عصر صدر الإسلام

المخضرمون – الأمويون

معلومات مختصرة عن امتداد ملك العرب:

أنكر قرشيو مكة بعثة النبي فحاربوه ففر من مكة نهار الجمعة ١٦ تموز سنة ٦٢٢م، وفر معه مريدوه، ثم عاد ففتح مكة وحطَّم أصنامها، ووضع أساس الدين الحنيف الذي به وضعت أسس الوحدة العربية، فالأدب العربي العالمي الذي يشغل علماء أوروبا اليوم.

(١) الفتوحات

الخلفاء الراشدون

  • أبو بكر: فتح العراق والشام. وقد تم الفتح العراقي على يد خالد، والشامي على يد أبي عبيدة.
  • عمر بن الخطاب: فتح القدس ومصر وفارس.
  • عثمان: فتح إفريقية وأنقرة.
  • علي: حروب أهلية.
  • الحسن: تنازل لمعاوية.

الخلفاء الأمويون

  • معاوية: نزاع بينه وبين علي.
  • معاوية الثاني: على عهده فتنة ابن الزبير.
  • الوليد بن عبد الملك: على عهده فُتحت الأندلس.

(٢) نشأة الإمبراطورية العربية

جمع العرب كلمتهم بعد ظهور الإسلام، فهبوا للفتح حتى سيطروا، في آخر عهد بني أمية، من ضفاف الكنج شرقًا وشواطئ الأطلنطيك غربًا، وأواسط إفريقية جنوبًا وشمالًا إلى أواخر أرمنية في آسيا، وإلى اللوار في أوروبا، واحتلوا مدن كسرى وقيصر، وحاولوا الاستيلاء على القسطنطينية، وكانوا في كل فتوحهم يحملون معهم كتاب الله، يعلمونه الناس.

وهنا نبدأ كلامنا في الوحدة العربية، وكيف تكونت وامتدت في العالم بأسره.

(٣) وحدة الأمة العربية

  • الفتوح: جزيرة العرب، العراق، فارس، الشام، مصر، السند، خوارزم، سمرقند، الأندلس.

    ورث العرب كل هذه المدنيات، وهي وارثة عدة حضارات.

  • لغاتها: كانت عديدة.
  • أجناسها: سامية، حامية، آريَّة.
  • أديانها: مختلفة: سماوية، وغير سماوية، والعقليات مختلفة.
  • الشام ومصر: كان الشام ومصر ملحقين بمملكة الروم علمًا وأدبًا، ودينهما النصرانية. والعراق وفارس آدابهما فارسية، ومنها رومية بين نصارى العراق. وكانت الحرب سجالًا بين الدولتين فتغلَّب عليهما العرب.

    ففي مصر والشام كانت الآداب عبارة عن العادات اليونانية في عصر الإسكندر.

    وقد كانت العلوم اليونانية تطورت عند الفتح الإسلامي؛ وخصوصًا الفلسفة لاختلاطها بالمواد اليهودية والمسيحية، فتولَّد منها ما يعرف بالفلسفة الأفلاطونية، والفلسفة الفيثاغورية الحديثتين، وكانت مدرسة الإسكندرية أم المدارس بالطب والهندسة والفلك وسائر العلوم الرياضية والخطابة والشعر.

    عاصرتها مدارس طرسوس ورودوس وأنطاكية وبيروت التي اشتهرت بمدرستها الحقوقية.

    وفي العراق وفارس كانت الآداب القديمة التي أضافوا إليها الهند والصين وآشور وغيرها من أمم الشرق.

    وفي أيام سابور في الدولة الساسانية أنشئت مدرسة جندي سابور، ونقلت فلسفة اليونان إليها في عهد كسرى أنوشروان العالم سنة ٥٣١–٥٧٨.

    ولما أقفل بوستنيانوس الهياكل والمدارس الوثنية جاء فلاسفة اليونان الوثنيون فنقلوا كتبًا شتى عن اليونان، وكانت الفلسفة الأفلاطونية قد نضجت.

    ففتحُ الإسلام الكبير جعل مدينة الروم والفرس وأدبها في حوزة العرب، فتسربت إلى المسلمين وامتزجت بعاداتهم وآدابهم.

    واختلاط هذه الأمم الكثيرة بالعرب ولَّد العجمة، ولم تبقَ اللغة الفصحى إلا في قلب الجزيرة.

    ولذلك قال الأصمعي: أربعة لم يلحنوا قط لا في جد ولا في هزل: الشعبي، عبد الملك بن مروان، الحجاج بن يوسف، وابن القريَّة.

    ولهذا صاروا يُحضرون المعلمين للأمراء وأولياء العهد من أفصح العرب، أو يرسلونهم إلى البادية.

  • التمازج: خضعت هذه الشعوب كلها للمسلمين فاختلطت بهم في السكنى والجوار والزواج وكل مرافق الحياة، فصارت الأمة عربية وغير عربية.
  • العلوم: أخذ المسلمون العلوم عن المغلوبين؛ لأنهم رأوا أنفسهم دونهم علمًا ومعارف. أخذوا فلسفة ونظمًا اجتماعية وعلومًا فلسفية واقتصادية، وصبغوها بصبغتهم الخاصة، فاجتاحت اللغة العربية كل لغات البلدان المفتوحة وانتشرت انتشارًا هائلًا حتى في أوروبا، فزادت ثروة اللغة العربية، وأصبح الأدب العربي هو الأدب الفارسي المصري السامي الغربي الأندلسي.
  • أدب عالمي: فهذا التكوين جعل الأدب العربي أدبًا عالميًّا يهتم له الغربيون للأسباب الآتية:
    • (١) العرب حملوا مصباح التفكير الإنساني أربعة قرون كانت فيها المدنية عندهم، واشتملت عليها لغتهم، ثم نُقلت ولا تزال تنقل إلى أوروبا. فالمستشرقون اليوم أشد اهتمامًا بها، وفي كل يوم يعثرون على كتاب جديد ينشرونه.
    • (٢) أساس الحركة الفكرية في أوروبا في القرن الثالث عشر يرجع إلى مؤلفات العرب التي درسها الأوروبيون.
    • (٣) الأمة العربية أنتجت حضارة لا تزال قائمة إلى الآن يبحثها المستشرقون بكل اهتمام.
    • (٤) يدين العرب بدين كبير له تأثيره في عقليات كثيرة تبلغ مئات الملايين من الناس من بدء نشأته حتى يومنا هذا.
  • المظاهر الدينية: عبادة إله واحد، إله كل شيء، عالم بكل شيء، قادر على كل شيء، الخلود، الثواب، العقاب، قيمة الإنسان بعمله، خير الناس أتقاهم لا أقواهم.

    أما في الجاهلية فكانت العزة للكاثر، ومنها المال والبنون والأقربون الذين تتولد بهم العصبية.

    فالإسلام هدم القبيلة وكوَّن الأمة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.
  • الآداب: عَدَّ فضائل الجاهلية رذائل؛ كالخمر والميسر والانتقام، فحل محلها الصفح والمسالمة ومقاومة الظالم بدلًا من نصرته.

    دافع عن الضعيف الذي يأكله سيده، فحرَّم الربا وحثَّ على الصدقة وفرض الزكاة.

    فلم يكن الانقلاب الإسلامي انقلابًا دينيًّا ليس غير، بل انقلابًا سياسيًّا اجتماعيًّا اقتصاديًّا.

    إلا أن النزعات الجاهلية لم تمح تمامًا، فالعصبية الجاهلية كانت تظهر في بيئات مختلفة، ثم نمت أشد النمو في العصر الأموي، فالشباب الأموي كان يعيش عيشة جاهلية من شراب وصيد وغزل.

  • الاجتماع والسياسة: بتكوِّن أمة إسلامية تتكلم لغة واحدة ذات دين واحد ونظام واحد هو الشرع الإسلامي، تحضَّر العرب وصاروا ينتمون إلى المواطن بدلًا من القبائل.

    حرَّم الإسلام الربا الفاحش والتلاعب بالميزان والكيل وآجال الديون.

    كان الزواج غير مقيَّد فقيَّده، وورَّث المرأة وحرَّم وأدها، وقسَّم الميراث.

  • العيشة: لما تغلب العرب على الفرس والرومان اكتسبوا مدنية وغنى وخصبًا وعاشوا عيشة راضية، فكان الإسلام أشبه ببوتقة: أمة مؤلفة من أمم.
  • الأنظمة: واكتسبوا أيضًا أنظمة سياسية كتدوين الدواوين وتنظيم الجيوش، أما الفرس والرومان، فأخذوا عن العرب الدين واللغة، فتعلَّموا العربية وأسلموا، وبرز بعضهم في العربية على العرب أنفسهم.

(٤) الدين الجديد والأدب

للأسباب الآنفة الذكر جاء الأدب الإسلامي مغايرًا للأدب الجاهلي، فهو لا يصف العقل الإسلامي الذي طبعه الإسلام بطابعه الخاص.

لم يحدث التغير في الأدب فجأة كما حدث مرة واحدة في السياسة والاجتماع، بل ظل العرب متمسكين بأدبهم زمنًا.
  • القرآن الكريم: أدهشهم القرآن الكريم؛ إذ رأوا شيئًا لا عهد لهم به من قبل، بل كل ما كان عندهم بعض أشعار وأمثال متفرقة.

    أدهشهم القرآن؛ إذ حدَّثهم بشيء لم يتعودوه؛ عن الدين، عن الإنذار والتبشير والاشتراع، فأنكروا ذلك أولًا ثم بهرهم جماله وأحبوه، وما مضى ربع قرن حتى صار هو المثل الأعلى في الدين والأدب والاجتماع والسياسة، وكان الناس بين منكِر ومقاوِم ومؤمِن ومدافِع.

  • الشعر السياسي: وظهر إذ ذاك الشعر السياسي: جماعة يدافعون عن النبي محمد ودينه، وجماعة يناضلون عن دينهم القديم ويعادون النبي.

    فهذا الشعر السياسي كان جاهليًّا لفظًا ومعنى، أسلوبًا وغرضًا، إلا أنه تناول شيئًا لم يتناوله الشعر القديم، وهو المعاني الدينية، وكثرت فيه ألفاظ لم يذكرها من سبقهم من الشعراء. وهذه الألفاظ وردت في القرآن الكريم، كالألفاظ الدينية؛ فمنهم من يُكثر من ذكرها؛ كعبد الله بن رواحة من شعراء الأنصار، ومنهم من كان حينًا يذكر وحينًا لا يذكر؛ كحسان بن ثابت. أما شعراء قريش المعارضون للنبي ودينه الجديد فكانوا يلمون بها إلمامًا.

  • الهجرة: معارضة قريش للنبي دعته للهجرة كما تقدم، وحدثت حروب كثيرة. كل ذلك فتح مجالًا للشعر والإكثار منه؛ كالفخر والهجاء والرثاء، فكان عصر النبي عصرًا نهض فيه الشعر نهضة لم تحدث في الجاهلية، حتى إن قريشًا عُرفت به وكان قليلًا فيها، لأن القرشيين شعب منصرف للتجارة وله السيادة على الكعبة.

    وبعد موت النبي وحدوث حروب الردة وظفر الإسلام، انقطعت المعارضة واشتد الميل للفتح، وزالت الخصومة الدينية في الحجاز، وكان عمر ينال ممن يذكر تلك الأيام وأشعارها حتى نهى حسانًا عن إنشاد شعره في مسجد النبي، فضعفت العناية بالشعر وانصرفوا إلى الحروب والفتوح وتأسيس الدولة وتمصير الأمصار.

    قلَّ الاعتناء بالشعر، ولكن لم ينصرف عنه العرب كل انصراف، بل بقي منهم من يقوله مدحًا وهجاءً وفخرًا.

    ومنهم الحطيئة، وكعب، والشماخ بن ضرار، والنابغة الجعدي، فهؤلاء ظلوا يقولونه كأنهم في الجاهلية. كما أن البعض منهم انصرفوا عنه أو كادوا بعد وفاة النبي؛ مثل حسان بن ثابت، ولبيد.

    أما الحطيئة فلم يتأثر بشيء من حيث المبدأ، بل ظل هجَّاء حتى حبسه عمر. وهناك شاعر آخر اسمه ضابئ البرجمي، أقذع في هجوه حتى حبسه عثمان، ومات في السجن.

    هذان الشاعران وأمثالهما لم يتركوا جاهليتهم وتفكيرهم، ولكنهم تأثروا بالتعبير القرآني وبعض معانيه والحياة الإسلامية الجديدة، فظهر شيء في شعرهم لم يكن مألوفًا من ذي قبل، كقول الحطيئة:

    من يفعل الخير لم يعدم جوازيهُ
    لا يذهب العرف بين الله والناس

    ففي خلافة عمر وقسم من خلافة عثمان انصرف شباب الأمة العربية إلى الحروب؛ أي تركوا القول ومالوا للعمل، إلا بعض رجال البادية فإنهم ظلوا محتفظين بعاداتهم خاضعين للنظام الجديد. فهؤلاء كان الشعر حديث مجالسهم. وبعد تلك الفتوح العظيمة تكونت ناشئة جديدة ونظرية جديدة في الحياة، وأمن العرب شر أعدائهم وأثروا، فعادوا إلى التنافس فيما بينهم، ومن آثار هذه المنافسة مقتل عثمان وعلي. وحدثت شِيَعٌ وأحزاب أخرى بسبب هذا التنافس أيضًا.

    وحصل تنافس شعري بسبب مقتل عثمان وعلي لم يقلَّ عن تنافس النبي وقريش، فقيل شعر كثير.

    وظلت الحالة كذلك حتى انقادت السلطة لمعاوية، فهدأت الأحوال نحو ٢٠ سنة هدوءًا وقتيًّا، أشبه بهدنة بين متحاربين، استعدادًا لحرب جديدة.

    فما مات معاوية حتى اشتدت الخصومة وشمَّرت عن ساقها، وعادوا إلى ما هو أشبه بأيام الجاهلية من الحروب. فكثرت الأحزاب واشتد النضال بالسيف واللسان.

    فظهر الشعر ظهورًا جديدًا أشد مما مضى، وكان مخالفًا للشعر القديم؛ لأن الجيل إسلامي، والجاهليون كانوا انقرضوا تمامًا، وقام جيل جديد متأثر بالإسلام، وحضارات جديدة، فتغيَّر عقله تغييرًا تامًّا.

    فالذي يصح أن نسميه أدبًا إسلاميًّا هو ما قاله هؤلاء الذين سمعوا عن الجاهلية الأخبار ولم يروا منها شيئًا، وهؤلاء هم الذين يصح أن يطلق عليهم لقب شعراء إسلاميين.

(٥) الحياة الجديدة

فلْتفهم الشعر الإسلامي الذي تطور من الشعر الجاهلي وانفصل عنه بعض الانفصال عليك أن تفهم ما يلي من الحياة الجديدة التي يصورها هذا الشعر الجديد.

ترك العرب الحياة القديمة، ولم يعد يكسب العربي قوته من الغزو والغارة، بل عاش بموارد كانت مجهولة عنده: كالتجارة، واستثمار الأرض، والجندية، ورواتبها الضخمة، وأعمال الدولة؛ سياسة وإدارة وقضاء.

ثم المهاجرة إلى أقطار بعيدة افتتحها الإسلام، حيث يكسبون ويعيشون برخاء. أصبح العرب سادة الفرس وسادة الروم في الشام. زحفوا إلى مصر، ثم إلى أفريقيا، ثم إلى إسبانيا، حيث سادوا وشادوا.

فكل هذه الأسباب غيرت أخلاق العرب وحياتهم، فلما أمنوا شر الناس عادوا إلى أنفسهم فأخذوا في الشقاق والنضال والقتال.

فبعد موت معاوية تألفت عدة أحزاب:
  • (١)

    حزب بني أمية وكتلته في الشام، التفت حول بني عبد شمس لتثبت لها الملك.

  • (٢)

    حزب عبد الله بن الزبير في الحجاز.

  • (٣)

    حزب بني هاشم آل البيت في العراق.

  • (٤)

    حزب يعارض كل هذه الأحزاب، يرميها بالكفر والشقاق: وهو حزب الخوارج. فالخوارج يريدون أن يكون الأمر شورى، يدعو إلى هذا المبدأ كره العرب للسلطه.

كان بين هذه الأحزاب حرب ونضال شب أشأم الحرب وأشدها بعد موت معاوية وخصوصًا يزيد ابنه، وكان الأدب نفير هذا الجهاد، فلكل حزب شعراء وخطباء.

انتصر حزب الأمويين على الزبيريين فمحقهم محقًا، وانتصر أيضًا على الشيعة نوعًا ما.

كان هذا الحزب يجمد ثم يظهر إذا استجمع قواه وضعفت أعداؤه. ولهذا الحزب أيضًا شعراؤه وخطباؤه.

أما حزب الخوارج فبقي ثابتًا للأمويين يجاهد جهادًا عنيفًا، لا يُغلب حتى يجدد قواه.

(٦) مواطن الأدب الجديد

حفظ الأمويون سلطانهم في الأقطار الإسلامية، وظهرت قوة هذه الوحدة في عهد عبد الملك بن مروان حتى أشبهت أيام معاوية فصارت مراكز القوى العربية ثلاثة:
  • (١)
    الشام: وفيها الخلافة وما لها من بأس وقوة.
  • (٢)
    العراق: وفيها الشيعة والمعارضة، وفريق من أنصار ابن الزبير وجمهرة من الفرس، وأخلاط من أمم متعددة.

    ففي العراق أرض خصبة ومال وافر إلى جانبهما الاضطراب الدائم، والمعارضة الدائمة، والصراع بين السياسة والدين.

  • (٣)
    الحجاز: منفى الشباب أبناء المهاجرين والأنصار، يعيشون عيشة ترف وبذخ لا يبرحون الحجاز إلا بإذن خاص من الخليفة «إقامة إجبارية».

    لهم من بيت المال رواتب ضخمة، أغدق عليهم الخلفاء العطاء، وهم ورثة آبائهم الفاتحين أصحاب الأسلاب والغنائم التي لا تُحصى.

فهذا الشباب يجمع في صدره عدة عواطف؛ فصاحة وشعور، حس دقيق، أميال متقدة، كره للدولة القائمة على أركان وضعها آباؤهم وأجدادهم.

وفي هذه الأقطار الثلاثة اختلف الأدب باختلاف الشئون السياسية والطبيعية والاقتصادية.
  • أدب الشام: لم يكن في الشام شيء من الأدب إلا ما ينقل مع الوافدين على الخلفاء من أهل العراق والحجاز؛ لأن العرب الذين كانوا في الشام يمانيون، فليس لهم ما لعرب عدنان من الإنتاج الأدبي الذي ورثوه عن الجاهلية.
  • أدب العراق: كان موطنًا لهذا الأدب الذي يغلي كالمِرْجل، فهناك معارضة سياسية، ونضال بين الأحزاب؛ خطب سياسية وشعر سياسي، وجهاد بين القبائل، وتنافس بين الأفراد كأنهم في الجاهلية.

    فكان هناك الهجاء للأفراد والجماعات ثم الفخر والمدح.

  • الحجاز: أما الحجاز فكان موطنًا لشيئين متناقضين: النسك والتقوى والجد في درس العلوم الدينية، وتحصيلها. وكان أيضًا موطن اللهو والعبث والمجون؛ لأن هؤلاء الأشراف من قريش والأنصار، لهم ثروتهم وفراغهم.

    في الأمصار الثلاثة تظهر صور الحياة العربية في أواسط القرن الأول الهجري في الشعر، وتظهر أيضًا أغراض الشعر الإسلامي، فهذا الشعر احتفظ بفنونه الجاهلية؛ كالمدح والهجاء والرثاء والفخر، وأضاف إليهما فنونًا جديدة لم تكن، وغيَّر الفنون القديمة تغييرًا قويًّا.

  • الغزل: قوي في هذا العصر جدًّا؛ نظرًا لرخاء العيش الجديد والترف ورقة مزاج أهل البدو بتأثير القرآن والحياة الجديدة، ولهذا أصبح الغزل مستقلًّا عن أنواع الشعر الأخرى، ولم يعد تابعًا لسواه، فصار الغرض منه إظهار عواطف الشاعر وأهوائه وميوله، فاختلفت مذاهب الشعراء الحجازيين فيه.

    فشعر أهل البادية عفيف عذري لا إباحية ولا تهتك فيه، ولا تجاوز لما اعتاده الناس، فهو حب طاهر قوي حاد، يملك كل حواس ناظمه وقائله، فيصبح مشتعلًا به اشتعالًا. فهذا الشعر هو الشعر الذي تقرؤه العذراء ولا يحمرُّ وجهها، وزعيم هؤلاء الشعراء جميل بن معمر.

    أما أهل المدن — مكة والمدينة والطائف — فمنهم ذوو الثروة الكبيرة واللهو العظيم، وشعرهم يصف حياتهم وصفًا صادقًا، بل يصورها أدق تصوير، ولهذا ظهر في شعرهم الإباحة والعبث باختلاف مزاج الشعراء. ومن شعرائهم: الأحوص بن محمد، فهذا الشاعر أسرف في اللهو والتعرض لأهل بلده، حتى عذِّب ونفي أيام سليمان بن عبد الملك.

    والعرجي، في الطائف ومكة، فقد تعرض لولاة مكة وسخط على خلفاء دمشق، فعذِّب وحُبس ومات في سجنه.

    و«عمر بن أبي ربيعة» الذي يعد زعيم الغزليين الإباحيين في الشعر العربي.

  • الغناء: وظهر مع هذا الغزل فن آخر هو فن الغناء، وبالطبع حيث يكثر اللهو يظهر الغناء. ظهر هذا الفن في الحجاز، ومنها انتقل إلى غيرها من الأقطار، والذين غنوا وتغزلوا في العراق والجزيرة ونجد تأثروا بغزل أهل الحجاز. وكثرة الموالي من الفرس والروم رجالًا ونساء كان له أثر في نشأة الغناء.
  • الشعر السياسي: دعا إليه الصراع الحزبي واختلاف آراء الأحزاب في نظام الملك، وفي الأشخاص الناهضين به من الزعماء، واتصال هذا النظام وهؤلاء الأشخاص بالدين، وهو أساس الحكم عند المسلمين.

    ومنشأ هذا الشعر السياسي يتصل بالشعر القبائلي في الجاهلية، فشعراء القبائل كانوا ينافرون ويفاخرون ويدافعون ويدعون إلى القتال وإلى الصلح والسلام.

    إذن الشعر السياسي تولَّد من ذاك كما بيَّناه سابقًا.

    كان أولًا بين القبائل، ثم صار بين الوثنية والإسلام، ثم صار بين المسلمين أنفسهم بعد مقتل عثمان.

    والطور الذي نتكلم عنه الآن هو طور تنظيم الأحزاب السياسية على قواعد معينة.

    لم يكن هذا الشعر صورة أفراد كما كان من ذي قبل، بل صار صورة أحزاب منظمة يناضل عنها.

(٧) الأحزاب

  • حزب الشيعة: يرى الحق أن تكون الخلافة في بني هاشم، بل في أبناء علي؛ لأنهم أحفاد النبي وأبناء عمه، ولأن النبي أوصى لهم في الحكم.

    وما نشأ بعد ذلك حول هذه القضية فليس أساسيًّا، إنما الأصل هو المبدأ الذي ذكرنا، ولهذا ترى كل شعراء الشيعة يدافعون عن هذا الأصل، مناصرين كل زعيم ينهض به.

  • حزب الأمويين: يقول بالحكم في بني أمية؛ لأن خليفة أمويًّا وهو عثمان ولي الخلافة شرعًا، وقُتل ولم يؤخذ بثأره «مزعم جاهلي» والأمويون أولياؤه الشرعيون والمطالبون بدمه والوارثون له. وهم بعدُ أقوى قريش وأشدها بأسًا. وناصرهم في ذلك جمٌّ غفير لا يقل عن الجماعة المناصرة خصومهم.

    حول هذا المحور يدور شعراء الأمويين، وعليه يعتمد الأمويون في النهوض بأعباء الحكم.

  • حزب الزبيريين: يقول إن الأمويين لا يحق لهم القيام بالحكم بدون استشارة الأمة، فالخلافة شورى لا كما يفعل الأكاسرة والقياصرة، فإذن الأمويون مغتصبون، وعليهم أن ينزلوا عن الحكم المغتصب، فالأمة تنتخب.
  • حزب الخوارج: يقوم أولًا على إنكار التحكيم بين علي ومعاوية، ويقول إن التحكيم هذا خطأ، والخصمان اللذان قبلا به تجاوزا حدود الدين فيه.

    فمعاوية، ليس بصاحب حق شرعي، فهو والٍ بغى على الخليفة، فلما خاف الهزيمة لجأ إلى التحكيم، خدعة وكيدًا.

    أما علي، فلأنه قبل في التحكيم شك بحقه الشرعي في الخلافة، وبما أنه شك ليس له حق بالخلافة، بل قد تجاوز الدين وبهذا كفر، فليعترف ويتوب، وإلا فالخوارج أعداء له.

    على هذه القواعد قامت الأحزاب السياسية، ومشي الخصام والجهاد، ولعب قميص عثمان دوره، فكان لكل حزب سياسة خاصة يمتاز بها، وأخذ الشعراء يدافعون بناءً على الأحوال التي تقدمت.

    وسنأتي فيما يلي على ذكر شعراء الأحزاب.

(٨) الشعر في صدر الإسلام

شغل القرآن العرب ففتر النظم، ولكنها فترة قصيرة، وهي التُّخُم الفاصل بين الجاهليين والمخضرمين والأمويين، ونحن قد ألحقنا المخضرمين بالأمويين لأسباب:
  • (١)

    النغمة القرآنية أفادتهم كما أفادت الأمويين لقرب عهدهم بها؛ فنفَس حسان والفرزدق واحد، وجرير ككعب بن زهير، ومثله الأخطل وإن كان نصرانيًّا. وربما علت طبقة الأمويين على المخضرمين في البلاغة.

  • (٢)

    لأن الشعراء كانوا أعز نفسًا وأرفع منهم شأنًا في دولة بني العباس.

    «السبب حاجة الأمويين لاستمالة الشعراء؛ لأن السواد الأعظم الإسلامي كان يكرههم.» فحسان مدح النبي حبُّا بثباته وإيمانًا بدعوته، وتصح المشابهة بين الفرزدق وبينه إذ مدح زين العابدين، ولكنها لا تصح بينهما وبين مداحي العباسيين.

  • (٣)

    لأن مسحة الفطرة الجاهلية ظاهرة في شعرهم، فهم والمخضرمون طبقة واحدة، لا يتخللها فاصل.

  • الفترة الأولى: كان الشعر ديوان العرب وعليه تقوم العصبية، فألغاها الإسلام بقوله: «المسلم أخو المسلم.» ثم آية: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ إلخ. ولكن بعد مدة أجاز النبي سماع الشعر وأثاب عليه، وكان للدعوة أنصار وأضداد، فكان في الشعراء معارضين للنبي وشعراء يناصرونه.
    • معارضو النبي: عبد الله بن الزبعري، أبو سفيان، عمرو بن العاص، طراد بن الخطاب وكلهم قرشيون. ولا تنسَ أمية بن أبي الصلت، الذي كان يطمع أن يكون نبي الأمة كما يحدثنا صاحب الأغاني.
    • شعراء النبي: حسان، كعب بن مالك، عبد الله بن رواحة.
  • الفترة الثانية: في أول عصر الراشدين — عصر الفتوح — خمدت القرائح قليلًا، وذلك ما يحدث في كل الأمم لانشغال النابغين، إلى أن انتظمت الأحزاب السياسية فصار لكل حزب سياسي شعراء ينصرونه. وقد قامت الصحف في عصرنا مقام الشعراء.

    ولكن تكوُّن الأحزاب، بعد أن استراحوا من الفتح، قوَّى الشعر وهاج القرائح، وكثُرَ الشعراء بكثرة الأحزاب، فكان لكل حزب من الأحزاب التي ذكرناها شعراء، يكثرون ويقلون بحسب أهمية الحزب، وقد كان أكثر الشعراء مناصرين للأمويين؛ لأن بيدهم مفاتيح بيت المال.

    • شعراء علي: النعمان بن بشير الأنصاري، ساير بني أمية لكنه كان متعصبًا للأنصار، وهو الذي رد على الأخطل عندما هجاهم.

      ابن مفرغ الحميري، ساير الأمويين وهجا أهل زياد.

      أبو الأسود الدؤلي، تحزب لعلي ولم يطعن ببني أمية.

      ابن زيد، ساير العلويين والهاشميين.

    • أنصار الخوارج: الطرماح بن حكيم وإسماعيل بن يسار. والطرماح بن حكيم مرُّ الهجاء.
    • أنصار بني أمية: مسكين الدارمي: بث الدعوة بولاية العهد ليزيد بن معاوية.
    • الراعي: أبو العباس الأعمى: مدح الأمويين وهجا ابن الزبير «الذي بايعه أهل الحجاز».

      أعشي ربيعة، وغيرهم.

      ومن أشهر شعراء بني أمية: جرير والأخطل والفرزدق.

      من هنا ترى أن الشعر تطور، لا في أساليبه التي ظلت كما كانت — إذا استثنينا روح القرآن؛ أي التحريض على نيل الشهادة وإعلاء كلمة الله في أيام الفتوحات — بل تطور في غايته، وتقدم هذا التطور بنوع خاص في الهجاء؛ لا سيما السياسي، ومنه تدرجوا إلى الهجو الأدبي.

صفات الشعر

  • (١)

    الإيجاز.

  • (٢)

    قوة التعبير.

فالقليل من الحضارة الذي توصل إليه هؤلاء الشعراء أضعف فيهم النزعة الفطرية، فقصروا فيها، ولم يمكنهم التأنق في المعيشة الذي حصل لمن أتوا بعدهم، ولذلك لم يدركوا شأو العباسيين بالرقة والتصرف بالمعاني، إنما تقدم الهجو فقط في هذا العصر.

  • أغراضه: (١) نشر عقائد الدين. (٢) الهجاء. (٣) وصف القتال وحصار المدن وفتحها. (٤) المدح، وليس إلى حد المبالغة. (٥) الغزل.

كعب بن زهير

  • كعب: هو ابن بيت كثر فيه أصحاب القرائح الشعرية. أبوه زهير صاحب المعلقة، أخذ الشعر عن والده ولم يسمح له بقول الشعر إلا بعد أن امتحنه طويلًا.

    ظهر الإسلام فأسلم أخوه بجير، فقال فيه كعب شعرًا يوبِّخه ويلومه على إسلامه ويعرِّض بالصحابة بقوله:

    سقاك أبو بكر بكأس رويَّة
    وأنهلك المأمون منها وعلَّكا

    فأهدر النبي دمه، ودرى بذلك أخوه بجير فكتب إليه بذلك، فهام كعب على وجهه يستجير فلم يجِرْهُ أحد، فلاذ بأبي بكر فأمَّنه، وأدخله على النبي وأنشده قصيدته التي عرفت بالبردة، التي يقول كليمان هيار إنها قصيدة من أشهر الشعر العربي، ولا يكاد ناطق بالضاد لا يسمع بها.

  • آثار كعب: أشهرها بانت سعاد …
    • أقسامها: التغزل بسعاد ١٣ بيتًا، وصف الناقة ٢١، التخلص إلى مدح النبي ٤ أبيات، مدح النبي ١٣ بيتًا، مدح المهاجرين والأنصار ٧.
  • قيمته: لم يتخلص من الأسلوب الجاهلي كالغزل ووصف الناقة والألفاظ الغريبة، غير أنه أقدر الجاهليين على التفنن بالمعاني.

    إن كعبًا عالج مواضيع عديدة في لاميته، كوصف الناقة والأسد والظهيرة، أما مطلع قصيدته فقد طبع فيه على غرار من تقدمه من الشعراء، فسعاد وأسمى وغيرهما نساء خياليات.

    قال حماد الراوية إنه يروي ٧٠٠ قصيدة مطلعها بانت سعاد، ولكن هذا لا يعيب كعبًا؛ ففي الغزل ترقُّ عاطفته وينسجم لفظه ويلين، وفي المدح تشتد الألفاظ وتجزل، وفي وصف القفار والوحوش الضارية تخشن العاطفة والكلام معًا. ليس في القصيدة ذكر للبعثة إلا في بيت واحد هو:

    مهلًا هداك الذي أعطاك نافلة الـ
    ـقرآن فيها مواعيظٌ وتفصيل

حسان بن ثابت

  • حياته: هو أبو الوليد حسان بن ثابت الأنصاري، من بني النجار من أهل المدينة. شاعر النبي، بعد المناذرة والغساسنة. أسلم بعد هجرة النبي إلى المدينة ودافع عنه بلسانه، وكان له منبر في مسجد النبي ينشد شعره عليه، وكان النبي يسمع هجاءه ويقول: «أجب عني. اللهم أيده بروح القدس.» عاش بعد النبي مرْضيًّا عنه من الخلفاء حتى مات سنة ٥٤ كفيف البصر في آخر حياته.
  • قيمته: جبان لم يجرِّد حسامًا، أشعر أهل المدر في الجاهلية، حظي عند ملوك غسان ومدحهم بقصائد عديدة ونال أسنى عطاياهم، وذكر فضلهم حتى آخر عمره. مدح آل جفنة لأهلية النسبة وقرب الجوار مع أهل يثرب.
  • أسلوبه في مدح النبي: ذكر البعثة، وصف الشمائل، تصديق البعثة والنبوة، التعريض بمنكري النبوة ومكذبيها. كان صادقًا في مدح النبي، دافع عنه بهجاء مقذع، لم يشتم الأنساب ولم يمزق الأعراض، بمساعدة أبي بكر العارف بأنساب العرب. أدخل شيئًا جديدًا في الهجاء الذي كان قبلًا يقوم بذكر الانكسارات، وذكر بعض عيوب خارجية أو داخلية محضة من قيمة الأنساب مثل البخل وسواد الجلد. أما الذين هجاهم حسان فأنسباء النبي، وأعداء الإنسان أهل بيته.
  • آثاره: له ديوان مطبوع.
  • قيمته: امرؤ القيس يحمل لواء الشعر في النار وحسان في الجنة.

    شعر في الجاهلية ورقَّ في الإسلام، وعلى كلٍّ لا يعد من الطبقة الأولى.

    أدخل في الشعر ألفاظًا جديدة: روح القدس، جبريل.

    لشعره صبغة تاريخية؛ لذكره غزوات النبي وأسماء الصحابة والمشركين.

    شاعر سياسي في هجائه، ديني في مدح النبي، تاريخي بذكر الوقائع. قيل فيه: يفضل حسان الشعراء بثلاثة: شاعر الأنصار في الجاهلية، والنبي في النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤