والطبيعة والطب والفلسفة.

    ألَّف في الحادية والعشرين من عمره، وتقلَّد بعض مناصب دولة بني سامان. كان قوي القوى عقلًا وجسدًا، ولكنه كان شهوانيًّا. مات في همذان في الثامنة والخمسين من عمره.

  • تأثيره: ألَّف في كل فن من العلم والأدب، وكان لمؤلفاته تأثير كبير في نهضة أوروبا الأخيرة؛ لأنهم نقلوا أهم كتبه إلى اللاتينية، لغة العلم.
  • تآليفه: القانون، ١٤ جزءًا في الطب والعقاقير والتشريح، الشفاء ١٨ جزءًا. من كتبه الفلسفية: الإشارات والنجاة، وله في التوحيد كتاب المبدأ والمعاد، الإلهيات، القصيدة العينية التي مطلعها: هبطت إليك من المحل الأرفع.

الصيدلية والكيمياء والنبات

تحقَّق الفرنج أن العرب هم أول من اشتغل في استحضار الأدوية والعقاقير، واستنبطوا كثيرًا منها. فأول أقرابذين ألَّفه سابور بن سهل سنة ٢٥٥، ثم أقرابذين ابن التلميذ سنة ٥٦٠.

وتبع تقدمهم في الصيدلة تقدمهم في الكيمياء وعلم النبات. وهم مؤسسو الكيمياء الحديثة بتجاربهم واستحضاراتهم. راجع ما كتبناه عن جابر بن حيان والكندي والرازي.

ويرجح أنهم هم أول من ركَّب البارود. وأشار ابن الأثير إلى أن العرب استعملوا مادة في واقعة سنة ٢٦٩ طلوا بها الخشب فامتنع احتراقه؛ ويعقوب أول من ألَّف في إبطال الكيمياء القديمة. أما علم النبات فلهم فيه السبق، أخذوا هذا العلم عن جالينوس وديسقوريدوس وعن الهنود.

نقلت هذه الكتب في أيام المتوكل، ترجمها أسطفان بن باسيل من اليونانية، ولما نبغ ابن البيطار، سافر إلى بلاد اليونان وبلاد الروم وشاهد كل نبات في مواضعه، وكذلك في بلاد المغرب، ودرس نبات الشام، ثم ذهب إلى الديار المصرية، وجعله الملك الكامل الأيوبي رئيسًا على العشَّابين، وقد ألف كتبًا في النبات اعتمد عليها الأوروبيون في نهضتهم الأخيرة.

وله كتاب المغني في الأدوية المفردة، وكتاب جامع مفردات الأدوية والأغذية، وكتاب ميزان الطبيب.
  • الصوري: ومن أئمة علماء النبات رشيد بن منصور الصوري. هذا العالم هو صاحب كتاب الأدوية المفردة. درس نبات الشام في سوريا ولبنان، وصوَّره بالألوان كما يفعل علماء اليوم.

(٥-٧) الفلسفة

اشتغل بالفلسفة من اهتموا بعلوم القدماء، وخصوصًا الأطباء وفي طليعتهم ابن سينا. وكان الفلاسفة متهمين في دينهم، حتى أصبح اسم الفيلسوف مرادفًا لاسم كافر. ونقم العرب على المأمون؛ لأنه سعى بنقل الفلسفة إلى لغة العرب، فتستَّر أصحابها وألَّفوا الجمعيات السرية، وأشهرها جمعية إخوان الصفا التي تألفت في بغداد في أواسط القرن الرابع.

اشتغل أعضاء هذه الجمعية في الفلسفة حتى صار لهم فيها مذهب خاص مستنتج من فلسفة اليونان والفرس والهند، معدل على ما يقتضيه الإسلام.

وأساس مذهبهم أن الشريعة تدنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، وأنه لا يغسلها إلا الفلسفة، وأنه إذا امتزجت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية حصل الكمال.
  • رسائلهم: تُعرف برسائل إخوان الصفا، عددها ٥٠ رسالة، تنظر في مبادئ الكائنات وأصولها وماهية الأرض والسماء ووجه الأرض وتغيراته، والكون والفساد والآثار العلوية، وتكوين المعادن وعلم النبات وأوصاف الحيوانات، ومسقط النطفة وارتباط الناس بها، وتركيب الجسد والحاس والمحسوس، والعقل والمعقول، والصنائع العلمية والعملية، والعدد وخواصه، والهندسة والموسيقى، والمنطق وفروعه، واختلاف الأخلاق، وأن الإنسان عالم صغير، والعالم إنسان كبير، وماهية العشق، والبعث والنشور، وأجناس الحركات والعلل والمعلولات، والحدود والرسوم. وبكلمة، لقد ضمَّنوا هذه الرسائل كل علم طبيعي ورياضي وفلسفي وإلهي وعقلي.

    وفيها بحث من قبيل النشوء والارتقاء، تناقلها العلماء؛ وخصوصًا المعتزليين منهم، ونُقلت على يد الحكم بن عبد الرحمن الكرماني، وهو قرطبي زار المشرق على عادة الأندلسيين للتبحر في العلوم، فانتشرت هناك ودرسوها وتدبروها.

(٥-٨) النجوم

قال العرب: إن صناعة التنجيم خرافة، ومالوا إلى الحقائق العلمية فعنوا بعلمها، فرصدوا الأفلاك وألَّفوا الأزياج التي قاسوا بها العروض، وراقبوا السيارات. وأشهرهم في هذا العصر:
  • البيروني: أبو الريحان، نسبة إلى بيرون بلد في السند، اطَّلع على علوم الهنود واشتغل في النجوم والرياضيات والتاريخ، وأشهر كتبه الآثار الباقية في القرون الخالية، التفهيم لصناعة التنجيم، رسالة في الأسطرلاب، كتاب الجماهر في معرفة الجواهر.

(٥-٩) الرياضيات

كان للعرب شأن كبير في الجبر والهندسة والحساب، ومما أحدثه العرب في الهندسة أنهم طبقوها على المنطق، وقد فعل ذلك ابن الهيثم المصري في فجر القرن الخامس، وأدخل هذا في الجبر قواعد جديدة، وأساليب في استخراج المسائل الحسابية.

واشتغل العرب في أعوص المسائل الهندسية؛ كقسمة الدائرة إلى سبعة أقسام.

واخترع عباس بن فرناس الآلة المعروفة بالمثقال، يعرف بها الأوقات على غير رسم ومثال. حاول هذا المفكر أن يطير فنسي الذَّنَب فسقط على أزمكه.

أما الموسيقى، فبرعوا فيها وإن لم يؤلفوا فيها، واخترعوا آلات موسيقية، وحسَّنوا أخرى. وفي كتاب الأغاني قواعد كثيرة لهذا الفن مبعثرة هنا وهناك.

(٥-١٠) التاريخ

تطور التاريخ في هذا العصر، فألِّفت التواريخ الخاصة للمدن والأمم والأشخاص. وسبب هذا، التجزؤ الذي حصل في الدولة. أما تواريخ الأشخاص فكان بإيعاز منهم.

وتولَّد نوع جديد من التاريخ سموه علم الأوائل، بحثوا فيه أوائل الوقائع والحوادث بحسب الموطن. وأول من ألَّف به أبو هلال العسكري.

أما التاريخ العام، فاصطبغ بصبغة الرحلات، مع وصف الأماكن الجغرافية. وأكثر من أفاض في هذا، المسعودي، وهو من أهل الأسفار. أما النقد التاريخي فلم يكن في هذا العصر؛ لأن التواريخ كُتبت تحت سيطرة الملوك والأعيان.

المسعودي

  • حياته: هو علي بن الحسين المسعودي، نسبة إلى عبد الله بن مسعود الصحابي. وُلد ببغداد وبها نشأ، ولما شبَّ وأربت سنه على العشرين، استهوته الأسفار، فضرب في البلاد شرقًا وغربًا، وكانت رحلته لا تقل عن رحلات المختصين في هذا العصر. وقد سهَّل ذلك اتساع رقعة المملكة الإسلامية، فأخذ يجمع أخبار الأمم والشعوب، وتعرَّف على أحوال بلاد فارس والهند وسيلان ومدغسكر. وما عاد إلى بلاده عن طريق عمان، حتى استأنف سفره إلى شواطئ بحر قزوين وبلاد الروم وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر والسودان، وانقطع في آخر مطافه إلى التنقل بين مصر والشام، ولزم التأليف وأخذ يدوِّن ما رأى وسمع.

    وهو، لو محَّص ولم يقبل كل حكاية ورواية، لكان واحد عصره.

  • شخصيته: حلو المحضر، لطيف المعاشرة، كثير النكات، يحب الفكاهة، وقد عرف من الأخبار ما لم تضمه صدور الكتب.
  • تآليفه: أشهرها مروج الذهب، وهو يحتوي على أخبار الأمم التي عرفت في عصره قديمها وحديثها. وفي كلامه عن دولة العرب روى الوقائع وغرائب الأحاديث، فمثل أحوال المدنية الإسلامية وحياة أهلها بنوع جلي واضح تلذ مطالعته ويجذب قارئه. وله كتاب كبير في الرحلات سماه أخبار الزمان، ثم اختصره وسمي المختصر الكتاب الأوسط، ثم أراد إجمال ما بسطه، فوضع مروج الذهب، وهو الذي بقي. ويقال إن له كتبًا أخرى قد فقدت.
  • أسلوبه: عبارته قوية واضحة جلية، فيها جمال أدبي، وليست بغريبة عن الفن، ولا تخلو من النقد والتدقيق.

    وله آراء خاصة، وإن لم تخلُ من خرافات وأوهام كأكثر ما كتب في التاريخ والجغرافيا وأساطير الأولين. أراد أن يفكه، فضلَّ في تحقيقه التاريخي والجغرافي والأدبي، فكان غير الجاحظ الذي وضع كل شيء على محك العقل.

    وله أيضًا كتاب أخبار الزمان ومن أباده الحدثان، وهو تاريخ أكبر من مروج الذهب مفقود.

    وهناك مؤرخون عديدون كحمزة الأصفهاني ومسكويه والمرعشي وصاعد الأندلسي.

(٥-١١) الجغرافية

بنى علماء الجغرافية علمهم في هذا العصر على الرحلات؛ لأن هذا العلم لم ينضج، ومع ذلك وصفوا أماكن لم يصفها أحد قبلهم؛ لأنهم عرفوا أصقاعًا عديدة لم يعرفها أحد. وقد رسم العرب خرائط عدة، بدءوا بذلك في صدر الدولة العباسية. وأول من رسم الخرائط محمد بن موسى الخوارزمي في زمن المأمون، فعيَّن مواقع المدن والبحور بالدرجات الجغرافية المبنية على علم الفلك.

أما الذين كتبوا في الجغرافية وألفوا فيها فهم: أبو زيد البلخي صاحب كتاب صور الأقاليم، والأصطخري صاحب كتاب الأقاليم، وابن حوقل صاحب كتاب المسالك والممالك، والمقدسي صاحب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، وهو أفضل الجغرافيات العامة في ذلك العصر.

(٥-١٢) الأدب

نضج العقل العربي في هذا العصر، فبحثوا في كل فن ومطلب وأفردوا لكل فن بابًا. فبعد أن كان كل شيء يروى على علاته، مال العرب في هذا العصر إلى التدقيق والبحث، فمِن شكٍّ في رواية، إلى معارضة شعر بشعر.

نبغ في هذا نقاد الشعر، كقدامة بن جعفر وابن رشيق الأصبهاني والثعالبي؛ فمنهم من انتقد الرواية، ومنهم من انتقد الشعر، وكل هذا نشأ فيهم من اطلاعهم على العلوم الجديدة؛ الفلسفة والمنطق، فنمت فيهم هذه المَلَكة وأصبحوا لا يقبلون شيئًا على علاتة، فأخذوا ينقدون ويمحصون ويعارضون شاعرًا بشاعر، ويدلون على أسبقية بعضهم على بعض، وسرقات المعاني والأفكار، ويحكمون بالأسبقية لمن أجاد إخراج الصور. كان جل اعتمادهم على الصناعة اللفظية ونقدها، وقلما تعرضوا للأفكار إلا في بعض أماكن. كان همهم أن يدلوا على مخالفات الفصاحة والقواعد والركاكة المخالفة لعلم البلاغة.

أهم من قام بهذا العمل، أربعة: الأصبهاني، الثعالبي، ابن رشيق، العسكري.

الأصبهاني

المبرِّد وأبو عبيدة والأصمعي والجاحظ وابن قتيبة وابن عبد ربه والقالي، ومن سبق ذكرهم، كل هؤلاء أدباء عنوا بالأدب جد العناية، ولكنهم لم يُجمِعوا كلهم على طريقة واحدة؛ فالجاحظ وغيره كتبوا مزيجًا في الأدب وغيره، أما الأصبهاني الذي ندرسه فلم يكتب إلا الأدب وما تبعه من مقدمات ونتائج.
  • حياته: عربي أموي، وُلد في أصبهان، يتصل نسبه بمروان بن الحكم، شيعي، وإن كان أمويًّا، اسمه علي بن الحسين، وكنيته أبو الفرج.

    نشأ في بغداد وكان من أفراد مصنفيها الأفذاذ، قوي الحافظة عالم بالأنساب، صادق الرواية، عارف بفنون كثيرة، وهو شاعر أيضًا.

    له كتب عديدة، أشهرها كتاب الأغاني الخالد الذي حفظ كنوزًا أدبية خالدة كانت فُقدت لولا عنايته واجتهاده.

  • شخصيته: أديب ظريف، سليط اللسان، مخشي البادرة، ملمٌّ بعلوم كثيرة، عالم بالأنساب، عارف بالمثالب، ولذلك هابه الناس حتى الأمراء منهم، فقبلوه في مجالسهم وتوددوا له لظرفه وحسن حديثه، مع أنه كان قذر الثياب قلما يغسلها ويبدلها. حسن النقد لما يسمع، كان كاتبًا أكثر منه شاعرًا، يُحسن التأليف والتصنيف. وكفى بكتاب الأغاني دليلًا يمثل لنا الأدب الواقعي أصدق تمثيل. أسلوبه قصصي، يحسن القصَّ إلى أبعد مدى، لا يكفُّ عن موضوعه حتى يخرجه كاملًا محيطًا كافيًا.
  • الأغاني: ألَّفه في خمسين سنة، بناه على المائة الصوت التي اختيرت للرشيد وزاد عليها، وذكر سير أصحابها وتعرَّض إلى ما تعلق بها من حوادث، فجاء الكتاب تاريخ أشخاص ووقائع ومغازٍ وأيام وحوادث حب وحرب وشعر وفكاهة. هذا الكتاب هو بحق ديوان العرب، رفعه إلى سيف الدولة الحمداني فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه. ويقولون إن الصاحب بن عباد استغنى به عن مكتبته الضخمة. طُبع الكتاب في ٢١ جزءًا، ووضع له فهرستًا العلامة جويدي الطلياني فجاء في ٤ أجزاء.

    تأثر الأصبهاني بطريقة الجاحظ فكاد يدنو منه، ولكن اختلاف الشخصية لم يمكنه من ذلك، فظل بينهما فارق.

الثعالبي

  • حياته: أبو منصور عبد الملك بن محمد النيسابوري الثعالبي نسبة إلى الثعالب؛ لأنه كان فرَّاء.

    خاتمة أدباء هذا العصر، في الترسل، وأكثرهم آثارًا وأوسعهم مادة. وهو الذي جمع أخبارهم وأقوالهم، فجاء عمله هذا جزءًا متممًا لما فعله صاحب الأغاني، فكان زعيم المؤلفين والمصنفين. قال الشعر وأجاده، فهو ناثر مبدع وشاعر مجيد.

    تعمَّد السجع فيما دوَّن وكتب، أما صاحب الأغاني فأرسل الكلام على السليقة كما يتلفظ به العربي في بداوته، بدون سجع ولا تنميق.

    وقد نظر في الشعر الذي رواه وانتقاه نظرة مدقق خبير، ففاضل وقارن وأحسن الانتقاء والاختيار. وكان يميل إلى شعراء الشام في حكمه، فحكم لهم في السبق في حلبة الشعر، وأيد ما قاله ببراهين وأدلة. الحق يقال إن لواء الشعر في عصره كان معقودًا للشاميين.

  • اليتيمة: لولا اليتيمة امَّحى ذكر شعراء كثيرين. فهذا الكتاب يحتوي على أخبار شعراء المائة الرابعة الهجرية، وهو أربعة مجلدات فيها عدة أبواب: باب لشعراء الشام، وخصوصًا المتنبي وأبا فراس وغيرهما، وباب لشعراء المغرب ومصر، وباب لشعراء الموصل، وباب لآل بويه وشعرائهم وكتابهم، وباب عن شعراء البصرة وبغداد والعراق كافة، وبابان خاصان بابن العميد الصاحب، وشعراء أصبهان، والقادمين على الصاحب، وشعراء الجبل وفارس والأهواز وجرجان، ودولة بني سامان، ففضلاء خوارزم، وفصول عن أبي بكر الخوارزمي والهمذاني والبستي والميكالي، وشعراء خراسان والطارئين على نيسابور … إلخ.

    ولا عيب في كتابه إلا أنه مال إلى السجع كما قلنا، في حين أن هذا الإنشاء ليس بالأسلوب التاريخي.

    وله غير هذا الكتاب كتب كثيرة، بعضها مطبوع والآخر محفوظ في المكاتب الكبرى في أقطار مختلفة، وقد أحصاها جرجي زيدان في كتابه فبلغت ٣٦ مؤلفًا.

ابن رشيق

  • حياته: هو من أهل القيروان، واسمه أبو العباس الحسن بن رشيق من أهل القيروان. كان صائغًا كأبيه، ثم تحول إلى الأدب، ورحل إلى القيروان وامتدح صاحبها واتصل به. وظلَّ في القيروان حتى خربها العرب وقتلوا صاحبها، فانتقل إلى صقلية وأقام بمازر حتى مات.
  • تآليفه: العمدة: كتاب يبحث في صناعة الشعر ونقده وعيوبه، قسَّمه مؤلفه ابن رشيق إلى أبواب: في فضل الشعر وأشعار الخلفاء والفقهاء ومن رفعه ووضعه الشعر، واحتفاء القبائل بشعرائها … إلخ. وأوزان الشعر وحدوده، والبلاغة والإيجاز والاستعارة … إلخ، وأنواع الفصاحة والأوزان وجوازاتها.

    يتخلل كل أبحاثه طائفة منتقاة من جيد الشعر، وبحث تحليلي في الشعر ومعانيه على طريق الانتقاد. وقد قال ابن خلدون في هذا الكتاب: إن كتاب العمدة هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وأعطاها حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله.

العسكري

أبو هلال، صاحب كتاب الصناعتين: النظم والنثر. كتب في هذا الباب على نسق من تقدموه، وقد بيَّن معايب الشعر ومحاسنه، وبحث علم البلاغة بحثًا دقيقًا، ونقد الشعر على طراز من سبقه، وكتابه هذا جزيل الفائدة، وهو مطبوع.

(٦) الأدب في الأندلس

فتح المسلمون الأندلس وجلا إليها العرب والبربر من شمالي إفريقية، ولحق بهم كثيرون من جميع قبائل العرب من مصر والشام، فتكوَّن منهم بعد قليل جمهرة عظيمة مختلطة بطوائف من البربر، حتى توصلوا بفتوحهم إلى نهر اللوار في فرنسا.

هؤلاء الطارئون والفاتحون أصبحوا بعدئذ أصحاب السيادة في البلاد على القوط والإسبان واليهود وغيرهم من أهل البلاد، ثم امتزجوا بهم بالمصاهرة لإسلام جمهورة منهم، فنشأ من كل هذا الخليط شعب مؤلَّف من عدة عناصر، ذو صفات ومزايا جديدة، شاركه في بعضها من بقي في دينه من بقايا الإسبان واليهود.

ثم تنوعت هذه الصفات بتنوع العصور المختلفة، بما وقع فيها من الحوادث السياسية والاجتماعية والدينية التي تبقي أثرًا بيِّنًا في اللغة وأدبها، يمكننا أن نقسمه إلى أربعة أطوار:
  • الأول: عصر الولاة الأولين الذين كان يوفدهم الخلفاء الأمويون، وهو طور نصفه فَتْح، ونصفه فتن داخلية انتهت بعصبية ممقوتة، ختمت باستيلاء عبد الرحمن الداخل، وتأسيسه دولة عربية ثانية في الغرب ضارعت الدولة العباسية، وعدد ولاتها عشرون.
  • الثاني: عصر رقيِّ اللغة وآدابها، وهو عصر الدولة الأموية الغربية وملوك الطوائف، الذين استبد كل منهم بناحية واستقل فيها. يمتد تاريخ هذه الحقبة من سنة ١٣٨–٤٨٤ﻫ.
  • الثالث: عصر جمود اللغة وتقهقرها، وهو عصر دولتي البربر من المرابطين والموحدين، وهم الذين استولوا على ممالك الطوائف، وجعلوا الأندلس ولاية تابعة لسلاطينهم بمراكش وفاس، ومدته من ٤٨٤–٦٣٠ﻫ.
  • الرابع: طور يقظة الموت، وهو عصر الدولة العربية الثانية، من ابن هود بن الأحمر، ومدته ٦٣٠–٧٩٧ﻫ. وهم الذين استطاعوا المحافظة على جنوبي البلاد أكثر من قرنين، ثم أجلاهم الإسبان عنها.

أما أرقى عصور هذه الدولة حضارةً وأدبًا فهو عصر بني أمية وملوك الطوائف.

(٦-١) اللغة في العهدين

كانت حالة اللغة في عصر الولاة، بين العرب ومستعربي البربر، كما كانت في عهد الأمويين في الشرق.

وفي زمن الدولة الأموية الأندلسية كانت تنهج نهج الدولة العباسية وتحاكيها وتنافسها في كل شيء، وفاقتها في البناء، وبلغت حضارتها ورقيها في العلوم والآداب غاية المجد زمن الخليفتين الناصر والمستنصر ابنه، وزمن الحاجب المنصور الذي استبد بأمر الدولة بعدهما.

ولما انتشرت الفتن في آخر عهد الأمويين انقسمت البلاد إلى عدة ممالك مستقلة، مدة نصف قرن، فقام في كل صقع منبر وأمير، حتى قال فيها الشاعر:

مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهرِّ يحكي انتفاخًا صورة الأسد

وقال شاعر آخر:

وتفرقوا شيعًا فكل قبيلة
منها أمير المؤمنين ومنبر
لم تكن حال الحضارة والعلم والأدب فيها أقل منها زمن الدولة الأموية، إلا أنها تقهقرت عندما صارت الأندلس ولاية تابعة للملوك البربر في مراكش من المرابطين والموحدين، وانتعشت قليلًا في زمن بني الأحمر، آخر دولة إسلامية في الأندلس.
  • الشعر: نقل العرب إلى الأندلس أخلاقهم وعاداتهم وأدبهم وشعرهم، فاستخدموا الشعر فيما كانوا يستخدمونه في عصر بني أمية بالمشرق؛ من أنواع الحماسة والحض على الجهاد والدعوة إلى العصبية وإثارة الفتن. ولما خمدت الفتن وقرَّ الملك في بيت عبد الرحمن، هبَّ الشعراء ينحون مناحي الشعر التي فشت في الإسلام، فصار الشعر صناعة فئة من المتأدبين يتكسَّبون به بمدح الخلفاء والأمراء والقواد والانقطاع إليهم، وشجعهم هؤلاء أمويهم وعلويهم وبربرهم ببذل العطاء لهم وتقريب منازلهم منهم. فاتخذوهم بطانة وندماء، وأعوانًا ووزراء، إذ لم تكن صناعة الشعر مزرية بعظماء الناس هناك، بل كانت حلية كل متعلم، فقلما عجز عن قول الشعر إنسان منهم، بل نظمه كثيرون منهم حتى الأميون، ولم يأنف من نظمه الخلفاء والوزراء والأمراء والفقهاء، فأولع به كل الطبقات حتى النساء، ومنهن من بارين الرجال فيه.

    ولا نسمع بفقيه أو فيلسوف أو طبيب أو رياضي أو مؤرخ إلا نراه شاعرًا بليغًا له مطوَّلات ومقطَّعات شعرية، في أغراض مختلفة؛ وذلك لجمال أرضهم وبيئتهم وطيب عيشهم وميلهم الفطري إلى الشعر؛ لأن أكثرهم من عناصر عربية.

    وإذا لم يشتهر فيهم أمثال بشار وأبي نواس والمتنبي وأبي تمام والبحتري، فذاك لبعدهم عن المشرق مهد العربية وميدان التنافس العام فيها.

    لقد نظم شعراء الأندلس في جميع الأنواع الشعرية والأغراض حتى الخمريات والمجون والموشحات والأزجال، ولكنهم فاقوا العباسيين في وصف مناظر الطبيعة ورثاء الممالك الزائلة. وأشهر هؤلاء أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس، ثم نظموا قواعد العلم شعرًا، وبعض الحوادث التاريخية، وقصروا عن المشاركة في الحِكَم التي تسير سير الأمثال.

    كان شعرهم في الغزل غاية في الرقة، والخيال الشعري الجميل مادة معانيهم، وقلما أتوا في شعرهم بقضايا عقلية وأحكام فلسفية.

  • الموشحات: وزادوا على شعراء المشرق في أوزان الشعر وقوافيه «فن الموشح».

    وهو يتركب من طوائف من أبيات أو شطور تتغير فيها القوافي. وأشهر أصحاب الموشحات لسان الدين الخطيب وغيره.

    وقد روي لابن المعتز من المشارقة موشح يمتاز بتماسك ديباجته ولا يقل رقة عن موشحات الأندلسيين.

    ونظموا الموشح باللغة العامية فلقِّب بالزجل، ثم شاع هذان النوعان في المشرق فحاكوا الأندلسيين فيهما حتى وقتنا هذا.

    ونبغ في الأندلس شعراء وشاعرات عديدون لا يحصون، أشهر مشهوريهم: ابن هاني — وقد سبق ذكره — وابن عبد ربه، وابن خفاجة، وابن حمديس، وولَّادة، وابن زيدون … إلخ. وأخيرًا ظهر الزجل الذي ينبع عندنا اليوم، وقد صار عاميًّا صرفًا في لهجته، وقد خصصنا هذا الفن بكتاب يظهر إن شاء الله.

  • النثر: كانت مناصب الكتابة في عصر الولاة وأول عصر بني أمية كما كانت عليه في المشرق يتولاها الأمير ممليًا على كاتبه، أو الكاتب برأي الأمير. وإذا علت مرتبة الكاتب وناب عن الأمير أو الخليفة سمِّي حاجبًا، وهو أشرف ألقاب الدولة. أما اسم الوزارة فكان يطلق على كل من يجالس الملوك ويختص بهم، ثم صار لقب الوزير الذي ينوب عن الملك في سياسة الدولة ويلقَّب بذي الوزارتين، يكون غالبًا من رجال الأدب.

    وكذلك كانت حالة الكتابة من جزالة اللفظ وفخامة المعنى وخلوها من السجع، إلا نادرًا.

    ثم حاكوا المشارقة في نظام الدواوين ورسوم الكتابات من تمييز أقسامها وتنويع بدئها وختامها، وتسجيع عباراتها، كطريقة ابن العميد في السجع القصير، واستمداد المعاني من الخيال، وحل المنظوم، ومن القرآن والحديث، وتضمين الأمثال، والتلميح إلى حوادث التاريخ.

    وكتبوا في كل الأغراض التي طرقها كتَّاب المشرق، ولكن بلاغتهم لم تنحط في آخر أمرهم كما انحطت في مصر والشام، في العصور التركية، لقلة طروء العناصر الأعجمية عليهم ولتأصُّل عادة الاشتغال بالعلم فيهم.
    • كتَّابهم: ابن شهيد أبلغ كتابهم، له في الوصف والمداعبات رسائل بديعة، وابن زيدون، والفتح بن خاقان.
  • التدوين والتصنيف: ابتدأ التدوين والتصنيف في أواخر عصر الأمويين وصدر العباسيين، أما الأندلس في ذلك الزمان فكانت مضطربة، فلما وطد عبد الرحمن أركان ملكه ومهَّد طريق الحضارة والرخاء والأمن لأهلها، هبُّوا يرحلون إلى المشرق لأداء فريضة الحج واقتباس العلوم، فتابعوا رحلاتهم إلى الشرق برًّا وبحرًا، ونقلوا إلى بلادهم علوم اللسان والدين؛ لأن الأندلسيين كانوا أشد أهل الأرض حبًّا للعلم، وتفانيًا في تحصيله وتوقيرًا لأهله، وساعدهم على ذلك بنو أمية وخلفاؤهم ببذل الأموال العظيمة في جمع الكتب ومكافأة العلماء، وأحلوهم أرفع منزلة، وسمعوا أمرهم وخضعوا لنهيهم، وأخصهم عبد الرحمن الناصر وابنه المستنصر «الحَكَم». وقد جمع الحَكَم هذا في مكتبته بقصر قرطبة مئات الألوف من الكتب.

    وكذلك كان أكثر خلفاء بني أمية، وأعيان قرطبة، فما انقضى القرن الرابع حتى نبغ ألوف من العلماء، فضارعت الأندلس المشرق وفاقته في بعض العلوم.

    ولم يقصر ملوك الطوائف عن الأمويين فآزروا العلم وقرَّبوا العلماء، وكان من ملوكهم الأدباء أيضًا مثل المظفر أحد بني الأفطس صاحب بطليموس، صاحب التاريخ المظفري في ٥٠ مجلدًا.

    وفي عصر المرابطين هدأت حركة العلم قليلًا؛ لأنهم اضطهدوا أصحاب الآراء والنِحَل المذهبية، حتى تساهل الموحدون في أمر مطاردة الفلسفة وعلومها، فنبغ من الحكماء والأطباء والكيمائيين جماعة أشهرهم: ابن رشد، والباجي، وابن زهر.

    ثم قلَّ الاختصاص في العلوم، وكانت تنتعش أحيانًا الحركة العلمية ثم ترقد، حتى أباد الإسبان العرب وعفوا آثارهم وأحرقوا كتبهم، فلم يسلم منها إلا ما نُقل قبل الجلاء أو جُهِل مكانه.

  • تأثير الأندلس: للأندلس أبلغ أثر عربي في الغرب، فكلية قرطبة كانت تضم بين جدرانها اثني عشر ألفًا من الطلاب، عرب وغير عرب.

    الفن العربي في البناء تجلى بأبهى مظاهره في الأندلس من قصر الحمراء إلى جامع قرطبة.

    جعلوا للغة العرب سيادة هائلة في الغرب فاندحرت أمامها جميع اللغات، حتى طلب رؤساء الدين المسيحيون من البابا أن يترجموا كتب الطقوس الدينية إلى العربية.

    أدخلوا في لغات الغرب القافية في الشعر التي لم يعرفها الغربيون قبل العرب، ثم طوروا شعرهم إلى نوع الموشحات.

    وأخذ الطرب عن العرب من الموسيقى الكمنجة «الرَّباب» والفليت «الشبَّابة» عدا الألفاظ التي ملأت لغات الأوروبيين. أما العلوم وفروعها فحدِّث عنها ولا حرج، فقد ظلت كتب العرب مصدرًا لها، ولا يزال حتى اليوم المستشرقون يخرجونها كل عام.

(٦-٢) شعراء الأندلس

شعراء الأندلس فئتان: فئة ظلت محافظة في شعرها على النمط الشرقي فلم تخرج على التقليد، فقالت قصيدتها على الطراز الذي ألفه الشعراء المشارقة في التفكير والتصوير، فلم تكن أفكارهم غير شرقية. وعندما قال الصاحب بن عباد كلمته — حين اطَّلع على العقد الفريد ولم يجد فيه ما كان ينتظر من أدبنا عبر البحار: هذه بضاعتنا ردت إلينا. جاءت تلك الكلمة في محلها. ولكن الفئة الثانية خرجت على العروضي.

فالعرب الأندلسيون في فجر هجرتهم كانوا مقلِّدين للمشرق في كل شيء، حتى الألقاب التي كان يتخذها ملوكهم، ولما طال الزمان وتأثروا بمحيطهم الجديد خططوا قصائدهم على النظام المعماري الغربي، فصارت قصائدهم غير ذات زوايا أربع كبيوتنا الشرقية.

ولما كان هذا الكتاب معمولًا — كما قلنا في التوطئة — ليكون دليلًا للقارئ في دنيا ثقافتنا الواسعة، اكتفينا بما قلنا حتى لا نخرج عن تخطيطنا؛ ولهذا نقول إن شعراء الأندلس ليسوا كلهم ممن وشَّحوا قصائدهم فنوعوا قوافيها ووحدوا موضوعها، ولعل أول المحافظين كان ابن عبد ربه الذي لقِّب بمليح الأندلس.

ابن عبد ربه

هو مليح حقًّا، وقد كان المتنبي محقًّا حين سمع شعره وأثنى عليه؛ فلهذا الأديب شعر متماسك خالٍ من تلك الميوعة التي نجدها في شعر المتوسطين من شعر ذلك الشطر من الإمبراطورية العربية، فليس في شعر الأندلسيين الذين قالوا الموشحات شعر يماشي شعر المشارقة غير موشح لسان الدين الخطيب: جادك الغيث. والموشح الآخر المنسوب لابن المعتز.

فابن عبد ربه، وهو الشاعر المجيد الذي لم يتخلَّ عن شرقيته، له شعر ذو حظ كبير من الخيال واعتماده على الاستعارة والتشبيه، والذي رأيته هو أن خياله أقوى من عاطفته.

وُلد هذا الشاعر بقرطبة، وانكبَّ على المطالعة، ثم لما اشتد ساعده ألَّف كتابه «العقد الفريد» الذي زين به جِيد حسناء يعرب.

ابن زيدون وولَّادة

لا تغرك هذه الواو والنون، فالعرب قالوا هكذا، وابن زيدون من مواليد قرطبة وهو عربي أصيل من بني مخزوم، وُهِب مَلَكة شعرية رائعة فقال الشعر يقطر رواء وماوية. قال أشهر قصائده كما أوحاها إليه قلبه، فدارت على الألسن وظلت حتى يومنا هذا في دورانها، قالها حين حِيل بينه وبين حبيبته ولادة بنت المستكفي، وهي شاعرة من طرازه، وقد كانت سافرة في ذلك الزمان، رغم أنها بنت الخليفة المستكفي.

أراد ابن عبدوس أن يشاركه في حبها ولكنها لم تمِلْ إليه، ولمَّا كان هذا من المقربين من أولياء الأمر دسَّ الدسائس، فنجحت وشايته، فسُجن ابن زيدون، ولما عجز عن استرضاء ابن جَهور صاحب العرش، فر من سجنه ولجأ إلى المعتمد بن عباد.

واشتهر ابن زيدون بالرسالة التهكمية التي وجَّهها إلى ابن عبدوس، وهي من طراز رسالة التربيع والتدوير التي كتبها الجاحظ. والرسالة تشبه اليوم ما عُرف «بطبق الأصل»؛ إذ كتبها عن لسان ولادة صاحبة الندوة الأدبية التي تقول في وصف نفسها:

أنا والله أصلح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وأمكن عاشقي من صحن خدي
وأمنح قبلتي من يشتهيها

وقد كانت تكره ابن عبدوس ولا تخشى أن تتندر عليه. قد مرت عليه مرة وهو جالس أمام بركته الآسنة، فقالت له متمثلة:

أنت الخصيب وهذه مصر
فتدفقا فكلاكما بحر

وقد كانت ولادة شاعرة حرة التفكير، كأنها من نساء اليوم المتطرفات، وإذا لم تنظم الروائع فحسبها أن حبها أوحى إلى ابن زيدون قصيدته الباقية: أضحى التنائي بديلًا من تدانينا. وسنقرؤها إن شاء الله في النصوص المختارة، وهي جزء تابع لهذا الموجز.

ابن عمار

وُلد في بيت خامل، تأدَّب في قرطبة مدينة الأدب والعلم، ثم صار معلمًا للمعتمد ابن عباد ونجيَّه وسميره ووزيره. وابن عمار يجاري ابن زيدون، وأغلب قصائده في مدح المعتضد وابن المعتمد.

  • شعره: يمتاز شعر ابن عمار بصوره كما امتاز شعر ابن زيدون بعاطفته الحامية الوطيس. ومن قول ابن عمار في مدح سيده:
    أثمرت رمحك من رءوس ملوكهم
    لما رأيت الغصن يعشق مثمرا
    وصبغت درعك من دماء كماتهم
    لما علمت الحسن يلبس أحمرا

    أما نهاية ابن عمار فكانت بشعة؛ تآمر على مولاه المعتمد وعصاه، فسجنه المعتمد ولم يعفُ عنه رغم القصائد التي قالها في طلب العفو، بل قتله بيده في سجنه وأمر بدفنه.

ابن حمديس الصقلبي

شاعر مبدع في الصور والتخيل، تعمَّق في وصف الطبيعة والعمران، وجد خياله مجالًا واسعًا، وكان له في محيطه مرعى خصيب، جنائن وارفة الظلال وأنهار تغني للغصون فترقص، بدائع وطرائف راح يصوِّرها ابن حمديس بقلمه، فجاءت لوحات طريفة نادرة.

وقد مشى على خطى البحتري في وصف القصور والبرك، وسعى وراء التشابيه والاستعارات يتصيدها حتى ظهرت الصنعة وكثرت.

لم يهمل ابن حمديس شعر المدح فأغرق فيه، وعاش ميسورًا.

ابن خفاجة

وُلد بجزيرة شقْر، وهو كابن حمديس في أغراضه الشعرية، حاكاه في صوره وإحساسه، وآفة الشعراء سيرهم خلف بعضهم كالقوافل على الطرق المعبَّدة، لكن ابن خفاجة لم يتكسَّب بشعره إلا نادرًا، فقاله في الموضوعات الأخرى.

ابن سعيد

شاعر أندلسي، هاجر إلى مصر فأصابه داء الحنين إلى وطنه، فقال شعرًا جيدًا في ذلك، متذكرًا غرناطة التي ولد فيها.

لسان الدين الخطيب

ولد بلُوشة، وتضلع من جميع علوم زمان حتى صار فيها حجَّة، ولما اجتمع أشده خلف أباه ووزِّر لبني الأحمر، وظل ينعم في ظل العز الوارف، حتى خلع مولاه فاعتقل وعذب، واتهم بالإلحاد والزندقة عملًا بالكلمة المشهورة: من تمنطق فقد تزندق. ثم كانت الفتوى وإباحة دمه، فهاجموا السجن فخنقوه وطرحوا جثته فدفن، ثم أُخرج من لحده وأُحرق.

كان لسان الدين شاعرًا مجيدًا وكاتبًا وخطيبًا وفيلسوفًا مشاركًا في جميع علوم زمانه، وله مؤلفات، منها: كتاب الإحاطة في تاريخ غرناطة، وكتاب الإشارة إلى آداب الوزارة، وبستان الدول.

تآليفه: وقد أوصل المقري تآليف لسان الدين الخطيب إلى الستين، وأشهر موشح اتبع حتى قلده المشارقة والمغاربة، هو موشح لسان الدين الذي مطلعه:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس

وله غيره موشحات كثيرة وشعر وافر.

المعتمد بن عباد

  • سيرة حياته: أبوه المعتضد العبادي ملك إشبيلية، مات أخوه الذي كان صاحب الحق في ميراث العرش، فانتهى الأمر إليه. اتخذ الشاعر ابن عمار وزيرًا لدولته، ثم قتله بيده كما مرَّ.

    استولى على قرطبة، وبلغ مرسية، ولما اتسعت رقعة ملكه وخاف عليه من ملك قشتالة ألفونس، استنجد بابن تاشفين ملك مراكش فلبَّاه. وأخيرًا انقلب عليه وأشعل نار الفتن، فاستولى على قرطبة وإشبيلية وأسر المعتمد ونفاه وأهله إلى أغمات، وهناك مات بعد عذاب شديد وفقر ليس فوقه فقر.

    هذا الملك هو أحد الذين صوَّرهم أحد شعراء عصرهم حين قال:

    وتفرقوا شيعًا فكل قبيلة
    منها أمير المؤمنين ومنبر

    إنه شاعر، وقد وصف لنا سوء مصيره في شعره الذي هو أبلغ معبِّر عن آلامه ونكبته الفظيعة. قال يصف موقفه من العيد في أغمات:

    فيما مضى كنت بالأعياد مسرورًا
    فجاءك العيد في أغمات مأسورا
    ترى بناتك في الأطمار جائعة
    يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
    برزن نحوك للتلسيم خاشعة
    أبصارهن حسيراتٍ مكاسيرا
    يطأن في الطين والأقدام حافية
    كأنها لم تطأ مسكًا وكافورا
    أفطرت في العيد لا عادت إساءته
    وكان فطرك للأكباد تفطيرا
    من بات بعدك في ملك يسر به
    فإنما بات بالأحلام مغرورا

    وخوفًا من أن تتساءل كما تساءل العقاد عن التين والعنب في قصيدة أبي تمام البائية فتقول منتقدًا: متى كان المسك والكافور للموطئ؟ فإننا نقول لك كما قلنا لذاك العلامة في غير هذا الكتاب.

  • حكاية المسك: زعموا أن زوجة المعتمد أعجبها مشهد النسوة الفقيرات يحملن جرارهن ويخضن في الوحل، فتمنَّت أن تفعل مثلهن، فأبى المعتمد، ولكنه حبًّا بتلك الملكة عمل لها وحلة من مسك، فحملت جرَّتها مثلهن وفعلت هي وبناتها كما فعلن.

    ويقال إنها حينما جاءت زائرة زوجها الملك في زندانه، تذمرت وقالت إنها لم تشاهد يومًا أبيض في حياتها معه.

    فأجابها المعتمد: ولا يوم الطين …!

    من بات بعدك في ملك يسر به
    فإنما بات بالأحلام مغرورا

    وفي قصيدة ثانية يصف صورته في الأسر، فقال يخاطب قيده ويستطرد إلى وصف حالة صغاره:

    قيدي أما تعلمني مسلمًا
    أبيت أن تشفق أو ترحما
    دمي شراب لك واللحم قد
    هشمته، لا تهشم الأعظما
    يبصرني فيك أبو هاشم
    فينثني والقلب قد هُشما
    ارحم طُفيلًا طائشًا لبه
    لم يخشَ أن يأتيك مسترحما
    وارحم أخيَّاتٍ له مثله
    جرعتهن السم والعلقما
    منهن من يفهم شيئًا فقد
    خفنا عليه للبكاء والعمى
    والغير لا يفهم شيئًا، فما
    يفتح إلا لرضاعٍ فما

    كم كنت أتمنى لو كان نابغتنا جبران قد صوَّر المعتمد مستلهمًا قصيدتيه هاتين بدلًا من ذلك الشكل الملكي الذي صوَّر ابن عباد فيه.

    إن الرجل في مصيبته أروع منه وهو على عرشه وفي أبهة ملكه.

  • المعتمد وأبو فراس: المعتمد أبو عيلة، ولذلك جاء تفجعه مؤلمًا، أما أبو فراس فكان برًّا بأمه فما ذكر غيرها حين قال:
    لولا العجوز بمنبج
    ما خفت أسباب المنيه

    فبعد هذا الذي نقلناه لك من شعر المعتمد، أقول: تعطلت لغة الكلام فقابِل أنت بين الشاعرين، فكلاهما منكوب، وقد صح فيه قول من قال:

    ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
    تنوعت الأسباب والموت واحد

    فلو تذكر المعتمد في سجنه بأية صورة وحشية قتل شاعره ووزيره ابن عمار، لهانت عليه مصيبته، وعندما تقرأ رثاء أبي البقاء الرندي للأندلس، ستهون جميع المصائب. وهذه هي:

    رثاء الأندلس لأبي البقاء الرندي

    لكل شيء إذا ما تم نقصان
    فلا يُغَرَّ بطيب العيش إنسانُ
    هي الأمور كما شاهدتها دول
    من سرَّه زمن ساءته أزمان
    وهذه الدار لا تبقي على أحد
    ولا يدوم على حال لها شان
    يمزق الدهر حتمًا كل سابغةٍ
    إذا نبَتْ مشرفيات وخرصان
    وينتضي كل سيف للفناء ولو
    كان ابن ذي يَزَن والغِمْد غمدان
    أين الملوك ذوو التيجان من يمن
    وأين منهم أكاليل وتيجان
    وأين ما شاده شداد في إرم
    وأين ما ساسه في الفرس ساسان
    وأين ما حازه قارون من ذهب
    وأين عادٌ وشداد وقحطان
    أتى على الكل أمر لا مردَّ له
    حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
    وصار ما كان من ملك ومن ملَكٍ
    كما حكى عن خيال الطيف وسنان
    دار الزمان على دارا وقاتله
    وأمَّ كسرى فما آواه إيوان
    كأنما الصعب لم يسهل له سبب
    يومًا ولم يملك الدنيا سليمان
    فجائع الدهر أنواع منوعة
    وللزمان مسرات وأحزان
    وللحوادث سلوانٌ يسهِّلها
    وما لما حل بالإسلام سلوان
    دهى الجزيرة أمر لا عزاء له
    هوى له أُحدٌ وانهد ثهلان
    أصابها العين في الإسلام فارتزأت
    حتى خلت منه أقطار وبلدان
    فاسأل بَلَنْسِيةً ما شأن مُرْسِيةٍ
    وأين شاطبة أم أين جيَّان
    وأين قرطبة دار العلوم فكم
    من عالم قد سما فيها له شان
    وأين حمصٌ وما تحويه من نزه
    ونهرها العذب فياض وملآن
    قواعد كنَّ أركان البلاد فما
    عسى البقاء إذا لم تبقَ أركان
    تبكي الحنيفية البيضاء من أسف
    كما بكى لفراق الإلف هيمان
    على ديار من الإسلام خالية
    قد أقفرت ولها بالكفر عمران
    حيث المساجد قد صارت كنائس ما
    فيهن إلا نواقيس وصلبان
    حتى المحاريب تبكي وهي جامدة
    حتى المنابر ترثي وهي عيدان
    يا غافلًا وله في الدهر موعظةٌ
    إن كنت في سِنَةٍ فالدهر يقظان
    وماشيًا مرحًا يلهيه موطنه
    أَبَعْدَ حمصٍ تغرُّ المرءَ أوطان!
    تلك المصيبة أنست ما تقدمها
    وما لها مع طول الدهر نسيان
    يا راكبين عتاق الخيل ضامرة
    كأنها في مجال السبق عقبان
    وحاملين سيوف الهند مرهفة
    كأنها في ظلال النقع نيران
    وراتعين وراء البحر في دعة
    لهم بأوطانهم عز وسلطان
    أعندكم نبأ من أهل أندلس
    فقد سرى بحديث القوم ركبان
    كم يستغيث صناديد الرجال وهم
    قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
    ماذا التقاطع في الإسلام بينكم
    وأنتم يا عباد الله إخوان
    ألا نفوس أبيَّات لها همم
    أما على الخير أنصار وأعوان
    يا من لِذِلَّةِ قومٍ بعد عزهم
    أحال حالهم جور وطغيان
    بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم
    واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
    فلو تراهم حيارى لا دليل لهم
    عليهم من ثياب الذل ألوان
    ولو رأيت بُكاهم عند بيعهم
    لَهالكَ الأمر واستهوتك أحزان
    يا ربَّ أمٍّ وطفل حيل بينهما
    كما تفرق أرواح وأبدان
    وطفلةٍ مثل حسن الشمس إذ طلعت
    كأنما هي ياقوتٌ ومرجان
    يقودها العِلْج عند السبي مكرهة
    والعين باكيةٌ والقلب حيران
    لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ
    إن كان في القلب إسلام وإيمان

    أطوار العمر لصالح بن شريف الأندلسي

    ابن عشرٍ من السنين غلامُ
    فَرهٌ زَوْلٌ ثغره بسَّام
    عَتِلٌ غافلٌ سريع حراك
    دأبه الغيظ والرضى والخصام
    وابن عشرين للصبا والتصابي
    ليس يثنيه عن هواه ملام
    حبِّب الأكل والشراب إليه
    وصنوف اللذات وهي حرام
    يتمنى المنى ويطلب جدًّا
    فهو مقدامٌ في الوغى وهمام
    والثلاثون قوة وشباب
    وهيام ولوعة وغرام
    فإذا زاد بعد ذلك عشرًا
    فكمال وشدة وتمام
    وابن خمسين مرَّ عنه صباه
    فيراه كأنه أحلام
    وابن ستين صيرته الليالي
    هدفًا للمنون وهي سهام
    وله الفضل والفخار وشاح
    وسكون وهيبة واحترام
    وابن سبعين لا تسلني عنه
    فابن سبعين ما عليه كلام
    لا يبالي على اخترام الليالي
    وهو عنها لاهٍ به استصمام
    خرِقٌ ساهم حريص على المال
    كثير الإهتار وغد عَبام
    فإذا زاد بعد ذلك عشرًا
    بلغ الغاية التي لا ترام
    وابن تسعين عاش ما قد كفاه
    واعترته وساوسٌ وسقام
    فإذا زاد بعد ذلك عشرًا
    فهو حي كميِّتٍ والسلام

(٧) العصر العباسي الرابع

في سنة ٤٢٢ تولى القادر، فظهرت في أيامه الدولة السلجوقية وانقرض بنو بويه، فساد السلجوقيون في الدولة العباسية زمنًا. وفي أيام المستظهر ٤٩٠، ظهرت دولة بيت خوارزم وبدأت الحروب الصليبية، التي ظلت زهاء قرنين. وسنة ٥١٢، تولى المسترشد فطمح إلى استرجاع حقوق الخلافة واتخذ عسكرًا، وجرت حرب بينه وبين السلطان محمود ثم تصالحا، وفي أيامه ظهر عماد الدين زنكي وحارب الخليفة ثم تصالحا، وأُسر الخليفة في حرب مع السلطان مسعود ثم قُتل ٥٢٩. وفي أيام المقتفي ظهر نور الدين زنكي وملك البلاد الشامية ثم مصر.

وفي أيام الناصر، اشتدت الحروب الصليبية وحدثت الحروب التترية، وانقرضت الدولة السلجوقية، وزحف جنكيزخان إلى البلاد الإسلامية، وفعل فيها الفظائع، فقاومه ملوك الإسلام دون جدوى.

وفي أيام المستنصر المتوفى سنة ٦٤١، تمكنت التتر من أكثر البلاد. وفي ولاية المستعصم ظهرت دولة المماليك الجراكسة في مصر، وزحف التتر على بغداد فقتلوا أعيان بغداد وفي جملتهم الخليفة وأولاده، وارتكبوا الفظائع في بغداد أربعين يومًا. وبموت هذا الخليفة انقرضت الدولة العباسية من بغداد سنة ٦٥٥، وعدد خلفائها ٣٧ خليفة ومدة ملكهم ٥٢٤ سنة.

انقطعت الخلافة ثلاث سنوات ونصف، حتى جدَّدها المستنصر في مصر وحارب التتر، إلى أن تولى بعده الحاكم الذي ظهرت في أيامه الدولة العثمانية. وظلت الخلافة العباسية في مصر ٢٥٥ سنة حتى انتقلت من آخر خليفة منهم إلى بني عثمان سنة ٩٢٢ﻫ.

(٧-١) الشعر

إن ما حل بخلفاء الدولة من المصائب، وما أصاب المملكة الإسلامية العربية من التضعضع بسبب الحروب والفتن التي توالت — كما رأيت — قد أقلَّ الذين يهتمون للشعر والشعراء، ويأخذون بناصر الأدباء والعلماء، وإذا كان المتنبي شكا وقال: وما تفلح عرب ملوكهم عجم، فماذا يقول شعراء هذا العصر الذين أصبح ملوكهم لا يفهمون لغتهم! فلهذا انصرفت الشعراء إلى الفقه والتصوف، وغير ذلك من الأغراض.

إلا أنهم ظلوا يتحدَّون أسلافهم الشعراء وينسجون على منوالهم. نظموا في الفخر تقليدًا لمن تقدموهم، والفرق بين الفريقين أن المتقدمين فخروا بأشياء اندفعوا إلى الافتخار بها، أما هؤلاء فافتخروا ليقال إنهم افتخروا! وبماذا يفخرون، وقد صاروا إلى الانقراض؟!

وقِس على ذلك المدح؛ فالأولون مدحوا ملوكًا هابهم زمانهم، أما هؤلاء فالميدان أمامهم ضيق. وأما لغة الشعر فضعفت عما قبل لبعد العهد بالعرب وفصاحتهم، وتسربت الركاكة إلى الصناعة اللفظية كما فعل المنشئون، فامتلأت أشعارهم بأنواع البديع. وإمام هذه الطبقة الصناعية ابن الفارض الذي بلغ حد الإعجاز.

بهاء الدين زهير

  • حياته: وُلد بوادي نخلة على مقربة من مكة، ونُقل إلى مصر حيث نشأ وتأدَّب. اتصل بالملك الصالح ابن الملك الكامل من دولة بني أيوب، ورافقه إلى الشام والجزيرة، ولما غلب هذا الملك ابن عمه الناصر وأسره، أقام البهاء بنابلس، حتى عاد سيده إلى الملك واسترد الديار المصرية، فصار البهاء وزيره، وظل كذلك حتى مات الملك الصالح، فانزوى البهاء إذ ذاك وظل كذلك حتى مات بالوباء سنة سقوط بغداد في أيدي التتار.
  • شعره: كان البهاء دمث الأخلاق، رقيق الطبع، لين الجانب، عذب الكلام، فأثَّر ذلك في شعره، فكان من السهل الممتنع. شعره صورة محيطه وصورة أخلاقه وطبعه. لم يقلد أحدًا فيه، ولم يلتجئ إلى غير شعوره لإخراج صُوَره الشعرية.

    عبَّر بلغة عصره وأساليبها، فخلا من كل تعقيد وغرابة، يفهمه كل قارئ، وإننا لنستطيع أن نقول فيه: إنه حلقة الاتصال بين العامية واللغة الفصحى العالية الأسلوب.

    أجاد في الغزل والرثاء؛ لأنه لغة العاطفة، وألحق بهما العتاب الذي هو ضرب من الغزل. ترجم ديوانه المستشرق بلر الإنكليزي في مجلدين، وعلَّق عليه الحواشي.

    كان يعوِّل على الأوزان الخفيفة شأن شعراء بغداد الماجنين. مدح ولكنه لم يبرز في المدح، ولم يكن شأنه فيه شأنه في الغزل.

    أغلب نظمه في وقائع معلومة بينه وبين أحبابه، وقد كان نزَّاعًا إلى الخروج على المألوف في اللغة كقوله:

    بروحي من أسميها بستِّي
    فينظرني النحاة بعين مقت

    عمد إلى الصناعة اللفظية، ولكنه لم يكثر منها إلَّا في مناسبة، بل لا يعتمدها.

(٧-٢) النثر

  • ميزته: تمكنت السيادة للأعاجم، فأصبح العرب وغيرهم من رجال القلم مضطرين للتملق، فنمَّقوا العبارة وبالغوا في الإطراء والمديح، فتأنَّقوا في إنشائهم، وزينوا عبارتهم بأنواع البديع والسجع، فتخطوا الحدود التي رسمها من تقدَّمهم، حتى تعمَّد هذا السجع كل الكتَّاب من مؤرخين وغيرهم، فأصبحت كتبهم أحجية لا تُدرك إلا بالجهد العظيم.

    ومن أئمَّة إنشاء هذا العصر القاضي الفاضل مقلد بن العميد.

القاضي الفاضل

هو فلسطيني، ورد مصر وكتب أولًا في ديوان الظافر، ثم استوزره صلاح الدين أيوب، فساس ملكه، ووزر من بعده لابنه ثم لأخيه حتى توفي.

  • أسلوبه: مزيج من أسلوب الكتَّاب قبله، كالصاحب، وخصوصًا ابن العميد. إنما امتازت كتابته في الإغراق في التورية والجناس، فأكثر السجع جدًّا، وظل مذهبه شائعًا حتى عهد ابن خلدون.

الحريري

أبو محمد القاسم بن علي بن عثمان الحريري البصري، اشتهر بمقاماته المشتملة على أكثر كلام العرب وأمثالها ولغاتها. كان في أول أمره يبيع الحرير، ثم تحول إلى الأدب فطارت شهرته، وقرَّبه الأمراء وقصده المتأدبون للاستفادة من علمه.

  • أخلاقه: كان دميمًا، قصير القامة، بخيلًا قذرًا، أن تسمع به خير من أن تراه، كما قال هو عن نفسه لذلك الذي قصده ثم استبشع منظره.
  • نثره وشعره: مكثرٌ في النثر، مقلٌّ في الشعر، متبعٌ بديعَ الزمان، ممهدٌ للأسلوب الفاضلي. قلَّل من البديع وبالغ في الصنعة، فقلَّت معانيه وكثرت ألفاظه، وشعره كنثره تنميقًا وصنعة.
  • مقاماته: وضعها على طريقة بديع الزمان، ويقول إن سبب وضعها أنه كان في مسجد بني حرام، فدخل شيخ عليه طمران، فسأله الحاضرون: من أين الشيخ؟ فقال: من سروج. فسألوه عن كنيته، فقال: أبو زيد. وجعل الراوي الحارث بن همام مريدًا نفسه، ثم زادها حتى بلغت الخمسين بناء على طلب الملك الأشرف.

    طُبعت هذه المقامات وتُرجمت مرات عديدة.

  • تآليفه: وللحريري غير المقامات، كتاب درَّة الغواص في أوهام الخواص، بيَّن فيه أغلاط الكتَّاب الكبار. وكتاب ملحة الإعراب في النحو، وهو أُرجوزة. والرسالة السينية؛ أي إن أول كل كلمة فيها سين. ورسالة أخرى في الفرق بين الضاد والظاء.

    وظلت المقامات متبعة حتى آخر العصر التاسع عشر، وقد يكتب فيها بعض كتَّاب اليوم ولا يلتزمون السجع.

(٧-٣) علوم النحو واللغة

وكثر في هذا العصر علماء النحو واللغة، وقام منهم في كل قطر رجال عديدون كالجرجاني.

  • الجرجاني: مؤسس علم البيان، وأشهر تآليفه أسرار البلاغة. وضع هذا العلم على قواعد راسخة، وهو يقول إنه اندفع إلى كتابة هذا التأليف عندما رأى الكتَّاب انصرفوا عن المعاني إلى الألفاظ. وعلى منواله نسج المؤلفون فتوسعوا في هذا العلم، ثم جاء بعده السكَّاكي والميداني وهو من علماء اللغة أيضًا، جمع أوفى كتاب في الأمثال. والزمخشري، وأشهر كتبه المفضل في النحو، وكتاب أساس البلاغة، وهو نسيج وحده يبحث في استعمال الألفاظ ومواضعها من الجمل.

    وله أطواق الذهب، وهو كتاب وعظ وأدب على طريقة المقامات، إنما لا قصة فيه. وله كتاب المستقصي في الأمثال، مرتَّب على الحروف الهجائية.

  • ابن الحاجب: وفي هذا العصر ابن الحاجب. كان والده حاجبًا للأمير عز الدين الصلاحي بمصر. تأدَّب في مصر، وانتقل إلى دمشق وعلم في جامعها، ثم انتقل إلى الإسكندرية ومات فيها.
  • تآليفه: الكافية في النحو. الشافية في النحو أيضًا، وهو مختصر الأمالي النحوية.

(٧-٤) التاريخ الطبيعي

لم يكن هذا العلم مرتبًا ودقيقًا كما هو اليوم، ولكن العرب كتبوا في هذا كتبًا درسوا فيها الحيوان والنبات وما يتبع ذلك من المواد التي تُعرف اليوم بالتاريخ الطبيعي. فقد علمنا أن الجاحظ كتب في الحيوان كتابًا جليلًا درسناه في محله، أما في هذا العصر فقد كَتب في الحيوان، كمالُ الدين الدميري.

  • الدميري: كتب «كتاب حياة الحيوان الكبرى» وهو معجم مرتَّب على أسماء الحيوانات، وصف فيه كل حيوان وأصل اسمه، وما جاء من الحديث والأمثال بشأنه، مع خصائصه الطبية وتفسيره في الأحلام. وفي الكتاب أيضًا — على عادة ذاك الزمان — ترجمة من يأتي على ذكرهم من المشاهير والأعيان والخلفاء والشعراء والأدباء … إلخ.

(٧-٥) الرياضيات

من المؤلفين في هذا العلم، في هذا العصر، الشيرازي. له كتاب نهاية الإدراك في دراية الأفلاك. ابن البناء المراكشي كتاب تلخيص أعمال الحساب.

(٧-٦) الفلسفة

القزويني، له كتاب الرسالة الشمسية في القواعد المنطقية. وله كتب غير هذا الكتاب.

(٧-٧) التاريخ والجغرافية والأسفار

نضجت في هذا العصر مواد التاريخ، وعرف الناس كيف يكتبون فيه، وتعددت الملوك في كل الأقطار، وكل ملك يرغب في تاريخ عهده، فكثر الذين كتبوا فيه، فمنهم من كتبوا التاريخ العام، ومنهم من كتبوا التاريخ الخاص، فتعددت كتب التاريخ في هذا العصر من سِيَر إلى تواريخ دول إلى تراجم مشاهير وتواريخ مدن … إلخ.

وكذلك جرى في كتب الجغرافية والرحلات والأسفار، فبتعدد العواصم والديار كثرت الأسفار، فدوَّن الكتَّاب ما رأوا وشاهدوا.

  • الإدريسي: أبو عبد الله محمد بن إدريس الصقلي. تثقَّف في قرطبة، ألَّف كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، لصاحب صقلية روجر الثاني. بدأ في كتابه بصورة الأرض التي رسمها، وأخذ في وصف أشكال الأرض وطبيعتها واستدارتها وأطوالها. كانت جغرافية الإدريسي هذه عمدة هذا العلم في أوروبا لتقويم البلدان أجيالًا، فرسموا خرائطها وترجموها للغاتهم.

    يظهر أن الإدريسي كان عارفًا في منابع النيل فصوَّرها بحيرات عند خط الاستواء كما يقول عنها علماء هذا الزمان. وفي هذا الكتاب خرائط ورسوم قيِّمة.

  • ابن جبير: هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي. رحل رحلات عديدة إلى مصر والشام والحجاز والعراق وصقلية، فوصف كل هذه الأقطار وما فيها من الغرائب والآثار.
  • ياقوت الحموي: هو رومي الجنس، حموي المولد، بغدادي الدار، أشهر جغرافي عربي وأغزرهم مادة وأجلهم نفعًا. أُسر صغيرًا فابتاعه تاجر بغدادي اسمه عسكر الحموي، وعلَّمه لينتفع به في ضبط تجارته. أشغله مولاه في أسفاره التجارية، فاستفاد بالمطالعة. جاء دمشق وكان متعصبًا لعلي، فثار عليه الناس ففر وتنقل في بلاد كثيرة حتى ألقى عصا الرحيل في خوارزم، وفيما هو هناك خرج جنكيزخان على البلاد الإسلامية ففر ياقوت وظل هاربًا حتى استقر بظاهر وهناك مات.
    • ميزته: مؤلف محقق، حسن الترتيب والتبويب، كما يظهر من كتبه.
    • كتبه: معجم البلدان: معجم جغرافي كبير، حافل بأسماء مدن وقرى البلاد حتى أسماء الجبال … إلخ.

      وفي هذا الكتاب، فوق الجغرافية، أدب كثير؛ فهو يروي شعرًا كثيرًا، وتاريخ كل من أنجبته البلدان التي كتب عنها؛ من شعراء وعلماء وفقهاء وأدباء وخلفاء … إلخ.

    • معجم الأدباء: وهذا كتاب آخر وهو المعجم، تاريخي أدبي، أوسع من كتابه الآنف الذكر. ذكر فيه سِيَر النحويين واللغويين والمؤرخين والكتَّاب، وكل من ألَّف في الأدب.
  • المقريزي: بعلبكي الأصل، عرف بهذا الاسم نسبة لحارة المقارزة. كان جده من كبار المحدثين في بعلبك، تحول والده إلى القاهرة فوُلد له تقي الدين المقريزي. تعلم فنونًا كثيرة ونظم ونثر، وتولى النيابة في الحكم، وكتابة التوقيع والحسبة والخطابة بجامع عمرو، واتصل ببرقوق الملك، إلى أن انصرف إلى العلم واشتغل بالتاريخ، وكتب فيه كتبًا قيِّمة هي مرجع الناس في شئون مصر تاريخيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.
    • خطط المقريزي: فيه جميع أخبار الديار المصرية وأحوال سكانها وآثارها من باقٍ وبائد. وعند الكلام عن أثر بقيض في تاريخه يسرد ما توالى عليه من الحوادث والنكبات.

      وله غير هذا الكتاب كتاب تاريخ مصر «السلوك لمعرفة دول الملوك». وله أيضًا تاريخ الدولة الفاطمية. وهناك كتب عديدة لا نستطيع عدَّها في هذا الموجز.

  • المقري: وُلد في تلمسان وسمِّي المقري نسبة إلى قرية نُسب إليها آباؤه.

    تعلم في فاس ومراكش، ثم نزل القاهرة وزار القدس وحج خمس مرات، وأقام في المدينة وأملى الحديث، وعاد إلى القاهرة ومات فيها فجأة.

  • تآليفه: نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، يحتوي تاريخ الأندلس وفتح المسلمين لها ومَن حَكَمها من أمراء وخلفاء. وترجم لمئات من أدبائها وشعرائها، وذكر من أشعارهم، خصوصًا لسان الدين بن الخطيب الذي أسهب جدًّا في وصفه ورواية أدبه. وخلاصة الكلام، أن كتابه هذا يصور الأندلس من كل مناحيها.

(٧-٨) النقد الأدبي

أول من تصدى للنقد كان الجاحظ، وهو أبو الأدب العربي، وجاء بعده ابن قتيبة في كتابه أدب الكاتب، ثم عالج هذا الموضوع كثيرون؛ كالخوارزمي والثعالبي وأبي هلال العسكري، بيد أن انتقادهم لم يكن المقصود من كتبهم. أما انتقاد الألفاظ وغلط العوام فتصدى له كثيرون، وهذا دفع إليه امتزاج العرب بالعجم، ولكن نقد الإنشاء من حيث هو فن مستقل بنفسه، فكتب فيه الجرجاني الذي تقدم ذكره، واضع علم البلاغة.

واستحسن المنشئون هذا العلم فتوسعوا فيه وزادوا عليه، فكان من أئمة هذا العلم ابن الأثير صاحب المثل السائر، فاستوفى هذا العلم وأشبعه بحثًا وقتله درسًا.

ابن الأثير

هو ضياء الدين أبو الفتح نصر الله الجزري، المعروف بابن الأثير. وُلد في جزيرة ابن عمر. انتقل مع والده إلى الموصل، وهناك حصَّل العلوم وحفظ من شعر العرب شيئًا كثيرًا أعانه على الإبداع في النظم والنثر، اتصل بصلاح الدين ثم بابنه الملك الأفضل نور الدين، ولما توفي صلاح الدين واستقل ابنه بمملكة دمشق، استقل ابن الأثير بالوزارة وردت أمور الناس إليه، فأساء معاملتهم فكرهوه. ولما تقلَّص ظل وليِّه، همَّ الناس بقتله، فأخرجه الحاجب محاسن بن عجم في صندوق مقفل عليه، فلحق بمولاه وصحبه إلى مصر. وفي مصر أساء معاملة الناس أيضًا، ولو لم يهرب لكانوا قتلوه. وظل يسيء معاملة الناس ويتنقل من مكان إلى آخر حتى أدركته الوفاة.
  • أخلاقه: متكبر، مدَّعٍ، شرس الأخلاق، مطبوع على حب الاستبداد.
  • كتابه: «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر». مؤلَّف نفيس، وافر المادة، مُحكَم الوضع، جمع أصول علم الإنشاء وفروعه، لم يترك مسألة إلا شرحها، ولا فائدة إلا سجَّلها، ولا بحثًا إلا جال فيه، مبينًا محاسنه، كاشفًا عن معايبه، فجاء كتابه هذا جامعًا لكل فنون الكتابة مبوَّبًا مرتَّبًا بكل دقة، يشهد لصاحبه برسوخ القدم في هذا الفن، وغزارة علمه في هذا الفرع، إلا أنه — سامحه الله — بدأ بالادعاء المشين من مقدمته إلى خاتمته، فلا تمر صفحة إلا نرى فيها إلفات نظر إلى ما استنبط ابن الأثير، أو إلى ما نظم، أو إلى ما أدرك، وهلمَّ جرًّا، حتى يخيل إلى القارئ أنه وضع هذا الكتاب ليبين لنا اقتداره وتقصير كل من تقدموه.
  • موضوع الكتاب: صناعة الإنشاء لفظية ومعنوية، وفي آخره فصل في النقد دل فيه على سرقات الشعراء، وقسَّم السرقة إلى ثلاثة أقسام: نسخ وسلخ ومسخ، وقسَّم كل نوع إلى أبواب.

    لقد أجاد في كل ما كتب في هذا السفر الذي لا عيب فيه إلا ادعاء صاحبه.

(٨) عصر الانحطاط

(٨-١) المغول

  • سقوط بغداد: زحف جنكيزخان بجيشه فاكتسح خراسان ففارس، وأعمل سيفه في كل بلد نزل فيه، فما كان يترك مملكة إلا قفرًا يبابًا. وبعد ثلاثين عامًا ونيف، زحف ابنه هولاكو فعبر نهر جيحون، قاصدًا بغداد، فاستولى على قلعة «ألموت» وذبح من فيها من الجنود.

    وفي سنة ٦٥٥، نشب خلاف بين الشيعة والسنة كان أشبه بحرب داخلية قُتل فيها عدد من الشيعة، فغضب لذلك الوزير ابن العلقمي فشجَّع التتار على غزو العراق والاستيلاء على بغداد، فملكوها وقتلوا الخليفة المستعصم بالله، وأعملوا السيف في بغداد ٣٤ يومًا، فما نجا إلا من قدِّرت له النجاة.

    فدالت دولة العرب ولم يبقَ لهم من صورة الملك إلا دويلات لا شأن لها ولا قيمة.

  • رجال العلم: وقف رجال العلم تجاه هذا الحدث الخطير وقفة حائر، نظروا إلى بغداد ملجأ العلماء فإذا نار الإرهاب والفتك مضطرمة بها، رأوا كل شيء عربي معرضًا للفناء، فعلمهم وأدبهم يُقذف به إلى نهر دجلة، ففكروا إلى أين يهربون ويلجئون؟ فلم يروا أمامهم إلا مصر والشام.

(٨-٢) مصر المماليك

كان المماليك رجال حرب وفتك لا يميلون إلى الترف واللهو، بعضهم متمسك بالدين، إنما الدين الذي تُصوِّره له فطرته وتلوِّنه بيئته ونشأته، فكانوا يمزجون الدين بالسياسة إذا اضطروا إليه لجذب قلوب الناس، ولهذا أنشئوا الجوامع والمدارس والملاجئ والمصحات، وحبس المال على عمل البر، وتقريب العلماء وتشجيعهم على نشر العلم بالمدراس والتأليف. وقد يكون الدين عندهم لإذكاء نار الحرب كما وقع لهم إذ رأوا أنفسهم حماة الإسلام، وملجأ الأمم العربية المهزومة؛ فالملك الظاهر بيبرس حمى خلافة بني العباس وتقبل ولاية الحكم من المستنصر بالله العباسي الذي فر من وجه التتار إلى مصر.
  • هجرة العلماء: أخذت القاهرة مكان بغداد فأصبحت دار العلم لما فيها من مدارس ومجالس، فشرعوا يؤلفون ويكتبون وينثرون وينظمون، ثم فر علماء الأندلس أيضًا إلى مصر؛ لأن ما حل بالعباسيين حل ما يشبهه بالأندلسيين.

    ولكن هجرة العلماء إلى مصر والشام لم تترك أثرًا بيِّنًا في الحياة في هذين القطرين، بل لم تتعدَّ غيرهما من بلاد المشرق، ولم تُحدِث أي حدث اجتماعي؛ لأنها كانت علمية أدبية دينية ليس غير؛ فمقدمة ابن خلدون، نزيل مصر أيام السلطان، لم تُحدِث أقلَّ تأثير مع أنها تتضمن كثيرًا من الآراء الاجتماعية الناضجة، وتحتوي على آراء سديدة في سياسة الممالك وإنهاض الشعوب. وما السبب إلا جمود الناس وتمسكهم بالقديم، وخمول الشعب وجهله.

  • ضعف النثر: ضعف النثر لشغف الكتَّاب بتزيين اللفظ وتجميله بالسجع، وتحليته بالبديع، وانصرافهم عن المعاني والأفكار، فإذا قرأت لكاتب مقالة في هذا العصر رأيت أنها لا تشتمل على معنى باهر أو فكرة بعيدة؛ لأن الكتاب كانوا يفكرون في الألفاظ قبل المعاني، وفي هذا مقاومة للعقل؛ فلهذا جاء الإنشاء متكلفًا خائرًا.

    وهذا الضعف بدت بوادره قبل سقوط الدولة العباسية بزمن غير يسير، غير أن الكتَّاب في هذا الزمان نسجوا على منوال القاضي الفاضل، فالتزموا السجع والتورية وغالوا في ذلك جدًّا، حتى أتوا بما ينافي الذوق.

  • ضعف الشعر: وبدت على الشعر آثار الضعف والتقهقر؛ لأنه لم يرسل مع الطبع والسليقة، كما كان شأنه في العصر العباسي الأول. ضعفت الملكة الشعرية والخيال والابتكار والتوليد، وأحس الشعراء ذلك فلجئوا إلى العناية بالألفاظ، فجعلوها براقة خلابة، ولكنها لا تخلو من براعة، وكادت تكون جميلة لولا خلوها من الأفكار التي يهتز لها الفكر الإنساني أكثر من الكلام. لقد كانوا كاللاعب على الحبل يدهشك بلباقته، ويؤسفك أن يضيع وقته بأمور تافهة كهذه.

    وقد ظل الشعر أرقى بكثير من النثر؛ لأن تقيُّده بالوزن والقافية لم يفسح للمحسنات اللفظية لِتلِجَهُ بسهولة وكثرة، كما كان شأنها في النثر.

    ولا تنسَ جهل أكثر هؤلاء السلاطين بفنون الأدب وذوق العربية، فلو كانوا يتذوقون الأدب والشعر لانصبَّ الشعراء على عملهم الفني وأتقنوا نظمهم وجودوه؛ فلهذا لم يكن للملوك في هذا العصر شعراء مجيدون إلا في «حماه» حيث بقيت هذه العادة ردحًا من الزمن، ولهذا لم يكن الشعر هناك صناعة لفظية.

    ومما يدل على انحطاط الشعر تصدي معظم الفقهاء والعلماء والكتَّاب لنظمه من غير هيبة ولا خشية. وإليك مثالًا من ذلك الشعر، قاله أحدهم في السلطان برقوق:

    سلطان مصر دام فضل علائه
    قد عمَّنا بالفضل والإحسان
    لم أنسَ يوم السبت حسن مهمِّه
    قد كان يومًا جاء بالسلطان
  • الحلِّي: هو صفي الدين أبو البركات عبد العزيز بن سرايا الحلِّي. وُلد ونشأ في الحلَّة، أيام كانت العراق تعج بالبلايا وتنهلُّ عليها الدواهي. هجر الشاعر مسقط رأسه وأمَّ الملوك الأكراد آل أرتق أصحاب ماردين، فأحسنوا وفادته وأجزلوا صلته، وصانوا مهجته من الاعتداء. فرتع في ظلِّهم، فقال فيهم شعره الجيد ويُعرف بالأرتقيات، منها ٢٩ قصيدة كل منها ٢٩ بيتًا على حرف من حروف المعجم، يبدأ به البيت ويختم به من الهمزة إلى الياء. ووسم هذا المجموع بدرر النحور في مدح الملك المنصور، وورد الحلِّي مصر ومدح ملكها الناصر بقصيدة غراء ليس فيها هذه الصنعة، ثم عاد إلى ماردين، وحنَّ إلى وطنه، فعاد إليه وهناك مات.
  • شعره: أغراضه: لم يدع الحلِّي بابًا من أغراض الشعر إلا ولجه، وقد بنى ديوانه على أحد عشر بابًا ولجها كلها وغالى في المجون والإحماض.
  • أوزانه وضروبه: نظم القصائد مطوَّلات، ومقطَّعات، ومخمَّسات، ومشطَّرات، ومواليا، وزجل، وقوما، وكان كان … إلخ.
  • قيمته: إن هذا الشاعر يعد إمامًا للصناعة اللفظية في الشعر، فنسج على منواله كثيرون ممن جاءوا بعده، فصرفوا عنايتهم إلى الجناس والتطبيق والتنسيق، فأصبح الشعر صورة جامدة لا تجري فيه ماوية الحياة والعاطفة، ثم تدرَّج شيئًا فشيئًا حتى صار لا تشتهي أن تسمعه، وإذا رأيت صاحبه فلا تستحي تصفعه …

    بيد أن له صورة أخرى لا تقل رواء عن الشعراء المجيدين، وذلك حيث لم يتعمَّد التكلف، كما في قصيدته البائية التي مدح فيها ملك مصر السلطان الناصر.

    وكقصيدته الرائية التي حرَّض فيها الملك الصالح على الاحتراز من المغول ومنافرتهم عند إقبالهم، ومطلعها: لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا … إلخ.

    وكقصيدته الفخرية في الحماسة: سلي الرماح العوالي عن معالينا.

  • الخلاصة: إن الحلِّي هذا زعيم شعراء عصر الانحطاط، وشعره متفاوت في الجودة، فآونة يسف دون الشعراء، وحينًا يسمو إلى ما فوق أفقهم. وعلى كلٍّ فلا تزال في شعره رائحة الشعر البليغ من فصاحة لفظ ورشاقة أسلوب.

    وشعره في جملته سهل الألفاظ حسن المعاني، إلا ما تكلفه منه للمعاياه وإظهار الحذق والمقدرة اللغوية والفنية، فإنه جاء رديء النسج، ثقيلًا على السمع، ومن هذا في ديوانه شيء كثير. وهو أول من نظم في المدائح النبوية.

  • ابن الوردي: حياته: هو زين الدين عمر، وُلد في معرة النعمان ومات بحلب، برع في الأدب والنحو واللغة والتاريخ والفقه، له مؤلفات تاريخية: تتمة المختصر في أخبار البشر. وله في النحو: اللباب في الإعراب، وشرح ألفية ابن مالك. وترك في الأدب ديوان شعر، ومقامات كالحريري، وقصيدته الحكمية المعروفة بلامية ابن الوردي. وقد طبع أحمد فارس الشدياق هذا الكتاب في مطبعته بالأستانة.
  • شعره: بسيط الأسلوب، وسط في جودته، كان يحسِّنه بالأنواع البديعية متبعًا عصره في ذلك. هذا الشاعر الذي ينهى عن قول الغزل ويأمر بمجانباته، نرى في ديوانه مقاطع غزلية لها قيمة وقدر.
  • ابن نباتة: ومن شعراء هذا الزمان ابن نباتة. في شعره رقة وسهولة وإيراد ونكتة مستملحة. ولا غرو فهو مصري المولد والمنشأ.
  • الشاب الظريف: وهو شاعر مصري أيضًا، رقيق الكلام منسجم العبارة.

    ومن الشعراء أيضًا: التلعفري، والبوصيري، وهذا شاعر اشتهر بقصيدته: «البردة» في مدح النبي، يعرفها عدد لا يحصى من البشر، وطبعت طبعات مختلفة.

    وله أيضًا قصيدة نبوية همزية، لا تقل عن البردة الميمية رونقًا وجلالًا، أما شعره في غير هذا الغرض فليس بالشعر العالي.

(٨-٣) التأليف والمؤلفون

في هذا العصر كثر التأليف في كل الفنون والعلوم، ولعل من أقوى الأسباب كثرة المدارس، وميل ملوك القاهرة إلى اقتناء الكتب النادرة، وإنشاء الخزانات لأنواع عديدة من المؤلفات.

ولكن التأليف في هذا خلو من الابتكار، وما هو إلا جمع من آثار المتقدمين، هذا إذا استثنينا تاريخ ابن خلكان وخطط المقريزي.
  • علوم اللغة والتاريخ: من أئمة علم النحو في هذا العصر ابن مالك الطائي، دمشقي المولد، اشتهر في تسهيل الفوائد في النحو. والألفية، وهي النحو، يعرفها الكثيرون بابن عقيل لأنه شرحها. واشتهر أيضًا بكتاب الكافية، ولامية الأفعال، وهاتان أيضًا منظومتان في النحو كالألفية.
  • ابن منظور: صاحب لسان العرب، وهو أكبر معجم عربي يقع في ٢٠ مجلدًا، مرتَّب على أواخر الكلم، ويعد دائرة معارف في اللغة والأدب والتفسير.
  • ابن هشام: صاحب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وهو كتاب درس فيه النحو درسًا عميقًا دقيقًا، وخصوصًا معاني الحروف.
  • ابن خلكان: كان قاضيًا مدرِّسًا. أشهر تآليفه كتاب وفيات الأعيان، وهو معجم تاريخي يدل على ابتكار وتدقيق، ومرجع في التاريخ واللغة والأدب.
  • ابن خلدون: تونسي المولد، تنقَّل بين المغرب والأندلس كاتبًا ومشيرًا لأمرائهما، ثم رحل إلى مصر واتصل بالسلطان برقوق، فولاة قضاء المالكية، ومات في مصر.
    • مقدمته: أشهر كتاب يحق للعرب الافتخار به؛ لأنه بحثٌ جامع في علوم الاجتماع والسياسة وفلسفة التاريخ. بحثَ كل ذلك في أسلوب سهل شائق لم يشب بصناعة، واستنباط منطقي صحيح.
  • القلقشندي: نبغ في الإنشاء. وله كتاب: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، اشتهر به، وهو يضم إلى صناعة الإنشاء تقويم البلدان.
  • الصفدي: هو صلاح الدين أبو الصفاء بن أيبك الصفدي، ولد في صفد، وتلقى العلم عن ابن نباتة في دمشق. تولى ديوان الإنشاء في صفد وحلب والقاهرة.
    • قيمته: من أعاظم كتَّاب العصر المغولي وأوسعهم علمًا وأكثرهم عملًا. ألَّف في مواضيع شتى. حسن الأسلوب، وأغلب كتاباته في التراجم التاريخية.
    • تآليفه: الوافي في الوفيات، وهو معجم في التراجم. وله نصرة الثائر على المثل السائر، وهو نقد لكتاب ابن الأثير، انتقد عليه إعجابه بنفسه، واستدرك عليه أشياء فاتته. وله كتب عديدة غير هذه الكتب لا مجال لعدها هنا، وأكثرها محفوظ في مكاتب الغرب.
  • أبو الفداء: هو الملك المؤيد عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الملك الأفضل نور الدين علي الأيوبي. ولد بدمشق التي لجأ أبوه إليها عند اكتساح المغول حماة قاعدة ملكه. تأدَّب أبو الفداء على علماء عصره فبرع في العلوم اللسانية والدينية والفقه والتاريخ والطب والأدب والشعر وعلم الهيئة. كان فارسًا شجاعًا، حضر مع أبيه حصار قلعة مرقب وحصار طرابلس وعكاء.
    تقرَّب من الناصر بن قلاون فسرَّ به وولاه نيابة حماة، ثم جعله ملكًا عليها، فكان الملك المحبوب المحمود الأثر.
    • آثاره: لأبي الفداء نظم ونثر وتصانيف، منها: «المختصر في أخبار البشر»، اختصره عمن تقدمه؛ كالطبري وابن الأثير المؤرخ لأصحاب المثل السائر، وتممه إلى سنة ٧٣٠ﻫ. وقد نقله الإفرنج إلى لغاتهم. وله في الجغرافية كتاب تقويم البلدان، جمع فيه كل مفيد. ويمتاز بضبط الأسماء وتحقيق العروض والأطوال، مع ذكر ما تجب معرفته من الأراضي والبحار والأقاليم العرفية والحقيقية على مذهب القدماء، فكان لكتابه هذا شأن عند الفرنج للوقوف على الجغرافية العربية.
  • ابن العبري: هو أبو الفرج غريغوريوس بن أهرون الملطي. درس الطب على أبيه، ثم على غيره من المشاهير، وتضلَّع أيضًا من سائر العلوم والفنون. كان يحسن العربية والسريانية واليونانية.
    ولما انقضَّ المغول على ديارهم هرب مع والده إلى أنطاكية، وانقطع ابن العبري عن العالم معتبرًا بمصائب الأمم ونكبات الدول، فلجأ إلى كهف يتعبد فيه، فاهتدى رئيسه البطريرك إليه، وعرف تقواه وسامه أسقفًا في العشرين من سنيه، وأوفده إلى طرابلس، ثم ولاه رئاسة أساقفة حلب. واعتبره هولاكو ملك المغول لفضيلته وعلمه، فأطلق هذا يده، فاستخدم هذه الحرية التي كان يتمتع بها في خدمة القريب والعلم.
    • آثاره: له مؤلفات كثيرة في السريانية، تشهد له بالعمق وبُعد الغور في الفنون.
    • مختصر الدول: وضعه تلبية لأحد أفاضل العرب، وهو تعريب تاريخه السرياني ملخصًا، ولكنه أضاف إليه ما يتعلق بدولتي المسلمين والمغول، وقسمًا لأخبار الأطباء والرياضيين.
  • القزويني: مؤرخ شهير اسمه زكريا بن محمد، يتصل نسبه بمالك بن أنس، كان إمامًا فاضلًا وعالمًا فقيهًا، أتقن فنون الأدب وتفقه في الدين، عيَّنه المعتصم قاضيًا على واسط والحلة، وفي دمشق تعرَّف على ابن العربي الصوفي الشهير.

    أشهر كتبه هو كتاب عجائب المخلوقات في وصف الكون، وله في هذا الكتاب آراء جليلة وأخبار طريفة. وله كتاب آخر عنوانه «آثار البلاد»، وهو مثل كتابه الأول.

  • ابن بطوطة: هو الرحالة الشهير شمس الدين أبو عبد الله الطنجي. ولد بطنجة ونشأ وتأدَّب فيها، ولما بلغ الثانية والعشرين من عمره قصد مكة ثم جاب العراق ومصر والشام واليمن والهند، ودخل مدينة دلهي عاصمة البلاد، وولاه ملكها خطة القضاء المالكية، ثم ساح في الأقطار الصينية وأُسر وتملَّص من أسره، فدخل بلاد التتار، وتوغل في القارة الأفريقية إلى تمبكتو، وطاف في بلاد الأندلس، ثم عاد إلى بلاد الأندلس.
    • تحفة النظار: في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، وتُعرف برحلة ابن بطوطة، كتاب ضمَّنه المؤلف أخبار كل ما رآه وشاهده. طبعت في باريس ومصر.

      اهتم الإفرنج لهذه الرحلة كثيرًا، عندما اهتموا بالشرق والسفر إليه، عولوا عليها وانتقدوها وعلقوا عليها ونقلوا بعضها إلى اللاتينية ونشروه، وترجمت للغات عديدة.

  • السيوطي: هو جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن الكمال السيوطي، إمام أئمة المسلمين، وزعيم العلماء الأعلام. ولد بأسيوط، ونشأ يتيمًا بمصر، وحفظ القرآن وهو ابن ثماني سنين.

    أتقن في قليل من الزمن فنون عصره، وتبحر في التفسير والحديث والفقه والنحو والبيان والبديع على طريقة العرب.

    ساح السيوطي في بلاد الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب والتكرور حيث كان في كل مكان يتذاكر مع العلماء ويباحثهم. وتولى تدريس الفقه في المدرستين الشيخونية والبيبريسية، فطار صيته وانتهت إليه رئاسة العلوم الدينية في عصره.
    • أخلاقه: كان حادًّا نزقًا، ثقيل الوطأة على الكتَّاب الذين يعتقد أنهم اقتبسوا من مؤلفاته، فيشهِّرهم. أما هو فكان يعبث بتآليف المتقدمين فينتحل وينسخ. كان سريع الخاطر غزير المادة سيال القلم. له ٣٠٠ مؤلف بين بسيط ووسيط ووجيز.
    • قيمته: أفاد كثيرًا بإبرازه طائفة من المؤلفات كانت امَّحت آثارها لولاه.

      ولو لم يكن له إلا كتاب الإتقان في علوم القرآن، والمزهر في أصول اللغة، والأشباه والنظائر في دقائق النحو وأصوله، والهمع على الجمع، في فروع النحو والصرف وأصولهما، لكفى.

(٨-٤) الأدب

  • الأبشيهي: هو محمد بن أحمد الخطيب الأبشيهي، صاحب كتاب المستطرف في كل فن مستظرف، وهو من الموسوعات الأدبية، يشتمل على ٤٨ بابًا في مباني الإسلام، والعقل والذكاء، والحمق، والقرآن وفضله، والعلم والأدب … إلخ.

    وبحثٌ في الملك والسلطان وطاعة ولي الأمر … إلخ، وفي العمل والكسب وأخبار العرب … إلخ، وفي الدواب والحشرات، مرتبة على أحرف الهجاء، وفي البحار وعجائبها والأنهار … إلخ، وهو يتضمن أيضًا فوائد تاريخية واجتماعية وأدبية وسياسية … إلخ.

    ترجمه الإفرنج إلى الفرنساوية، وطُبع في باريس وتُرجم إلى التركية.

    ومن علماء اللغة الذين لم نذكرهم: الفيروزابادي، اشتهر بقاموسه «المحيط»، مرتب على أواخر الكلم.

  • المدارس: ذكرنا أن المغول تغلغلوا في العراق واستولوا على ما جاورها، ففر العرب العلماء من تلك الديار إلى الشام والقاهرة حيث كانت دولة عربية اللسان.

    فدولة المماليك كانت تسير على خطى الأمراء والملوك العرب بتقريب العلماء والشعراء، ورغبوا في اقتناء الكتب فنشأت في عهدهم.

    وأول من اهتم بالتدريس على نفقته من السلاطين هو المعز الفاطمي، عمل ذلك في الأزهر، ثم عمل مجلسًا في جامع عمرو بن العاص، ثم بنى الحاكم بأمر الله دار العلم في القاهرة، ولما انقضت الدولة الفاطمية بنى صلاح الدين لكل طائفة مدرسة.

    وفي هذا العصر كثرت المدارس وكثر المدرسون والطلاب، فتنافس الملوك والأمراء وسراة المصريين والسوريين في إنشاء المدارس، يتقربون بذلك إلى الله لنشر علوم الدين أولًا، ثم غير ذلك من العلوم.

    وتكاثر الطلاب من أقطار مختلفة، فكانوا ينامون في تلك المدارس وينفقون من مال المحسنين، وكان في هذه المدارس خزانات علم كبيرة تضم عشرات الألوف من المجلدات.

    وأشهر هذه كانت في القطر المصري، وهي: المدرسة الفاضلية، والمدرسة الصاحبية البهائية، أنشأها الوزير الصاحب بهاء الدين سنة ٦٥٤.

    والمدرسة الظاهرية بناها بيبرس «الظاهر» سنة ٦٦٢، كان بها خزانة كتب تشتمل على أمهات العلوم.

(٩) العصر العثماني

نشأت الدولة العثمانية في آسيا الصغرى، أثناء العصر المغولي، ولما رسخت قدم الترك في تلك المنطقة، قطعوا البحر إلى أوروبا ففتحوا القسطنطينية سنة ٨٥٧ﻫ، ونشروا لواء الإسلام في شرقي أوروبا، ثم تحولوا إلى المشرق فافتتحوا مصر والشام، على عهد السلطان سليم الثاني، فأصبحتا ولايتين عثمانيتين سنة ٩٢٣ﻫ.

أصبح الشرق الإسلامي في يد ثلاث أمم: الفرس في إيران وخراسان، والمغول من أفغانستان إلى أقصى الهند، والأتراك في مصر والشام والعراق وتونس والجزائر.

العثمانيون أتراك خلفوا المماليك وهم أتراك أيضًا، ولكن العالم العربي لم يشعر في عهد المماليك بما شعر به في العهد العثماني للأسباب الآتية:
  • (١)

    المماليك كانت عاصمتهم مصر وهي قلب العالم العربي.

  • (٢)

    كانت العربية لغة دولة المماليك وكانوا يحبون العلماء … إلخ.

  • (٣)

    بُعد عاصمة العثمانيين عن البلاد جعلهم يخافون على ولاياتهم العربية، ففرقوا الناس واستبدوا واختلسوا أموال الرعية وأرهقوا النفوس.

  • انحطاط اللغة: لم تنحط اللغة إلا في آخر العصر المغولي؛ لأن ما ظهر في أوائله كان من نتاج الأعصر السابقة، أما في هذا العصر ففسدت ملكة اللسان وجمدت القرائح، ولم نعد نرى من التآليف غير الشروح والحواشي، وكثر التأليف بلا نظام كالكشكول، وانحط الأسلوب الإنشائي حتى كاد يكون عاميًّا.

    وانحطت الأخلاق باستعمال المخدرات والانعكاف على المسكرات، وكثر السفه في المجون، وتأليف الكتب المملوءة بالفحشاء والخلاعة.

  • السلطان سليم: كان هذا السلطان مدمرًا هدَّامًا، أغار على خزائن دور العلم فنهبها، واختلس كثيرًا من آثار البلاد؛ وخصوصًا مصر، حتى إنه انتهب مال الأوقاف، فكسدت سوق العلم وأصبحت التركية اللغة الرسمية، وظلت اللغة العربية لغة الدين، وصارت لغة التخاطب، في مصر خصوصًا، مزيجًا من العربية والتركية. أما في هذه الديار الشامية فبقيت أسلم؛ لبُعدها عن الأتراك ولاختلاط أهلها بالقبائل العربية المنتشرة فيها.
  • النثر الفني: بلغ النثر الفني في هذا العصر أقصى الركاكة، وفسدت اللغة أسلوبًا وإعرابًا. عجز كتَّاب هذا العصر عن مجاراة من تقدموهم حتى في الصناعة اللفظية التي قبحناها.
  • الشعر: أما الشعر فلم ينجُ من هذه البلية ففسدت نواحيه ولم ينجُ منها إلا القليل. ومن أشهر شعراء هذا العصر البعيد عن التكلف وفي شعره انسجام ولطف وخلو من التعمد هو: ابن النحاس الحلبي، مات بالمدينة.

    وعبد الله بن شرف الدين الشبراوي من أساتذة الأزهر، رقيق الشعر سهله، مات سنة ١١٧٢.

    ومن هؤلاء المجيدين ابن معتوق الموسوي.

    وظهر شعراء غير هؤلاء تغلبت الركاكة على شعرهم، ولولا أن العربية لغة الدين، لسادت الركاكة وكانت البلبلة أعم ولم نرَ كلمة تمت إلى اللغة الفصحى بنسب.

  • علماء اللغة: في هذا العصر هما: الخفاجي والصبَّان. ومن المؤرخين:
    • (١) محمد بن طولون: تعلم في القاهرة وعلم في المدرسة الصالحية بالشام وألَّف كتبًا نفيسة.
    • (٢) عبد الغني النابلسي: زعيم المتصوفين وإمامهم في هذا العصر، ولد في دمشق سنة ١٦٤٠، له تآليف عديدة، منها شرح ديوان ابن الفارض قطب صوفية زمانه. توفي سنة ١٧٣١، ويقال إن أول كتاب طبع في دمشق هو كتابه «الأوراد».
    • (٣) محمد بن عبد الوهاب: توفي سنة ١٧٨٧، وهو رأس الوهابيين وإمامهم، نجدي، حنبلي المذهب، ترمي تعاليمه إلى التوحيد فقط، وتَرْك كل شيء ما عداه. عنَّف مسلمي زمانه واتهمهم بالكفر فهموا بقتله، فانتصر له الأمير ابن سعود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤