إلى المَنَار

لا يَرْجِع الحارس إلى كتابه إلا عند الصباح، وكانت الضَّباب قد غَمَرت الليل، وكان شعور الحارس بما أُلْقِيَ عليه من مسئولية قد بلغ من التأصُّلِ ما حال معه دون دوامه على مطالعته، وكان يلوح أنه لا يسمع صوت الصَّفَّارة التي تَصْفِرُ مرةً في كلِّ خمس ثوانٍ، وفي ساعاتٍ، صفيرًا طويلًا فيُعَدُّ في الخارج أَنينًا أكثر من أن يُعَدَّ تحذيرًا، وما كان أحدٌ في الجزيرة ليَنْتَبه إلى ذلك النِّداء، فقد صار أمرًا عاديًّا لدى أُسَرِ الحُرَّاس ولدى سكان البيوت الصغيرة التي تحيط بها الكُرُوم، وقد عاد لا يُلَاحَظ أكثر من أن تُلَاحظ الشمس في رائعة النهار. وكان حارسُ المَصْلَحَة يَعْرِف كلَّ صخرةٍ وكلَّ أرضٍ نائتَةٍ على بُعْدِ خمسين ميلًا من شِمال جُزُرِ إِيِرس الشرقيِّ نحو سان رفائيل ومن الجَنوب الشرقيِّ نحو قُورْسِقة، وقد سأل: ما هو الزمن الذي مَرَّ منذ صَدَمَ ذلك المركبُ الصغيرُ الشاطئَ وغَرِق هنالك؟ ولم ينقطع نظره عن جهاز اللاسلكيِّ كما لو كان ينتظر صوتَ استغاثة، ثم يَصْعَد في السُّلَّم الحديديِّ الحَلَزُونِيِّ ليَخْتَبِر الصَّفَّارة أكثر من أن يُصَحِّح المِصْباح، وكان المصباحُ، الذي أصبح اليوم غيرَ ذي نفعٍ، يَدُورُ وَفْقَ نَسَقٍ ثُلاثيٍّ مع انتظامٍ نَمَطِيٍّ كما في النفْس المُعَبَّدَة.

ولم يَكَدْ هواءُ تلك الليلة الصيفية المُضِبُّ١ يُحَرَّك بنسيمٍ مُدَارٍ، ويَلْطِمُ الهواءُ الحارُّ النَّدِيُّ وجه الحارس، ويُلَوِّن الزجاجُ الأحمرُ والأخضرُ الذي يُنَاوِبُ الأبيضَ تلك الضَّبابَ الرَّماديةَ المُشْربةَ برسومٍ شَبَحِيَّة فيُنِيرُ من فوره جزءًا غيرَ منتظمٍ من كتلةٍ، كما لو وقع الأمر بقوة ساحرٍ، وكما لو أثار عبقريٌّ جُمهورًا ببضعِ كلمات.

وكانت أُذُن الحارس مُرْهَفَةً في تلك الليلة، وصار الحارس لا يُبْصِرُ شيئًا، ولم يَأْلُ الحارسُ جُهْدًا في مَيْزه وَسَطَ الصمت الغريب صوتَ صَفَّارَةٍ بعيدة كان من المحتمل أن تُخْبِر عن مراكبَ أخرى ضمنَ نِطَاقه فتظهر هذه المراكبُ للمنار إذا ما كانت قريبةً منه بعضَ القُرْب، ويَعْرِف الحارس أن المِصْباح يَنْشُرُ نورَه من فوق البُرْج البالغ من الارتفاع مائة قدم فقط، لِمَسَافة ثلاثةَ عَشَرَ ميلًا، غير أن مَدَى أثر الصَّفَّارة كان غيرَ ثابتٍ لتَوَقُّفِه على كثافة الضَّباب، وحِسُّ الواجب في الأزمنة الأخيرة يُغِمُّ ذلك الرجلَ فيسأل في نفسه أحيانًا عن وجود نقصٍ في سَمْعه، حتى إنه طلب من ابنه ذاتَ يومٍ أن يَجُوب الحديقةَ وأن يذهب إلى صخرة بَحْرِيَّة مُتَذَرِّعًا بضرورة بَحْثِه عن شيءٍ هنالك قاصدًا في الحقيقة سؤالَ ابنه عن أمرٍ بصوتٍ عالٍ طمعًا في سماع جوابه، كَلَّا، إنه كان حسن السَّمْع، وهو إذا ما شَكَّ في ذلك فلِمَا يَقْضِيه من حياة عُزْلَةٍ تَجْعَل الإنسانَ كثيرَ الحِسِّ تارةً وغيرَ مكترثٍ تارةً أخرى.

ويظلُّ كلُّ شيءٍ صامتًا، وتَرْتَفِعُ الضَّبَابُ في أول النهار سُمُطًا عريضةً من الجَنُوبِ ومن الجَنوبِ الشرقيِّ، ويعود الحارس إلى قاعة عمله التي هي غرفةُ انتظارٍ تقريبًا، وتساوره مشاعرُ مؤمنٍ ثابتِ الإيمان بأدعيته الحارَّة التي يتلوها في كنيسةٍ دَجْنَاء، وهو، كنُوتيٍّ أفنى حياته في المِلاحة، يخشى كلَّ شيء دومًا، وهو لم يَغْفُل عن عادته ليلةً واحدة، وهو قد داوم على المطالعة في الليلتين الماضيتين، فأنجز قراءَة الجزء الثاني من الكتاب في ساعات الصباح الأخيرة، وهو، حين وجوب نهوضه، قد طَلَب من زميله صارخًا أن يَصْبِرَ بضعَ دقائقَ ليتمَّ قراءة الفصل.

ويحبُّ الحارسُ أن يقضيَ وقتًا قصيرًا في حديقته بعد النوم وقبل الغداء وهو يَتَنَزَّه بخُطًا رزينةٍ خلفَ زوجه الجادَّة في قلع الأعشاء الرديئة من حديقةِ لوبياء وفي جمعها داخلَ سَلَّة، ثُمَّ يُفَرِّغ السَّلَّةَ على كُومَةِ زبلٍ يَدُوسُها، ويَرْجِع بالسَّلَّة، ويعود إلى تُنَوِمِه،٢ وقد كَبُرَت البَرَاعمُ وسَيَتَفَتَّح أحدُها في النهار نفسه كما يلوح، وينعكس هدوء الحياة على وجهه انعكاسًا صافيًا حينما يُبْصِر التماعَ البَراعمِ الأصفرَ، ولا عَجَبَ، فرجالُ البحر ينتظرون عشرين عامًا بين ضَبَاب الزوابع ليَقْضوا مثلَ تلك الأُوَيْقات في بستانٍ ساكن، ومن النادر أن تَجِدَ بينهم مَنْ يَحْلُم أن يَشِيبَ رُبَّانَ مركبٍ غنيًّا قويًّا …

ثم يَجْلِس الرجلُ على مَقْعَدٍ تحت ظلِّ صَنَوْبَرَة كبيرة قائمة بين المنزل ورِقَاع التُّنَوِم، وكانت زوجه قد نقلت اللوبياءَ إلى المطبخ، فيَسْمَع صوت طَهْيِها، ويهدأ الحارس نصفَ ساعة وتَعُود أفكارُه إلى الكتاب، ويقول في نفسه: إذَنْ، كانت تُوجَد أسواقٌ بفِرِيجُوس في ذلك الدَّوْر، وكانت سان رفائيل موجودةً أيضًا، ومن الرَّزايا عدمُ ذكر المؤلف شيئًا عن جُزُرِنا، والقارئُ، إذا ما طالع قصةً عن السواحل البعيدة، كان له من المُتْعة كما لو وَجَد اسمَ شاطئه الخاصِّ أيضًا، والحَقُّ أنه كان يجب عليه أن يتكلم عن البحر أكثر من حديثه عن السواحل، ومما لا رَيبَ فيه أن تاريخ بحرنا لا يختلف كثيرًا عن تاريخ المحيط الأطلنطيَّ، والواقعُ أنه لا تاريخَ للبحر، والبحرُ هو هو على الدوام، وأسألُ عن كون المؤلف عالِمًا بما في أعماقه، وهل كان يَعْرِف تاريخ السَّرْوَة التي كان المَلِك قد قَطَعها؟ وهذا أمرٌ طابَ للملِك، والملوكُ يعاملون الشجر بِتَوَحُّش كما يعاملون الناسَ، لا فرق في ذلك بين ملوك الماضي وملوكِ الوقت الحاضر، ويا لَأَسوار القسطنطينية! ويا لتلك الليلة الحمقاءِ التي قضيناها هنالك حيث جَرَّ فرنسوا الأشقرُ فتاةً إلى برجٍ فسقطت الخَشَبِيَّة وأُعيدت على حسابه! ويا لشِدَّة ما سَخِرْنا منه! وقد التهبت الفتاة غيظًا فحاولت أن تضرِبه، ولِمَ يستعملُ المؤلف كلمةَ بِزنْطة على الدوام؟ وأسأل: أَوَلا يزالُ المنارُ الخَرِبُ قائمًا في الشمال الغربيِّ من طَرَف السَّرَاي هنالك؟ ويَرْغَبُ المرءُ أحيانًا أن تَطَأَ قدماه أرضًا جديدة …

ويَبْلُغ الحارس هذه المرحلةَ من التأملات فيُبْصِر رجوعَ الأولاد من المدرسة على الدَّرَّاجات، وتُخْبِرُ الأمُّ بأن الغَدَاءَ مُعَدٌّ، وليس في غير جُنُوح النهار، حين يمكن انتظارُ ليلةٍ جديدةٍ نَيِّرة، ما يستطيع الحارسُ الوحيدُ في حُجَيْرَته الهادئة بين جداوله وأجهزته أن يعود إلى تاريخ البندقية الذي وُعِدَ به عَشِيَّةً.

١  المضب: ذو الضباب.
٢  التنوم: من نبات الزهر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤