عصر النهضة

(١) النهضة اللبنانية

  • الجذور: إن شجرة الأدب أبعد الأشجار جذورًا؛ لأنها مغروسة على مجاري ذات الإنسان العظمى منذ الأزل، وسيظل ظلها يتنقل من حال إلى حال، من آلهو إلى الماهو، حتى يقع الجنس البشري تحت ضربة نورية من ضربات بعض المجانين من بني البشر. عن ذاك ينتقل الأدب إلى نوع آخر يبدعه كر ملايين السنين، وتكوِّنه النواميس الأزلية على هواها الهدام البَنَّاء، وهو لا يفنى.

    الأدب زرعٌ عقليٌّ جرثومته في دماغ كل منا ينبت ويستوي على ساقه، ويتغذى من تلافيف أدمغتنا إلى أن يصير صالحًا غذاءً لغيره. والحركات الفكرية تتبع ناموسًا لا محيص لها عنه، فبينا ترى العلم يزدهر في منطقة ما، إذا به يذبل وينتقل وينمو في منطقة أخرى لم تكن تخطر على بال.

  • الرها: فالرها التي كانت عاصمة دنيا العلم تشع منارتها وتضيء المسكونة إذا بالإنسان هذا الخالق العجيب الغريب يتهافت عليها من كل فج عميق. فثقافتنا الرهاوية الأصل لسانًا وعلمًا وفلسفة تغيرت وتبدلت وتحولت في أعراقنا كما تتحول المواد الغذائية وتجري في الأجساد لتعمل واجبها في خدمة الحياة التي لا تحول ولا تزول، وإن تبدلت الأشكال تظل هي إياها في الجوهر.

    عندما كان يأتينا السرياني قبل الحرب العظمى مشردًا طالبًا القوت كنا لا نأبه له، بل نزدريه، لا نعلم أنه حفيد مدينة الرها عاصمة العلم ومنبت المفكرين؛ حيث كان يعلم أشهر فيلسوف شاعر: مار أفرام السرياني.

    فالرها هي ذات الحظ الأوفر من ثقافتنا العربية، نصارى ومسلمين، وقد ظلت قرونًا على كرسي مجدها الثقافي تصنع المدنية وتزرع المعرفة بإخراج شباب الدنيا إلى عالم الضياء، وقد مرت بك في أول هذا الكتاب الفتوى التي تقول: يحل لنا أن نعلِّم أبناء المسلمين العلوم العالية.

    فتيوفيل بن توما الرهاوي الماروني هو تلميذ الرها، جامعة ذلك الزمان العظمى، وقد أهَّله علمه إلى رئاسة ديوان المنجمين في عهد المهدي.

    والرها التي انتسب إليها تيوفيل هذا كانت مدينة العلم في تلك القرون المظلمة. فتحها العرب سنة ٦٣٩ ودخلها البيزنطيون سنة ٩٤٢، ثم الصليبيون ١٠٩٨، ثم ملك الموصل عماد الدين، فالأتراك عام ١٦٣٧.

    وتلك الأيام نداولها بين الناس، وعلى هذا الناموس يسيِّر البشرية مَن يدبِّر الأمور ويفصِّل الآيات. أنا لا أجزع إذا رأيت شر النكبات يستفحل؛ لأني أعلم أن ذاك الشر يحمل في منقاره بزورًا خيِّرة، يأخذ هو القشرة واللب وتبقى النواة لتصير فيما بعد شجرة تعشش النسور والعقبان في أغصانها.

    فالذي نقل فتياننا من مغارة قنوبين وكهف دير قزحيا إلى الفاتيكان وقصور عواصم أوروبا، ودور مكاتبها التي بنتها يد الفن لا يد الجن الذين بنوا تدمر بالصفاح والعمد، هو الذي قضى بهذه النقلة، وليس لقضائه مرد.

  • الصليبيون: نكب الصليبيون وغيرهم مدرسة الرها مدينة الثقافة في ذلك الزمان، وتوالى عليها غزاة فاتحون آخرون فطارت نسور الثقافة من أوكارها إلى لبنان مزودة بما تستطيع حمله من زاد العلم، وفي العش اللبناني الممنَّع استقرت طيور العلم على مفرق الشرق والغرب، وبقيت الحملات الصليبية تتوالى على الشرق منذ سنة ١٠٩٦ حتى كانت الحملة الثامنة سنة ١٢٧٠، وفي سنة ١٢٩١ تقلص ظل آخر صليبي غريب عن البلاد.

    نعم جاءوا باسم الدين وذهبوا أخيرًا مكسورين بعد نضال قرنين إلا خمس سنوات، ولكن تلك الحملات العصبية تركت في لبنان آثارًا حضارية أفاد منها جميع سكان المشرق، وخصوصًا لبنان الذي امتزج بهم باسم الدين ولأجله. وقد وصف شوقي هذا الموقف بقصيدة دالية سنقرئك بعضها حيث نتحدث عن هذا الشاعر العظيم.

    وقبل أن نفارق هذا الموقف يجب أن نعطيك مؤقتًا هذه الحبَّة المسكِّنة استعدادًا لتناول الجرعات الكبرى. قال شوقي بعدما وصف عرَضًا الحملات الصليبية:

    لولا ضلال سابق لم يقم
    من أجلك الخلق ولم يقعد

    لقد أحدثت تلك الحروب الدينية خرابًا وهيَّجت بعض الناس على بعض، ولكن الحروب كدلاء الناعورة يفرغ واحد ليمتلئ الآخر. خربت الرها فملأت ديورة لبنان ثم خزائن أوروبا كتبًا.

    كان لبنانيو شمالي هذا الجيل يعرفون السريانية لسانًا وكتابة وترتيلًا، فاطلعوا على ثقافة جديدة. واللبناني منذ كان، لا بد له من لغتين، فشكرًا للمغول، فلولا بغيهم لم نتعلم اللغة العربية. فما أطل القرن الخامس عشر حتى عرفنا العربية ثم حملنا بزورها فيما بعد إلى جميع أقطار المسكونة، وإليك قصة الثقافة عندنا من أولها.

    جاء الصليبيون وفي نيتهم أن ينجدوا المسيح، فإذا بهم يعرفون إخوته، وهم جميع الناس على بعضهم، ثم يخدمون الثقافة والعلم حتى زالت إشارة الصليب اليوم إلا من الأماكن الخاصة بالعبادة. فاللبناني، وإن كان متدينًا، يهمه العلم والثقافة؛ ولذلك دفع إخوانه في الوطن إلى اقتباس المعرفة.

    إن نهضتنا في بدئها كانت ثقافية لا لغوية بيانية. عرفنا الغرباء الذين نزلوا في ربوعنا فأخذنا منهم وأعطيناهم، وكانت هذه المعرفة لخير الإنسانية جمعاء، وفي مقدمتهم أبناء عمنا العرب الذين كانوا في حالة حرب مع الحملات الصليبية، فنُبنا نحن عنهم في الاقتباس، وكان ذلك خيرًا لنا ولهم. وقد بانت النتيجة بعد ذهاب الصليبيين الذين تأثروا بنا، وتعلموا منا وعلمونا، مَغْرَبُونا ومَشْرَقْناهم. ثم تابعنا هذه الرسالة في جميع أقطار الدنيا، ولذلك قال حافظ إبراهيم في اللبنانيين ونهضتهم الباسلة:

    سعوا إلى الكسب «محمودًا» وما فتئت
    أم اللغات بذاك السعي تكتسب
    فحيث كان «الشآميون» كان لها
    عيش «جديد» وفضل ليس يحتجب

    كان ظِلُّ الصليبيين في تقلُّص حين جاء عهد التتر الذي اجتاح ملك العرب، فقتل وهدم وخرب، فلم تجد طريدة هولاكو حجرًا تلجأ إليه آمن من ديورة جبل لبنان، وما تلك الديورة غير مغاور وكهوف لم تكن تؤخذ في زمن الخوف والفزع.

    فتحت تلك الأطناف التي تحرسها شماريخ الجبال، وفي جوار الوجوه التي عرفتها في الرها من أصحاب الغنابيز والزنانير الذين جعل لهم النبي محمد حرمة بقوله لأنصاره: تجدون رجالًا حبسوا أنفسهم في الصوامع فلا تمسوهم. وهكذا تركوهم بجوار قناديل المعرفة منكبين على كتبهم يؤلفون وينقلون إلى العربية كنوزًا خالدة.

    أفزع هولاكو وجنكيزخان لغة الله، ولكنها أمنت واستراحت حقبة في جوار أولئك المشايخ فكانوا لها مؤنسين ومشجعين، ولما اطمأنوا واطمأنت راحوا يبحثون ليروا ما ترك لهم الذين عرفوهم في الرها حين احتلوها.

    جاء أولئك من أوروبا وبقوا في لبنان قرنين كما ذكرنا، ثم ذهبوا وبقيت قلاعهم وحصونهم وقصورهم وكاتدرائياتهم زينة لأرضنا، وكان من نتائج حملاتهم الغواشم التعارف والتفاهم بين الشعوب، ونشر المدنية بمقدار ما كانت تسيغ العقول. وأحكموا بمقدار أيضًا الصلات التجارية والعمرانية بين المشرق والمغرب. أما أشهر صفحات تاريخهم التي لم تندثر حتى اليوم فهي تلك البنايات الشاهقة القائمة على رءوس روابي لبنان وربى جبال العلويين وجميع البلدان التي أخذوها.

    وهناك صناعات تعلمناها منهم، وهذا كله معين على انتشار الثقافة؛ فالثقافة لها شوط في كل ميدان، والفن المعماري والصناعي يلهم المثقفين. أما المهم فهو العلم، وهذا ما نسعى إليه قبل غيرنا. قال علامتنا الدويهي المؤرخ الصادق: يهم اللبناني أن ينسخ كتابًا، ويكتسب علمًا، ثم يبني ديرًا في جواره مدرسة.

  • قبل نابليون بقرنين: خلفاء الرهاويين وأحفادهم، كانوا خميرة العجنة الثقافية في لبنان، فرفعوا اسم لبنان علمًا فوق العلم الأشم، فأشبهوا السمكتين والخمس خبزات.

    قالوا: عرق الأصل نزاز، فكل هؤلاء الطلائع الذين سنذكرهم، كان العلم في دمهم، يجري في عروقهم، فطعموا العربية ولم تحبط هممهم الكلمة المأثورة: أبت العربية أن تتنصَّر.

    لم تعد عقلية ناس هذا العصر مثل عقلية ذلك الزمان، فالثقافة لا تدين بدين حتى نقول عرفناها قبل غيرنا، فهي كما جاء في الآية الكريمة: زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ.

    هذا مثل العقلية اللبنانية التي افتتحت مغالق الدنيا مفتشة عن الكلمة أم المعرفة، تعلمت العربية في القرن الخامس عشر عن طريق النسخ، ثم تقدمت. زحفت أولًا كالطفل كما ترى في صقر لبنان، ثم دبَّت على يديها ورجليها، وأخيرًا عدَت وما زالت تعدو. كان عقلها بورًا فانكبَّت عليه تحرثه حتى خالطت أكابر المفكرين وصارت منهم. حسب لها الغرب والشرق حسابًا وما يزال، فهي لها في كل ميدان فرسان.

    فهذه الثمار جناها جدودنا وقدموها على طبق من ذهب هدية لأم اللغات التي حدبنا عليها في طور ضعفها، وظللنا نداويها ونداريها حتى رأينا رجوع الشيخ إلى صباه. فلولا مساعدة بابا رومية والملك الشمس لم يكن شيء مما كان من هذا التجديد. فقد علمونا وعلمناهم؛ علمناهم لغة القرآن الشريف وثقفونا باللغات والعلوم الأوروبية، تعلمنا في مدارسهم وعلمناهم علومنا الشرقية بما نسخناه وترجمناه ولقَّناهم إياه من كنوز علمية وأدبية، ولم يطل بنا الأمر حتى جلسنا على كراسي جامعاتهم أساتذة نثقِّف ونعلِّم.

    وتولينا تموين خزانات كتبهم فنسقناها وكنا من حراس الثقافة، ولولا ما فعلنا لذهب الكثير من كنوز المعارف. وسنفصل ما أجملنا، ونذكر الأهم من المآثر الجبارة التي دوِّنت على ضوء الشمعة الراجف ونور السراج الشحيح. لقد دفعوا ثمن ذكرهم وشهرتهم هذه أضواء عيونهم.

    فيا أيها الجنود المجهولون، إنني أعتذر لأرواحكم إذا أغفلتُ ذكر أحد منكم، فقد أكون جاهلًا له لا مهملًا.

    وإلى إخواننا في اللسان نقول: كل فتاة بأبيها معجبة، فلا يؤاخذنا أحد من بني عمنا العرب إذا تغنينا بأمجاد أجدادنا الأولين، فقد تغنينا بأمجاد العرب حتى شبعنا، ومن قرأ شعرنا ونثرنا يعرف ذلك. والعربية حين لاذت بنا لم ترَ زيًّا غريبًا ولا وجهًا عجيبًا، فقد ألفت معاشرة علمائنا وألفت أزياءهم في قصور الخلفاء الأوائل حين كانوا يترجمون لهم ويطببونهم، فاللبناني كما قال الحجاج: مهاجر ليس بأعرابي.

    إن نهضتنا ثقافية، علمية فلسفية، لا لغوية بيانية كما قلنا. رأى جدودنا أن الجنينة أمست بورًا فحرثوها وطعَّموها، أطلوا من دياميسهم ومغاورهم ذات الهواء الرطب فانتعشت أجسامهم اليابسة وجرى الدم في عروقهم حين ضربتها الشمس، ولولا شدة حرارة شمس لبنان لما استطاع هؤلاء المجاهدون الحياة طويلًا في دير قنوبين، وقزحيا، ومار سركيس، والقطين والمغاور الأخرى.

    ألهم الله السلطان العثماني سليمان الثاني فأصدر إرادته الشاهانية بحمايتهم وإطلاق الحرية لهم في ممارسة شعائر دينهم، كان ذلك في سنة ٩٥٧ﻫ. في عهد البطريرك موسى العكَّاري، فانطلق عندليب «الطلائع» — المطران فرحات — بعد حين يغني ويرتل، لا يخشى غدر صياد.

    إننا نعترف أنه كان قبلنا أناس أصح منا لغة يعربية، وأفصح تركيبًا وأجمل تعبيرًا. إن أبعد الأشجار جذورًا هي شجرة الأدب، وإذا تعمقت في نبش تاريخ الديورة والهياكل رأيت جذورًا عميقة للثقافة متشابكة في تربة الفكر اللبناني، فمن قبل الفينيقيين إلى حدود المسألة الشرقية ترى على درب الحياة آثار أقدام الثقافة. فهذه البقعة مرت بها جميع شعوب الأرض، تقاتلت ثم ذهبت وتركت عندنا مخلفات ثقافية كما يترك الجيش شيئًا من عتاده، ومن هذه الأشياء كلها تكوَّنت عقليتنا، فليس في الدنيا أمة مثلنا تشابك أفكار.

    انظر ترَ في لبنان ديورة وهياكل وقلاعًا وحصونًا، كنائس وكاتدرائيات وجوامع ومدرَّجات وملاعب. فعلى كل قمة دير، وعلى كل تلة هيكلٌ أو قلعة، وفي كل وادٍ ملجأ حصين تعجز عن أخذه غارات طائرات هذا الزمان؛ فقد نحتت الطبيعة لجدودنا الجبال بيوتًا فاستعمروها وسكنوها، فحولَ الينابيع قامت المدن والدساكر، فلو بنينا حول لبنان سورًا لكان متحفًا للعاديات.

    إن الطبيعة هي المهندس الأعظم لهذا الجبل، وهي في كل يوم تتفتح لنا عن عجائب. الإنسان قبل أن يصير صاحب مخازن عظمى يكون أولًا مستخدمًا أو سمسارًا، وهكذا تدرَّج هذا اللبنان، ومشت ثقافته قُدُمًا، فمن مغارة قنوبين إلى قباب الفاتيكان وبرج إيفل وقصور كمبردج والكرملين. كان أعلامنا نقلة كتب نسخًا وترجمة، ثم صاروا مؤلفين وعلماء أعلام، كما سنرى. وأميرا الجبل فخر الدين وبشير، كان أحدهما عمرانيًّا فقضت عليه الحال أن يرحل «مؤقتًا» إلى توسكانا، فدرس مخطط العمران هناك، ولما عاد سهَّل للأجانب طرق الحياة، وكانت هذه من بشائر النهضة العمرانية.

    كان الحاقلاني، وهو من مشاهير الطلائع، مدبِّره وهمزة وصل بينه وبين أمراء الغرب، فبشرت مساعيه بخير جزيل. ففخر الدين كمحمد علي بالنسبة إلى زمان كل واحد منهما، كلاهما مفضل وكلاهما عمراني.

  • والأمير بشير الشهابي: كان عنده لكل شيء شيء، كان في الحرب قيدوم الجيش وأمير السرج ورب السيف والرمح، وفي السلم رب السرير تتألف حوله حلقة الشعراء ويطارحهم ويقترح عليهم الموضوعات ويجيز المحسن، ويناقش المناقشة الصارمة، ويقول الشعر وإن كان الشعر بالأمراء يزري.

    إن المدنية أمواج، فتارة يكون البحر عجاجًا، وطورًا تنظر إليه فتحسبه مفروشًا سطحه بالدماسكو. والعلم كالنور ينتشر على أبعد الأبعاد ويُطلب في أطراف المعمور. أما جاء في الحديث الشريف: اطلب العلم ولو في الصين. وهكذا صار عندنا، فمن ضفاف ما بين النهرين إلى وادي قاديشا وظلال الأرز، ومن نهر التيبر إلى نهر السين إلى الهدسون إلى شلالات دفنه ونياغرا، سار اللبناني ومعه في حقيبته ثوب وكتاب ورغيف خبز.

    لقد تناوب أبناء الخيام وأبناء المغاور على حمل أعباء أوسع اللغات وأمرنها وأبعدها تمددًا. قد لا يُعجب كلامي الصريح من يحبون المبخرة، ولكن الحكم على الأدب والآثار القلمية لا يكون منصفًا إلا بعد جيل على الأقل، فهو والتاريخ في هذا سواء بسواء.

    (١) جغرافي و(٢) ديني. فكما تعلم أن موقعنا كان ممرًّا يوم لم تك هذه الاختراعات، وديننا يقربنا من الجماعة، والذي يقول غير ذلك فأقول له: إذا تعددت الأحزاب اليوم في البيت الواحد صار أشبه ببرج بابل. قرَّبتنا من الصليبيين وغيرهم من الزوار الفرنج، الرابطة الدينية، فأفدنا حضارة جديدة أضفناها إلى ثقافتنا السريانية. كنا ندرس كتب العلم القديمة والجديدة، كنا نتعلم عن طريق نسخ الكتب يوم لم تكن المطبعة، ولما ظهرت كنا أسبق الشرقيين إليها، وكانت أول مطبعة في الشرق بالقلم السرياني، والكرشوني، ثم العربي في القرن الخامس عشر؛ أي قبل ظهور نابليون على شط الإسكندرية بقرنين.

    وكيَّفنا عبارتنا على هوى حديثنا، ففصلنا الثوب على القد، فسمونا مجددين وقد ضلَّ من وصفنا بالشعوبية، وكيف يكون ذلك وزعيمنا مار مارون نشأ على ضفة نهر العاصي، وجاء لبنان من هناك.

    أظن أن عقلية الصليبيين في ذلك العهد لم تكن أرقى من عقلية غيرهم، ولولا ذاك لما جاءوا بصلبانهم وأيقوناتهم إلى ساحة حرب شرقية، وما أبعد الشرق عن الغرب في ذلك الزمان!

    وأصاب العربَ بتنكرهم للعلوم الجديدة ما أصابهم حين تنكروا للفلسفة والمنطق، وقالوا: من تمنطق فقد تزندق، فغلبهم الزنادقة حتى قام الغزالي قبل أن يقول:

    غزلت لهم غزلًا دقيقًا ولم أجد
    لغزلي نساجًا فكسرت مغزلي

    وهنا نختم هذا الفصل بالقول: فليصدق رائد أهله.

    اللهم اشهد أننا صدقنا.

(١-١) الطلائع ١٥٨٤

قبل محمد علي بقرنين ونصف وقبل مراسيم السلطان سليمان الثاني بقرن وقبل ميلاد فخر الدين المعني

كانت الثقافة عندنا. ورثنا الرها وجندي سابور ونصيبين، وأهدينا ذلك الميراث بعدما أغنيناه إلى الغرب والشرق فأنعشناهما بعد الذبول. لم يجد أميرنا فخر الدين من يدير شئون إمارته وعلاقاته مع الغرب غير كاهن لبناني هو الحاقلاني.

ولم يجد من ترجم له كتاب هندسة الأبراج غير الكاهن مخائيل بن عميرا الأهدني. وهذا الكاهن الذي ارتقى إلى السدة البطريركية قد صنَّف غراماطيقًا مطولًا برهن فيه أن لغتنا أقدم لغة، فعيَّنت له رومية معاشًا سنويًّا طول حياته.

أما فخر الدين المحسن إلينا فقد أمَّن لنا الحياة فعدنا إلى كسروان والجنوب واشتغلنا لإنماء الثقافة. كان فخر الدين رجل عمران أكثر منه رجل ثقافة يقدِّر العلم ورجاله، فأبدينا نشاطًا علميًّا. احتجنا إلى سيفه ليحمينا واحتاج إلى علمنا فنفعناه به.

إن الثقافة احتمت بجبال لبنان، ومن يصدق أن البطرك موسى العكاري لم يعدم بين إكليروسه مطرانًا يعرف العربية والتركية والسريانية وهو المطران أنطون فرحات الحصروني فأرسله البطرك إلى حلب ليؤدي واجب الخضوع لجلالة السلطان سليمان الثاني حين قدم إلى حلب، فأصدر السلطان مراسيمه التاريخية الخمسة فأنعشتنا وألقى عنا نير الاضطهاد.
  • مدرسة الموارنة برومية: ١٥٨٤ ليس يعني كلامنا هذا أن اللبنانيين الموارنة لم يعرفوا الغرب وثقافته قبل أن أنشأ لهم البابا غريغوريوس الثالث عشر هذه المدرسة، بلى، وهاك التفصيل.

    في عهد البطرك مخايل الرزي رُفعت شكوى إلى بابا رومية على أن هذا البطرك يعقوبي المذهب، فأوفد الحبر الأعظم قاصدين الأب جوان باطيستا إليان والأب توما راديوس، وأمرهما بالتدقيق في الفحص عن اعتقاد الموارنة. أما رئيس البعثة جوان باطيستا فدعي إلى رومية وأطلع البابا على الحقيقة، وسأله أن ينشئ لهم مدرسة فأنشأها تحت رعاية البابا وخلفائه، وكان الكردينال كرافا مساعدًا له في هذا المشروع الديني الإنساني. ولم يقف الكردينال كرافا عند هذا الحد، بل وقف جميع تركته عليها.

    ومن هذه الخلية خرج عسل وشهد كثيران كما قال في وصفها العلامة المطران يوسف الدبس. ثم توفي الكردينال كرافا وكيل الموارنة وظلت المدرسة قائمة، ونبغ من تلامذتها علماء أعلام «طبق ذكرهم الخافقين فأناروا المغرب بتواريخ المشرق، وكانت كتبهم وما برحت كمرقاة للعلوم ومشكاة يستنار بنورها في أمور المشرق.»

  • لويس الرابع عشر: ثم انبرى هذا العاهل الأكبر إلى نصرة العلم والثقافة وإذاعتها، فخصَّ هؤلاء الطلائع بمدرسة في مدينة النور، وتسهيلًا للمهمة أصدر خطًّا ملوكيًّا مؤيدًا ببراءة رغب فيها إلى ممثل دولته لدى الباب العالي «أن يبذل لهم الحماية لدى أعتاب صديقنا الأكمل السلطان الأعظم، وأن يسيروا في المراكب الفرنسية أو غيرها إما لدرس العلوم، وإما لغير ذلك، ولا يكلفوهم إلا ما يمكنهم دفعه. أعطي هذا الخط في سان جهان بمدينة لاي في ٢٨ نيسان سنة ١٦٤٩ وفي السادسة لملكنا.»

ابن القلاعي

  • حياته: وُلد في لحفد وهي قرية قديمة مشهورة في بلاد جبيل تبعد عن قريتنا عين كفاع نحو ساعتين، ولحياته حكاية.

    عرف بابن القلاعي نسبة إلى محلة من ضيعته ولد فيها وعاش حتى بلغ ورشد، فخطبت له أمه التي كان اسمها غورية فتاة جميلة من ذوي قرباه، وبعد الخطبة أصابه مرض نفرت منه عيناه واسترخت أهدابه فصار شكله بشعًا ففسخت الخطبة، وهاجر جبريل إلى القدس ودخل دير رهبان مار فرنسيس، وأضاف إلى تعلمه السريانية والعربية أصول اللغة اللاتينية، ومهر في العلوم الإلهية والطبيعية؛ لأنه سافر إلى رومية سنة ١٤٧٠.

    وعاد جبرائيل إلى وطنه راهبًا، وتجنَّد لخدمة طائفته في النقاش والجدال والدفاع عن العقيدة المارونية، ثم رقي إلى درجة الأسقفية، وقضى حياته مجاهدًا مناضلًا حتى لقي وجه ربه سنة ١٥١٦.

    فابن القلاعي، لقب خلعوه عليه، والقلاعي في لغتنا العامية معناها الصخور الضخمة، وعندما كنت شابًّا زرت ذاك المكان الذي نُسب إليه هذا العلامة، فهو مزين بصخور ثابتة حيث وجدت إلى اليوم، وفي لحفد رابية تستريح على قمتها كنيسة مار أسطفان لحفد.

  • ابن القلاعي الزجال: كان هؤلاء الطلائع ضعاف اللسان العربي، وما قولك بسرياني مستعرب حديثًا! ومع ذلك فإن لم تعجبنا عبارته فحسبنا فكرته. فابن القلاعي ذو ثقافات متعددة وهو متعمق فيها كلها.

    لم تطغَ الناحية الغربية فيه على الناحية الشرقية، فإذا قلنا إن أزجاله وثائق تاريخية لا نعدو الحق؛ لأنه لم يقل غير الحق، وإذا قلنا إن أزجاله مجتمعة هي ملحمة بلدية؛ ففيها عناصر وصفية موضوعية ترضي الذين يحافظون على تقاليد هوميروس، كنا صادقين. ففي بعض زجلياته يصور المعارك تصويرًا كاملًا، تشفع بركاكة عبارتها مراعاة القوانين الأخرى الملحمية، وإذا رأينا الروح السائدة فيها دينية كاثوليكية فلا نتنكر لها، أليست أغنية رولان كذلك!

بطرس المطوشي

أحد تلاميذ مدرسة رومية، وبعد أن أنجز علومه فيها صار راهبًا يسوعيًّا، وقد عهد إليه البابا في سفارات دينية كبرى، وقد قال فيه دي لاروك: إنه لاهوتي مبرز، له غراماطيق سرياني لاتيني، وكتيب في اللاهوت الأدبي محفوظ في مكتبة مدرسة الموارنة برومية، وقد وقف مع الكردينال بللرمينوس على فحص كتاب الفرض الكبير «الشحيم».

نصر الله شلق

وهو من العاقورة، درس العلوم برومية وصار كاهنًا. أقام بأوروبا زمنًا، أما مؤلفاته فهي: تاريخ الكنيسة، وترجمة سفر أيوب من السريانية إلى اللاتينية، وفصولًا أخرى.

جمع ثروة أوصى أن تنشأ بها مدرسة خيرية في مدينة رافانا بإيطاليا، فكان افتتاحها سنة ١٦٣٩، وأقفلت أبوابها ونقلت تلامذتها إلى مدرسة الموارنة سنة ١٦٦٤.

أنطونيوس الصهيوني

عشق اللبنانيون الكتب، فمن لم يكن مترجمًا أو مؤلفًا كان ناسخًا، فهذا الراهب رئيس الكهنة نسخ القسم الأول والثاني والثالث والرابع من فلسفة السريان الذي ترجمه حنين بن إسحاق، ونسخ أيضًا مقالة في الحساب والجبر بالعربية لأبي عبد الله أحمد شهاب الدين الذي كان «في أواخر القرن ١٤»، ونقل مقالة في الخطوط الهندسية لأحمد بن علي.

القس جبرائيل الصهيوني

هذا العلامة العظيم ماروني لبناني من أهدن، عُرف بهذا الاسم قبل مولد الصهيونية اليهودية. تعلَّم في مدرسة الموارنة برومية، وحاز بعد الامتحان لقب «ملفان» في اللاهوت، وأقيم أستاذًا للغتين العربية والسريانية في مدرسة الساباينسا — الحكمة — الشهيرة، واشتهر حتى دعاه لويس الثالث عشر سنة ١٦١٤ ليكون معلمًا في المدرسة الملكية بباريس، ثم حمله لقب ترجمان ملكي. ولما اعتمدوا على نشر الأسفار المقدسة بعدة لغات عهد إليه بتعريب النسخة العربية، وتنقيح النسخة السريانية، ومعارضتها بنسخ عديدة، ثم ترجمة النسخة العربية والسريانية، وعهد معه بهذه المهمة الأخيرة إلى إبراهيم الحاقلاني.

  • آثاره: قال والتن الذي عني بطبع البوليكلوتا: إن هذا الرجل العظيم؛ أي الصهيوني، قد بذل تعبًا شاقًّا وكثير الفائدة لكل من يرغبون في التضلع من اللغات الشرقية والأسفار المقدسة. ومن لا يقر له بالفضل يكون ناكر الجميل والإحسان. ونرى أنه واجب على الجميع أن يؤدوا له الشكر الذي لا نهاية له.
  • آثار الصهيوني: كثيرة، منها ترجمة كتاب الزبور من العربية إلى اللاتينية، طبعة رومية سنة ١٦٨٤، وكتاب في نحو اللغة العربية طُبع بباريس سنة ١٦١٦.

    وترجمة جغرافية أبي عبد الله محمد الإدريسي من العربية إلى اللاتينية، طبع أيضًا بباريس سنة ١٦١٩.

    وكتاب في بعض مدن المشرق ودين أهلها وعاداتهم وخصالهم.

    وله أيضًا ترجمة الزبور ثانية عن الترجمة المعروفة بالبسيطة إلى اللاتينية، وطبعه بباريس سنة ١٦٢٥ … إلخ.

    وقد ذكر دي لاروك خبر وفاته بباريس سنة ١٦٤٨ وذلك في كتاب رحلته إلى سورية ولبنان.

إبراهيم الحاقلاني

  • حياته: وُلد في حاقل «جبيل» وتعلم بمدرسة رومية، ثم علم السريانية والعربية أولًا برومية، واشترك مع الصهيوني والحصروني في طبع التوراة.
  • مؤلفاته: كان من مشاهير علماء زمانه، ومن مؤلفاته ترجمة كتاب ابن الراهب المصري القبطي في التاريخ الشرقي، وأتبعه بترجمة مقالات طويلة في تاريخ العرب وأنسابهم، وقد طبعه بباريس سنة ١٦٥١.

    وله ترجمة قصيدة عبد يشوع الصوباوي في المؤلفين البيعيين إلى اللاتينية مع شرح لها وحواشٍ عليها، طبعت برومية سنة ١٦٢٨.

    وله أيضًا ترجمة الكتاب: الخامس والسادس والسابع من تأليف أبولينوس في الهندسة من العربية إلى اللاتينية بناءً على طلب دوق توسكانا.

    وله مختصر الفلسفة الشرقية، طبع بباريس سنة ١٦٤١.

    وترجم إلى اللاتينية كتاب الحيوان للسيوطي.

    وترجم من العربية إلى اللاتينية مواعظ القديس أنطونيوس وأجوبته. وللحاقلاني كتاب الانتصار لسعيد بن البطريق.

    وله أيضًا ترجمة قوانين المجمع النيقاوي المعروفة بالقوانين العربية، وقد عارضها الحاقلي على ست نسخ عربية ثم ترجمها إلى اللاتينية.

    وقد رقد الحاقلي برومية في ١٥ تموز سنة ١٦٦٤، ونقلت كتبه إلى المكتبة الواتيكانية بعد وفاته.

موهج بن نيرون الباني

ولد في إحدى قرى جبة بشري، ويسميه علماء الغرب فاوسطوس. أخذه خاله إبراهيم الحاقلاني إلى رومية فبرز، وأقامه الكرسي الرسولي أستاذ اللغة السريانية في كلية السابيانسا خلفًا لخاله العلَّامة.

له كتب محترمة في التاريخ.

نقَّح الأناجيل وأسفار العهد الجديد، وطبعت بالسريانية بمعاونة وتصحيح القس يوسف الباني، وتوفي مرهج سنة ١٧١١.

يوسف بن جرجس الباني

تلميذ رومية، وهو كثير الإنتاج، عرَّب كتبه وصحَّح لغتها العربية المطران جرمانوس فرحات. يعد من المجلين في التأليف والتصنيف.
  • مؤلفاته: أتقن معرفة اللغات العديدة، وتضلع بالفلسفة واللاهوت، وانكب على العمل فأخرج كتابه النفيس ميزان الزمان وقسطاس أبدية الإنسان، وقد طبع مرات.

    ثم أتبعه بترجمة كتاب الكمال المسيحي في ثلاثة أجزاء، وكتاب علم الذمة، وغير ذلك من التأملات العقلية. وأشهر تآليفه تفسير سفر رؤيا يوحنا العويص.

    وللباني أيضًا ترجمة تفسير العهد الجديد إلى العربية. وقد توفي سنة ١٧٢١.

بطرس فروماج ١٦٧٨–١٧٤٠

كاهن يسوعي جليل، كان أشبه بسفير بابوي يمثل رومية في لبنان، عالم حَضَرَ المجمع اللبناني كمستشار لاهوتي يرد ذكره كثيرًا في تاريخ هذه الحقبة الثقافية، ترجم هذا المستشرق كتبًا روحية كثيرة، أشهرها الكمال المسيحي، وكتاب السنكسار؛ أي سِيَر القديسين التي عرَّبها جرمانوس فرحات.

إن هذا الأب لم يسئ إلى الموارنة بخلاف سواه من القصَّاد المرسلين، كما أشار إلى ذلك الأب أنديني المنتدب الرسولي، فقال: إن ما اتهم به قصاد البابوات الموارنة هو تجنٍّ عليهم …

وقد كتب هذا في كتابه بعثة إلى لبنان.

الأب بطرس مبارك

ولد في غوسطا عام ١٦٦٠، أتقن سبع لغات: العربية والسريانية واللاتينية واليونانية والعبرانية والطليانية والفرنسية، وبعد رجوعه من رومية سنة ١٦٨٥، رسمه كاهنًا البطريرك الدويهي وأعاده إلى رومية برتبة وكيل عنه، وزوَّده ببعض كتب ليترجمها وينشرها، فترجم إلى اللاتينية كتاب نسبة الموارنة، وكتاب رد التهم عنهم وسلسلة بطاركتهم.

وبعد عوده من المشرق دعاه إليه أمير توسكانا وأوقفه على طبع الكتب الشرقية، ثم أقيم مدرِّسًا للعلوم المقدسة فأثرى ووقف ثروته على الخير الثقافي، فأحدث مدرسة عينطوره وموَّلها بعقار يقوم ريعه بتعليم ١٢ تلميذًا، وعهد بتدبيرها إلى الآباء اليسوعيين بشروط قبلها الأب تارنز رئيس الرهبانية اليسوعية، وانصرف هو إلى تأليف الكتب النافعة وترجمتها.

  • مؤلفاته: ترجمة مجلدين من تأليف مار أفرام السرياني مع مقدمات دالة على اتساع علمه.

    وترجم قسمًا من المجلد الثالث، ثم أتمَّه المطران أسطفان عواد السمعاني. وله كتب أخرى مفيدة ومقالات نافعة.

    يقول الدبس: إن اليسوعيين يعدون الأب بطرس مبارك من أكابر علمائهم.

البطريرك أسطفان الدويهي

  • حياته: رجل فضيلة وعلم وجهاد، صان في كتبه التي ألفها أشياء كثيرة من أمجاد لبنان؛ فهو المجاهد الذي أقر بفضله التاريخ الوسيط. ولد في أهدن سنة ١٦٣٠ وتعلم السريانية صغيرًا، وعندما بلغ الثانية عشرة أرسله البطرك جرجس بن عميرا إلى مدرسة رومية، فأنهى دروسه من فلسفة ولاهوت وعلوم ولغات وعاد إلى الشرق. وبعد أن علَّم الأولاد ست سنين رقِّي إلى درجة المطرانية، ثم انتُخب بطريركًا فلقي اضطهادات ومشقات فطفر إلى بلاد كسروان والشوف، وكان بين هذه المشاكل يرتب ويصحح وينقح الكتب العديدة ويرتب السجلات وينسخ الوثائق. وأخيرًا دعاه والي طرابلس إلى العودة إلى كرسيه آمنًا، فعاد في ١٩ نيسان، ومات في ٣ أيار سنة ١٧٠٤.

أشهر كتبه

  • (١)

    منارة الأقداس.

  • (٢)

    رد التهم.

  • (٣)

    تاريخ الأزمنة، فيه تاريخ لبنان وسوريا.

  • (٤)

    كتاب المنائر العشر.

  • (٥)

    سلسلة بطاركة الموارنة.

هذه نقطة من بحر علم الدويهي الذي كانوا يدعونه في عصره قبة الحكمة ومعلم الشرق.

إن المعلم رشيد الشرتوني من المجددين في التأليف والتصنيف، وإننا نذكره هنا معجبين بتحقيقه وتدقيقه وبروحه العلمية ونزاهة قلمه، فهو الذي أخرج كتب الدويهي من الدياميس المارونية، فقد أودعوها فيها ليحفظوها للذرية، ولولا ذلك لذهبت آثارها وانطوت صفحات مجيدة من التاريخ العام والخاص.

وقد كان مولعًا بحفظ المخطوطات، فرتَّب ما وجده منها أثناء انزوائه في دير مار شليطا مقبس.

بطرس التولاوي ١٦٥٥–١٧٤٥

  • حياته: هذا اسمه الكهنوتي، أما اسمه العلماني فكان عبد الله بن بطرس بن إسحاق التولاوي.

    دخل مدرسة رومية سنة ١٦٦٨ وهو في الحادية عشرة. قال الدبس: وتخرَّج بهذه المدرسة بالعلوم والفنون، ورجع إلى لبنان ملفانًا فسامه الدويهي كاهنًا وأرسله إلى حلب واعظًا، فاشتهر بعلومه حتى كان شيوخ العلماء يستفتونه؛ لأنه درس الفقه وكان فيه من المبرزين.

    فيلسوف كانت أكثر آرائه مبنية على أساس علمي؛ لأنه كان أستاذًا في العلوم الطبيعية.

    أنشأ مدرسة تضاهي مدارس حلب المشهورة في ذلك العصر، وتتلمذ له كثيرون فنبغوا وعدُّوا من مشاهير العلماء؛ كالمطران فرحات والمطران عبد الله قره علي والشماس عبد الله زاخر والخوري نيقولاوس الصائغ. وكان إلى جانب كل هذا يؤلف ويعظ ويرشد.

  • من تآليفه: كتابه المنطق الذي عرف باسمه.

    وكتاب غراماطيق اللغة السريانية.

    وكتاب مجموع المجامع المارونية، وكتاب ترجمة القديس توما الكمبيسي، وأخبار المجمع التريدنتيني، وكتاب مواعظ في مجلدين.

    وكتاب في علم ما وراء الطبيعة، وكتاب في الفيزياء.

    وكتاب منطق، وكتاب في اللاهوت ٥ أجزاء، وكتاب مرآة النفوس، ومذكرات، وتأملات روحية، ورسائل.

    وفتاوى في الفقه الكنسي والعالمي.

    وهناك كتب أخرى لم نذكرها لئلا يطول هذا الموجز.

    مات هذا العلامة الكبير بعدما شيَّخ وبلغ التسعين، وبحق نسميه أستاذ الطلائع.

السمعاني الكبير

السماعنة، أسرة علم وذكاء، مشاهيرها كثر، منهم المطران يوسف شمعون، وهو عم السمعاني الكبير، له كتاب علم الذمة. والبطرك يعقوب عواد وسمعان عواد.

فالسمعاني الكبير؛ أي يوسف سمعان، ولد في ٢٧ تموز سنة ١٦٨٧، ودخل مدرسة رومية وعمره ثماني سنوات، ولما أتم علومه وعزم على العودة إلى لبنان عهد إليه البابا أكليمنضوس الحادي عشر أن يعمل فهرستًا لاتينيًّا للكتب الشرقية، ويلخص فيه فحاويها، ففعل وعلَّق على الكتب حواشي نفيسة أرت البابا أن يوسف سمعان السمعاني أهل لأن يكون مترجمًا للكتب العربية والسريانية والكلدانية التي في المكتبة الواتيكانية.

وفي السنة ١٧١٠ نال درجة الملفنة، وعين مستشارًا في لجنة إصلاح الأسفار المقدسة التي يستعملها أبناء الشرق. وفي السنة ١٧١٥ أوفده البابا للبحث عن الكتب المخطوطة في الأقطار، فأحضر منها إلى رومية كتبًا وافرة العدد من جميع نواحي المشرق، فكانت مادة لكتابه الشهير: «المكتبة الشرقية الواتيكانية».

وفي سنة ١٧٣٠ سماه البابا حافظًا لهذه المكتبة العظمى، ثم صار رئيسها.

ساعده على هذا العمل الجليل حذقه بضع عشرة لغة، فأخرج خلاصات الكتب الشرقية إلى اللاتينية.

بعض تآليفه

(١) المكتبة الشرقية، ٤ مجلدات.

(٢) التاريخ الشرقي، وقد ترجم هذا الكتاب العلامة الحاقلاني.

(٣) مؤلفات القديس أفرام السرياني، في ٣ مجلدات.

(٤) غراماطيق اللغة اليونانية، طبع في جزأين.

(٥) تأبين ألفريدريك أغوسطوس الثاني ملك بولونيا.

(٦) تأبين ألقاه في كنيسة الواتيكان في جنازة البابا بناديكتوس ١٣.

(٧) محاضرة في انتخاب البابا ألقاها على الكرادلة في كنيسة الواتيكان.

(٨) براءة رسولية فيها نظام تدبير المكتبة الواتيكانية.

(٩) قوانين الرهبان الموارنة بالعربية واللاتينية، وتاريخ نشأة الرهبانية.

(١٠) تاريخ مملكتي نابولي وصقلية، طبع برومية في أربعة مجلدات سنة ١٧٥١–٥٣.

(١١) مكتبة القاموس الشرقي الكنسي والمدني، خمسة مجلدات.

(١٢) المجلد الخامس من المكتبة الشرقية، وترجمة الأسفار المقدسة.

(١٣) المجلد السادس، كتب السريان البيعية.

(١٤) السابع، مجموعات المجامع السريانية.

(١٥) الثامن، مجموعة المجامع العربية.

(١٦) التاسع، ترجمات كتب المؤلفين اليونان إلى السريانية والعربية.

(١٧) العاشر، المؤلفين العرب النصارى.

(١٨) و(١٩) و(١١) و(١٢) في المؤلفين المسلمين. كلندريات عديدة لجميع الطوائف تقريبًا.

(٢٠) في صور القديسين الفسيفسية.

(٢١) مجامع الكنيسة الشرقية، ستة مجلدات.

(٢٢) تسعة كتب في التاريخ الشرقي. الموارنة، الروم الملكية، الدروز والنصيرية، المسلمين، القبط، اليعاقبة، الأحباش النساطرة، الأرمن.

(٢٣) تسعة كتب في تاريخ سورية القديمة والحديثة.

(٢٤) غراماطيق سرياني مطول.

(٢٥) كتاب منطق بالعربية.

(٢٦) كتاب في ما وراء الطبيعة بالعربية.

(٢٧) كتاب لاهوت بالعربية.

(٢٨) كتاب تفسير الآيات الغامضة في العهدين.

وهناك كتب عديدة لم تدوَّن في السجل الواتيكاني.

ليت المجال يتسع لنشر فقرات من رسالة البابا إلى معلم البلاط الرسولي يوسف سمعان السمعاني للدلالة على ما حازه هذا الشرقي اللبناني من إجلال لدى أعظم شخصية عالمية، بابا رومية، ولكننا نكتفي بما قلناه، ومن شاء الزيادة فليرجع إلى المطولات.

بولس عواد

ومنهم المطران بولس عواد (١٨٥٥–١٩٤٠) أقدم هذا المطران كأسلافه السماعنة فترجم الخلاصة اللاهوتية لتوما الأكويني، وطبع منها أربعة أجزاء ضخمة، كما لخص شرح بديعية الحموي المعروفة بخزانة الأدب.

نعمة الله أبو كرم

ويحصى مع هؤلاء المطران نعمة الله أبو كرم، فهو مترجم الفلسفة النظرية والجامعة ضد الأمم لتوما الأكويني.

المطران أسطفان عواد السمعاني

هو ابن أخت السمعاني الكبير، تلميذ مدرسة رومية، من مؤلفاته: كتاب شرح أعمال الشهداء الغربيين والشرقيين في مجلدين، وفهرست الكتب المخطوطة في المكتبة المادشية، وهو يحتوي على ذكر خمسمائة وسبعة وثلاثين كتابًا مع خلاصتها.

وله كتاب فهرست الكتب التي بمكتبة كيجي في رومية، وله فهرست للكتب التي في المكتبة الفاتيكانية ألَّفه مع خالد السمعاني في ثلاثة مجلدات.

وله ترجمة تاريخ ابن العبري إلى اللاتينية.

وله تكملة ترجمة المجلد الثالث من كتاب مار أفرام إلى اللاتينية.

مات سنة ١٧٨٢، بعد أن ملأ صيته الفاتيكان وغيره من المراكز العلمية.

يوسف لويس السمعاني

هو ابن أخي السمعاني الكبير، تلميذ مدرسة رومية. عيَّنه البابا بناديكتوس الرابع عشر معلمًا للغات الشرقية في الكلية الرومانية – السابيانسا.
  • آثاره: له كتاب الرتب والطقوس الدينية، ويخبرنا العلامة الدبس أنه غالي السعر، وأنه اشترى نسخة منه بست وعشرين ليرة ذهبية.

    وله ترجمة الشحيم كتاب فروض السريان في أربعة مجلدات، وله ترجمة قداس الكلدان إلى اللاتينية.

القس شمعون السمعاني

هو ابن أخي يوسف لويس، ولد بحصرون ودرس في مدرسة الموارنة برومية.
  • آثاره: فهرست للكتب الخطية الشرقية في مكتبة بادوا الثانية.

    وله أيضًا كتاب تاريخ العرب قبل ظهور الإسلام.

    وله كتاب في الكرة الفلكية. وجميع هذه الكتب باللغة اللاتينية.

الغزيري

هو ميخائيل الغزيري تلميذ رومية، وقد حضر المجمع اللبناني ووُصف بأستاذ الفلسفة واللاهوت.
  • من تآليفه: كتاب في مجلدين وصفه الدبس بأنه جزيل الفائدة، وهو فهرست للكتب العربية التي في مكتبة الإسكوريال بإسبانيا.

    وقد أوفد هذا العلامة مع الخوري إلياس سعد البجاني للاعتراض على بعض رسوم المجمع اللبناني والطعن بالعلامة الكبير السمعاني الأكبر، فعادا مخذولين. وهذا بعض ما جاء في رسالة البابا جوابًا على تلك الشكوى.

  • المجمع اللبناني: «وقد أيدناه كل التأييد — أي المجمع اللبناني الذي انتزع فيه السمعاني أكثر حقوق البطرك الماروني وحصرها بالبابا، ولكنها تظل مقبولة عندما صرنا إليه اليوم — وأثبتناه بسلطاننا الرسولي، ورأينا من الصواب والإنصاف أن نمحو كل وصمة التحقت باسمكم، وأن ننزل التأديب بمؤلفيها، وأن نعلن أنها تستحق الحرق بالنار.»

    ونحن نقول إننا فشلنا بسبب المجمع اللبناني مرتين؛ الأولى عند مولده والاحتجاج عليه، والثانية عند إعلان موته يوم مات عريضة آخر بطرك ماروني منتخب عام ١٩٥٥.

    وهكذا تكون قد استبدت رومية بنا مرة واحدة، جزاء تعلقنا بها، والعوض ببقاء السادة أحبار طائفتنا …

أصحاب الكتاب والكتابين

  • عبد الله فراعلي: ولد بحلب وتلمذ للشيخ سليمان النجوي. له مختصر الشريعة ومواعظ ومذكرات.
  • جبرائيل حوشب: ولد في حلب وصار مطرانًا، له كتاب الرموز ومفاتيح الكنوز.
  • يوحنا حوشي: أول تلاميذ مدرسة رومية، نقل إلى العربية مؤلفات لاهوتية، مات في رومية سنة ١٦٣٢.
  • سركيس الغمري: (١٦٩١–١٧٤٥) من أهدن، تلميذ مدرسة رومية، له كتاب هدى الخطأة، تعريب مواعظ سنتيري، مختصر علم الذمة، ظهور الإيمان، غراماطيق لدرس اللاتينية.
  • سركيس سمراني: وهو راهب كان في دير قزحيا، نسخ عدة كتب ونظم زجليات منها واحدة تصف فتح الأسطول التركي جزيرة قبرص سنة ١٥٧٠.
  • أبو المواهب يعقوب الدبسي: من مواليد حلب، طرابلسي ماروني، ترجم الإنجيل إلى العربية الفصحى، وهو عالم لغوي ونحوي، ذكره المطران فرحات في بحث المطالب ورجَّح رأيه.

المطران جرمانوس فرحات ١٦٧٠–١٧٣٢

  • حياته: هو جبريل بن فرحات مطر، ولد في حلب سنة ١٦٧٠، وتلقى أولًا مبادئ اللغتين العربية والسريانية، وتاقَ إلى التعمق والتوسع في فنون اللغة العربية، فلزم إمامًا عالمًا هو الشيخ سليمان النحوي، فقرأ العربية عليه، وانصرف إلى الحفظ فحفظ شيئًا كثيرًا، وأتقن السريانية أيضًا كالعربية، ثم الطليانية التي كانت تعلمها مدارس الموارنة، فأتقنها وترجم منها كتبًا عديدة، ثم درس الفلسفة واللاهوت والمنطق والتاريخ المدني والكنسي، ثم هاجر من حلب وجاء لبنان حيث أسس رهبانية، ثم صار قسيسًا فرئيسًا عليها، وسافر إلى رومة، فحدا به ميله إلى لغة العرب إلى مشاهدة الأندلس فزارها ومتَّع نظره بآثار العرب.

    وفي سنة ١٧٢٥ سيم أسقفًا على حلب، فكان مثال الراعي الصالح للرعية، وتوفي سنة ١٧٣٢. وقد فهمت من سيره في الحياة صفاته الشخصية.

  • تآليفه: بين كتبه نحو أربعين كتابًا في علم اللسان والدين، أما معرَّباته ومختصراته ومصححاته فتربو على المائة، والمشهور منها هو: بحث المطالب، أول كتاب في النحو ألَّفه نصراني على الطريقة الحديثة. وله «الإعراب عن لغة الأعراب» وهو معجم اختصره عن الفيروزابادي وزاد عليه من عنده ألفاظًا وفوائد. وله كتاب فصل الخطاب في صناعة الوعظ، والمثلثات الدرية.
  • المكتبة: وقد وقفت بنفسي على جهود السيد فرحات؛ إذ اطلعت على المكتبة الأثرية المحفوظة بمدينة حلب في المطرانية المارونية، فهي لسان يخبر بجهود هذا العلامة المجاهد في سبيل إضاءة نبراس العلم في عصر الظلمة والانحطاط، ومن يطلع عليها يطلع على تاريخ الحقبة؛ ففيها قرآن كريم مكتوب على رق غزال، وفيها إنجيل حاول المطران أن ينحو فيه نحو القرآن فعجز عن مضاهاته حتى صحَّت فيه الآية: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ.
  • أستاذ الفصحى: لم يذهب المطران إلى رومية طالبًا، بل زائرًا، وشاء الله ألا يتلقى علومه في الغرب فقويت مَلَكة لسانه العربية فصحَّت عبارته. وإتقانه العلوم اللسانية وانصرافه إلى الشيخ سليمان أستاذ العربية في ذلك العهد وانصبابه على مطالعة آثار العرب الأدبية جعل منه فارس حلبة العروبة وقائد الطلائع ومدربها. وهكذا تم تبادل الثقافة حين أنشأ الفيلسوف التولاوي أستاذ فرحات مدرسة خاصة في ذلك العهد بحلب يدرس فيها الطليانية واللاتينية والفلسفة والعلوم واللاهوت.
  • مجمع علمي: بعد رجعة فرحات من الغرب وزيارته للأندلس خطر له مشروع علمي، فأنشأ إلى جانب المكتبة دائرة علمية كان من أعضائها التولاوي والباني وغيرهما، كانوا يؤلفون ويترجمون والمطران يصحح عبارتهم، وهكذا كان التطعيم الذي عاد على لغتنا بالخير. وهكذا كان التعايش العلمي، فلله در هؤلاء جميعًا ما أجزل فضلهم وأكثر خيرهم! كانت الشهباء في عهدهم مدينة العلم، ومنها انتشرت النهضة العربية الجبارة التي طار قبسها فأنار المسكونة.

    إن المطران فرحات جدير بأضخم دراسة وأدق الأبحاث؛ لأنه هو الذي عرَّبنا وأخرج لغتنا الكنسية من ركاكتها، فهو الذي قدَّم العربية في الهيكل وأجلسها عن يمين مذبح البخور — كما قلنا في كتابنا صقر لبنان. لقد صحح الكتب جميعها، وترجم ما تجوز ترجمته بلغة صحيحة إعرابًا ولغة.

  • فرحات الشاعر الأول: إن أولية جرمانوس فرحات ليست في شعره المتين وعبارته الجاهلية فقد كان في عصره شعراء مسلمون أبلغ منه قولًا، ولكن أوَّليته هي في كونه أول شاعر فصيح من مستعرِبي لبنان الذين لم يقولوا الشعر إلا زجلًا سرياني اللحن (راجع صقر لبنان إذا شئت).
  • شعره: أكثره في الزهد ووصف المناسك، وكما قال الأب توتل في المنجد الأدبي عنه: إنه أعاد الحياة النسكية إلى لبنان، أقول أنا: فامتلأتْ أوديته وكهوفه ترانيم وتسابيح. ومن قوله في الزهد:
    إني بليت بأربع لم يخلقوا
    إلا لشدة بلوتي وعنائي
    إبليس، والدنيا، ونفسي، والهوى
    كيف الخلاص وكلهم أعدائي

    وكأن هذه الأفكار كانت تتراكم عليه في وادي قاديشا فيقول:

    أحاول في عمري من الدهر راحة
    وهل تطلبنَّ العقل والظرف من زنجي
    فأصبح دهري عاجزًا عن سعادتي
    كأني حرف الحلق والدهر إفرنجي

    وصار رئيس أساقفة حلب، ولكنه ظل ناسكًا وزاهدًا لا يجد سعادة إلا في إنعاش أبناء أبرشيته، وإذا تبرم أو ضاق صدره طرد التجربة بالالتجاء إلى أمه مريم العذراء، وهتف:

    لو كان للأفلاك نطق أو فم
    لترنموا بمديحكِ يا مريم

    ويمعن في الصوفية حتى يهتف:

    الله الله أنت الفوز والوطر
    في العاشقين وأنت الفوز والوطر
    عشقتكم والهوى مني على صغر
    يا حبذا والهٌ قد زانه الصغر

    جزاه الله خيرًا ونفعنا به.

الخوري نيقولاوس الصائغ

  • حياته: هو نيقولاوس بن نعمة الله الصائغ، وُلد أيضًا بحلب، تلقى دروسه الابتدائية على أستاذ كغيره، في ذلك الزمان، ثم انصرف يشتغل في مهنة أبيه — الصياغة — مطالعًا كلما سنحت له الفرصة.

    ثم درس الفلسفة واللاهوت والرياضيات استعدادًا للكهنوت، وصادف إذ ذاك رجوع السيد فرحات من رومية فتتلمذ له.

    ثم هاجر إلى لبنان وترهَّب في دير القديس يوحنا الصايغ بالشوير، وبعد أن صار كاهنًا ترقى إلى منصب الرئاسة العامة فساس الرهبانية أحسن سياسة.

  • قيمته: أخلاق فاضلة وتدبير بحزم ونشاط، وتقوى وفضيلة ممزوجان بالعلم، شاعر حسن التصور لطيف الطبع، ينزع في شعره إلى الإصلاح الديني، له ديوان شعر يُعرف باسمه، وله بديعية طريفة بالنسبة لعصره.

    إن ما قيل في شعر المطران يصح أن يقال في ديوان الخوري؛ فكلاهما ترهَّب وانقطع عن دنياه، وإن مدح الصائغ وهنَّأ، وتعجبني منه جرأته الرسولية حين يقول:

    كثر العثار بعثرة الرؤساء
    وغوى الصغار بغرة الكبراء
    فإذا رأيت الرأس وهو مهشم
    أيقنت منه تهشم الأعضاء

    عفوًا لم أذكر الرثاء؛ فلهذا الخوري الفاضل شعر في رثاء معلمه المطران فرحات هاك فقرة منه:

    إمامي وذخري بل غنائي ومغنمي
    غنمت به غنمًا تجل غنائمه
    حلبت به وسع الإناء معارفًا
    يلازمني جنح الدجى وألازمه

    أما الذين نظموا البديعيات بعد الحموي فقلما وفِّق واحد منهم.

البطرك يوسف أسطفان ١٧٢٩–١٧٩٣

هو من أنبغ تلاميذ مدرسة رومية المارونية، تُوفي سنة ١٧٩٣ بعد أربع سنوات على تأسيسه مدرسة عين ورقة الشهيرة، وكأن إحداثها كان مُوحًى به لتسد مسد مدرسة رومية التي صادرتها حكومة الجمهورية الفرنسية وباعتها من أحد الناس، وفي هذا الحدث يقول العلامة المؤرخ الشهير المطران يوسف الدبس: يظهر أن العناية الربانية تداركت الطائفة المارونية بإعداد خليفة لمدرسة رومة، فألهمت البطرك يوسف أسطفان أن يحوِّل دير عائلته المعروف بعين ورقة إلى مدرسة عامة للطائفة، يستغني بها عن الغرب.

إن هذا البطريرك الجبار الاستقلالي النزعة صارع الفاتيكان سنوات وشغل دوائره زمنًا حتى تدخل الأمير يوسف بواسطة الشيخ سعد الخوري وأعيد إلى البطرك المكفوفة يده سلطانه الرسولي، وعاد من جبل الكرمل بأبهة وجلال بعد أن ألانت الأمراض من عوده الصلب، فدخل عرينه وهو يرتل النشيد السرياني الذي ألَّفه هو لهذه المناسبة، ومطلعه: افتح يا لبنان أبوابك.
  • هندية: إن قصة الراهبة حنة عجيمي، المعروفة في لبنان بهندية، كانت في الظاهر هي السبب الذي عكَّر صفاء عيش البطريرك، أما الحقيقة فهي أن رومية لا ترضى عن الاستقلال الطائفي، فهي تريد الكنيسة كما جاء في قانون الإيمان: كنيسة جامعة رسولية، أو كما جاء في الإنجيل: أن تكون الرعية لراعٍ واحد.

    والأسئلة التي أجاب عليها البطرك يوسف أسطفان، قبل أن أعيد إليه اعتباره، تُلقي ضوءًا على ما أقول، ومن شاء التوسع في هذا الموضوع فليقرأ كتاب «بصائر الزمان» للأب الملفان بولس عبود الغوسطاوي مواطن هذا البطريرك العملاق.

  • عين ورقة: إذا كانت مدرسة رومية طائفية مختصة بالموارنة وحدهم فعين ورقة لم تكن كذلك، كان منهاجها التعليمي على غرار مدرسة رومية تعلم ست لغات والعلوم والفلسفة، وقد أعطت لبنان نوابغ علمانيين مثل الشدياق والبستاني وغيرهما حتى سميناها سربون الشرق. وهذا ما حملنا على حشر هذا البطريرك الجسور في هذا المقام، فهو يحق له أن يكون في طليعة الطلائع وإن جاء متأخرًا عنهم في تاريخ وجوده. وفي مؤلفاته العربية، إن لهذا الحبر الجبار العنيد مواقف تشرف تاريخنا، فهو في حقل العلم مثله في الصفات الأخرى التي يجب أن يتجمل بها الراعي فلا يتراخى في صون الميراث الذي عهد إليه بالمحافظة عليه.
  • تآليفه: كثيرة أغلبها في اللغة السريانية التي كان عارفًا أسرارها وشاعرًا فيها، وقد وضع كتابًا في تربية الأولاد كتبه لسكان أبرشية بيروت حين كان مطرانًا عليها. وله ميامر وأفراميات وبواعيث عديدة تُرتل في الأعياد الكنسية.

    رحم الله يوسف أسطفان ومنَّ على الموارنة المطبوعين على الاستقلال ببطريرك غيور مثله يحرم عينيه النوم لأجل المحافظة على الأمانة، والمناضلة في سبيل استقلال كنيسته الشرقية.

    انتهى حديث رجال نهضتنا الأولى.

(٢) النهضة المصرية ١٧٩٨

  • الثورة الإفرنسية: غيَّرت وجه العالم، ولا حاجة إلى سرد تاريخها في هذا الملخص، فهذا ما يعلمنا إياه التاريخ، فالذي يهمنا من أخبارها هو أن نذكر كلمة عن اتصال الشرق بها عندما دخل المشرق بطل أوروبا الجبار الذي استغل تلك الثورة، وهو الإمبراطور نابليون بونابرت.
  • القطر المصري: إن الحرب التي أوقدت نارها الثورة الإفرنسية طارت شرارتها إلى الشرق بإغارة الفرنسيس على البلاد المصرية، فتوغلوا في البلاد شرقًا وغربًا، وتخطت جيوشها إلى ما وراء القطر المصري، فدخلوا سوريا وفتحوا عدة مدن منها، فهبَّ الشرقيون فجأة من سباتهم العميق على دويِّ المدافع وصلصلة السيوف، فكافحوا مدة من الدهر، فكانت معارك هائلة، وكان احتكاك بالأقوام كما سترى. ثم اضطرت الأحوال السياسية الأجانب إلى الجلاء، فتقهقروا عائدين من حيث أتوا، تاركين في النفوس أثرًا هو موضوعنا.
  • الاحتكاك: كانت مصر في هذا العهد منقطعة عن الغرب؛ أعني به ذلك الانقطاع الذي يدعو إلى اقتباس شيء من حضارة الغرب وعلومه، أما التعليم العالي فكاد يكون محصورًا بالأزهر، وهو يتناول علوم الدين من لغة وأصول وتفسير وحديث ونحو وبلاغة … إلخ، وعلوم النظر من توحيد ومنطق ومناظرة وفلسفة قديمة، وحساب وهيئة، وعلوم أخرى.

    إلا أن التعليم الأزهري، وخصوصًا في اللغة العربية استحال إلى ضرب من الفلسفة اللفظية ومناقشات جدلية، أُلِّفت فيها الكتب والحواشي، أما لُباب العلم كما نفهمه اليوم فكان حظه قليلًا جدًّا. إلا أن فضل الأزهر العظيم — وهو حفظ اللغة العربية وعلومها — في تلك الحقبة العظيمة لا ينكره أحد؛ ومن تلاميذه لا من سواهم كانت البعثة التي أرسلها محمد علي إلى أوروبا، فعادوا عارفين بمبادئ علوم ذاك العصر، وكانوا أئمة الإصلاح كما سترى.

  • نابليون: في سنة ١٧٩٨ فتح نابليون بأسطوله الإسكندرية عنوة، ثم ضرب في مصر حتى بلغ الجيزة، وبعد موقعة مع المماليك لم يثبتوا فيها بوجهه اجتاز النيل واحتل القاهرة قاعدة البلاد.

    تمَّ لنابليون هذا الفتح بسهولة وحكم البلاد إلا بعض مماليك كانوا مستقلين بالصعيد في أطراف البلاد، فهؤلاء كانوا يشنون الغارة على الفاتحين حينًا بعد حين، وكان سكان القاهرة أيضًا يخرجون إلى الجيش بعصيهم ونبابيتهم فتصليهم مدافعه وبنادقه نارًا حامية.

  • العلم: جاء بونابرت معه بطائفة من العلماء والصناع لدراسة الحياة المصرية من جميع نواحيها، وتشييد المعامل والمصانع، وأنشأ مدرستين لتعليم أبناء الإفرنسيين، وأقام مكتبة جامعة، ودعا الإفرنسيون أعيان المصريين إلى الدار التي أعدوا فيها وسائلهم للعلوم والفنون، وأروهم الأدوات والآلات للطبيعة والكيمياء والأرصاد الفلكية وغير ذلك، فظنوها ضربًا من السحر، ولكنها السحر الحلال، سحر العلم. فأحس المصريون الحياة الجديدة التي لا يألفونها، والعلم الذي لم يعرفوه.
  • الجلاء: وفي سنة ١٨٠١ أُجلي الفرنسيون عن الديار المصرية، فعاد إليهم حكم العثمانيين والمماليك، فأخذت البلاد تعاني من ضروب العناء والظلم ما لا يُطاق، حتى سنة ١٨٠٥ إذ نُودي بمحمد علي باشا واليًا على مصر.
  • محمد علي: قدم مصر ضابطًا في الحملة التركية التي وجهتها السلطنة لإخراج الفرنسيين من مصر. كان محمد علي شعلة ذكاء، واسع الحيلة، طموحًا، شجاعًا إلى حد التفوق، فوثب في رتب الجيش وثبًا. خالط المصريين وكبار علمائهم فاستمالهم إليه وأعانوه عند الحكومة حتى ولته على مصر «واليًا»، فكان ذلك وتركيا تكره ذلك.

    كان أول أعماله أن فتك بالمماليك وأراح البلاد من ظلمهم، فأوقع بجمهرتهم في القلعة سنة ١٨١١.

  • الجندية: ثم أنشأ جيشًا على الطراز الحديث في ذلك الزمان، فعلَّمهم ودرَّبهم على أساتذة إفرنج. وفي سنة ١٨٢٥ أنشأ في قصر العيني مدرسة حربية إعدادية، أما اللغة فكانت التركية وإلى جانبها تدرس العربية وغيرها، وأرسل طائفة من المماليك لدراسة فنون الجندية في أوروبا، ثم أنشأ مدرسة أركان حرب في ضواحي القاهرة ودعا لها بأساتذة إفرنسيين.
  • الطب: كانوا يدعون الحلاقين ليضمدوا الجروح في ساحة القتال، وكان المصريون يلجئون إلى الدجالين ليتطببوا، فأنشأ محمد علي مدرسة طب ومستشفى كبيرًا، ودعا بأساتذة إفرنسيين وغيرهم، ودعا أيضًا بمترجمين من شاميين ومغاربة وأرمن يترجمون للتلاميذ ما يلقيه عليهم أساتذتهم الفرنجة؛ لأن معظم التلاميذ كانوا من طلاب الأزهر لا يعرفون لغة أجنبية.
  • جيش وأسطول: وضم محمد علي إلى عنايته بالعلم عناية بكل ما تحتاج إليه دولة، فبنى أسطولًا ونظم جيشًا، وعني بالمسائل العمرانية كالري وغيره، فاستعانت به الدولة في حروبها مع الدول الأخرى. وفتح السودان ثم اقتطع شطرًا من تركيا، وكاد يظفر بالعاصمة لولا تألُّب الدول الأوروبية عليه.
  • الخلاصة: في كل ما تقدم وصل محمد علي مصر بالغرب، وظلت الحال سائرة في اطِّراد حتى العام ١٨٤٩ الذي مات فيه محمد علي، فتولى بعده ابنه عباس فخبت نار تلك النهضة، فأغلقت المدارس والمصانع، وظلت كذلك في عهد سعيد بن محمد حتى صارت الولاية إلى إسماعيل فاقتفى أثر جده محمد علي، ففتح المدارس وأرسل البعثات العديدة إلى أوروبا، واستقدم خير الأساتذة، ووجه همة عظيمة إلى الزراعة، فبنى القناطر وشق الترع … إلخ.
  • الترجمة والتأليف: كان بدؤهما في مصر في عهد محمد علي، ثم استؤنف في عهد إسماعيل، وأول ما ترجم كان كتبًا طبية، وقد قام بذلك الأطباء الجدد. إن التأليف والترجمة كانا ضئيلين في زمن محمد علي وحفيده إسماعيل شأن كل شيء في أول عهده.
  • المدارس: أقامها محمد علي على اختلاف ضروبها، وعلى خطته مشى إسماعيل أيضًا، أما المدرسة العالية التي أنشأها إسماعيل فمدرسة دار العلوم، وهذه كان لها اليد الطولى في بث صحيح اللغة العربية. أما الأزهر فأُدخل فيه تعديل وسار على المنهاج الجديد بعد معارضة من رجاله.
  • المطابع: جاءت أول مطبعة إلى مصر مع الحملة الإفرنسية مزودة بالحروف اللاتينية والحروف العربية؛ ليطبع عليها ما تريد الحملة إذاعته على الأهلين، ثم تركوها فيما تركوا بعد الجلاء، فكانت نواة لمحمد علي فأسس مطبعة عظيمة دُعيت المطبعة الأهلية، ثم سُميت مطبعة بولاق. وفي أيام سعيد باشا أنشأ القبط مطبعة أخرى، وفي هذه المطابع طُبعت كتب أدبية قديمة.
  • الصحافة: أول جريدة صدرت في الشرق هي بريد مصر والعاشور المصري، أصدرهما الفرنسيون في القاهرة، ولما آلت الولاية إلى محمد علي أصدر الوقائع المصرية سنة ١٨٢٨ حتى ظهرت سنة ١٨٦٧ جريدة وادي النيل، وبعدها ظهرت الأهرام في الإسكندرية أولًا، ثم نُقلت إلى القاهرة، وقبل هاتين الجريدتين ظهرت جريدة اليعسوب سنة ١٨٦٦.

    ثم قامت بجوار الصحف مجلات علمية أدبية … إلخ.

  • تأثير الصحافة: أحدثت الصحافة تأثيرًا في اللغة تعبيرًا وأسلوبًا، فقاربت بين أساليب الكتاب المختلفة، وهي التي قضت على الأسلوب القديم، ذلك السجع المضنك، وهي التي سهلت سبل التجدد فقصرت مسافة البعد بين لغة الكتَّاب ولغة الأمة، وهي التي نفت تلك الكلمات التي تنبو الآذان عن سماعها، والفضل الأكبر في هذا الإحياء لأحمد فارس الشدياق حين عُهد إليه في تقويم لسان جريدة الوقائع فأبعد عبارتها عن العجمة والرطانة، ولما ظهرت جوائبه في الأستانة، بعد تونس، تم العمل الأكبر.
  • التمثيل: لم يكن له دار قبل أن بنى الخديو إسماعيل الأوبرا بمناسبة افتتاح ترعة السويس، فدعا إليها جوقة إفرنسية مثلت رواية عائدة باللغة الفرنسية.

    أما التمثيل في اللغة العربية فكان أسبق الناس إليه شاعر كاتب من لبنان، فمارون النقاش هو أول من ألَّف فيه، ثم حوَّل بيته مرسحًا مثَّل عليه هو وجماعة أولى مسرحياته، وبعد حين تألف من هؤلاء أجواق، وكانت أولى الفرق التي ذهبت إلى مصر فرقة الشيخ خليل القباني ثم سليمان القرداحي. أما المصريون فلم يمارسوه إلا حين ظهر الشيخ سلامة حجازي، ثم تقدموا حتى برزوا فيه، وتخلف الشاميون ولا يزالون، فكان للبنان فضل البادئ.

(٣) في القطر الشامي

أما في الشام؛ وخصوصًا في لبنان، فكانت الحالة على غير ما هي عليه في مصر، كان اللبنانيون أكثر امتزاجًا واختلاطًا بالغرب؛ وذلك لارتباط فريق من أهلها دينيًّا برومة وغيرها، ومن لوازم الدين العلم، فلذلك كان في هذه البلاد فريق يعرف الآداب الأجنبية ولغات الأجانب من طليانية ولاتينية وفرنسية ويونانية وإنكليزية لارتباط هذه اللغات بالدين، ولهذا قلنا آنفًا إن محمد علي باشا اعتمد على الشاميين في الترجمة عندما أنشأ مدارسه الحديثة في مصر.

وللدين يد كبرى في نشر الثقافة كما سبق في كلامنا عن الحركة في مصر؛ فالأزهر كان هناك حمى اللغة، وهنا كانت المدارس التي أشادها رجال الدين أيضًا منبتًا لرجال العلم والأدب الذين كانوا في هذه الديار، وفي مصر رجال النهضة وحماة الفصحى.

  • المدارس: كانت المدارس قبل هذا القرن في الجوامع والزوايا كمدرسة الجامع الأموي في الشام، وغيرها في دمشق وحمص وحلب وحماة، وكان المرجع الأعلى الأزهر في مصر.

    أما المدارس النصرانية فأقدمها في لبنان للطائفة المارونية، فقد كانوا ينشئون عند كل دير مدرسة للصغار يتعلمون فيها القراءة والكتابة (تحت سنديانة الدير) وبين جدرانه، ومن مدارسهم المشهورة مدرسة أسسها غريغوريوس البابا سنة ١٥٨٤، وكان أساتذة هذه المدرسة وغيرها من الكهنة والرهبان؛ لأنه لم يكن يحسن القراءة والكتابة إلا الكاهن والإمام وأبناء الأعيان، ولهم مدارس أخرى في المدن الكبرى مُلحقة بالدير مثل مدرسة زحلة ١٧٦٩، ودير القمر ١٧٨٢، وعجلتون ١٧٥١ … إلخ.

    وأشهر المدارس المارونية التي أخرجت البستاني والشدياق والدبس وغيرهم من رجال النهضة هي مدرسة عين ورقة التي أسسها البطريرك يوسف أسطفان سنة ١٧٨٩ على مثال مدرسة رومية، فحلت محلها حين اغتصبتها حكومة الثورة الفرنسية وباعتها.

    وبعد ٤٠ عامًا قامت مدرسة مار عبدا هرهريا سنة ١٨٣٠ ومدرسة مار يوحنا مارون كفرحي سنة ١٨٣٢ ومدرسة ريفون … إلخ.

    وكان للروم الكاثوليك مدارس صغرى في عين القش وعين تراز، وللروم الأرثوذكس أيضًا مدارس صغيرة أيضًا في جوار الكنائس والديورة.

  • الأمير بشير: وكان الجزار في عكا من أخصام الأمير بشير الشهابي، فدفعت هذه الخصومة الأمير بشير إلى الهجرة إلى مصر، فصادف إكرامًا من أميرها محمد علي، وتوافقت المشارب، فحين خرج محمد علي وولده إبراهيم على الدولة كان مما احتلوه من بلادها سوريا، فقرب هذا بين الأميرين، ومن ثمرات تلك الصداقة التي جناها لبنان تلك البعثات العلمية التي أوفدها الأمير بشير من شبيبة بلاده إلى القاهرة، حيث تلقت الطب في مدرسة قصر العيني المعروفة في هذه البلاد ببولاق. فليس الأمير الشهابي رب سيف وبطل ميدان، بل له في معركة الثقافة يدان تدلان على عرق أسرته القرشي الأصيل.
  • نشأة الطباعة: أول مبطعة عربية وُجدت في إيطاليا ببلدة «فانو» بأمر البابا يوليوس الثاني، ودشنها لارن العاشر سنة ١٥١٤، كان أول مطبوعاتها كتاب الزبور، وسنة ١٥٣٠ طبع القرآن الكريم في البندقية. أما الأستانة فقد وجدت فيها الطباعة العربية أوائل القرن الثامن عشر.
  • في حلب: ظهرت أوائل مطبعة في أوائل القرن الثامن عشر، وقد صنع أمهات الحروف العربية الشماس عبد الله زاخر الذي يقول فيه معلمه جرمانوس فرحات: كن يا ابن زاخر في الأنام فريدًا. ومطبعة الشوير ومؤسسها عبد الله زاخر، ثم مطبعة القديس جاوريوس في بيروت ١٧٥٣.

(٣-١) المستشرقون

أول من اهتم باللغات الشرقية البابوية الرومانية، فهي التي عنيت بالمطبعة العربية لطبع الكتب الدينية والتبشير، وقد جمعت كتبًا كثيرة من الشرق بواسطة السمعاني، ثم حذت حذوها في أوروبا فرنسة أولًا لغاية علمية لا دينية، فأنشأ الفرنسيون مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس سنة ١٧٩٥، ومنها تخرج المستشرقون من ألمان وطليان وأسوجيين وروس، وانتشرت هذه المدارس في الأقطار الأوروبية كافة.

  • الجمعيات الآسيوية: ثم أنشئت جمعية آسيوية في باريس سنة ١٨٢٢، وفي إنكلترا سنة ١٨٢٣، ثم في ألمانيا سنة ١٨٤٤، ولكل جمعية من هذه الجمعيات مجلة علمية تبحث شئون الشرق، فكان لهؤلاء يد على آداب اللغة العربية وإحياء معالمها الدراسية.
  • أعلامهم: من أعلام المستشرقين وأقدمهم بوكوك الإنكليزي، الذي مات سنة ١٦٩١، ومن آثاره تاريخ ابن العبري، طبعه في اللغة العربية مع ترجمته اللاتينية، ورسالة حي بن يقظان، وغيرهما.
  • دربلو: مستشرق ظهر في أواخر القرن السابع عشر، من آثاره معجم في تاريخ الشرق وأدبه سمَّاه المكتبة الشرقية، وهو أشبه بدائرة معارف تبحث في علوم الشرقيين وما إليها.

    ثم ظهر ريسكي فطبع تاريخ أبي الفداء، والحريري، ثم كاريزي الإيطالي صاحب كتاب كدائرة المعارف في العربية والإسبانية، ثم كارليل الإنكليزي، وهو صاحب كتاب آداب العرب وأشهر هؤلاء العلماء في الإنكليزية وهو أستاذ الآداب العربية في كمبردج، مات سنة ١٨٠٤. وسوزا البرتغالي صاحب كتاب الألفاظ البرتغالية المشتقة من العربية.

    ولم يدخل القرن التاسع عشر حتى كان الإقبال على التمشرق عظيمًا، وتقدم المستشرقون في فنهم ووجهوا معظم عنايتهم في درس لغات الشرق إلى اللغة العربية وآدابها، فأقبلوا على النشر والترجمة والتأليف في الآداب العربية بلغاتهم.

  • مستشرقو النصف الأول من القرن التاسع عشر: أول من عني باللغات الشرقية الفرنسيون وأتبعهم غيرهم من الأوروبيين، وأشهرهم الآتي ذكرهم:
    • دي ساسي: توفي سنة ١٨٣٨، تخصص بالعربية والفارسية، وكان أمهر أهل زمانه فيهما، صرف حياته في خدمة الآداب الشرقية؛ وخصوصًا العربية، تأليفًا ونشرًا وتعليمًا، له كتاب في النحو العربي كُتِب ليتعلمه الإفرنج، وكتاب قراءة سمَّاه الأنيس المفيد للطالب المستفيد. وله أيضًا تاريخ العرب في الجاهلية، وكتب مقالات قيمة في المجلة الآسيوية، ونشر كتاب كليلة ودمنة وألفية ابن مالك، وهو مؤسس الجمعية الآسيوية، بالاشتراك مع تلاميذه ومريديه، وأنشئوا أيضًا المجلة الآسيوية.
    • تلاميذه: عمونيل سديلوا وابنه لويس، وقد خدما اللغة العربية، فلويس ألف كتاب تاريخ العرب وآدابهم، طُبع في باريس، وكتاب المقابلة بين جغرافيي العرب واليونان، وله عدة مقالات في الأزياج العربية، نُشرت كلها.
    • دي بريسفال: توفي في سنة ١٨٣٤، علم اللغة العربية، وكان أمين المخطوطات العربية في مكتبة باريس الأهلية، وله كتب عديدة في آداب العربية وتاريخها.

      وابنه كان مستشرقًا أيضًا، وله كتاب العرب قبل الإسلام، ثلاثة مجلدات، باللغة الإفرنسية.

    • جربير: فرنساوي، نقل جغرافية الإدريسي، وله عدة مقالات.
    • فريستل: توفي سنة ١٨٥٢، له مقالات هامة في عرب الجاهلية.
    • دي فيرجه: له كتاب تاريخ العرب قبل الإسلام.
    • رينو: خلف أستاذه دي ساسي في أمانة المخطوطات الشرقية، وتدريس اللغة العربية أيضًا في مدرسة اللغات الشرقية التي صار رئيسًا لها.

      نشر كتاب تقويم البلدان لأبي الفداء، مع ترجمة إفرنسية، وكتاب في فتوح العرب بفرنسا.

    • كاترمير: من تلاميذ دي ساسي، وقد حاز شهرته وحل محله في إمامة الآداب الشرقية، صار عضوًا في الأكاديمية الإفرنسية، وتولى تدريس اللغات الشرقية، وقد دهش الناس لأبحاثه القيمة ولتآليفه الكثيرة، ترجم تاريخ الممالك للمقريزي، ونشر مقدمة ابن خلدون وأمثال الميداني … إلخ.

      وهناك مستشرقون ألمان مثل روديغر وبولد وكوسغارين وكلنيتر، أصدروا المجلة الشرقية الألمانية، ولهم تآليف وكتب لا يتسع المجال لإيراد ذكرها.

(٤) في القرن التاسع عشر

قلنا إن أول مطبعة في مصر هي مطبعة بونابرت، وأول مطبعة في لبنان هي مطبعة قزحيا للرهبان الموارنة، أنشئت في أول القرن السابع عشر، وهي أول مطبعة في الشرق، كانت تطبع الكتب العربية بالحرف الكرشوني، وهو السرياني.

  • عبد الله زاخر: وظلت كذلك حتى صب الحرف العربي الشماس عبد الله زاخر. وقد احتفلت الجمهورية اللبنانية بتمجيد ذكرى المائتين لهذه المطبعة عام ١٩٤٢، فأحيت ذكر مبدعها الشماس عبد الله زاخر، وكان للبنان شرف السبق في الشرق بإخراج الحرف العربي إلى عالم الثقافة، فرأى النور في الشوير من لبنان.
  • مطابع كبرى: ثم في هذا القرن أنشأ الإنكليز مطبعة في مالطة عربية الأحرف سنة ١٨٢٢، ونُقلت إلى بيروت سنة ١٨٣٤، وهي التي تُعرف بالمطبعة الأميركية.

    وفي سنة ١٨٤٨ أنشأ الآباء اليسوعيون المطبعة الكاثوليكية، كانت تطبع في أول نشأتها على الحجر، ثم صارت تطبع على الحروف، وهي أكبر مطابع هذه الديار وأغناها، وفي مطبعتي الأميركان والجزويت طُبعت كتب كثيرة قيِّمة ذات شأن، ولا تزالان تصدران أنفس الكتب حتى اليوم.

    وسنة ١٨٥٧ أنشئت المطبعة السورية لخليل بك الخوري صاحب جريدة حديقة الأخبار، ثم مطبعة المعارف للبستاني سنة ١٨٦٧، وهي التي صدرت عنها الجنان والجنة والجنينة ومحيط المحيط … إلخ.

    وأنشأ مطبعة لبنان الحكومية داود باشا أول متصرف على جبل لبنان ١٨٦١–١٨٦٨، فكانت تطبع على الحجر، ومن مطبوعاتها المعلقات وشرحها. وتلتها مطبعة جريدة ثمرات الفنون، والمطبعة الأدبية لخليل سركيس سنة ١٨٧٤، ومنها يصدر لسان الحال. وبعد هذه المطابع ظهرت مطابع عديدة حتى عمت البلاد في هذا العصر.

  • المؤلفات المدرسية: أخرجت هذه المطابع كتبًا مدرسية لا تحصى، ولكن هذه التآليف كلها كانت كما وضعها الأقدمون، وظلت معاهد القرن التاسع عشر تعلمها كما وضعت «شعرية ونثرية» حتى فكر بعض المتأثرين بأدب الغرب وطرقه التعليمية فحادوا عن تلك الطرق القديمة العتيقة، ولا يعني كلامنا أن تطور كتب التعليم كان عظيمًا، فهي لا تزال إلى اليوم تحمل تحديد القدماء وتعريفهم وكثيرًا من أمثلتهم التي وضعها العرب في فجر حضارتهم.
  • المعاهد الأجنبية: للمدارس الأجنبية فضل على البلاد في نشر الثقافة الأجنبية فيها بواسطة مدارسهم التي أنشئت لنشر البشارة أولًا، وإليك تاريخ نشأة هذه المدارس.

    مدرسة عين طوره، وقد مر خبر تأسيسها، ثم صارت سنة ١٨٣٤، للآباء اللعازاريين، ومدرسة اليسوعيين في غزير، ثم كليتهم في بيروت، التي تعلم كل العلوم بفروعها حتى الطب والحقوق والهندسة.

  • الجامعة الأميركية: أنشئت سنة ١٨٣٥ وأقفلت سنة ١٨٤٠، ثم أعيد إنشاؤها في عبيه سنة ١٨٤٧، ثم في بيروت، وهي اليوم جامعة بيروت الأميركية، تعلم كل العلوم بفروعها والطب، والمنافسة بين البروتستان واليسوعيين ملأت البلاد مدارس، فشكرًا لهما.

    وبعد سنة ١٨٦٠ نشأت في البلاد معاهد كثيرة للصبيان والبنات، للراهبات والسيدات البروتستان.

    ولا تزال قائمة إلى اليوم تهذب وتعلم، ومثلها فعلت مدارس الفرير في بيروت ومدن لبنان الكبرى.

  • المدارس الوطنية: زهرة الإحسان للروم الأرثوذكس للبنات، المدرسة الوطنية للمعلم بطرس البستاني، وهي أقدم مدرسة وطنية، أنشأها سنة ١٨٦٣، وأقفلت سنة ١٨٧٦، بعد أن أخرجت للبلاد عددًا من رجال العلم.

    ومدرسة الحكمة أنشأها سنة ١٨٦٥ المطران يوسف الدبس. المدرسة الداودية أنشأها داود باشا في عبيه وعرفت باسمه، والمدرسة البطريركية سنة ١٨٦٥، مدرسة الثلاثة الأقمار للروم الأرثوذكس سنة ١٨٦٦، ومدرسة اليهود سنة ١٨٧٤، المدرسة الرشيدية أقدم مدارس المسلمين الحديثة، ومدرسة الكلية الإسلامية أنشأها الشيخ أحمد عباس الأزهري سنة ١٩٠٠.

  • المدارس المجانية: بقيت الرهبانيات وحدها تعلم بالمجان حتى جاء رستم باشا ثالث متصرف في لبنان وأنشا ٧٢ مدرسة حكومية في أمهات القرى اللبنانية، فكانت الحجر الأول في صرح علمنة لبنان.
  • الصحافة: الجرائد أولًا: ذكرنا الصحف التي عرفتها البلاد أول عهدها بالصحافة، والآن نقول: إن أول صحيفة أهلية هي حديقة الأخبار لخليل بك الخوري ١٨٥٨، ثم الرائد التونسي سنة ١٨٦٠ في تونس، الجوائب لأحمد فارس في الأستانة، البرجيس في باريس لسليمان الحرائري ١٨٦٥، وجريدة سورية في دمشق، والفرات في حلب، وهما جريدتان حكوميتان رسميتان سنة ١٨٦٥، النشرة الأسبوعية للمرسلين الأميركان سنة ١٨٧٠، والبشير لليسوعيين سنة ١٨٧٠، وقد دعوها أولًا المجمع الواتيكاني.
  • المجلات: وظهر على أثر الجرائد الإخبارية المجلات العلمية؛ أُولاها مجلة الجنان لبطرس البستاني ١٨٧٠، ثم شفعها بجريدة سياسية اسمها الجنة، وبعد الجنان بسبع سنوات ظهرت المقتطف لصروف ونمر في بيروت أولًا، ثم نقلوها لمصر بعد أن أصدرا منها عشرة مجلدات، وحين نقلوها أصدروا جريدة المقطم معها. ثم ظهرت مجلة البيان لليازجي إبراهيم وزلزل، والهلال لجرجي زيدان، والمشرق للآباء اليسوعيين، والضياء لإبراهيم اليازجي بعدما احتجبت البيان. وأخذت الجرائد والمجلات في الانتشار ولا تزال إلى يومنا هذا في نموٍّ مستمر.

الجمعيات العلمية

  • (١)

    أول جمعية علمية قد أُسست بمساعي الأميركان سنة ١٨٧٤، وكان من أعضائها فانديك، والبستاني وناصيف اليازجي، ورتبات، مخائيل مشاقه. عنيت بالخطب أو المباحثات، وجمع الكتب ونشر العلم.

  • (٢)

    الجمعية العلمية السورية، من أعضائها الأمير محمد أرسلان وسليم البستاني والمركيز موسى فريج سنة ١٨٦٨، وجمعية شمس البر ١٨٦٩، جمعية زهرة الآداب سنة ١٨٧٣، وجمعية الحكمة التي أسسها الدبس في مدرسة الحكمة سنة ١٨٨١.

  • المجامع العلمية: أنشئ في لبنان مجمع لم يطل عمره، أما أقدم المجامع العلمية العربية والذي لا يزال يعمل بنشاطٍ فهو المجمع الدمشقي. تأسس عام ١٩٢١، وهو يصدر مجلته الفصلية طافحة بالفصول والأبحاث المفيدة.
  • كرد علي: كان رئيسه الدائم العلَّامة الأستاذ محمد كرد علي، وظل على رئاسته حتى مات سنة ١٩٥٣، ومن أشهر مؤلفات هذا الكاتب العامل: خطط الشام، وتاريخ أحمد بن طولون، وفلاسفة الإسلام، وكنوز الأجداد، ومذكرات في أربعة أجزاء كبيرة، وغيرها.

    ولما مات انتُخب الأديب الشاعر خليل مردم بك رئيسًا للمجمع. ولم يطل عمره — رحمه الله — فحل محله الأستاذ الأمير مصطفى الشهابي وهو علَّامة مدقق.

    وفي القاهرة أنشئ مجمع ما زال ملتئمًا، وقد بذل جهودًا في سبيل هدفه، وهو المحافظة على صحة اللغة العربية وجعلها تماشي تقدم العلوم والفنون.

    وفي بغداد أُنشئ مجمع ثالث له — كأخويه المصري والسوري — جولات في خدمة الفصحى.

  • المكاتب العربية في أوروبا: مكتبة برلين الملوكية، عدد مجلداتها ١٤٥٠٠٠٠، بينها كتب عربية خطية كثيرة. مكتبة الأسكوريال في إسبانيا، فيها ١٦٨٦ كتابًا عربيًّا. مكتبة لندن، مكتبة أكسفورد، وهي أغنى المكاتب باللغة العربية، ومكتبة باريس ومكتبة فيينا، ومكتبة الفاتيكان الحافلة بالآثار الأدبية.

    وفي الأستانة مكاتب عديدة حافلة بالكتب العربية، وفي مصر المكتبة الخديوية، والمكتبة الأزهرية، ومكتبة الجامعة المصرية، والخزانة التيمورية، وفي دمشق المكتبة الظاهرية، وفي حلب المكتبة الأحمدية، والمكتبة المارونية التي أنشأها جرمانوس فرحات، فيها ٧٠٠ كتاب خطي.

    وفي بيروت المكتبة الشرقية، وهي غنية في المخطوطات، لا تقل مجلداتها عن ٥٠ ألفًا. مكتبة الكلية الأميركية فيها آلاف المجلدات. وفي العراق مكتبة السيد حسن صدر الدين، وفيها كتب خطية لا توجد في غيرها.

  • المعاجم: وكثرت في هذا الطور التآليف على اختلاف أنواعها، ففي مصر كتب طبية وعلمية وزراعية، وفي هذا القطر كذلك، وخصوصًا المعاجم، فبعد معجم فرحات الذي طبع في باريس ظهر محيط المحيط وقطر المحيط لبطرس البستاني، ودائرة المعارف التي ألف منها المعلم بطرس ستة مجلدات.

    ثم قام بعده ابنه وأنسباؤه كسليمان البستاني فألفوا منها أجزاء حتى وصلوا إلى المجلد الحادي عشر، وظهر أيضًا أقرب الموارد للشيخ سعيد الشرتوني، والبستان للشيخ عبد الله البستاني، ومعجم الشيخ عبد الله العلايلي الطريف، والمنجد للأب لويس معلوف، وأخيرًا أتمه الأب توتل بمعجم أعلام شامل فجاء من أنفع الكتب.

(٤-١) الأدب عامة

لم يبزغ نجم هذا العصر إلا والأدب قد جف وذبلت نضارته وحالت بهجته، وانقطعت الصلة بين الأقلام والأدب القديم، فالنثر ركيك عقيم، حافل بالصنعة الشنيعة التي لا يقبلها ذوق، المواضيع بليدة والأفكار تافهة والصور مكروهة ممقوتة، يلوح فيها تعبير كبار الكتاب كرقعة جديدة في ثوبٍ بالٍ. أما الشعر فدارت مطالبه في أضيق الدوائر، غزل خائر ظاهر التكلف، ووصف بليد لا تتمثل فيه شيئًا، وهجاء بارد، ومديح لا تشتهي أن تسمعه، فلا الديباجة تحببه إليك ولا البلاغة تستر عيوب المبالغة، لا همَّ للكتاب والشعراء إلا الصنعة واقتناص الألفاظ.

أما علوم البلاغة فضبطت في قواعد جافة منها شعرية ومنها نثرية، وكلها جافة لا تُدني الطالب من مناهل البيان والفصاحة، ولا تقرِّب ما يتعلمه إلى فهمه، وقد زاد الشراح كتب البلاغة تعقيدًا إذ خرجوا بها إلى التفلسف والتعليل، فأعلوا القلوب والأفهام.

ولم يكن يحرص أكثر الكتَّاب على قواعد الإعراب وصحة اللغة، ولذلك جاءت ترجمة الكتب العلمية التي احتيج إليها أقرب إلى العامية منها إلى الفصحى، إلى أن كانت النهضة الحديثة التي لم تعدم اللغة العربية فيها أنصارها مثل فرحات وكرامة والعطار والدرويش والطهطاوي.

فبدأ الناس يبحثون الأدب القديم ويحتذونه إذا كتبوا أو خطبوا حتى اقتربوا منه رويدًا رويدًا، مع تأثر بالأدب الغربي؛ لأن حضارة هذا العصر مبنية على أساس الحضارة الغربية الأوروبية، ففنونها وعلومها ولغاتها وآدابها قد خالطت نفوسنا لاطلاعنا عليها وتأثرنا بها، ولهذا نرى الأدب الحديث متأثرًا كل التأثر بالأدب الغربي، في الأغراض والمنازع.
  • النثر: كان الناس في هذا العصر يحذون حذو كاتبين، بل ينسجون على طراز كتابين: مقامات الحريري ومقدمة ابن خلدون، الأول يمثل الأسلوب الصناعي الأجوف المموه، والثاني يمثل الأسلوب المحكم، فقصر العقول عن البحث حمل فريقًا على اتباع خطى الحريري، أما المفكرون — وما كان أقلهم في هذه الفترة — فكانوا يؤثرون ابن خلدون لجريانه مع الطبع وملاءمته لروح العصر، وظل الصراع مستمرًّا حتى انكسر قلم القاضي الفاضل والحريري في آخر صفحة من كتاب عيسى بن هشام للمويلحي، ومجمع البحرين لليازجي، وليالي سطيح لحافظ إبراهيم.
  • الأساليب: إن الأقلام التي تحررت من رق المقامات لم تتبع كلها ابن خلدون، بل راح فريق منها يقلد الجاحظ وابن المقفع والإمام علي، بيد أن تأثر الكتَّاب بأساليب الفرنجة ولَّد فيهم الميل إلى الأساليب الدقيقة السهلة وترك السجع ومقته، ثم تعددت الأساليب في هذا العصر فكان لكل طبقة أسلوب؛ كالمحامين والصحفيين والمؤرخين والنقاد والقصصيين والمترجمين … إلخ.

أثر الأدب الغربي

  • (١)

    أدخل على العربية تعابير جديدة لم تؤلف من قبل، وصيغًا جديدة أيضًا؛ وذلك لتأثر الكتاب بالأدب الإفرنجي؛ وخصوصًا غير المطبوعين منهم على أساليب العربية، وقلة البضاعة من فقه اللغة.

  • (٢)

    جعل المقام الأول للمعنى لا للفظ.

  • (٣)

    الاقتصار على ما يؤدي المعنى ويصيب الغرض.

  • (٤)

    تناول الموضوعات والأشخاص بألوان من التحليل لم تكن معروفة من قبل.

  • (٥)

    تطور النقد الأدبي واتساع دائرته، على أسلوب الفرنجة، فبعد أن كان العرب لا يتناولون المعاني والصور بالنقد صار يشمل كل شيء حتى الأفكار وإيرادها.

  • نثر الصحف: خدم اللغة أجلَّ خدمة، وهو الذي مهد طريق الخروج على الأساليب القديمة وهجرها، ومن شروطه تعمد السهولة في اللفظ وعدم التعمق في المعاني؛ لأن الصحف تخاطب الجماعة، ولذلك ترى نثر المجلات العلمية والأدبية أعلى طبقة من نثر الجرائد، وأرصن وأوفى؛ لأنها كتبت للمتعلمين خصوصًا، وهذا النوع من النثر بدأ أولًا ركيكًا ضعيفًا ثم أخذ في الرقي حتى بلغ ما بلغه اليوم من الرقي، فللصحافة أجل خدمة في البعث والرقي الأدبي.
  • النثر الفني: هو أقدم أنواع النثر على الإطلاق؛ لأن عهد العرب بالصحف جديد، كما أنهم لم يعالجوا البحوث الاجتماعية إلا في العصور المتأخرة.

    والنثر الفني يحتاج إلى تضلع من بلاغات المتقدمين وألفاظهم التي تؤدي المعنى بتمامه، ومنها سعة الخيال والتفطن إلى تفهم الكلام على حقه، والتقاط النكتة مع مجانبة الاستكراه، وإدراك جمال العلم والفن. وقد كان هذا النثر ضعيفًا في بدء عهده كما كانت أغراضه مقصورة على كتب المودات ورسائل التهنئات والتعزيات وشيء من الوصف، ثم أخذ يرقى ويتقدم حتى وصل إلى ما تراه اليوم.

  • جمهرة الكتاب: ومن هؤلاء النثَّار المرصفي والليثي وفكري وأحمد فارس الشدياق وعبده، والمويلحي، واليازجي «إبراهيم» وإسحاق والحداد، والبستاني «سليمان» والمنفلوطي وجبران والريحاني ويكن وعمر فاخوري.
  • الأقاصيص والروايات: قد ذكرنا سابقًا عن حظ العرب من هذا الفن، فالقصة الصغيرة، كما هي في المقامات، قد أخذت بحظٍّ وافر من الفن لولا مغزاها، أما القصة الجديدة فأول من حاول كتابتها أبناء هذا القطر؛ لأنهم أسبق إلى مخالطة الفرنج … أول من كتب فيها، فرنسيس مراش وسليم البستاني وفرح أنطون وجرجي زيدان، وليس هنا مجال البحث عن مقدار توفيقهم.

    أما القصة الصغيرة كالمقامات، فآخر من كتبها نقولا الترك وناصيف اليازجي في لبنان، والمويلحي وحافظ إبراهيم في مصر، إلا أن المصريَّيْنِ احتفظا بالأسلوب وأسهبا في الموضوع، فجاء عملهما بين القصة والمقامة.

  • الخطابة: ظلت الخطابة في أول هذا العصر كما كانت عليه في آخر العصر العباسي لا تتعدى الجوامع والبيع، حتى كانت الثورة العربية في مصر والحياة النيابية والدعاية الوطنية، أما في الشام التي هي في تأخر عن مصر في الحياة السياسية؛ لأنها ظلت تحت النير التركي، وقد كانت وطأة المراقب ثقيلة على الألسنة والأقلام، بيد أن الجمعيات الأدبية التي تقدم ذكرها ساعدت جدًّا على تقوية ملكة الخطابة، ولما انطلقت الألسنة تناولت الخطابة السياسة والاجتماع، وكان من مشاهير الخطباء عبد الله نديم ومحمد عبده وإسحاق والمطران الدبس ومصطفى كامل وزغلول والأفغاني، وفي المتأخرين أمين الريحاني والدكتور فياض وفليكس فارس، ومجاعص.

الشعر

كان الشعر خامدًا ميتًا فلم نسمع شاعرًا يتغنى قبل هذا العصر إلا المطران جرمانوس فرحات والخوري الصائغ، وبعدهما ظهر الشعر أيضًا على لسان بطرس كرامة ونقولا الترك، وفي مصر قاله السيد علي أبو النصر والشيخ علي الليثي على عهد إسماعيل، كما قاله الشاعران اللبنانيان في ظل البشير الشهابي، الذي كان يعطف على الأدباء ويجيزهم كأمراء العصور العباسية، فكان له فضل كبير على نهضة الأدب والشعر خاصة.

إلا أن هذا الشعر كان ركيكًا باردًا، كله تقليد وصنعة، ينحو نحو الأقدمين في الأغراض ويقصر عنهم في الديباجة والرشاقة والأفكار، وبالاختصار يقصر في كل شيء.

  • محمود سامي البارودي: إلا أن الشعر طفر طفرة عظيمة تستقبل بالدهشة حين قاله محمود سامي البارودي المصري، فهذا أعاد للشعر العربي رواءه، فقد ضاهى الشريف الرضي في الجزالة والمتانة والقوة، ولم يختلف عن المتقدمين في شيء من مطالب الشعر، قاله مثلهم وعلى نحوهم، وزاد عليهم شيئًا من مظاهر الحضارة الجديدة، ووصف مخترعات العصر الحديث.
  • صبري: ثم ظهر إسماعيل صبري الذي قال الشعر المحكك، وهكذا كان صبري والبارودي سابقين لظهور شوقي شاعر النهضة.

    أما في لبنان فخطا بالشعر الشيخ ناصيف اليازجي، فقد كان فوق الذين تقدموه، ولكنه دون البارودي شدة أسر وتركيب وصفاء ديباجة، بيد أنه يمتاز بالسهولة، وهو في شعره من أضراب البهاء وأبي العتاهية في السهولة، أما اليوم فالشعر خطا خطوات واسعة حتى دنا من فصاحة الأقدمين ولهجتهم العربية، مع ترك زخرف اللفظ، والاهتمام بالمعنى وتصوير المشاهد ووصفها وصفًا دقيقًا، وترك الأساليب القديمة والأغراض العتيقة كالمدح والهجاء، إلا نفرًا قليلًا لا تزال عقولهم بخواتم ربها، يصفون ماءً وجرَّة وعندهم الأنهار المتدفقة والينابيع المغردة، يرون ما يرون حولهم ولا يشعرون، يتغزلون حتى في المذكر كما تغزل أبو نواس، ذاك تغزل إرضاء لعاطفته، أما هم فلا أدري لماذا!

    إن لشعر الغرب أثرًا بليغًا في الشعر العربي، خصوصًا في شعراء هذه الفترة، فإنهم يختارون أغراضًا بالأجنبية أشبه. وقصارى الكلام أن نهضتنا الحاضرة إذا ظلت مطردة فالأمل كبير، ولا يبعد أن نرى عصرًا زاهيًا يكون ذا شأن في تاريخ الأدب ويترك لمن يأتي بعدنا مجالًا للبحث والدرس.

الشعراء والكتَّاب

  • (١)
    الترك: هو نقولا الترك، ولد في دير القمر من أسرة قديمة فيها، يدل اسمه كما يقول التقليد أنهم من عائلة تركية توطنت دير القمر، أحب العلم من صغره وأكبَّ عليه وأكثر المطالعة، فأمسى مُنشئًا شاعرًا، ولما جلس الأمير على كرسي إمارة لبنان في بيت الدين اتصل به نقولا وخدمه ومدحه في قصائد كثيرة، وزاد على الشعراء أنه كتب في التاريخ.
    ومن مميزات نقولا المزاح في الشعر. وشعراء زمانه كانوا ينظمون في أغراض المتقدمين كلها، وزادوا عليها بابًا جديدًا يُعرف بالتاريخ، وهو تضمين الأحرف الأبجدية للسنة التي قيل فيها الشعر، بعد كلمة تاريخ أو أرخ أو أرخت أو أرخنا … إلخ. وقد تفرد في هذا الباب الشيخ ناصيف اليازجي الذي ضمَّن بيتًا عشرات التواريخ (راجع كتابنا: رواد النهضة الحديثة).
    • الترك المنشئ: ولنقولا الترك مقامات قلَّد بها الحريري، عددها عشر، محدثها الحازم وبطلها أبو النوادر يرمي بها إلى مدح الأمير، وقد طلب فيها دارًا يسكنها فمنحه ذلك الأمير بشير، وقد كان يفعل ذلك في الشعر فيطلب الكسوة وغيرها من الأمير.

      وللترك تاريخان؛ الأول تاريخ نابليون والثاني تاريخ أحمد باشا الجزار، والكتابان يدلان على فكرة وروية وتأمل وتبصر، والركاكة في نثر الترك أقل منها في شعره.

  • (٢)
    كرامة: هو بطرس بن إبراهيم كرامة الحمصي، وُلد ونشأ وتأدَّب بحمص، قال الشعر في حداثته، ومدح أعيان بلده، ثم هاجر ووالده إلى بلاد عكَّار، واتصل بحاكمها ومدحه، ثم اتصل بالأمير بشير فكان له شاعرًا ومدبرًا، وتولى رئاسة ديوان وأمانة سره لمعرفته التركية، وكان معلمًا لولده الأمير أمين، ففاضت عليه النعمى فأصبح أميرًا.
    ولما نُفي الأمير إلى مالطة بعد انهزام إبراهيم باشا المصري، رافقه بطرس في منفاه، وظل في خدمته حتى مات الأمير في الأستانة. وعين بطرس كاتبًا في المابين الهمايوني، وظل في وظيفته تلك حتى مات.
    • شاعريته: شاعر مطبوع، فياض القريحة، قوي العارضة، متصرف في المعاني، وهو أعلى شعراء عصره كعبًا، وأرسخهم قدمًا، مدح غير الأمير من كبار حكام ذلك الزمان أخصهم داود باشا حاكم العراق وركن النهضة الأدبية فيه. قال فيه قصيدته الخالية المشهورة التي أحدثت ضجة أدبية كبرى ودارت حولها مناقشة حامية كان بطلها التميمي الشاعر العراقي (راجع كتابنا: رواد النهضة في باب شعراء الأمير).
  • (٣)
    اليازجي: هو ناصيف بن عبد الله اليازجي، وُلد بكفر شيما، تلقى مبادئ العلوم على أحد القسوس، ثم علمه والده الطب على الطريقة القديمة، وهي مهنة الأب، فوعى الطب ونظم فيه أرجوزة. حفظ ناصيف كثيرًا ووعى أكثر من مأثورات العرب، ثم قصد الأمير بشير فقرَّبه إليه وجعله من كتاب ديوانه، وبعد سقوط عرش الأمير عاد ناصيف إلى بيروت ينظم ويكتب ويراسل أدباء عصره، ويعلم في المدارس العالية.
    • تآليفه: لم يترك بابًا مما طرقه الأقدمون إلا طرقه، ففي مجمع البحرين نحا نحو الحريري، وفي الأرجوزة نحا نحو ابن مالك، وفي ديوان المتنبي نحا نحو ابن جني، وفي كتب النحو والصرف والبيان نحا نحو الجماعة، وفي شعره أيضًا نحا نحو الشعراء الأقدمين. وله ديوان فاكهة الندماء، ونفحة الريحان، وثالث القمرين.
    • شعره: متأثر بما حفظ، رقيق الديباجة، مطبوع اللهجة، سريع البديهة، ناصع اللفظ، قلد الحريري فوفق والمتنبي فأخفق، قال الحِكَم فلم يأتِ بجديد، وكل تآليفه تدل على سعة اطلاع وإتقان لعلوم اللسان. وقد برز في نظم التاريخ الذي تقدم ذكره، والتفصيل في رواد النهضة أيضًا.
    • حكمته: بدائية زهدية لا إبداع فيها، ومدحه على غرار السابقين، وغزله ناعم رقيق ككل شعره.

النثر

ركاكة وغموض ومحسنات لفظية إلى ضعف تركيب وقلق؛ أي أن يؤتى باللفظة عمدًا لتوضع في الجملة مرغمة … إلخ.
  • (١)
    الجبرتي: عبد الرحمن بن حسن الجبرتي، نسبة إلى جبرت، وهي مدينة في الحبش، وُلد سنة ١٧٥٤، ومات سنة ١٨٢٢، تخرَّج في الأزهر وأتقن علوم زمانه، واتصل بالفرنسيين عندما فتحوا مصر، وعُين كاتبًا في الديوان، وبعد ذهابهم انصرف إلى التأليف، فكتب تاريخه عجائب الآثار في التراجم والأخبار، وهو يحتوي حوادث القرنين الثاني والثالث عشر، جمعه على حوادث الأيام يومًا فيومًا، ولا سيما أيام نابليون وفجر حكم محمد علي، وفيه تراجم كثيرة لمن كانوا يموتون من مشاهير العلماء والأعيان … إلخ.

    إنشاؤه جاف بيد أن روايته صحيحة، ومع ذلك هو في طليعة منشئي هذا العصر.

  • (٢)
    البستاني: هو بطرس بن بولس البستاني، ولد بالدبية — لبنان سنة (١٨١٩–١٨٨٢)، تلقى علومه في مدرسة عين ورقة المارونية، وأحسن اللغات السريانية والعربية واللاتينية والإيطالية، ودرس الفلسفة واللاهوت، والحق القانوني والجغرافية والتاريخ والحساب، على نية أن يصير من خدام المذبح، ولكنه حوَّل نفسه إلى خدمة العلم.

    واتصل بالبروتستانت وتعلم اللغة الإنكليزية والعبرانية واليونانية، وتمذهب بمذهبهم وترأس مدرسة الأحد عندهم بعبيه سنتين ألَّف في خلالهما كتابه: كشف الحجاب في علم الحساب، ثم ساعدهم في ترجمة التوراة.

    وبعدئذٍ أنشأ مدرسته الوطنية، وأصدر مجلاته الجنان والجنة، وتفرغ في آخر حياته للتأليف فألَّف كتابه محيط المحيط، أخذه عن الفيروزابادي وزاد عليه كثيرًا من الألفاظ الحديثة للمصطلحات العلمية والمنطقية وغيرها، ودل على أصول الكلمات الدخيلة.

    ثم انصرف لتأليف كتابه الجامع دائرة المعارف فأصدر منه ستة أجزاء، فأتم السابع ابنه سليم وألحقه بالثامن، ثم تابع الورثة إصدار ثلاثة أجزاء فبلغ الأجزاء ١١.
    • قيمته: ركن النهضة ومنارة علم وأدب في عصره، عمل بنفسه ما تعجز عنه الجماعات، رجل عمل وثبات، تُعلِمنا آثاره أن الكد المقرون بالذكاء يأتي بكل عجيبة.

      أما كتابته فكانت سهلة لا تعمُّل فيها ولا تكلف ترسل إلى السليقة، من أتباع ابن خلدون وإن قصر عنه في صحة التعبير، يهتم للمعني أكثر من الألفاظ، فهو يمثل النقلة السريان في عهد الخلفاء العباسيين.

  • (٣)
    إبراهيم اليازجي: وُلد في بيروت ونشأ فيها، وأخذ العربية وعلومها عن أبيه، وبعد أن قال قصائد رائعة ودبج مقالات شائقة، اتصل بالآباء اليسوعيين فوقف على ترجمتهم التوراة منقحًا عبارتها العربية فجاءت أفصح الترجمات، ثم علم في المدرسة البطريركية، وأنشأ مجلة الطبيب مع زلزل وسعادة، ثم انتقل إلى مصر فأصدر البيان أولًا، ثم أصدر مجلة الضياء بدلًا بها وماتت بموته.
    • أخلاقه: أبيُّ النفس عصبي المزاج، أنوف مترفع عن كل خساسة، وقد دفع ثمن هذه الخصال غاليًا شأن كل أديب شريف أبي لا يبيع وجدانه.
    • قيمته: تبحر في فقه اللغة على وجهٍ خاص، شاعر متين، كاتب رصين، وهو أول من عالجوا النقد اللغوي في البيان والضياء، فرد الكتاب إلى العربي الصحيح، فكان أثره بعيدًا في حمل الأدب على تحرِّي صحة الألفاظ وتأليف الكلام على قوانين العربية الخالصة، والخلاصة أنه كان حجة جيله، إذا قضى يقال قطعت جهيزة قول كل خطيب.
    • في العلم والفن: وله أيضًا فضل آخر وهو إيجاد ألفاظ كثيرة لمصطلحات علمية، وله يد كبرى على الطباعة فهو صانع أمهات الحروف العربية الإسلامبولية، وله في علم الهيئة جولات حتى إنه اكتشف نجمة فعُد بين علماء الفلك المكتشفين.
  • (٤)
    إبراهيم الأحدب: وُلد في طرابلس سنة ١٨٢٦، ومات سنة ١٨٩٠، وأخذ العلم عن شيوخها ورحل إلى الأستانة وعرج على مصر، وتعرَّف إلى شيخ الأزهر وعلمائه ثم راسلهم بعدئذ، اشتهر بالفقه الحنفي، فكانت محاكم لبنان تعتمد على فتاويه، ثم تولى القضاء في بيروت ووُظف في المعارف، وتولى تحرير ثمرات الفنون، وقد قال الشعر وله منه الجيد واشتهر بنظم الأمثال الشعرية، والحكم.
    • تآليفه: عديدة. منها: مقامات، فرائد الأطواق في أجياد محاسن الأخلاق، وهو مائة مقالة كأطواق الذهب نظمًا ونثرًا، وله فرائد اللآل في مجمع الأمثال، مؤلف نفيس في مجلدين نظم فيه أمثال الميداني، وله كتب أُخر غيرها، وقد اشتهر في الإكثار من النظم حتى بلغ ما نظمه ثمانين ألف بيت.
  • (٥)
    يوسف الأسير: ولد في صيدا عام ١٨١٤، ولم يتبع التجارة كأبيه فانصرف إلى العلم، تلقى علومه الابتدائية في صيدا، ثم خرج إلى دمشق فالأزهر حيث فاز بشهادته العالية، وعاد إلى صيدا ثم انتقل إلى بيروت، وتقلب في مناصب عديدة شرعية، ثم ذهب إلى الأستانة حيث وُظف في وزارة المعارف، ثم عاد إلى بيروت فكان مرجع رجال اللغة والفقه الشافعي، وقد قال الشعر ولكن لم يُجدد فيه.
    • تآليفه: إرشاد الورى، رائض الفرائض، شرح كتاب أطواق الذهب، وديوان فيه الشعر الجيد.
  • (٦)
    الكونت رشيد الدحداح: ولد في عرمون كسروان، لبنان. درس في عين ورقة، ثم صار كاتبًا لأمراء زمانه، ولكنه أبى هذه الحياة المقيدة فرحل إلى باريس فاشتغل بالتجارة ثم انصرف إلى العلم، فأنشأ جريدته، برجيس باريس، واتصل بباي تونس، ومدحه فقربه وجعله ترجمانه الخاص، وبعد مدة عاد إلى فرنسا فابتنى قصرًا وعاش عيشة العظماء وانصرف إلى التأليف كالمستشرقين.
    • تآليفه: قمطرة طوامير، مقالات أدبية وفوائد لغوية. سيار المشرق في بوار المشرق «تاريخ»، وقد طبع معجم المطران فرحات.
  • (٧)
    الألوسي: محمود شهاب الدين الألوسي من أشراف العراق السادة الحسينيين، نسب لألوس جزيرة في وسط الفرات، كان قطب علماء العراق وتولى إفتاء السادة الأحناف، له تلامذة كثر، رحل إلى الأستانة وحظي بمقابلة السلطان عبد الحميد وأجزل عطاءه أدبيًّا وماديًّا فعاد إلى العراق غانمًا.
    • تآليفه: نزهة الألباب، وهو كتاب رحلة جامعة لتراجم العظام وأبحاث جرت بينه وبين شيخ الإسلام، روح المعاني في تفسير القرآن، رحلة إسلامبول، شرح درة الغواص، كتاب المقامات الخيالية، وله غير هذه كتب كثيرة لم يطبع منها إلا ١٧ كتابًا.
  • (٨)
    الطحطاوي: من رجال بعثة محمد علي الكبرى إلى باريس، تولى الترجمة في العلوم المختلفة، ثم ولي نظارة مدرسة الألسن التي أنشأها محمد علي للترجمة وعلمها.

    وقد عانى كثيرًا من الأتعاب؛ لأن اللغة العربية كانت في ذلك الزمن منقطعة عن لغات الغرب فجاهد كثيرًا في إخراج المصطلحات لأداء المعاني الفنية، وله كتب عديدة في فنون مختلفة منها.

    • تآليفه: تاريخ مصر، رحلته إلى فرنسا، تعريب تلماك، هندسة ساسير، وغيرها.
  • (٩)
    الحرايري: هو تونسي الأصل واسمه سليمان الحرائري عاون الدحداح في برجيس باريس، وكان قبلًا رئيس كتاب الباي التونسي وله كتاب عرض البضائع العام في وصف معرض باريس.
  • (١٠)
    الدبس: هو المطران يوسف الدبس، ولد بكفر زينا، وتعلم في عين ورقة العلوم واللغات والفلسفة واللاهوت وكل علوم الدين، وبعد أن سيم كاهنًا علم في مدرسة مار يوحنا مارون، ثم سيم أسقفًا لأبرشية بيروت المارونية، له تآليف عديدة وأولها مربي الصغار ومرقي الكبار، ثم مواعظ الدبس، وكتاب سفر الأخبار، وروح الردود، وأعظمها تاريخ سوريا الضخم وهو عشر مجلدات ضخمة، وله غيره كتب عديدة أهمها الجامع المفصل الذي عوَّلنا عليه في كتابة تراجم طلائع النهضة اللبنانية.
    وهو منشئ مدرسة الحكمة كما سبق، ومؤسس الجمعية الأدبية فيها، والخلاصة أن حياة هذا الأسقف كانت حياة جد وعمل. توفي سنة ١٩٠٧.
    • قيمته: خطيب مفوه، فصيح بليغ، إنشاؤه من نوع إنشاء عصره، مرسل لا كلفة فيه ولا بلاغة.
  • (١١)
    الأب لويس شيخو: وُلد في ماردين، ثم اتصل بالآباء اليسوعيين فتعلم في مدرستهم بغزير، وسافر إلى أوروبا وعاد ليدرس الآداب العربية في كليتهم، ثم انقطع إلى التأليف فخدم الآداب العربية بما ألفه من الكتب القيمة، التي له الفضل في إخراجها بأحسن ترتيب وتبويب، وطبع متقن عُرفت به مطبعة الآباء اليسوعيين.
    وقد كانت مجلة المشرق ميدان الأب لويس اليسوعي ينشر فيها كل ما يعنُّ له نشره، وقد عني بنشر الآداب العربية، وكان جلُّ همه موجهًا للبحث في النصرانية وشعرائها قبل الإسلام وبعده.
    • مؤلفاته: كتاب علم البيان والخطابة جزآن، وله جزآن آخران هما مقالات تشرح الكتابين وتفيض في البحث، وميزة كتابه أنه نهج في علم البلاغة منهج أدباء الفرنج.

      مجاني الأدب ٦ أجزاء، وله ثلاثة أجزاء شرح، وهو مختارات من خير أقوال العرب، وهو الأول من نوعه في وفرة الأغراض وحسن التبويب.

      شعراء النصرانية، كتاب ضخم في ستة مجلدات، يزعم فيه الأب شيخو أن معظم شعراء الجاهلية نصارى، وفي هذا الزعم من المغالاة ما فيه، بيد أن للكتاب قيمة أدبية كبيرة.

      آداب النصرانية بين عرب الجاهلية، ذكر فيه كلمات وعبارات وأمثالًا أدخلتها النصرانية في عرب الجاهلية.

      تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر. أحيا شيخو في هذا الكتاب ذكر كثيرين من الأدباء والشعراء في كل الأقطار.

      وله أيضًا يد كبرى على المكتبة الشرقية، بما جمع من الكتب، وقد جعل لها فهرستًا كفهرست أمهات الكتب العالمية.

القصص

كان حظ العرب من القصص والشعر القصصي قليلًا، بيد أن هذا الفن اقتُبس عن الأجانب؛ فهم الذين جعلوا شأنًا عظيمًا للقصة، اقتبسها العرب عنهم بقواعدها ومناهجها حتى موضوعاتها، وكان الأسبقون إلى هذا الشاميين لمخالطتهم الأوروبيين، والأخذ عنهم، ومن هؤلاء: فرنسيس مراش الحلبي، وسليم البستاني، وجرجي زيدان، وفرح أنطون. بيد أن قصص هؤلاء لا تنطبق على الفن القصصي الحديث تمام الانطباق، فهم القصصين اليوم، تحليل الشخصيات وتصوير المشاهد بكل دقة، في حين أن قصصنا تعنى بسرد الحوادث كواقعة حال، وكان يهمهم المفاجآت، والإتيان بالغريب منها الذي يدهش له القارئ.
  • (١)
    سليم البستاني: هو ابن المعلم بطرس البستاني، وُلد سنة ١٨٤٧، ومات عام ١٨٨٤. نشأ في حجر أبيه وأخذ عنه العربية وعن اليازجي الأب. كان مساعدًا لأبيه في أعماله الأدبية والعلمية وألَّف بعد وفاة أبيه الجزء السابع من دائرة المعارف، ولم يطل عمره فلحق بأبيه بعد سنة من وفاته. كان يحرر الجنة والجنان، ويضع الروايات التمثيلية والقصصية.
    • أهم رواياته: قيس وليلى، ورواية الإسكندر، والهيام في جنائن الشام، وزنوبيا، وغيرها. هو أول من ألف في هذا الفن، أما لغته الكتابية فأصح من لغة أبيه ومقالاته وافرة التخيل.
  • (٢)
    زيدان: جرجي زيدان منشئ الهلال، وصاحب الروايات التاريخية، ومؤلف كتاب الأدب العربي الحديث مرتبًا حسب العصور، وُلد ببيروت وتعلم أولًا في مدرسة كمدارس القرى البسيطة، واضطر إلى العمل مع أبيه الفقير، وحاول أن يتعلم اللغة الإنكليزية في مدرسة ليلية ففعل، ومالَ إلى تعلم الطب في كلية بيروت الأميركية فمكث فيها سنة واحدة، وخرج وذهب إلى مصر ليتم علمه هناك فلم يستطع لضيق ذات يده فغادر المعهد الطبي وكتب في جريدة الزمان، ثم رافق الحملة النيلية سنةً، وعاد إلى بيروت حيث طالع العبرانية والسريانية ووضع كتابه الفلسفة اللغوية، ثم عاد إلى مصر حيث ساعد في تحرير المقتطف، وتركها وألَّف كتابه تاريخ مصر الحديث، ودرس في المدرسة العبيدية، إلى أن أصدر مجلة الهلال.
    • قيمته: دمث الأخلاق، لين المعاشرة، لطيف الحديث، متوقد الذكاء، صادق العزيمة صبور، لم يكن يتعمد في كتابته أسلوبًا خاصًّا، بل كان يرسل عبارته على السليقة بلا تكلف ولا تصنع، فإذا صح أن يكون لبطرس البستاني أسلوب فهو هذا، فكلاهما طُبِعا على غرار واحد، ورميا إلى هدف واحد وهو تعليم الجمهور.
    • آثاره: أما آثاره فهي: مجلة الهلال، تاريخ مصر الحديث، تاريخ التمدن الإسلامي، تاريخ الأدب العربي، العرب قبل الإسلام، مشاهير الشرق، اثنتان وعشرون رواية تاريخية، وقد كان ملمًّا بعلوم شتى للمطالعة الكثيرة والأبحاث التي كانت تتطلبها منه مجلته. أما هلاله فصبغته تاريخية كما أن صبغة المقتطف علمية تطورية. والضياء لغوية، والمشرق أثرية أدبية دينية جدلية، والجامعة مجلة فرح أنطون اجتماعية فلسفية حرة الفكر.

الصحافيون

تقدم الكلام عن تاريخ الصحافة في بابه، والكلام عن الإنشاء الصحافي في كلامنا عن النثر، فالأسلوب الصحافي هو — كما علمت — أسلوب كان خاليًا من الفن في أول عهده، بل كان الإنشاء بسيطًا ركيكًا لا يعلو عن اللغة العامية إلا أنه معرب، ولكن الصحافة أخذت ترتقي وتنمو وتتحسن لهجتها وتبعد عن العامية حتى بلغت ما بلغته اليوم من علو اللهجة ومتانة التركيب وفصاحته. ونعيد القول إن الأسلوب العربي الحاضر مديون للصحافة، فهي التي نفَّرتهم من السجع الذي ثار عليه أحمد فارس الشدياق.
  • (١)
    أحمد فارس الشدياق: هو فارس بن يوسف الشدياق، قيل إنه اعتنق الإسلام، وُلد في عشقوت كسروان لبنان (١٨٠٤–١٨٨٧)، وتلقى علومه في مدرسة عين ورقة الشهيرة. نشأ نبيهًا ذكيًّا، أولع منذ الصغر بمطالعة تآليف البلغاء، وأشعار العرب الأقدمين، فأدرك أسرار اللغة، ثم رحل إلى القطر المصري فأتم دروسه وحرر في الوقائع المصرية، واشتهر بين علماء عصره وشعرائه.

    ودعاه المرسلون الأميركيون إلى مالطة فتولى إدارة مطبعتهم وتصحيح مطبوعاتها، ثم سافر إلى أوروبا فزار باريس ولندن وغيرهما. وفي باريس تعرَّف إلى باي تونس ونظم فيه قصيدة عارض بها لامية كعب بن زهير «بانت سعاد» وبعث بها إليه بعد عودته إلى تونس، فأرسل يدعوه إليه على سفينة حربية خاصة، وأكرم وفادته جدًّا وقلَّده المناصب الرفيعة، وكان يكتب المقالات الطنانة في الرائد التونسي.

    وطلبته الصدارة العظمى من الباي فقدم الأستانة وأنشأ الجوائب، جريدته الشهيرة، فملأ صيته الأسماع، فكان ذاك الكاتب البليغ والسياسي المحنك والمنشئ الأخلاقي والاجتماعي، وكان لرأيه السياسي تقدير وشأن في أندية أوروبا السياسية.
    • تآليفه: الواسطة في أحوال مالطة، كشف المخبأ عن أحوال أوروبا، الجاسوس على القاموس، سر الليال في القلب والأبدال، منتهى العجب في خصائص لغة العرب، اللفيف في كل معنى طريف، الساق على الساق في ما هو الفارياق، وهذا الأخير كتاب طريف وهو مذكرات وسيرة حياة. وله مجموعة مما نشر في جريدته الجوائب من مقالات، وهو أربعة أجزاء … إلخ.
    • قيمته: متضلع من فنون الأدب، بصير بمذاهب البيان، متفنن في الإنشاء، غني بالمفردات اللغوية إلى حد غريب، شاعر ناثر، أسلوبه منسجم التراكيب، متساوق المعاني كثير الإطناب والاستطراد، يبالغ فيما يكتب، مقلد في شعره، مجدد في نثره، وقد أجاد في الصناعتين وكان رائد النهضة الأدبية والسياسية (طالع كتابنا صقر لبنان لتعرف قصته).
  • (٢)
    أديب إسحاق: ولد بدمشق ١٨٥٦ ومات في لبنان ١٨٨٥، تعلم في مدرسة الآباء اللعازاريين العربية والإفرنسية، غادر المدرسة صغيرًا واستخدم في الجمرك فتعلم أثناء ذلك اللغة التركية، وقدم بيروت فخالط الأدباء والشعراء وأهل العلم، فكان طلق اللسان بارعًا في النظم والنثر فأعجبوا به، فانقطع إذ ذاك إلى الكتابة واحترف الصحافة، فعرَّب بعض الروايات الإفرنسية، وألَّف بعضها، وكانت رائحة الحرية الثائرة تنبعث من خلال سطوره، فضاقت به الديار الشامية، فرحل إلى مصر وأنشأ هناك جريدة مصر، ثم جريدة التجارة، فأطلق فيها العنان لقلمه السيال الجريء فخرجت مقالاته يملأ صداها وادي النيل، فأعجب الناس بلغته الصحافية البليغة الخالية من كل ركاكة وتعقيد وغموض، فراجت كتابته حتى عدَّت الحكومة جريدته خطرًا، فصدر الأمر بإقفالها، وقد سُجن في ثورة عرابي باشا لتطرفه وحريته، وكان فوق ذلك يلقي الخطب المهيجة الطافحة بالروح القومية والوطنية.
    ثم رحل إلى باريس، وداخَل جماعة من كتَّاب الفرنسيس والأتراك، واختلف إلى مجلس الأمة الإفرنسي فأعجب ببلغاء خطبائها، وظل يعالج السياسة والكتابة حتى أعياه داء الصدر فعاد إلى وطنه لبنان، وظل يكتب حتى قضى في التاسعة والعشرين من عمره.
    • قيمته: منشئ بليغ، وخطيب مفوه، فصيح اللهجة، سريع البديهة، يرتجل المقالة والخطبة ارتجالًا، أسلوبه شديد الأسر متراص التركيب، مليح الاستشهاد الذي أكثر منه؛ تارة يسجع وطورًا لا، فهو أشبه بالطائر، يسجع متى طاب له. في كتابته حياة قوية يشعر بها القارئ فيندفع مع كاتبها، ويغلب على مقالاته أسلوب الخطابة، وهذه مجموعة مقالاته تشهد على ما أقول. وبكلمة نستطيع أن نقول إن أديب إسحاق خرج بالصحافة إلى طور جديد من حيث الأسلوب والروح (طالع رواد النهضة).
  • (٣)
    محمد عبده: ولد بمحلة نصر من إقليم البحيرة بمصر ١٨٤٩–١٩٠٥، نشأ نشأة الأوساط من القرويين، فاستظهر القرآن في كتَّاب القرية، ثم أرسل إلى الجامع الأحمدي فجامع الأزهر، ثم تتلمذ لجمال الدين الأفغاني وهو أكبر تلاميذه. عالج الكتابة في الصحف عندما كان طالبًا في الأزهر، فكان على عادة أهل زمانه يلتزم السجع، والتمهيد بين يدي الموضوع بالمقدمات الفلسفية، ثم ما برح قلمه يرقى ويعلو بتثقيف أستاذه وبازدياد حظه من العلم حتى بلغ ما بلغ، وقد تأثر بنهج البلاغة الذي شرحه فجرى قلمه على أسلوبه وشبه فصاحته.
    • آثاره: العروة الوثقى، أصدرها مع أستاذه الأفغاني، شرح نهج البلاغة، الإسلام والنصرانية، رد على هانوتو، وقد دار نقاش بينه وبين فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة حول ابن رشد وفلسفته (طالع كتابنا: جدد وقدماء).
    • أخلاقه: حاد البصر، بليغ العبارة، فصيح اللسان، ذكي القلب، شديد العارضة، قوي الحافظة، كبير النفس عالي الهمة، نزَّاع إلى الإصلاح، وقد عانى في سبيله ما عانى.
    • أثره الديني: فسَّر القرآن بلسان العلم والعقل، قرَّب العقائد من الأفهام، وكشف ظلال الإبهام.
    • أسلوبه: يسجع أحيانًا كابن العميد فيتكلف الصنعة، وينحو نحو الجاحظ أحيانًا في التأليف فتتراصف فقره وتتساوق أغراضه، يُلبس المعاني لبوسها من الألفاظ الملائمة لها، وقد كان علماء الأزهر المتمسكون بالقديم غير راضين عن آرائه، ولذلك قال قبل أن يحتضر:
      ولكن دينًا قد أردت صلاحه
      أحاذر أن تقضي عليه العمائم

المرسح

لقد ذكرنا عن المرسح في بدء الكلام عن هذا العصر وقلنا إن لبنان كان أسبق العرب إلى فن التمثيل، وها نحن نذكر ثلاثة منهم، وأولهم، بل أول من مارس هذا الفن في الشرق: مارون النقاش.
  • (١)
    مارون النقاش: ولد في صيدا ١٧١٧–١٨٥٥، ونشأ في بيروت، كان تاجرًا ولكنه ميال إلى الموسيقى، أتقن العربية والإفرنسية والإيطالية، سافر إلى مصر وإيطاليا فأعجب بالتمثيل، فلما رجع إلى بيروت ألَّف فرقة تمثيلية وألَّف رواية البخيل، وهي أول درامة عربية، مثَّلها في منزله ودعا لحضورها قناصل الدول وأعيان بيروت فصادف قبولًا، ثم ألَّف رواية هارون الرشيد ودعا إليها والي بيروت وبعض الوزراء ورجال الدولة، ثم أنشأ مرسحًا بجانب بيته تحول بعد موته إلى كنيسة.

    وله أيضًا رواية الحسود وغيرها، وقد احتفلت مصر بالذكرى المئوية لنشأة المرسح ودعت لبنان إلى الاحتفاء معها بهذه الذكرى، ذكرى ابنه النابغ.

  • (٢)
    نجيب الحداد: ولد في لبنان ١٨٦٧–١٨٩٩ وقال الشعر صغيرًا، ثم ذهب إلى مصر حيث زاول الصحافة فتولى رئاسة تحرير جريدة لسان العرب، وكان يحرر في غيرها ويترجم الروايات التمثيلية، وقد مات بداء الصدر الذي فتك بزميله إسحاق.
    • شعره: كان شاعرًا مطبوعًا كجده الشيخ ناصيف اليازجي، سهل الديباجة مهلهلها، من غرر قصائده وصف القمار ووصف القمر، وهذه الأخيرة متأثرة بمقالة خاله الشيخ إبراهيم، وله وصف حريق سوق الشفقة في باريس، ووصف القطار وغيرها من الشعر الجيد.
    • نثره: نثره كشعره رقَّة وأناقة ديباجة، يُكثر من التشابيه والاستعارات، بحث كثيرًا من المواضيع التي تلابس الحياة الاجتماعية.
    • مسرحياته: صلاح الدين، السيد، المهدي، حمدان، روميو وجوليت، الرجاء بعد اليأس، الفرسان الثلاثة، ثارات العرب، غصن البان، البخيل. وله عدا هذه المسرحيات مجموعة مقالات، وديوان شعر.

النقد الأدبي

تاريخ الأدب العربي كما هو اليوم على الطريقة المدرسية حديث العهد في معاهدنا، فقد كان على المتأدب أن يعمد إلى الأغاني ومعجم الأدباء ووفيات الأعيان ويتيمة الثعالبي وغيرها من الكتب التي جمعها المصنفون العرب من الرواة وغيرهم، وقد قال ابن خلدون إن عمدة الأدباء أربعة كتب: البيان والتبيين، وأدب الكاتب، والنوادر لأبي علي القالي، والكامل للمبرد.

وفي هذه شيء من النقد لا يتجاوز الألفاظ والمعاني والسرقات الشعرية، وكان النقد لا يتعدى قولهم إن فلانًا أجاد أكثر من فلان، وفلان سبق إلى هذا المعنى، ثم تطور النقد عندما ظهر كتاب ابن رشيق «العمدة» والمثل السائر لابن الأثير، بيد أنه ظل على نسق القدماء ولم يخرج عنه إلا بمقدارٍ قليل.

تاريخ الأدب

أول من اهتم بكتابة تاريخ الأدب العربي على الطريقة الحديثة هو جرجي زيدان، وله فضل على تاريخ الذين لم يترجم لهم القدماء من أدباء وشعراء متأخرين ومستشرقين.

ولما قامت الجامعة المصرية والمعارف المصرية على الطريقة الحديثة ألَّفوا في هذا الموضوع كتبًا مدرسية على نمطٍ جديد، مماشين الطريقة الأوروبية الحديثة بتحفظٍ تام.

أما النقد على الطريقة الأوروبية الحديثة فقام به عصبة من الأدباء المتأثرين بأدباء الغرب المستشرقين، وبنقدهم الحديث، فخطوا خطوهم وحذوا حذوهم في النقد الحديث. وإنني أرى أثر النهضة في النقد أظهر منه في تأليف تاريخ الأدب.

وللبكالوريا اللبنانية فضل على طبع مَلَكة النقد في الطلاب، بهذا النص الذي أدخلته في منهاجها، وهو أوروبي بحت كما يفعل الذين يكتبون تاريخ الأدب، إنما ما نؤاخذ عليه المؤلفين في تاريخ الأدب، إنما هو إقلالهم حتى الندرة من كتابة تحليل ونقد نصوص تكون نماذج للطلاب.

المستشرقون

(أ) الفرنسيون

  • برون: له بحث في الآداب الجاهلية قبل الإسلام وأخلاقهم، وكتاب نساء العرب قبل الإسلام، وترجم بعض أشعار جاهلية وبعض كتب قديمة.
  • دي سلان: ترجم مقدمة ابن خلدون، وترجم تاريخه للبربر أيضًا.
  • دي مينار: ترجم مروج الذهب، وكتابًا في الشعر الفارسي.
  • كليمان هيار: له تاريخ بغداد الحديث، وتاريخ آداب اللغة العربية، وتاريخ العرب، وترجم كتاب الخليقة للبلخي، وأنيس العشاق لشريف الدين الرومي، وله مقالات عديدة في المجلة الآسيوية وانتقادات وأبحاث، ثم صار أستاذ اللغة العربية في باريس.

(ب) الألمانيون

المستشرقون الألمان في النصف الأخير من القرن التاسع عشر أكثر المستشرقين إنتاجًا، وهؤلاء أهمهم:
  • فرايتاغ: تلميذ دي ساسي، له كتاب في اللغة العربية في الجاهلية والإسلام، ونشر حماسة أبي تمام باللغة اللاتينية والعربية، وأمثال الميداني مع ترجمتها اللاتينية.
  • كرسغارين: تلميذ دي ساسي أيضًا، نشر كثيرًا من مخطوطات مكتبة باريس، ولخص كتاب الجبر والمقابلة للفخري.
  • فلايشر: أستاذ مدرسة ليبسك، ألَّف كثيرًا وله مقالات في لهجات اللغة العربية، ونشر تفسير البيضاوي في ثلاثة مجلدات، وبعض كتاب ألف ليلة وليلة، وشيئًا من تاريخ أبي الفداء.
  • ديبتريستي: له يتيمة الدهر فيما يتعلق بسيف الدولة والمتنبي، ورسائل إخوان الصفا، وديوان المتنبي وإلهيات أرسطو، وفلسفة الفارابي.
  • وايل: له تاريخ الخلفاء خمسة مجلدات، وسيرة ابن هشام ترجمها إلى الألمانية.
  • وستفيلد: نشر كثيرًا من الكتب العربية، ويزيد عدد منشوراته ومؤلفاته على مائتين؛ منها سيرة ابن هشام ووفيات الأعيان وكتاب الاشتقاق لابن دريد وعجائب المخلوقات للقزويني.

(ﺟ) النمسويون

  • بورجشتال: أشهرهم، له تاريخ الآداب العربية في سبعة مجلدات، ودائرة معارف شرقية تشتمل على آداب الشرق، ترجم أيها الولد للغزالي، وديوان المتنبي.

(د) الهولنديون

  • جونبول: له من المتنبي ومعاصريه ما قالوه في سيف الدولة، ومختصر معجم البلدان، وكتاب الخراج لابن آدم.
  • دوزي: كتب كثيرًا عن الأندلس، له كتاب تاريخ الدول الإسلامية في اللغ الفرنسوية، وكتاب آخر في آداب الأندلسيين، وله معجم عربي ذكر فيه الألفاظ العربية التي لم ترد في معاجمنا، وله غير هذه كتب أخرى.
  • دي غويه: له كتب كثيرة وقف على طبعها وضبطها، منها: فتوح البلدان، ديوان مسلم بن الوليد، تاريخ الطبري ١٥ مجلدًا، وألَّف مذكرات في التاريخ والجغرافية للشرقيين.

(ﻫ) الإنكليز

  • كورتن: انصرف للغة السريانية، ونشر كتاب الملل والنحل، وكتاب عقيدة أهل السنة للنسفي، ومنتخبات من طرقات الأدباء.
  • إدوار لين: ترجم ألف ليلة وليلة، وترجم منتخبات من القرآن، وله مقالات وكتب بالإنكليزية عن الآداب الإسلامية.
  • بالمر: من أساتذة كمبريدج، نشر ديوان البهاء زهير مع ترجمته للإنكليزية، وترجم القرآن.
  • رايط: نشر الكامل للمبرد، ورحلة ابن جبير، ومنتخبات شعراء الجاهلية، وقسمًا من نفح الطيب؛ أي القسم التاريخي منه.
  • مرجليوت: مستشرق معروف عند العرب، نشر كتبًا عربية منها: معجم ياقوت، ورسائل أبي العلاء مترجمة إلى الإنكليزية، وله كتاب في السيرة النبوية.
  • براون: انصرف إلى الفرس وآدابهم.
  • نولدكي: ألماني، وهو إمام المستشرقين المعاصرين، صرف همه للتأليف، له تاريخ القرآن بالألمانية، وتاريخ عروة بن الورد، وتاريخ الفرس والعرب، وتاريخ الغسانيين، والمعلقات الخمس.
  • هوتمن: ألماني، له كتاب في العرب، وفي الإسلام والمسلمين والآداب الإسلامية، له ديوان الحطيئة وكتاب في الإسلام، وله غير هذا كتب كثيرة تبحث في الشرع والحديث.
  • جويدي: إيطالي، عيِّن أستاذًا في الجامعة المصرية، كان يلقي فيها محاضرات قيمة باللغة العربية، نشر كتاب الأفعال لابن القوطية، والاستدراك على سيبويه.
  • فضلهم: للمستشرقين فضل النشر والتدقيق، فقد بعثوا آثارًا كثيرة من مدافنها؛ فهم الذين دلُّوا أدباء العرب الجدد على البحث والتنقيب، وهم الذين حببوا آدابنا إلينا، وأرشدونا إلى مجدنا الضائع، وتراثنا المقسم، وهم الذين عرَّفوا الأمم الأجنبية إلى أمتنا العربية، وأظهروا ما في خزائنها من الكنوز النفيسة، المجهولة منا.
  • هنري لامنس اليسوعي: علَّامة بلجيكي من أعلام المستشرقين المشهورين في الشرق والغرب، عاش في لبنان وأحب تاريخه وجغرافيته، فعرَّفنا على آثار وتاريخ بلادنا تعريفًا دقيقًا في كتابه «تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من الآثار».
    وله أيضًا شهرة بعيدة في بحوثه عن عرب الجاهلية، والعصر الأموي.
    • تآليفه: الإسلام، والجزيرة العربية الغربية قبل الهجرة، وخلافة يزيد الأول.

      ويظهر أن هنري لامنس أديب قبل أن يكون عالمًا أثريًّا حتى كتب روايته حبيس بحيرة قدَس التي ترجمها لمجلة المشرق العلَّامة رشيد الشرتوني ونشرت في سنتها الخامسة.

      وكتب أيضًا رواية خريدة لبنان التي نقلها الأديب نجيب حبيقه ونشرت في السنة الأولى من المجلة عينها.

    إن لامنس لم يحرم بلدنا من دراسة عميقة لجميع مرافقه.

  • كراتشكوفسكي وجب: من كبار مستشرقي الروس، له كتب لا تحصى، وهو مختص بآثار أدبائنا المعاصرين؛ وخصوصًا الرواية التاريخية في الأدب العربي المعاصر. وهذا اللون الأدبي؛ أي القصة المعاصرة، قد انفرد بدرسه البروفسور جب فخص النهضة الحاضرة بدروس عميقة دلت على قدرته فيما انفرد له.

مؤرخو لبنان

  • الأمير حيدر الشهابي: صاحب تاريخه الذي عرف باسمه. تحدث فيه ساردًا الحوادث الكبار تبعًا لتواريخها سنة سنة. وقد خص أمير لبنان الكبير بشيرًا الشهابي بالجزء الأخير من هذا المجلد الضخم، فجاء هذا الكتاب جامعًا أخبار الدهور من مولد النبي وأعماله وغزواته إلى الخلفاء واحدًا واحدًا، حتى نهاية عمر الأمير بشير.

    والذي ترك لنا هذا التاريخ يجب علينا أن نؤرخ حياته ولو تأريخًا موسوعيًّا، فنقول إنه ولد في دير القمر (١٧٦١–١٨٣٥)، وتوفي في دير القرقفة، وقد قضى حياته كما أخبرنا أحمد فارس الشدياق يدون الحوادث المعاصرة له أول بأول، وكان الأمير بشير يعتمد عليه.

    وإذا قرأت الفارياق وتساءلت أين ذكر أحمد فارس المير حيدر نقول لك اقرأ كتابنا صقر لبنان ففيه النقد الكافي لتاريخ المير حيدر ولتاريخ أعيان لبنان الذي ألَّفه طنوس الشدياق شقيق أحمد فارس.

    نشر تاريخ الأمير حيدر الأستاذ نعوم مغبغب في القاهرة سنة ١٩٠٠، ثم اقتطع منه الدكتوران أسد رستم وفؤاد البستاني الجزأين الثاني والثالث لإعادة الطبع.

  • تاريخ أعيان لبنان: وهذا تاريخ آخر وقف عليه قبل ظهوره المعلم بطرس البستاني كما صرَّح مؤلفه الشيخ طنوس يوسف الشدياق بما ذيَّل به الكتاب عند نهاية طبعه سنة ١٨٥٩.

    إن تاريخ أعيان لبنان معروف من اسمه أنه لبناني محض، وأن تاريخ المير حيدر أوسع مدى، أما النسق والتفكير فواحد تقريبًا. وقد نقد أحمد فارس تاريخ أخيه طنوس بدقة شديدة، وعنَّفه، بل وبَّخه لأنه ماشى السلطة الروحية واتهم أخاه الشهيد أسعد بالوسوسة (عُد، إذا شئت، إلى: صقر لبنان).

  • لبنان لإسماعيل حقي بك: متصرف لبنان سنة ١٩١٥. ومع أنه لم يثبت على كرسيه إلا أقل من سنة فقد سعى لإخراج كتاب عن لبنان من الوزن الثقيل. يقول فيه صاحب منجد الأعلام: إنه كتاب عزيز الوجود. أما أنا فلم أحصل عليه في حينه؛ لأننا كنا في تلك الأيام السوداء نفتش عن رغيف خبز ولو من شعير لنفك ريقنا.

القرن العشرون

(٥-١) سليمان البستاني ١٨٥٦–١٩٢٥

  • سيرته: سليمان بن خطار سلوم البستاني. ولد في بكشتين لبنان عام ١٨٥٦. لقَّنه عمه المطران عبد الله البستاني العربية والسريانية فشغف باللغات، ودخل المدرسة الوطنية للمعلم بطرس البستاني فأتمَّ دراسة العربية والسريانية وأتقن الإنكليزية والفرنسية، وكان من معلميه الشيخ يوسف الأسير والشيخ ناصيف اليازجي.

    كان قوي الذاكرة فتمكن من معرفة خمس عشرة لغة مع جميع علوم زمانه.

    ثم علم في المدرسة الوطنية وساهم في تحرير الجنان والجنة. وما عرف حتى صار ترجمانًا لقنصلية أميركا، ورأَسَ جمعية زهرة الآداب مرتين.

    وحنت نفسه إلى الأسفار فأمَّ العراق وطاف في جزيرة العرب، واستدعاه الزعيم قاسم باشا لإنشاء مدرسة وجريدة، فأدار تلك المدرسة سنةً، ثم عيِّن مديرًا للشركة الخديوية، ومديرًا أيضًا لمعمل حديد أنشأه مدحت باشا، واتصاله بمدحت باشا مكَّنه من التنقل في نواحي البلاد العربية جميعها، وهناك تعرَّف إلى الأماكن الوارد ذكرها في الشعر العربي.

    وكانت عودة البستاني من الجزيرة عام ١٨٨٥ لينصرف إلى إتمام دائرة المعارف التي ألَّف منها أجزاء المعلم بطرس، ثم سافر إلى مصر عام ١٨٨٧.

    وخطر له أن يترجم الإلياذة شعرًا إلى العربية، فاطَّلع على الملاحم المختلفة، ولما كانت يونانيته ضعيفة راح يدرسها على أحد الآباء اليسوعيين. وبعد ذلك ترك القاهرة عام ١٨٨٨ قاصدًا العراق فالهند فأطراف العجم، حيث درس عادات الفرس وآدابهم لتكون له المواد اللازمة لمقدمة الإلياذة وشرحها، فصقلت تلك الرحلات ذوقه الفني الأدبي، وعاد إلى بغداد حيث تزوج، وأقام في بغداد سنتين تابع فيها التعريب وكتابة مؤلف عنوانه في تاريخ العرب.

    ثم ذهب إلى أسطمبول حيث أقام سبع سنوات، وانتدب لتولي إدارة القسم التركي في معرض شيكاغو، فغادر الأستانة إليها حيث أنشأ جريدة تركية لم تعِشْ غير عام. ثم عرف مواطن حوادث الإلياذة وكنوز أمثالها وأجواء قصصها، ووقف على آراء أدباء اليونان فيها.

    وعاد إلى قريته بعد أربعين عامًا ثم هجرها إلى مصر حيث اشترك مع أنسبائه في تأليف الجزأين العاشر والحادي عشر من دائرة المعارف. وفي عام ١٩٠٤ أتم تعريب الإلياذة وطبعها، وأقيمت له حفلة تكريم في فندق شبرد، وتناولت الصحف والمجلات عمله الجبار.

  • سقوط عبد الحميد: وبعد أربعة أعوام بعث الدستور العثماني من قبره عام ١٩٠٨، فنشر سليمان كتاب عبرة وذكرى، وهو كتاب يدعو إلى نبذ التعصب والاتحاد، وفيه ذكريات وعبر ترمي إلى الإصلاح، وعلى إثر صدور هذا الكتاب انتخب عضوًا لمجلس المبعوثان.

    وهناك ظهرت مواهبه السياسية، فحضر الجمعية العمومية سنة ١٩٠٩، واشترك في تقرير خلع السلطان عبد الحميد، فأفلتت الشعراء والخطباء كالنمور من أقفاصها. ثم انتخب البستاني نائبًا لرئيس مجلس المبعوثان فرأس عدة وفود إلى عواصم أوروبا، حيث كان يخطب فيهم بلسانهم، وفي حضرة ملوكهم؛ كإدوار السابع وغيره. وأوفدته السلطة إلى لبنان بمهمة رسمية، ولما عاد سنة ١٩١١ عُين سفيرًا فوق العادة في أكبر عواصم أوروبا؛ كروما وبرلين ولندن وباريس.

    وفي عام ١٩١٣ عُين وزيرًا للتجارة والصناعة والزراعة والغابات والمعادن فأصلح كثيرًا، وهو الذي تولى عقد الصلح بين تركيا وبلغاريا. وظل في منصبه حتى كانت حرب ١٩١٤. وساءت صحته فاستقال وذهب إلى سويسرة حيث قاسى آلامًا شديدة جدًّا. وصف بشعرٍ رائع رقيق طرق معالجته وآلامه متذكرًا وطنه حانًّا إليه، ولكنه شُفي بعد ذاك العذاب ونقله أخوه سليم إلى مصر. وذهب إلى الولايات المتحدة حيث عمي ثم مات في أول حزيران عام ١٩٢٥ في نيويرك. وما أجمل ما قاله إيليا أبو ماضي شاعر المهجر في رثائه:

    فتح الموت حين أغمض جفنيه
    عيون الورى على حسناته
    فهو ماضٍ له جلالة آتٍ
    من فتوحاته ومن غزواته
    والفتى العبقري يولد إذ
    يولد في مهده ويوم وفاته

    وفي الخامس عشر من آب وصل جثمانه إلى بيروت ونُقل إلى مسقط رأسه ليعرض في الغرفة التي أتم فيها شرح الإلياذة العربية.

(٥-٢) مقدمة الإلياذة

تقع في مائتي صفحة من طبعة الإلياذة ذات الحجم الكبير، وهي مؤلفة من أربعة فصول وخاتمة. يتكلم في الفصل الأول عن نشأة هوميروس الذي أنكر بعضهم وجوده. ومعنى اسمه ابن النهر. ثم بحث نظم الإلياذة وصحة نسبتها إلى هوميروس، فأثبت أنها له مخالفًا رأي العالم الألماني ولف الذي أنكر ذلك؛ موافقًا في ذلك عالمًا ألمانيًّا آخر اسمه ميلر، وقد يكون هذا الرأي له. أما حجَّته فهي وحدة الإلياذة وصفات أبطالها، ثم أوصاف أماكنها الواحدة، فلا اضطراب في تسلسل حوادثها ولا معانيها.

وروى بعد ذلك حكاية تعريبه الإلياذة وكيف خرج على القصيدة القديمة فنوَّع القوافي والأوزان، واهتم بالملائمة بين الوزن والموضوع حتى خصَّ الأبحر بما يوافقها من مواضيع، وكان نصيب بحر الخفيف أنه وزن يصلح للقصص.

ثم تحدث عن موضوع الإلياذة فأرَّخ الشعر العربي تأريخًا مجملًا، وقابل بين جاهليتنا وجاهلية اليونان في التفكير والتعريب، ثم بيَّن أن الشعر العربي خالٍ من ملحمة كبرى كالإلياذة وغيرها من ملاحم الأمم.

  • موضوع الإلياذة: حرب قامت بين الطرواديين واليونان الأقدمين أثناء حصار طروادة، وطروادة مدينة محصنة مسوَّرة من مدن آسيا، قدَّر الباحثون موضعها في جنوبي مضيق هللاس «الدردنيل» وزمنها في القرن الثاني عشر قبل الميلاد.

    زار بارس بن بريام ملك طروادة ملك مدينة أسبارطة اليونانية فأكرم الملك ضيفه، وفُتن بارس بهيلانة امرأة الملك وخطفها فارًّا بها إلى طروادة.

    وسمع اليونان بالخبر، فقاموا إلى السلاح، واحتشدت الأبطال تحت إمرة أغاممنون شقيق الملك، وزحفوا بحرًا على طروادة وطوقوها محاصرين. وكان أعظم هؤلاء الأبطال: فطرقل وعولص وآخيل، صديق فطرقل.

    وطال الحصار، وسطا اليونان على قرية سبوا منها فتاتين جميلتين، فكانت إحداهما لأغاممنون والثانية لآخيل.

    كانت فتاة أغاممنون بنت كاهن أبولون، فطلب إعادتها فلم يعدها له أغاممنون، فصلى إلى أبولون إلهه، فسمع الإله صلاته من الأولمب فدارت الدائرة على اليونان وفشا فيهم الوباء ورماهم الإله أبولون بسهامه.

    فأوحت هيرا امرأة زفس إلى آخيل فقال لقادة اليونان: فلنبحث عن سبب غضب أبولون.

    فقال أحد الحكماء: على أغاممنون أن يعيد البنت إلى أبيها وإلا هلكنا.

    فامتعض أغاممنون، وطلب حصة من الغنائم بدل البنت. فقال له آخيل: ومن أين؟ أعد الفتاة ومتى فتحنا طروادة نعطِكَ ثلاث حصص.

    فأبى أغاممنون وقال لآخيل: إذا أعدتها لا أقبل بها بديلًا غير فتاتك.

    فأنَّبه آخيل: أيتها الوقاحة المجلببة بجلباب الملوك! تتهددني بأن تسلبني ما منحني الجيش؟ أنا أقوم بأكبر قسط من القتال، ونصيبي من الغنائم دائمًا دون نصيبك. سأعود إلى بيتي.

    فقال أغاممنون: انصرف، لن أستعطفك لكي تبقى.

    فاستعرت نار غضب آخيل وهمَّ بأغاممنون ليقتله ولكن الآلهة نهته.

    فاكتفى بالقول لأغاممنون: أيها السكير، الأحمر العينين كعيني الكلبة، اسمع هذه اليمين: سيأتي يوم تطلب فيه الأمة آخيل ولا تجده، ستعجز أنت عن درء الخطر عنها ويتساقط أبناؤها أمام هكتور الظامئ إلى الدم.

    وكان ذلك، فاعتزل آخيل الحرب. وهكذا بدأ البستاني معربًا مطلع الإلياذة:

    ربة الشعر عن آخيل بن فيلا
    أنشدينا واروي احتدامًا طويلا

    وكان أن صال هكتور بطل الطرواديين على اليونان، وقتل الكثير من أبطالهم، فالتجئوا مضطرين إلى آخيل يسترضونه، فلم يقتنع ولكنه أذن لصديقه فطرقل أن يلبس درعه ويذهب لمقاتلة هيكتور. بيد أن هيكتور صرعه، فحمي غضب آخيل ونزل يريده، فقتله وربط جثته بعربة وطاف بها حول أسوار طروادة.

    وحزن الشيخ بريام على ابنه هيكتور، وحمل الهدايا إلى آخيل ملتمسًا تسليمه جثة ابنه، فسلمه إياها وأقاموا له مأتمًا أنشدت فيه المراثي.

    وتنتهي الإلياذة، ولا تستسلم طروادة، ثم تمر عشر سنوات ويموت آخيل ولا تستسلم. حتى كان سقوطها أخيرًا بحيلة ابتدعها عولص.

    بنى حصانًا خشبيًّا وأقعد في جوفه جماعة من اليونان، وتوارى اليونانيون عن الأنظار، فأقبل عليهم الطرواديون ظانين أن فيه غنيمة. ففتحوا باب المدينة وجروا الحصان إليها، فدخل المحاربون الذين كانوا في جوفه وقتلوا الحراس، وتبعهم المحاربون، وهكذا استولوا على المدينة وأحرقوها.

  • شرح الإلياذة: لم يكتفِ سليمان بالتعريب، بل عمد إلى شرح الإلياذة وتحليلها وجلاء غوامضها، وقابل بين المعاني اليونانية والعربية كما قابل بين الشعرين والأوزان. ثم وصف العتاد الحربية وما إليها، ونبَّه إلى المقابلة بين قصة عنترة وحرده وحرد آخيل، ولم يحرم الفلسفة واللاهوت من درس العقائد والعادات، ومنها أن الرجل الجاهلي كان يحلف برأس زوجته. ومنهم من يحلف برأس شيخه أو زعيمه، ولكنه إذا كذب يقتل حالًا، أما إذا حلف بالله فما عليه بأس الآن، بل يؤجل ويوضع في كتَّاب فيدخر كما قال العم زهير.

    وقد دل البستاني على الأثر الفينيقي في الإلياذة وعلَّق عليه، وفسَّر كلمة قدموس أن مادتها في العربية كمادتها في الفينيقية؛ أي القدم. ثم فسر الرموز الفينيقية فسهل الفهم، وأشار إلى ذكر أرز لبنان.

  • شاعرية البستاني: شعره من الطراز العباسي، وهو هنا يترجم فلا يستطاع الحكم على بُعد مدى خياله، ولا مجال للحكم على ديباجته وتفاوتها في الإلياذة؛ لأنه لا يستطيع أن يحذف ما يشاء من أسماء أعلام تشوه الشعر. وهو في كل حال لم يقصر، وإن كان شعره الوجداني الذي نظمه إبان مرضه في سويسرا أنقى ديباجة وأقوى عاطفة، وكذلك جاء في مواقف الإلياذة الوجدانية التي تلائم شعرنا العربي.
  • إنشاء البستاني: يتصف إنشاؤه بالرصانة، تغلب عليه الصبغة العلمية، ولا يسجع ولا يتأنق ولا يتخيل. يهمه أن يفصح لنا عما في فكره بتدقيق في اللفظ، وبُعد عن الحشو والزيادة. البستاني وإن كانت موضوعاته بعيدة عن التجميل والتحسين فقد كان في أسلوبه طلاوة أدبية تُخفي تحتها شيئًا من جفاف العلم، وإن لم يكن كله فجله. أما البستاني الناقد فكان أحرى أن يسمَّى البستاني الباحث؛ لأنه في المقدمة بحَّاثة أكثر منه ناقدًا.

(٥-٣) فرح أنطون

بزغ نجمه الأدبي مع هلال القرن العشرين، وانطفأ ذاك الشهاب الثاقب بعد أن عُدَّ ثالث اثنين: المقتطف للعلم والهلال للتاريخ، وجامعة فرح للثقافة الحديثة، فكان رائد النهضة الفكرية وداعي دعاة الفلسفة الحديثة.

حمل على القديم حملات كان لها ما بعدها، وظل يناضل في الشرق والغرب حتى قضى قبل نهاية الربع الأول من هذا القرن.

يصح فيه قول خليل مطران: وفَّيت قسطك «للنهى» فنمِ.

  • أسلوبه: لم يكن فرح من أصحاب التعابير الجوفاء، أسلوبه سهل هيِّن تعنيه من الفصاحة الإبانة والظهور، وهو مؤلف ومترجم، وفي كلا الحقلين يفتش عن غرضٍ سامٍ هو إنارة الأذهان في تلك الظلمات التي رافقت عصره.
  • آثاره: ٢٤ كتابًا منها: أورشليم الجديدة، ومريم قبل التوبة، والدين والعلم والمال، والوحش الوحش الوحش، وترجمة حياة يسوع لرينان، وابن رشد وفلسفته.
  • في جامعته: لم يترك أثرًا خطيرًا إلا تصدى له، وهو أول من عرَّف الشرق بنيتشه وغوركي، وترجم للأول: هكذا تكلم زاراتوسترا، وللثاني رواية مشهورة، ولكن يا للأسف! فإنه كما لم يتم رواية المجدلية قبل التوبة كذلك لم يتم ترجمة كتابي نيتشه وغوركي.

    كان الرجل يفتش عن معاشه فانصرف إلى تأليف المسرحيات، فأطعمته خبزًا ولكن دون الشبع وراحة الفكر.

    هذه كلمة وجيزة عن رائد القصة والأدب الحديث، أما دراسة فرح فتجدها مُفصلة في كتابنا «جدد وقدماء».

(٥-٤) جبران ١٨٨٣–١٩٣١

  • حياته: وُلد في بشري، وهاجر مع أمه إلى بوسطن، ثم رجع إلى بيروت ودرس العربية في مدرسة الحكمة.

    وقصد بعد ذلك باريس وتعلم هناك التصوير، فتفوق فيه، وعرف هناك أشهر الرسامين؛ وخصوصًا رودان.

  • تآليفه: عدة كتب بالعربية: الأرواح المتمردة، وعرائس المروج، والأجنحة المتكسرة، ودمعة وابتسامة، والعواصف، والبدائع والطرائف، والمواكب قصيدة شعر منظوم.
  • وكتب بالإنكليزية: النبي، والمجنون، ورمل وزبد، والسابق، ويسوع ابن الإنسان، وآلهة الأرض.

    كان متصوفًا ولكن صوفيته مادية، والحب عنده قطب الوجود، والشوق خالق الكائنات.

  • أسلوبه: إنشاء جبران منمق حافل بالألوان، يندغم بالطبيعة إلى أعمق أعماقها، ولعله أن يكون شاعرنا العالمي في القرن العشرين إذا اعتبرنا النثر شعرًا غير موزون. وجبران مصور فيما يكتب، فكأنه يفكر بالصور والألوان ثم يعبر بالكتابة عما يتخيل. أما آراؤه الاجتماعية فقائمة على المحبة كما نرى في كتابه النبي الذي هو قمة الفكرة الجبرانية، أو خلاصة آراء جبران. وضعه على نمط كتاب نيتشه، ولكنه بناه على الحب بعكس نيتشه الذي يقوم كتابه على بغض الإنسان وتمنيه له الانقراض، لعله يخلق بعده إنسان أسمى من الإنسان الحاضر.

    إن جبران اكتسب بنبوغه شهرة عالمية لم يدركها كاتب عربي قبله، فهو والريحاني صنوان.

  • فلسفته: وإذا تعمقنا رأينا أن عصارة الفلسفة الشرقية موجودة في كتب جبران. إن أدباءنا المهجريين عاشوا غرباء عن محيطهم الجديد، لم يفكروا بغير الشرق، وجبران خصوصًا كان أشدهم حبًّا للبنان. والحياة اللبنانية أوحت إليه بفكرته الثوروية؛ لأنه قضى صباه في محيط ذي إقطاعيتين إكليريكية وعلمانية، وهذا ما يصوره لنا في قصة خليل الكافر وغيرها؛ كمضجع العروس ويوحنا المجنون.

    إن العرق اللبناني الفينيقي الوثني يتمثل في كتابات جبران، وقد كتبت كثيرًا عن الريحاني وجبران فليراجع ذلك في كتبي فالمقام هنا أضيق من أن يسع.

  • تأثيره: كان لجبران أعظم تأثير في جيله، وقد اتبُع أسلوبه وأسلوب الريحاني زمنًا، ولا يزال وإن ضعف تقليده، وهذا الشعر الجديد غير الموزون خلقه الريحاني وجبران متأثرَيْن بأسلوب أنبياء التوراة والشاعر الإنكليزي وتمان.
  • صاحب مدرسة: جبران إمام متبوع، والأمريكتان مديونتان له بعروبتهما، فهو ذاك الشرقي الطائر الصيت الذي تقرأ كتبه الإنكليزية بلذةٍ وشوق.
  • الرابطة القلمية: عميدها ومؤسسها جبران، ولكنها لم تعمَّر طويلًا فماتت بموت جبران، وأجهزت عليها عودة مخائيل نعيمة إلى لبنان. إننا نأسف لتواريها لأنها أدت أجلَّ الخدمات للأدب والفكر، ولا يزال أثرها ماثلًا للعيان في أساليب كتَّاب القرن الحاضر.

(٥-٥) أمين الريحاني ١٨٧٦–١٩٤٠

ولد بالفريكة من لبنان وتعلَّم مبادئ العربية والفرنسية في الفريكة بمدرسة أنشأها نعوم المكرزل، ثم في مدرسة قرنة شهوان.

هاجر إلى أمريكا، وهناك درس مبادئ الإنكليزية ثم أتقنها، وانخرط في جوقة للتمثيل، وانصرف إلى دراسة الحقوق، ثم انقطع عنها، وتحوَّل أخيرًا إلى الأدب فتفوق فيه.

نقل لزوميات المعري إلى الإنكليزية فطارت شهرته؛ نظرًا لشاعريته وصفاء لغته، ثم كتب في الرحلات عدة كتب أشهرها: ملوك العرب، وهو أخلد آثاره؛ لأنه سبق فيه غيره، وقد ترجمه للإنكليزية.

ترك كتبًا كثيرة بالعربية والإنكليزية؛ منها تاريخ نجد الحديث، وقلب لبنان، وسياحة إلى المغرب. وله روايات قصصية وتمثيلية، عدا الريحانيات، وهو مجموعة خطب ومقالات وشعر منثور أدخله الريحاني إلى الآداب العربية. وله مجموعة رسائل نشرها حديثًا أخوه ألبرت، وهي عندي في مقدمة تركته الأدبية.

كان الريحاني نزَّاعًا إلى الإصلاح، فحمل على الاستبداد ونفخ في بوق الحرية، وقاوم الانتداب فنفي مرة.

كان خطيبًا مفوهًا، بل أمير المنابر، تحب سماعه ولو كان يحمل عليك. دعا الشرق إلى النهوض والاتحاد وعرَّف العرب بعضهم ببعض، وهو أول من فكَّر بالجامعة العربية قبل أن تكون، فاجتمع بملوك العرب وأمرائهم داعيًا إلى الوحدة.

إن كتب رحلات أمين خالدة بما فيها من حقائق وجمال حديث، وبها عرَّف العربي بأخيه العربي بعد أن كاد بعضهم يجهل بعضًا.

(٥-٦) ولي الدين يكن ١٨٧٣–١٩٢١

ولد في الأستانة من أم جركسية وأب تركي، ثم عاد به والده إلى مصر وطنه، تعلَّم في مدرسة الأنجال المختصة بتعليم أولاد الأمراء، فتعلم العربية والتركية والإنكليزية، ثم درس الإفرنسية وألمَّ باليونانية وتزوج من امرأة يونانية.

انصرف في أول عهده بالكتابة إلى تحبير المقالات السياسية، وكان أهله لا يرغبون فيما يرغب فيه. سافر إلى الأستانة في عهد السلطان عبد الحميد، فأقام فيها سنة وعاد إلى مصر فأصدر جريدة الاستقامة، وكان يناهض فيها رجال السياسة في الأستانة، فأقفلت جريدته وأخذ ينشر أفكاره الحرة في الجرائد الأخرى، ثم أعاد الكرَّة على إسلامبول فذهب إليها، وعيِّن عضوًا في ديوان المعارف، وكانت الجواسيس تحدق به؛ لأنه وضع في لائحة الأحرار، فحبس ونفي إلى سيواس، حيث بقي ست سنوات، حتى أعلن الدستور فعاد إلى مصر، وصار سنة ١٩١٤ سكرتيرًا عربيًّا في ديوان الأمناء، وما ارتاح في حياته حتى عاجله الداء فقضى في حلوان سنة ١٩٢١.

  • أخلاقه: حر الفكر جريء، ميال إلى الإصلاح، أنوف أبي، مات فقيرًا.
  • آثاره: الصحائف السود، التجاريب، ديوان شعر، المعلوم والمجهول، خواطر نيازي.
  • أسلوبه: شديد العبارة، قوي التركيب، حاد اللهجة، لا يتقيد بأسلوب، قوي الخيال، ثائر العاطفة.

(٥-٧) المنفلوطي ١٨٧٦–١٩٢٤

هو مصطفى لطفي، وُلد في منفلوط من أعمال مديرية أسيوط، وإليها نُسب، أسرته وجيهة.

التصق بالأزهر بعد أن تعلَّم القراءة والكتابة وحفظ القرآن، فحصَّل صدرًا من العلوم، وكان به شغف شديد للأدب، فعكف على كتب البلغاء ودواوين الشعراء يقرأ ويحفظ، ولازم من فتائه رجال الأدب وأعيان كتاب الصحف، فكانت له فيه ملكة وطبيعة، فنظم الشعر سهلًا جزلًا رصين القافية، وأرسل النثر حلوًا سلسًا محبوكًا، وقد شغله هذا بقدرٍ ما عن الكدح في مطالعة كتب الأزهر ومعاناة دروسه، على أنه واظب على حضور دروس الشيخ محمد عبده إلى غايتها.

وفي أثناء طلبه في الأزهر نُسب إليه أنه هجا الخديو عباس حلمي بقصيدة نشرها في إحدى الصحف الأسبوعية، فحُكم عليه بالحبس، فقضى في السجن مدة العقوبة، ثم عفا الخديو عن جرمه بشفاعة مَن لهم عنده كريم منزلة. فلما صارت نظارة المعارف إلى زغلول باشا عيَّنه محررًا عربيًّا لها، ولما تحوَّل زغلول إلى نظارة الحقانية حوَّله معه وولَّاه فيها مثل هذا المنصب، حتى إذا قام البرلمان عيِّن في سكرتاريته، على أن الموت عاجله في العقد الخامس فمات سنة ١٩٢٤.

والمنفلوطي — رحمه الله — كان دقيق الحس، رقيق العاطفة، رحيم القلب، يغمره الشعور بالأسى من كل ما يحلُّ في هذا العالم من ضروب الويل والشقاء؛ ولهذا ترى قلمه أجود ما يكون في صفة مدنف عانٍ أو يتيم محروم أو متهم مظلوم، ونحو هذا من مآسي الحياة.

  • آثاره: وهو بعدُ رشيق القلم، سهل البيان، حلو العبارة، متين نظم الكلام، إذا أتته السجعة فذاك وإلا فلا يتكلف طلبها بتعمل. شديد التذوق لبلاغات العرب، يحتفل للجمل البارعة، وللصيغة الرائعة، فيفسح لها في خلال نثره مكانًا، وقد جمع قدرًا عظيمًا من مقالاته في كتاب دعاه النظرات، وأخرى في كتاب آخر سماه العبرات، وله منتخبات بديعة من أشعار المتقدمين ومقالاتهم دعاها مختارات المنفلوطي، وهي تدل على حسن ذوقه ودقة اختياره، ترجم له بعض أصدقائه عن الإفرنسية رواية مجدولين فجوَّد في العربية صياغتها وصقلها صقلًا جميلًا، وكذلك فعل في رواية بولس وفرجني التي أخذها عن ترجمة فرح أنطون.

    لقد عالج المنفلوطي الشعر أولًا ثم انصرف عنه إلى النثر، فكان شأنه في هذا شأن كثيرين من كتَّاب أوروبا المشهورين، فأكثرهم عالجوا النظم أولًا ثم انصرفوا إلى النثر، ما عدا الشعراء الكبار الذين استطاعوا أن يبرزوا. أما كتابة المنفلوطي من حيث الموضوع فتعول على الحقيقة أكثر منها على الخيال، واختراعه في التعبير لا في الفكر، يعول كثيرًا على التشبيه والاستعارة وكل ضروب المجاز، ويكثر من المترادفات.

(٥-٨) يعقوب صروف ١٨٥٢–١٩٢٧

  • حياته: من مواليد قرية حدث بيروت بلبنان سنة ١٨٥٢. تلقى علومه أولًا في مدرسة الأميركان بعبيه، ثم انتقل إلى الجامعة الأميركية حيث لم يتم دروسه وأُخرج منها بعد ثورة طلابها تأييدًا لأستاذهم فان ديك.

    وفي سنة ١٨٧٦ أنشأ مجلة المقتطف حيث ظهر منها عشرة مجلدات، ثم نقلها من بيروت إلى مصر وظل يديرها ويشرف عليها ويكتب فيها إلى آخر حياته، فكانت دائرة معارف ثقافية ومدرسة علمية تدخل كل بيت يتكلم العربية، فسلَّح العقل العربي بالعلوم الحديثة في كل فن ومطلب، فكان كل ناطق بالضاد تلميذًا لصروف الكاتب والفيلسوف المؤمن بالعلم وحده، وقد أيَّد مذهب دارون، مذهب النشوء والارتقاء، بكل قواه العقلية مساندًا رفيقه الدكتور شبلي الشميل.

  • آثاره: أهمها المقتطف في ٥٢ مجلدًا، وكانت أكثر مقالاته العلمية والفلسفية والفنية حافلة بكل جديد، فجارى تطور العلم في جميع مراحله، وقد عرَّف الشرق بنوابغ العرب والإنكليز؛ إذ ترجم لهم وقابل بينهم، وقد عرَّب كتبًا كثيرة وألَّف كتبًا كثيرة وجال جولات موفقة في دنيا القصة، فكتب أميرة لبنان وفتاة مصر وغيرها.

    قد كان صروف من أركان مدرسة النهضة الحديثة، فكان يدبج مقالاته حتى العلمية منها بأسلوب بياني رشيق رصين من طراز كتَّاب الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وزاد عليهم تعريب الألفاظ للأغراض العلمية والفلسفية.

    وأعار صروف الرياضيات اهتمامًا كبيرًا، وكتب في علم الفلك كتابة بسائط علم الفلك، فاحتوى أحدث الأنباء عن النظام الشمسي والسيارات والثوابت والبقع الشمسية والنجوم المذنبة، حتى بلغ مقام العلماء الكبار، وكان في ذلك بعيد المرام ناصع البيان، واضح المأخذ.

    وفي الطبيعيات والكيمياء والفلسفة كان صلة الوصل بين الشرق ورجالها في الغرب؛ إذ بسط آراء العلماء تبسيطًا أوضح غامضها.

    وله في التاريخ وعلم الآثار غرر الفصول والكتب، وقد أسعفه الحظ أنه نشأ في بلد تاريخي أثري، ثم انتقل إلى بلدٍ حافل بأعظم الآثار، فطاف بين أطلال قصورها يتحدث عنها معتمدًا على أحدث الآراء.

(٥-٩) وديع البستاني

الشاعر المجيد وديع فارس البستاني، سليل بيت علم في عصر النهضة، يحق لأفراده النابغين أن يرددوا: إذا مات منا سيد قام سيد، ويحق لشاعرَيْه سليمان ووديع أن يقولا: نحن فرسان الملاحم.

فالأستاذ وديع هو أول من شق طريق العروبة إلى بيت الشاعر الفيلسوف عمر الخيَّام، فعرَّب رباعياته تعريبًا لم يوفق أحد من معرِّبي الخيَّام إلى شعر أنقى ديباجة من نظمه، وقد يكون جارى الخيَّام وتحداه.

  • مؤلفاته: معنى الحياة، السعادة والسلام، مسرات الحياة، محاسن الطبيعة، رباعيات الخيام، رباعيات الحرب، البستاني لطاغور، خمسون عامًا في فلسطين؛ وكلها معرَّبة إلا ديوان الفلسطينيات.
  • شاعر المهبراته: ولد في الدبية، ومات فيها (١٨٨٨–١٩٥٤) قضى حياته يطوف في الآفاق فسميناه السندباد الأدبي، وناضل لأجل فلسطين مكافحًا الصهيونية، وما كان أمر خيبته حين قال عن نفسه:
    غنَّى العروبة عمرًا
    وعاش حتى رثاها

    فهو ممن أُخرجوا من ديارهم بعد عناد ضارٍ ولكن المقدر كائن.

    إن المهبراته هي أعظم أثر أدبي عالمي، صرف شاعرنا المجاهد على نظمها أربعين عامًا حتى أخرجها بهذه الأناقة الفنية، ولكن أسماء الأعلام لا تروَّض ترويضًا تامًّا وتوضع في قفص الخليل.

    جزاه الله خيرًا، وأفسح في أجلنا لندرس هذا الأثر الذي قال فيه البنديت نهرو حينما أطلعه عليه الأستاذ إميل البستاني ابن شقيق الشاعر: إن هذه الملحمة المعرَّبة هي خير ما يستطيع العرب إهداءه للهند.

(٥-١٠) أحمد شوقي ١٨٦٨–١٩٣٢

  • نشأته: ولد بالقاهرة سنة ١٨٦٨، جده كردي مغربي، جاء مصر يحمل وصاة إلى محمد علي باشا والي مصر فأدخله في معيته، ثم صار أمينًا للجمارك المصرية، فجدُّ شوقي لأبيه جمع ثروة بددها ابنه أبو أحمد شوقي.

    أما جده لوالدته فاسمه أحمد حليم بك، يُعرف بالنجدلي نسبة لنجدة إحدى قرى الأناضول، وفد على مصر فتيًّا فاستخدمه إبراهيم باشا وزوجه بمعتوقة جلبت من الموره أسيرة حرب لا شراء، وهذه الجدة كانت كالمربية والأم لشوقي، وقد ذكرها في شعره، وهي التي جاءت به إلى قصر إسماعيل طفلًا يحبو، وكان نظره لا ينزل من السماء — كما روي — فطرح له على البساط بدرة دنانير هوى إليها بصره … إلخ.

    تعلَّم في الكتَّاب أولًا، ثم أوفده توفيق باشا إلى فرنسا فدرس الحقوق في مونبيليه، وخالط الأوروبيين وعرف أخلاقهم وعاداتهم وآدابهم … إلخ.

    مثَّل مصر في مؤتمر المستشرقين سنة ١٨٩٦، ونظم قصيدته المشهورة: همت الفلك واحتواها الماء.

  • شاعر الأمير: لزم قصر الأمير عباس حلمي وكان شاعره، وقد قال:
    شاعر الأمير وما
    بالقليل ذا اللقب

    وفي الحرب العظمى اعتقل ونفي إلى إسبانيا التي اختارها، وسبب اعتقاله سقوط عباس حلمي ولي نعمته وقيام حكومة السلطان حسين كامل.

    عيِّن عضوًا في مجلس الشيوخ سنة ١٩٢٤.

  • أربعة أصول: قال شوقي عن نفسه إن أربعة أصول اجتمعت فيه؛ فهو عربي تركي يوناني شركسي بجده لأبيه؛ إذن هذا شاعر جديد من الموالي يعيد به التاريخ نفسه فيبزُّ شعراء العرب الأقحاح في عصرنا هذا كما بزَّهم الكثيرون من الموالي في عصور مختلفة.

    ظل الملوك منابت الشعراء: نشأ شوقي بنعمة، وعاش بنعمة، ومات بنعمة، لم يتمتع بها شاعر عربي في كل العصور.

    نشأ مقربًا من العائلة المالكة، فجاء شعره مصقولًا، بعيدًا عن التغني بالسيف والرمح، كما فعل البارودي، ولم يذكر التعاسة والشقاء كحافظ.

  • شوقي ومولاه: كان سريع الخاطر واسع الاطلاع شديد الإخلاص للبيت العلوي المصري، وقد قال:
    أأخون إسماعيل في أبنائه
    ولقد ولدت بباب إسماعيلا
  • سرعة خاطر: وكان أشد إخلاصًا لعباس حلمي الذي أسماه وأغناه، ويروى أن شوقي كان راكبًا حمارًا فلمح الخديوي مطلًّا من شرفة قصره فترجل، فطلبه الخديو وتظاهر بتوبيخه قائلًا له: ألا يحق لي أن أطل من شرفة قصري بملء الحرية؟

    فأجابه شوقي: وهكذا أدبنا السلف: وإذا المطي بنا بلغن محمدًا.

    وبعد أن أنال خديو مصر شوقي لقب شاعر الأمير، جافاه مرة، فأنشد شوقي:

    أليس من العز المؤثل أن يرى
    أمير القوافي في فنائك جانيا
    فلولا هوى العرش الذي أنت ربه
    لما أنزلتني حالة من مكانيا

    وكان شوقي واقفًا في حفلة، وحرارة الشمس شديدة، فناوله مولاه عباس مظلته فارتجل:

    مولاي عباس أهداني مظلته
    يظلل الله عباسًا ويرعاه
    ما لي وللشمس أخشاها وأرهبها
    من كان في ظله فالشمس تخشاه

    هكذا ترعرع شوقي، وهكذا نشأ في قصور الأمراء، فأصبح أميرًا ثانيًا في قصر كرمة ابن هانئ، يلجأ إليه ذوو الحاجات مهما سموا، ثم جلس على عرش الأدب الخالد، بينما عرش مولاه عباس تزعزع، وصار أمره شريدًا طريدًا.

  • أخلاقه: كان شوقي حييًّا جدًّا، حتى إنه لم يجرؤ على صعود منبر لفرط حيائه، فكان ينشد قصائده سواه، وكنت تكاد تسمع حديثه إذا تكلم.

    وكان جوادًا بفنه لم يكلف بنظم قصيدة لجمعية أو معهد ورفض.

    كان عف اللسان لم يهج ولم يذم، ومع شدة خوفه من النقد وبغضه لناقديه، كان يلاطفهم إذا اجتمع بهم، ويقول بعضهم إنه كان يحرش الناس بهم ويقيم القيامة عليهم. وتمثلوا على ذلك بقول شوقي:

    إن الأراقم لا يطاق لقاؤها
    وتنال من خلف بأطراف اليد

    كان يوصي ولده دائمًا أن يكون لطيفًا مع الجميع ويحسن ما قدر.

    قوميته: لم يقم في شعراء العصر الحاضر شاعر قومي مثل شوقي، بل لم يشبهه شاعر في رثاء المجد الضائع إلا أبا البقاء الرندي باكي مجد الأندلس.

  • سياسته: لم تكن له وجهة سياسية خاصة، وسياسة شوقي تتجلى بقوله:
    إذا الفتنة اضطرمت في البلاد
    ورُمت النجاة فكن إمعة

    فاسمعه يمدح الإنكليز:

    أو ما ترون الأرض خرب نصفها
    وديار مصر لا تزال جنانًا
    يرعى كرامتها ويمنع حوضها
    جيش يعاف البغي والعدوانا

    واسمعه يذمهم:

    اليوم أخلفت العهود حكومة
    كنا نظن عهودها الإنجيلا
    دخلت على حكم الوداد وشرعه
    مصرًا فكانت كالسلال دخولا
    هدمت معالمها ودكت ركنها
    وأضاعت استقلالها المأمولا

    وقوله:

    أمن سرق الخليفة وهو حي
    يعف عن الملوك مكفنينا
  • أرستقراطيته: كان شوقي شاعر الأمير، لا يتكلم إلا بالمناسبات الرسمية وغيرها من المواقف الرسمية السياسية، وكان يهتم لما يقول؛ وخصوصًا في الشئون السياسية المصرية والإسلامية، فيعتبرونه معبِّرًا عن فكر أميره، وهذا الموقف «الرسمي» أسر شاعرية شوقي وأبعده عن الشعب، ولولا سقوط العرش وبُعده عن القصر لما قال ما قال من الشعر الخالد، فشوقي مديون لعباس بأمرين، مديون لعرشه ومديون لسقوطه.

    قسم العرب شعراءهم في كل عصر إلى ثلاثة، وقد أصاب شوقيًا وحافظًا ما أصاب جريرًا والفرزدق، فإنهما ماتا بعامٍ واحد.

  • أطواره: كان لا ينظم إلا أهم أبيات القصيدة بعد نصف الليل، ثم يتمها في الغد أو ما يليه، وكان مولعًا بالسينما يشهدها دائمًا، وهو كابن المعتز في حب الطيوب، وكان يكره أن يتصور. كان محبًّا للموسيقيين، فاتصل أول عهده بعبد الحي حلمي وعبده الحمولي ثم بعبد الوهاب في آخر حياته، وهو الذي أدناه من الملوك والأمراء، كما أن عبد الوهاب كان بوقًا صارخًا يسمع الأقطار العربية صوت شوقي، وكان عبد الوهاب منه كمعبد والغريض من ابن أبي ربيعة.
  • شأنه: كانت إشارة شوقي حكمًا في عهد عباس، وطاعته عند أكثر الحكام من بعض المغانم، وعظم شأنه حتى في الأستانة، فكان في كل صيف يسافر إليها فيلقى فيها إجلالًا وتكرمة، وقد نزل في ضيافة عبد الحميد صيف إحدى السنين، وأنعم عليه بالرتبة الأولى وأوسمة عديدة، وكانت حفلة تكريمه سنة ١٩٢٧ تحت رعاية الملك فؤاد، وحفلة تأبينه كانت ملكية أيضًا قامت بها وزارة المعارف.

    ولهذا ترى الترف شائعًا في شعر شوقي؛ فهو في هذا كابن المعتز وصاحبه حافظ كابن الرومي.

  • شاعريته: خُلق شوقي شاعرًا، فقال الشعر صبيًّا، وأطلقته قريحته الخصبة سامي المعاني فخم الألفاظ متلاحم الديباجة مصقولها منتقى الألفاظ، وله في التعبير جولات بعيدة.

    كان الشعر في الفترة الأخيرة ضعيفًا ركيكًا مسفًّا لا أثر للعاطفة فيه، يقال في أغراض الأقدمين فكأن الشاعر يتكلم بلسان غير لسانه.

    وكان من حسن حظ شوقي أن تقدمه شاعران هما: البارودي وإسماعيل صبري، فهذان رفعا مستوى الشعر ونهجا به نهجًا جديدًا، فحذا حذوهما شوقي ونهج نهجهما في تجويد الشعر لفظًا ومعنى وصياغة وغرضًا، وبُعدًا عن الصناعة اللفظية «البديع»، حتى كان في بادئ أمره يعرض كل قصيدة على إسماعيل صبري كما كان يفعل الشعراء في العصور القديمة.

    وكان شوقي مكبًّا على المطالعة بوجهٍ عام، يقرأ كتب الأدب بوجهٍ خاص ودواوين الشعراء على وجهٍ أخص، نخص منهم: أبا نواس — الذي أسمى بيته باسمه — وأبا تمام والبحتري والمتنبي، فظهر أثر هؤلاء الأربعة في شعره، ففيه حلاوة أبي نواس ودقة وصفه وغزله ووصف الخمر ومجالس اللهو إلا العبث، وفيه عناية أبي تمام بالمعاني الرفيعة وتعمدها مهما كلفه الأمر، وفيه هلهلة البحتري وإحكام نسجه وبراعة نظمه، أما أثر المتنبي ففيما ترى من حكمة ومعانٍ ومثل. وبكلمة، إن المتنبي كان هدف شوقي الذي يرمي إليه في شاعريته ويقلده في كل شيء، خلقًا ونظمًا وأنفة وادعاء وطعنًا في الحساد.

    ولا يعني هذا أن شوقي شاعر لا شخصية له، بل نعني أنه متأثر بهم كل التأثر، وقد تكوَّن من كل هذه العناصر شاعر هو شوقي، كما يتولد من عدة عناصر كيمائية عنصر آخر ليس هو تلك العناصر وإن نشأ عنها، والدليل على ذلك أننا إذا عرضنا على خبير بأساليب الكلام شعرًا لشوقي لا يتردد في أن ينسبه إليه.

    ومن العناصر التي عملت عملها في شعر شوقي حذقه اللغة الإفرنسية، فقد أخذ منها معاني كثيرة، ولكنه أبرزها بصورةٍ عربية خالصة فتنكرت كل التنكر.

    وللسياسة أثرها الظاهر في شعره، فقد حذقها في قصر الأمير، وبرز فيها كما برز الأخطل في زمانه.

    وللسياحات في الأقطار الغربية والشرقية عمل عظيم في فنه وإخصاب لقريحته، فمثل هذه السياحات تذكي الإلهام وتعين الشاعر وتمد قريحته أيما مدد، إن الشاعر مصوِّر للطبيعة، وفي تغير مناظرها إلهام جديد وتشويق وإغراء.

    فشوقي يعد بحق من أعظم شعراء العالم العربي كله. لقد تصرف في كل فنٍّ وجال في كل غرضٍ ومطلب، وعارض متقدمي الشعراء ومتأخريهم، وسنتكلم عن هذا في بابه. قال الشعر نصف جيل، كان في أول عهده إقليميًّا ثم صار لسان كل الأقطار العربية يشاركها في كل ما تشعر به، كما سيأتي أيضًا.

    ومن خصائص شوقي أنك تراه يمدح ويرثي أو يقول في غير هذين الفنين، بيد أنه ينحرف دائمًا إلى سرد حكمة أو ضرب مثل، وتلك سجية الشاعر الأكبر المتنبي.

    ولشوقي طويل النفس كابن الرومي، حتى ليبلغ بالقصيدة المائة أو يزيد دون إسفاف، وهذا يدل على أنه كان كثير التهذيب ولا ينظم بفترة واحدة.

    وقصيدته همت الفلك ٢٩٠ بيتًا، وكلها من جيد الشعر، وله قصيدة على الباء في حرب الترك واليونان طويلة كهذه.

    له مقطوعات شعرية يتغنى بها، وله أبيات كثيرة سائرة يستشهد كثير من الكتَّاب بها حتى فتنت هذه الظاهرة شاعرنا، على فتونه، فقال:

    رواة قصائدي فاعجب لشعر
    بكل محلة يرويه خلق
  • تآليفه: ديوانه يقع في أربعة أجزاء، طبع منه اثنان، وله غيره في الشعر «عظماء الإسلام»، وقصائد سهلة للأطفال، وله في النثر كتاب أسواق الذهب قلد فيه الزمخشري.
  • رواياته: علي بك الكبير، وكليوبترا، ومجنون ليلى، وقمبيز، وعنترة، كلها شعرية.

    وله روايات نثرية، منها: لادياس، ورقة الآس، مذكرات بنتاءور، أميرة الأندلس. من هذا تعلم خصب الرجل وجده، رحمه الله.

  • أثرته: كان لمولده ونشأته اليد الطولى في أخلاقه، فنشأ عزيزًا محبًّا للنفس مترفًا منعمًا، حتى كان يخيل إليه أن كل شيء مسخَّر له، وأنه خلق لينعم في الحياة، والمحيط الذي تعلم فيه — فرنسا — زاد في هذا الخلق، ولم يعلمه شيئًا من ديمقراطية الفرنسيس، فهو منذ نشأ ترافقه النعم فقد كان ينعم حتى في المدرسة، ولم يفكر في الغد، ولِمَ التفكير والمنصب واللقب والثروة والشرف في انتظاره؟!
  • التجديد: حاول شوقي في مطلع فنه أن يكون مبتكرًا مجددًا، وصرَّح بذلك وتمدَّح به، بيد أنه لم يأتِ بشيء من هذا، بل بالعكس، فإنه إبَّان نضوجه كان مثله الأعلى تقليد الأقدمين أو معارضتهم — سمِّ ذلك ما شئت.

    إن شاعرًا كشوقي تيسَّر له ما لم يتيسَّر لسواه، كان في استطاعته أن يكون رسول التجديد والتطور في الأدب العربي، ولكن الأحوال السائدة التي كان خاضعًا لها سدت عليه الطريق، فقد كان يجدِّد بتحفظ ويثور بمداورة، فهو لا يريد أن يغضب أحدًا، وذاك كان شأنه مع الأحزاب المصرية، ولا غرابة في ذلك، فمن عاش في قصور الأمراء هكذا يجب أن يكون ليحفظ نفسه.

  • التقليد: حاول شوقي أن يجدد — كما قلنا — فلم يفلح، وظل في طريقه تلك، حتى إذا كانت الفترة الأخيرة من عمره كانت كل قصائده مطبوعة على غرار القدماء بلا تحفظ، فلا تكاد تقرأ قصيدته حتى تتراءى لك القصيدة التي احتذاها أو عارضها.

    فشوقي أشبه بطائرٍ يستطيع محاكاة كل الطيور وهو يقول عن نفسه:

    وترٌ في اللهاة ما للمغني
    من يدٍ في صفائه أو ليانه

    ويرى طه حسين أن شوقي لو قرأ الإلياذة والأوديسا وفهمهما حق فهم، وتحرر من قيوده لأنشأ شعرًا عربيًّا قصصيًّا، وكذلك لو قرأ تمثيل اليونان والمحدثين في العرب في شبابه، لأعطى اللغة العربية فنًّا تمثيليًّا له قيمته الصحيحة، وكذلك قل عن الشعر العصري الأوروبي.

    ويقول أيضًا إن معارفه بهذه الآداب العليا كانت ضئيلة على نحو ما يتعلم الذين يكتفون بدوائر المعارف أو ما يكتب للتلامذة في الكتب المدرسية.

  • المدح: من يقرأ ديوان شوقي القديم، يرى في مقدمته أن شوقي يكره المديح وينكره على المتقدمين، وتمنى لو خلا الأدب العربي منه ولو لم يكن غرض الشعراء في الأزمنة الخالية، ولكن سرعان ما رأينا شعره يعج بالمديح، كيف لا وهو يريد أن يكون شاعر الأمير تشبهًا بالمتنبي وأميره، وقد رأيناه بعد ذاك يترسَّم خطى الشاعر العظيم خطوة خطوة حتى في الفخر في موقف الرثاء، إلا أنه يظهر لي أنه كان راغبًا عن شعر المناسبات، فلا يشير إليها بقصائده إلا بأبيات، أما ما بقي من القصيدة فينزع فيه إلى شئون خاصة أهمها الحكمة التي كانت وجهته.
  • التأثير الأجنبي: كان يحسن التركية ويتقن الإفرنسية، وقد طالع كثيرًا وهضم ما طالعه وتمثَّله، من أدب إفرنسي وتركي وعربي، عرف أخلاق العرب من انكبابه على أدبهم وتاريخهم، فكان ذا ثروة أدبية وافرة. عاشر الأتراك في حياته واشتد اتصاله بهم فقوي العنصر التركي فيه.

    أما الأدب الإفرنسي فكان متصلًا بشعرائه وأدبائه مطالعة، ولكن بالذين يعرفهم كل المتأدبين مثل لامرتين وهوغو ولافونتين وجيل سيمون، وأما الذين أتوا بعدهم فلم نرَ لهم أي أثر في شعره ينم عن تعرفه إليهم. ولهذا كان تجديده بقدر ما كان عند أساتذته هؤلاء من تجديد، مع أن جديدهم كان قد صار قديمًا في بلادهم. لا أظن أن شوقي كان يجهل ذاك الجديد، ولكن انصرافه إلى السياسة كيَّفه ووضع التخوم لحدود تجديده، فما تجاوزها في زمن استطاع فيه التجدد، أما عندما أطلقت السياسة سراحه فلم يكن وقت تجديد.

  • الأسر والحرية: لا نعني المنفى، بل شيئًا غير هذا، صرف شوقي زهاء ربع قرن من عمره كان فيه شاعر مناسبات، ليس مناسبات طليقة، بل مناسبات ذات برنامج لا يمكن الرجل أن يتعداه، طائر غريد سجين في قفص مذهَّب، يقول ما يجب أن يقال لا ما يجب أن يقول، حتى سقط عرش مولاه، فأفلت الطائر وانطلق في الأفق البعيد يطرب ويشجي ويغرد وينوح.

    وكان لأدبه من نفيه إلى الأندلس حظ كبير، فبكى المجد العربي الدارس الخالد بقصائد كان لها صدى في العالم العربي، كلها شوق وحنين وندب وبكاء للمجد المفقود، وكيف لا يبكي شاعر مفجوع بعرش أميره!

    ثم عاد إلى الوطن، بعد الحرب العظمى فإذا مصر وطنه غيرها، وإذا العالم كله قد تبدَّل، نفوس تنزع إلى الحرية المطلقة، وألسن تتغنى بالاستقلال، وشعب يُقتل في سبيل كل هذا، وشاعر أفلت من قيود السياسة الرسمية، أرخى لقريحته العنان، فشعر بما لم يشعر به من قبل؛ شعر بنبضات قلب الشعب الذي كان يريده ألا ينبض عندما كان في ظل العرش، فهاج شاعريته هذا الإحساس، فكان لسان العرب والوطن يترجم عن أماني الأمة المصرية والأقطار العربية كلها، لم تلمَّ بالأمة ملمة إلا اهتزت لها عاطفة شوقي، فكان ترجمانها شعرًا رائقًا مؤثرًا يشكو ويشكر، وفي هذا يقول: كان شعري الغناء في فرح الشرق.

  • رجلان: قال هيكل في مقدمته لديوان شوقي: تشعر حين مراجعتك أجزاء ديوانه كأنك أمام رجلين مختلفين لا صلة بين أحدهما والآخر، كليهما شاعر مطبوع يصل من الشعر إلى أعلى سمواته، وإن كليهما مصري يبلغ حبه مصرًا حد التقديس والعبادة، أما فيما سوى هذا فأحد الرجلين غير الرجل الآخر، أحدهما مؤمن عامر الإيمان، مسلم يقدس أخوَّة المسلمين ويجعل من دولة الخلافة حرمًا يفيض منه الشعر وإلهامه، حكيم يرى الحكمة قوام الحياة، محافظ يرى العربية تسع كل صورة ومعنى وخيال.

    والآخر رجل دنيا يرى في المتاع بالحياة ونعيمها غاية الحياة، متسامح تسع نفسه الدنيا، ساخر من الناس وأمانيهم، مجدد في اللغة لفظًا ومعنى، وهذا الازدواج ظاهر في شعر شوقي في شبابه واليوم، وإن كان لتأثره بالقديم الغلبة اليوم.

    وترى في شعر شوقي صورتين من صور الحياة، تستقل كل واحدة منهما عن الأخرى كأنما صاحبها غيره، فإذا قرأت: رمضان ولى هاتها يا ساقي، تشعر أنك بحضرة شاعر مغرم بالحياة، ولذَّاتها.

    وإذا قرأت: ريم على القاع بين البان والعلم، وولد الهدى فالكائنات ضياء، تشعر أنك في حضرة شيخ متهجد حتى الوسوسة، يفيض قلبه إيمانًا ويقينًا، والغريب أنه في الحالتين غير متكلف ولا متصنع.

    فالحالة الأولى وليدة الشباب، وما يتقد فيه من عواطف أذكتها الحضارة الأوروبية بمشوقاتها ومهيجاتها، والصورة الثانية أردها إلى النشأة والتربية الأوليين، فإن اختفى أثرهما وتغلَّبت عليهما عاطفة الشباب، فلا بد أن تظهرا في الكهولة، وفي شوقي روح قومية تجعله يقدس كل ما يرى فيه جامعة لتلك القومية.

    فشوقي يمثل مصر فالمسلمين فالعرب فالشرق، فإذا تصفحت شعره تراه يفيض بهذه الروح فيضًا، ويؤثر مصر في كل شيء ما خلا الدين، فبينا نسمعه يتغنَّى بمجد الفراعنة وعظمة دولتهم تراه يخاطب الفرعون الأكبر قائلًا:

    فؤاد أجل بالدستور دنيا
    وأشرف منك بالإسلام دينا
  • إسلاميته: إلى جانب عاطفة شوقي الوطنية، عاطفة أشد اتقادًا، تلك هي العاطفة الإسلامية، فلهذه العاطفة قِبْلتان؛ الأولى صوب مكة حيث نشأ السلف الصالح، والثانية صوب الأستانة، وهكذا كان شوقي يستمد وحيًا كثيرًا من العرب ومكة والقرآن والإسلام والرسول والإرث المفقود، وفي كل ما قاله من الشعر في هذه الأغراض يتجلى الإيمان الحي، بيد أن شعوره كان أشد وأقوى عندما يتكلم عن الترك والخليفة، ولعل في ذلك قوة دم الجنس، أو لأن تأثير الترك في سياسة القصر كان أشد، وشوقي ولوع بها إلى حدٍّ بعيد، وهو لسان أميره.
  • الحكمة: أحب شوقي الحكمة في شعره، ولا غرو، فأبو الطيب كان مثله الأعلى، فهو يميل إلى الحكمة العامة أشد ميل، حتى ترى عنوان قصيدة ولا تجد إلا قليلًا منها يدخل في العنوان، وما بقي فحكمة وغزل ووصف! وفي هذا ترى شوقي شرقيًّا عربيًّا غير متأثر بالحياة الغربية إلا قليلًا.
  • لغته: ترى شوقي يغلو في شرقيته وعربيته، فيتعمد ذلك في لفظه ومعناه، وقد مال إلى إحياء ألفاظ قديمة، ففعل وأحيا كثيرًا منها وبعثها من مراقدها، فكأنه يرى ذلك شيئًا من التجديد، وقد تابعه في استعمالها كثيرون من شعراء عصره، وله تعابير خاصة به، أحسن استعمالها ووضعها، فصاهر بين ألفاظ عديدة وحسَّن اقترانها، وزادت شعره رونقًا وروعة.

    وغلو شوقي في عربيته وشرقيته أوضحُ في جانب اللغة منه في جانب المعاني، فمعانيه فيها من أدب الغرب كل ما يسيغه الطبع الشرقي والحضارة الشرقية، ودليلنا على ذلك الألفاظ التي نفخ فيها روحًا جديدة فأحياها، فوصل بها المدنية الدارسة بالمدنية المنبعثة الحديثة، من أقدس واجبات الخلف المحافظة على ميراث السلف، وهذا أشد ما تحتاج إليه اللغة العربية، فعسى أن يقوم فينا كثيرون مثل هذا الشاعر، وما أشبه هذا بعمل الأثري الذي يحيي ميت الفن بعد عشرات الأجيال، ويدل على مواضع الحسن فيه بعد أن ينفض عنه غبار الدهور، ويحببه إلى الناس الذين قد يمرون به ولا يشعرون بما فيه من روعة وحسن.

  • تطوره: قال الرافعي يصف تطور شوقي: «يكبر شعره كلما كبر الزمن، فلم يتخلف عن دهره ولم يقع دون أبعد غاياته، وكأنه مع الدهر على سياق واحد، وكان شعره تاريخًا من الكلام يتطور أطواره من النمو، فلم يجمد ولم يرتكس، وبقي خيال صاحبه إلى آخر عمره في تدبير السماء كعراض الغمامة سحابه كثير البرق ممتلئ ممطر ينصب من ناحية ويمتلئ من ناحية.

    الناس يكتب عليهم الشباب فالكهولة فالهرم، ولكن الأديب الحق يكتب عليه شباب فكهولة فشباب؛ إذ كانت في قلبه الغايات الحية الشاعرة ما تنفك يلد بعضها بعضًا إلى ما لا انقطاع له، فإنها ليست من حياة الشاعر التي خلقت في قلبه، ولكنها من حياة المعاني في هذا القلب.»

  • شعره السياسي: بأحمد شوقي آلت زعامة الشعر لمصر في هذا العصر، ولم تكن فيما سلف من العصور ذات شأن نابه — إذا استثنينا عصر البهاء زهير الذي لا يعد من أمراء الكلام.

    أما شعر شوقي فانساق مع الزمن والحوادث — وأعظم العصور انقلابات كان هو عصر شوقي — فمن خلافة تركية إسلامية، إلى وطنية مصرية، إلى نزعة فرعونية، إلى جامعة إسلامية، فكان هذا مادة خياله وغذاء نبوغه وسبب مجده الشعري، أعانه على ذلك انصرافه للشعر ٤٤ سنة متصلة غير منقطعة لا يشوبها بلبال، رزق وجاه، يحل ويرتحل، أين شاء ومتى شاء.

  • المبالغة: في شعر شوقي كثير من المبالغة اكتسبها من عنصره التركي الفارسي — إن صح النسب.
  • الإضافات: لشوقي إضافات غريبة أملاها عليه عنصره التركي أيضًا، مثل قوله: عيسى الشعور، عمرو الأمور.
  • الأعلام: يكرر كثيرًا من الأسماء المقدسة والأعلام التاريخية مثل: عيسى وموسى ويوشع وخالد وبدر وسينا وجبريل وحاتم وكعب … إلخ. تراها مقحمة إقحامًا.
  • التكرار: أكثر من تكرار بعض المعاني مثل بيته في الأخلاق، فقد ورد ذكره بمعناه أكثر من عشر مرات، وكذلك غيره من المعاني كما يراها المدقق في شعره.
  • الوصف: أقوى ناحية في شعره، ولكنه لشدة تأثره بالمتقدمين يصف حرب وجنود اليوم بما كان يصفهم به شعراء العرب دون مراعاة للزمان والمكان والعتاد والاختراعات الحديثة.
  • الاجتماع: لم يتعرض شوقي في شدة لمسألة اجتماعية مختلف عليها، فهو يساير القديم ويلاطف الجديد دون أن يتعرض لما بينهما من خلاف — وهذا خلقه السياسي كما تقدم — فما رأيناه بحث تقليدًا أو قضية اشتد الخلاف حولها وحاول المجددون هدمها، فكأنه لم يحس ما قام حوله من الثورات الاجتماعية، والنزاع بين القديم والجديد في مصر، إلا أنه قال شيئًا في موضوع المرأة لكن دون أن يجرح الحجابيين إذ عمد لسرد واقعة تاريخية لا يستطيع إنكارها المحافظون، كما أنه لم يتعرض للحجاب، قال:
    هذا رسول الله لم
    ينقص حقوق الأمهات
    العلم كان شريعة
    لنسائه المتفقهات
    رضن التجارة والسياسة
    والشئون الأخريات
  • ديباجته: بحترية أندلسية، ألفاظ منتقاة لا تنافر بينها، رنة موسيقية تطرب لها، فكأن الجيد من شعره موقع إيقاعًا، فاز كثيرًا بالمعنى الجيد وأدَّاه في اللفظ الرشيق.
  • خياله: غني بصوره الرائعة، له في قصائده المشهورة جولات يحلق بها تحليقًا ثم يعود إلى مستواه ولا يسف. إن هذه الوثبات تميز الشاعر عن الشاعر، فالعادي يقوله كل إنسان.
  • شاعر جامع: نظم شوقي في كل أغراض الشعر وأجاد فيها، ولا نخطئ إذا قلنا تعمَّد بعضها تعمدًا ليقول فيها، وزاد على من تقدموه الشعر التمثيلي. لا نعني أن الشعر التمثيلي لم يكن قبل شوقي أو كان معدومًا، بل نعني أن شوقي زاد فيه ورفعه إلى مستوًى عالٍ قرب به من الفن الروائي وإن لم يدركه تمامًا.

    وكأنه كان يباري شعراء الأقدمين، فعارض مشاهيرهم، ونظر إلى شعراء الغرب العظام فشاء أن يكون له ما لهم، ففي حكاياته الصغيرة اقتفى خطوات لافونتين، وفي ديوانه الخاص: «عظماء الإسلام» نحا نحو هوغو في ديوانه أساطير الدهور، وفي تفلته من قيود القافية نحا نحو هوغو أيضًا في هرنني، ولكن بتحفظٍ وحذر، فلم يغضب الناس كما أغضبهم هوغو.

    وحيث يتعذر على شوقي المعنى الفريد النادر يلجأ إلى تعبير جديد يغنيك به عنه. استغل التاريخ الإسلامي وحوادثه الخطيرة، فكان كالبستاني الحاذق في استثمار الأرض الخصبة.

    أما تمثيلياته فقد لخصنا رأينا فيها في كتابنا الرءوس.

(٥-١١) آجيَّا صوفيَّا

نموذج وعدنا به بمناسبة كلامنا عن الحروب الصليبية:

كنيسة صارت إلى مسجدٍ
هدية السيد للسيد
كانت لعيسى حرمًا فانتهت
بنصرة الروح إلى أحمد
كانت بها العذراء من فضة
وكان روح الله من عسجد
عيسى من الأم في هالة
والأم من عيسى لدى فرقد
فمن ملاك في الدجى رائح
إلى ملاك في الدجى مغتدي
ومن نبات عاش كالببغا
وهو على الحائط غض ندي

•••

وناب عما كان من زخرف
جلالة المعبود في المعبد
فيا لثأر بيننا بعده
أقام لم يقرب ولم يبعد
باقٍ كثأر القدس من قبله
لا ننتهي منه ولا يبتدي
فلا يغرنك سكوت الملا
فالشر حول الصارم المغمد
لن يترك الروم عباداتهم
أو ينزل الترك عن السؤدد
فإن يعادوا في مفاتيحه
فيا ليوم في الورى أسود
يشيب منه الطفل في مهده
ويزعج الميت من المرقد
فكن لنا اللهم في أمسنا
وكن لنا اليوم وكن في الغد
لولا ضلال سابق لم يقم
من أجلك الخلق ولم يقعد

(٥-١٢) تحليل النص ونقده

ماذا يجب علينا أن نفعل؟

  • أولًا: الإشارة إلى المكان الذي أخذت منه القطعة — إذا أمكن — وبعد قراءة العنوان يشار باختصار إلى المقام الذي تشغله القطعة من الكتاب.

    إن التلميذ لا يستطيع دائمًا هذا التعيين ولا يجب دائمًا أن يسأل عنه إلا حيث يمكنه ذلك؛ كتعيين مشهد من رواية أو قطعة مشهورة، فالمهم تعويده ذلك. وهذه المسألة مسألة تدريب عقلي ليس إلا. فليُنمِّ الأستاذ فيه محبة الجد في طلب القطعة، ليعرف مكانها، جهده، وليطرح عليه أستاذه السؤالات مستعينًا باختباراته الشخصية ليضطره إلى الرجوع إلى كتاب آداب اللغة ومعاجمها، بل إلى الكتاب كاملًا إذا كان لديه هذا الكتاب.

    ليس على التلميذ أن يعرف الكاتب فقط وكتاباته، بل عليه أيضًا معرفة المحيط الذي نشأ فيه حتى كتب ما كتب. وتفسير هذا هو:
    • (١) هل أوحى إليه الموضوع داعٍ من دواعي حياته الخاصة أو السياسية؟
    • (٢) هل أوحى ذلك حادث تاريخي قبله أو معاصر له؟
    • (٣) هل دفعته إلى الكتابة مطالعته التي أثرت به وهل وهل … إلخ؟

    وهكذا تنمو في الطالب معرفة المقابلة والتاريخ. ويجب تجنب إيقاعه في الإعجاب المفرط بشيء من القطع ظاهرها أدبي فيتوغل في انتقادها كثيرًا ويحسبها شيئًا مهمًّا في حين أنها تتضاءل فجأة عندما ترجع لتاريخ أو حدث. إننا لا نريد أن نجعل من تلاميذنا متصنعين ومدَّعين ولكن نريد أن نجعل فيهم عقولًا صحيحة. علينا أن نتفهم أن الانتقاد الصحيح يرتكز على قاعدة كالقاعدة الحسابية التي يختلف فيها اثنان.

  • ثانيًا: قراءة القطعة: قد يقرأ تلميذ واحد القطعة المعدة للشرح وأحيانًا توزع على الطلبة، فإذا كان التلميذ قد استعد عليها كتابة، فعلى المعلم أن يتطلب منه قراءة تقرب من الكمال — نعني بهذا قراءة تتلون وتتنوع مع المعنى كأنها نوع من البحث الانتقادي — ولكننا لا نسلم أبدًا بدفع التلامذة إلى الإلقاء، إنما يكفينا منهم اللفظ الصحيح المحكم جيدًا. وإظهار نبرات الكلمات المهمة؛ لأن الصف غير مسرح للتمثيل.
  • ثالثًا: الرسم: «مصور القطعة. خريطتها» يظهر لنا أن هذه النقطة هي أهم أجزاء التحليل، فيجب أن نحمل التلاميذ على أن يسألوا أنفسهم متى قرءوا شعرًا أو قطعة خيالية أو قصة أو رسالة … إلخ، عن سياق الأفكار والبراهين والإسهاب وغير ذلك.

    فكل كاتب له سياق خاص ورسم خاص. وما الإنشاء إلا نظام وحركة أفكار الكاتب، وعلى هذا النظام يجب أن نفتش لنجده. إن التحليل والتركيب ينمي الذكاء جدًّا، وإننا بهدم وبناء صفحة واحدة من الشعر أو من النثر ندرك فائدة لا تقدَّر، فبهذا التحليل نكون كمن يحل خيوط قطعة منسوجة نسجًا محكمًا فيفهم خصائص كل خيط منها. فعملنا هذا يؤدي بنا إلى فهم آلة دماغ أو قلب ما كنا لنفهم أسرارها لولا تفكيكها قطعة قطعة.

    إن هذا التمرين نافع جدًّا لتلونه؛ لأنه لا يوجد نظرية واحدة تطبق على كل الكتاب، فكل كاتب يريك شيئًا جديدًا بل صعوبة جديدة في تحليله. فرسم الجاحظ أو نظامه يظهر كالفوضى إذا قابلته بغيره من الكتَّاب، ومع ذلك فعدم نظامه هذا هو نظام خاص له.

    ولو بحثنا كاتبًا خياليًّا يظهر لنا أنه لا يهتم للنظام والترتيب في سياق أفكاره، نجد بعد البحث أن له نظامًا خاصًّا؛ أي نظام تأثراته وشواعره، والقصد من ذلك تسلسل الأفكار مجتمعة. والمناقشة وحدها في موضوع الترتيب تؤلف أحيانًا بحثًا كافيًا.

  • رابعًا: البحث: بعد التعيين التاريخي والقراءة ودرس الرسم تراجع القطعة جملة جملة للبحث فيها — وهنا اختلاف الطرق — في النوع والنظام والنسبة، وكلها نقط تظهر لنا ذوق الأستاذ؛ أي الذوق الشخصي ونوع الدراسة الذي ينم عن أخلاقه. فالمعلم الفلاني يهتم كثيرًا للنحو، والآخر بالبيان، وغيره يتعمق بالعواطف والأفكار والنظريات، وغيره في درس الإنشاء والفن، ولهذا نرى من المناسب أن يدرس الصف الواحد عدة أساتذة، ولتكن دروسهم كل سنة ذات صلة بدروسهم السابقة.
    يختلف البحث باختلاف الأذواق، ولكن هناك أشياء لا بد من مراعاتها وهي:
    • (١) المنع المطلق لمراجعة المترادفات؛ أي أن نفسر الجملة بجملة ركيكة، أو أن نبدل لفظة بلفظة على حد قول الشاعر العربي: وفسر الماء بعد الجهد بالماء.

      فالتلميذ إذا تُرك وشأنه فإنه يهيئ مترادفين أو ثلاثة فيبدلهما بكلمات القطعة فيعطيك نثرًا كريهًا بدلًا مما يقرؤه، وهذا كل الشرح في عُرفه. فمن المهم ملافاة هذا العيب منذ الابتداء، وأبسط الطرق لملافاته هي أن يسأل المعلم بنفسه السؤالات ويوقف التلميذ على الكلمات المحتاجة إلى التفسير. فيسأل مثلًا: لماذا استعمل الشاعر أو الكاتب تلك الكلمة المجازية بدلًا من الكلمة الحقيقية في حين أنه كان في وسعه استعمالها؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي يراها مناسبة حتى يتعود التلميذ أن يتساءل ويفسر تفسيرًا منتجًا، ويفسر عوضًا من أن يعيد الكلمات عينها أو يأتي بما يكره سماعه من الإنشاء.

    • (٢) هذه القاعدة تشتق من التي سبقتها، وإننا نؤكد أن الأساس المهم للشرح هو البحث والمناقشة في تأدية التعبير للمعنى المقصود، ويحسن أن نفسح للتلميذ مجال البحث ولو بالغ فيه بشرط أن لا يتجاوز الحد. فبهذا نجعل التلميذ يزن ويقدر قيمة الأسماء والنعوت والأفعال والظروف، وذلك بمساعدته على إيجاد القوة الاشتقاقية. وليبحث في نوع كتابة الكاتب وطبيعة القراء في عصره وميولهم التي اضطرت الكاتب لإرضائهم باتباع ما اتبع من الأساليب والأفكار لإرضائهم. وعلينا أن ندفع التلميذ أيضًا ليميز بين معاني الكلمات في العصر الذي استعملت فيه وبين معانيها في العصر الحاضر.
    • (٣) من جهة قواعد اللغة لا يجب بحث إلا ما خرج عن الاستعمال المألوف، هذا إذا لم تكن القطعة منتقاة خصيصًا للتمرين على قواعد اللغة.
    • (٤) في الإنشاء، يجب أن نهتم خصوصًا بتحليل وبحث الصور، ولا يجب أن نعلم التلامذة لائحة (ليستة) بصور الأفكار وصور الكلمات لتقيدهم بأفكارنا ونظرياتنا، بل لنحملهم على التفكير وخلق الصور التي يرونها بأنفسهم عند الكاتب.

      وعلى الأستاذ أن يعوِّد التلاميذ وقت الشرح والتفسير على الانتباه إلى الحركات المختلفة؛ كالنداء والاستفهام العادي والإنكاري وتكرار الألفاظ والتعجب والصور البيانية والصور الكثيرة الاستعمال من البديع … إلخ. إننا لا نستطيع درس الشعراء وتذوق ما يكتبونه إلا إذا اعتمدنا على هذه الطريقة في درسهم.

    • (٥) استخراج النتائج، بعد تحليل القطعة ونقدها يبقى علينا استخراج النتائج الأدبية والفلسفية. هنا يجب اتِّقاء خطر فاضح وهو كثرة الكلام الفارغ (الحشو واللغو). علينا أن نستخرج الملاحظات والنتائج من القطعة نفسها؛ أي من منطوقها لا من نظرياتنا الخاصة، إذ يجب أن تكون القطعة الحد الأقصى لبحثنا فلا نتعداها إلى آرائنا الخصوصية. ولنحتم على تلميذنا ألا يخرج كذلك عن القطعة التي أعطيها للبحث — كتابة أو شفويًّا — بل فليحصر بحثه في القطعة ويبدي الملاحظات التي رآها فيها ليس إلا.

      إن ما نتساءل عنه هو لماذا نشرح ونفسر ونبحث؟ الجواب طبعًا: لكي نفهم. إذن ليست الغاية الأولى من الشرح والتحليل فهم الصور البيانية لأنها صور بيانية لذيذة، بل لنتوصل بواسطتها إلى الفهم إلى ما يرمي إليه الكاتب تمامًا. وقصارى الكلام أن الغاية من الشرح والتحليل والبحث هي فهم الفكر والشعور فهمًا دقيقًا كأننا نحن ذاك الكاتب نفسه.

تطبيق

(١) مصدر النص. (٢) صفاته العامة: خيالي، تأمل، رؤيا، وصف، هجو، قصف …إلخ. (٣) المدخل؛ أي سبب الكتابة. (٤) الرسم، وتتفرع منه الفكرة العامة ووحدة الموضوع. (٥) تبيين المحاسن والعيوب وبيان الصور البديعة والمستهجنة. (٦) اللغة وما يتبعها، كما إذا كان هناك مخالفة لغوية أو نحوية أو بيانية. (٧) نوع الإنشاء، أهو من الإنشاء العالي أو المنمق أو البسيط. (٨) النتائج الأدبية والفلسفية وما يرمي إليه الكاتب أو الشاعر.

  • تنبيه: في الشعر المنمق يُلتجأ إلى رده إلى النثر، وإذ ذاك يُعرف مبلغ الأفكار؛ أي إذا كان الكاتب ممن يعنون بالألفاظ والتعابير أكثر من المعاني والأفكار.
  • شعر رنان: كلمة نسمعها كثيرًا، فللاهتداء إلى هذا السر انظر إلى الاهتزازات التي يحدثها استعمال بعض ألفاظ موسيقية في اللغة، وانتبه إلى استعمال الأفعال والأسماء والكلمات المشددة وبعض الحروف التي لها تأثيرها.

ملاحظة هامة

سر هكذا في ترتيب نقدك:
  • (١)

    كلمة مختصرة عن الموضوع كمدخل له أو تمهيد.

  • (٢)

    قسِّم نقدك هكذا:

    الإيجاد: وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
    • عمل الحس، وهو ما أحس به الشاعر أو الكاتب حتى كتب ما كتب، وهذا ما يعبرون عنه اليوم بالتجربة.

    • عمل الخيال، وينتج عن الحس؛ أي إن الشاعر يحس أولًا ثم يتخيل.

    • وبعد الحس والخيال يأتي عمل الذهن فهو الخزينة الواعية.

    التنسيق: ظيفة الذهن ترتيب المعاني التي تجتمع بالإيجاد، والذهن أيضًا يقرر النسبة والوحدة بين أجزاء القصيدة، وهذا ما نسميه التنسيق، وهو يقسم إلى ثلاثة أقسام: (أ) الوحدة: وهي تكون بوحدة العاطفة والفكر وما يرمي إليه الكاتب من غرض. (ب) الرسم: وهو ما تتألف منه القطعة من أجزاء رئيسية. (ﺟ) تنسيق التفاصيل: وهو تفصيل ما تألفت منه الأجزاء الرئيسية وحسن ترتيبها وتنسيقها.
    البيان: وهو ثلاثة أقسام أيضًا: (أ) اتساق الأبيات أو الإنشاء؛ أي جلاؤها ووضوحها. (ب) صفات الإنشاء العمومية يبين فيه كل شيء من محاسن وعيوب. (ﺟ) الأشكال البديعية والمجازات؛ تذكر منها المستحسن والقبيح وما يلفت نظرك من جمال فني.

هذه آراء معلِّمي النقد الأجانب وقد لخصناها لك تتميمًا للفائدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤