نجوى

فتاة في الحادية والعشرين، طالبة بالسنة النهائية بالجامعة، تعاني من تبوُّل لا إرادي بالليل وبالنهار، وصداع، وبكاء قد يستمر طوال النهار والليل، وهي فتاةٌ ذكية حساسة، متفوقة في دراستها رغم كل هذا، ولم يبقَ أمامها للتخرج سوى بضعة شهور، لكن التبول اللاإرادي يسبِّب لها كثيرًا من الحرج والمشاكل، تشعر أحيانًا برغبة في الانتحار، ولكنها لا تقدم على الفعل. ذهبتْ إلى عدد من أطباء النفس، وأُعطيت أنواعًا مختلفةً من الأقراص دون جدوى. قالت لي إن أحد أطباء النفس الذين ذهبتْ إليهم سألها عن اسمها واسم أبيها وعمله، ثُمَّ شخَّصها فورًا وكتب في أوراقها: اكتئاب وقلق. ودُهِشَت؛ كيف يشخِّص هذين المرضين بعد سؤالين عن اسمها واسم أبيها وعمله، وحينما أبدت اعترضاها على ذلك لأنه لا يعرف عنها شيئًا ولم يفحصها، وأنها لن تأخذ الأقراص التي كتبها لها، صرخ فيها قائلًا: هذا شغلي أنا.

نشأت نجوى في أسرة متوسطة الحال، الأب موظف بشركةٍ (تعليم متوسط)، ولها أخ يكبرها بعامين، ولها أخٌ أصغر وأختٌ واحدة، ماتت أمها وهي في التاسعة من عمرها، وعرفتْ من عمتها وخالتها أن أمها كانت تعيسة في حياتها مع زوجها، وأنها طلبت الطلاق منه ولم يطلقها، وأنها ماتت وهي في الثلاثين من عمرها؛ لمرضٍ ما في قلبها، وعاشت نجوى مع أبيها وأخواتها. وتصف نجوى أباها بأنه رجل شديد القسوة، لدرجة أنه من حين إلى حين يطرد أولاده وبناته في الشارع، ويقول لهم إنه غير ملزم بإطعامهم، ويضطر الأولاد والبنات إلى الذهاب إلى عمتهم أو خالتهم، حيث يتعرضون لقسوةٍ أشد؛ فيعودون إلى أبيهم، وبالطبع فشل الأولاد والبنات في دراستهم ولم يكملوا التعليم، إلا نجوى التي استمرت بسبب ذكائها، لكنها لم تكن تحصل على تقديرات جيدة بسبب أنها تطبخ لأخواتها وتغسل لهم وتخدم الأب أيضًا، الذي كان يعاملها بقسوةٍ شديدة كأنها خادمة وأقل، وحينما تطلب منه أن يعاملها بهدوء (ودون أن يسبَّها) يقول لها: «أنا تعودت على ذلك، والبنت خُلقت لتَخدُم ولتُسَبَّ، وإذا لم يعجبكِ الحال فالباب واسع والشارع واسع»، وكانت تضطر أن تخضع من أجل أن تستمر في دراستها التي كان يهددها دائمًا بأنه لن يدفع لها المصاريف، مما اضطرها إلى الاستدانة وعمل «قرض» من الجامعة تسدده بعد التخرج.

الأب له شخصية هادئة أمام الناس والأقارب، ولكنه في البيت يصبح شريرًا وقاسيًا، تقول نجوى إنه يتصور نفسه أبًا مثاليًّا لأنه يؤويهم في البيت ويطعمهم.

أُجريت لها عملية الختان وهي طفلة في السادسة من العمر، وكذلك أختها، وكذلك جميع بنات العائلة. مارست نجوى العادة السرية في الطفولة والمراهقة، وتمارسها الآن على فترات متباعدة، تشعر بحنينٍ جارف لحبِّ رجل، لكن مشكلة التبول اللاإرادي تجعلها تخاف، ولم تتصل بأحد من الجنس الآخر سوى بعض المشاعر العاطفية من طرفٍ واحد، من ناحيتها هي فقط.

قسوة الأب على بناته أشد من قسوته على أولاده، ويفرِّق في المعاملة بينهما، ويتحيز للأولاد رغم فسادهم وانقطاعهم عن الدراسة، الأب كان يضرب أولاده وبناته بشدة بالعصا والكرباج، وهم جميعًا يخافون منه، يكذب أمام الناس ويتظاهر أنه يعاملهم برقَّة، وإذا صرَّحَ أحد أولاده أو بناته بما يحدث حقيقةً ضاعف الأب من قسوته عليه أو عليها.

تقول نجوى إنها محاطة بالقسوة والكراهية، من الأب، ومن أخيها الأكبر؛ لأنها تكمل دراستها الجامعية وهو لم يكمل دراسته، يعاملها أخوها بقسوة وكراهية. أختها الصغرى فشلت في دراستها، وأصبحت من أجل أن تحصل على ملابسها تخرج من حين إلى حين مع الرجال، وتأخذ منهم بعض المال، وبالطبع تعرف نجوى عنها كل شيء، لكنها تتظاهر بأنها لا تعرف؛ لأنها تحب أختها وتشفق عليها من أبيها القاسي.

وتسألني نجوى بحيرةٍ: هل يمكن يا دكتورة أن تغير الأقراصُ من ظروفي التي أعيشها؟ ليس أمامي الآن إلا الانتحار.

قلت لنجوى إنها قطَعَتْ شوطًا كبيرًا في دراستها ووصلت إلى السنة النهائية رغم كل ظروفها القاسية، وإنها لو تخرجت واشتغلت وتركت بيت أبيها فسوف تتخلص من كثيرٍ من المشاكل، ولم يكن باقيًا على تخرجها إلا شهران، وطلبتُ منها أن تتحمَّل هذين الشهرين بأي شكل، لكنها قالت لي: كنتُ أتمنى أن يكونا شهرين فقط يا دكتورة، ولكن أبي بعد تخرجي لن يوافق على أن أترك البيت، كما أنني لن أعمل بعد التخرج مباشرةً وربما أنتظر عامًا كاملًا حتى أجد عملًا، وهذا أيضًا سبب شقائي، ثُمَّ إن أبي بعد أن أحصل على عمل سوف يستولي على مرتبي بالقوة، ولن أتخلص منه أبدًا.

ولم تنجح نجوى في التخلص من التبول اللاإرادي رغم مواظبتها على أدوية الأطباء طوال العامين الماضيين، وكانت تتصل بي من حين إلى حين تليفونيًّا، وتشكو لي من حياتها في البيت، وأنها غير قادرة على المذاكرة، وأن الأقراص التي تأخذها تسبب لها اختناقًا، وتود لو امتنعت عنها، لكن طبيبها يصرُّ على هذه الأقراص.

واختفت نجوى شهرًا أو أكثر، وظننت أنها مشغولة بالامتحانات، لكن صوتها جاءني يومًا من خلال التليفون، وسألتها عن حالتها، فقالت: أبي دخل مستشفى الدمرداش الأسبوع الماضي؛ صدمته عربة وهو عائد إلى البيت ليلًا، ونقلوه إلى المستشفى، وقال لي الطبيب إن الإصابة في العمود الفقري، وأنه أُصيب بشلل في نصفه الأسفل، وسوف يظل راقدًا بقية حياته.

وأحسستُ أنها في حاجة إليَّ، فطلبتُ منها أن تزورني، وجاءت نجوى، ورأيت على الفور أنها تغيرت، وأن شيئًا ما تغير في ملامحها ونظرتها، وسألتها عن صحة أبيها، فقالت إنه نُقل إلى البيت وإنها تخدمه هي وأختها ليل نهار، وإنهما تشفقان عليه كثيرًا؛ فقد أصبح كالطفل الصغير، ولم يعد ينادي نجوى إلا بابنتي الحبيبة نجوى، وأطرقت نجوى إلى الأرض، ومسحت دموعها بمنديلها، لكنها حين رفعت عينيها إليَّ لاحظتُ أن شيئًا تغير فيها.

وسألتها: وكيف حالك أنت يا نجوى؟

قالت: تصوري يا دكتورة، لقد نسيتُ مرضي تمامًا في مرض أبي، لم أعد أشعر بأي صداع أو اختناق.

سألتها: والتبول اللاإرادي؟

قالت: منذ اليوم الذي نُقل فيه أبي من المستشفى إلى البيت لم أبلل فراشي ولا ليلةً حتى اليوم.

سألتها: كيف تعللين ذلك؟

قالت: أنا أحس أنني تغيرت يا دكتورة، منذ رأيت أبي يتحول فجأة من رجلٍ جبار قاسٍ إلى طفلٍ ضعيف يبول في فراشه، ولا يستطيع أن يضع الطعام في فمه إلا بمساعدتي أو بمساعدة أختي، هذه الصدمة جعلتني أفيق من كل آلامي السابقة، وأن أقف على قدميَّ لأتولى مسئولية الأسرة، خاصةً أن أخي منذ علم بحادث أبي اختفى من البيت ولا نعرف أين ذهب.

وسألتها: وكيف حال المذاكرة؟

قالت بأسًى: لن أدخل الامتحان هذا العام لأني غير مستعدة، ولكني مصممة على التخرج العام القادم لأشتغل وأعول الأسرة، تصوري يا دكتورة إن معاش أبي لا يكفي الشقة، لكن أختي اشتغلت في محل تجاري، وسوف تساعدنا حتى أتخرج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤