الفصل الثالث

المشهد – في دار روكسان

دار روكسان في حي (ماربه) بباريس، ذات بستان تكسو جداره الأغصان الناضرة غطاء من سندس بهيج، وطلع نضيد.

شرفة ونافذة فوق الباب، ومتكأ قد وضع عن كثب منه، ومن السهل أن يصل الإنسان إلى الشرفة إذا هو تسلق المتكأ أو من الأحجار الناتئة في الجدار.

وقبالة دار روكسان دار تشابهها في طراز بنائها، وشكل عمارتها، ولا تختلف عنها إلا في أن لباب الدار المناوحة مطرقة، أو حلقة ملففة بقماش كأنها إبهام جريح مضمودة.

مصراعَا الشرفة في دار روكسان مفتحان، والمساء موشك أن يؤذن، وقد توارت الشمس بالحجاب في يوم قريب من العهد الذي جرت فيه الحوادث الماضية.

عند رفع الستار تشاهد الوصيفة جالسة على هذا المتكأ وراجينو واقفًا إلى جانبها يروي لها قصته، وقد ارتدى شيئًا يشبه الفوطة، وراح يجفف دموعه.

المشهد الأول

راجينو : واحسرتي، لقد فرت مع ذلك الضابط، وحطمت تجارتي من ورائها، حتى لقد رحت أوثر الموت على الحياة، وكدت أشنق نفسي، ولكن بينما هممت أن أفعل، وقد أخذت أنفاسي تنقطع، ونبضي يخفت، وقلبي تهبط ضرباته، إذ دخل عليَّ مسيو دي برجراك فبادر إلى الحبل فقطعه، ثم ذهب فزكاني عند ابنة عمه؛ فأدخلتني في خدمتها كما تعلمين.
الوصيفة : ولكنك لم تشرح لي كيف تحطمت تجارتك لهذا السبب، وكيف تركت متجرك؟
راجينو : كانت ليز تحب رجال الحرب، وكنت أحب الشعراء، وكان إله الحرب يأكل الفطائر التي يتركها إله الشعر والفن، ولا يغيب عنك أن الحال ما لبثت أن تدهورت.
الوصيفة (تنهض من مجلسها، وترفع بصرها إلى الشرفة وتنادي) : روكسان، هل تأهبت للذهاب؟ إن القوم ينتظروننا.

(تبدو الحسناء عند النافذة.)

روكسان : لم يبق سوى أن أشتمل بردائي، وأنزل حالًا.
الوصيفة (إلى راجينو) : إنهم ينتظروننا في هذه الدار المواجهة، فهي دار السيدة كلومير، وستلقي فيها الليلة محاضرة عن العاطفة الرقيقة.
راجينو : عن العاطفة الرقيقة؟
الوصيفة (باستحياء) : نعم في الحب!

(تعود إلى مناداة سيدتها.)

الوصيفة : إذا لم تنزلي يا سيدتي مبادرة فاتتنا المحاضرة!
روكسان : هأنذي قادمة، هأنذي قادمة.

(أنغام أوتار تنبعث من موضع غير بعيد، وصوت سيرانو متغنيًا.)

سيرانو : لا! لا! لا! لا!
الوصيفة : ما أسمع؟! أتراهم يعزفون قطعة لنا؟

(يظهر سيرانو بعد لحظة، وفي أثره غلامان يعزفان على قيثارتين.)

سيرانو (لأحدهما) : لقد نبهتك مرارًا إلى أن هذه الطبقة ليست هي التي أريد أيها الأحمق.
الغلام : ومن أين لك يا سيدي أن تميز بين طبقات الألحان؟
سيرانو : ويحك! إن كل من أخذ عن الأستاذ العظيم «دي جاساندي» لا بد بالموسيقى العليم الخبير.
الغلام (يعزف ويغني) : لا! لا!
سيرانو (ينتزع القيثار من الغلام، ويتم الجملة الموسيقية) : أستطيع أن أتمها لا! لا! لا! لا! لا!

(تشاهد روكسان في الشرفة.)

روكسان : من أرى؟ أهذا أنت؟
سيرانو (يغني وهو على القيثار عازف) : هأنا جئت أحيي نرجسك الغض، وأقدم احترامي إلى وردك!
روكسان (تنزل من الشرفة) : هأنذي نازلة.
الوصيفة (وهي تشير إلى الغلامين) : وما شأن هذين اللاعبين اللذين ينفثان السحر في المعازف؟
سيرانو : كسبتهما اليوم من «داسوسي» مراهنة، فقد كنا نتحدث في مشكلة نحوية، فاحتدمت المناقشة اللغوية، واصطخبت بيننا الحجج والاعتراضات الجدلية، أنا أقول الصحيح هو كذا، وهو يقول: لا، بل الصحيح هو كذا، وبينما نحن في حوار ومناظرة ونقاش محتدم، وجدليات مستمرة، إذ جاء هذان الغلامان اللذان اعتاد أن يتخذهما لنفسه حرسًا كلما ذهب أو خرج من داره، وهما بالعزف والتوقيع عليمان، وللموسيقى بضروبها حاذقان، فقال صديقي العالم النحرير، والفقيه الكبير: أراهنك على يوم كامل من الموسيقى تسمعه إذا كنت أنت المصيب، وكان مني الخطأ، وانفلت إلى مظلته يغوص فيها، وإلى مراجعه يبحث وينقب خلالها، حتى وجد ما كنا فيه مختلفين، فظهر أني أنا المحق، وأنه هو المبطل، فكان لي الغلامان يغنيان لي، ويعزفان إلى أن تستقل «فيبيس»١ مركبتها مع الصبح إذا تنفس، وقد جئت بهما يطيعان أمري، ويشنفان برنين المثاني والمثالث سمعي، وقد بدا الأمر لي أولًا بديعًا مسليًا، ولكني بدأت أمله، وأوشكت أن أضيق به (يستدير نحو الغلامين العزافين)، وأنتما يا هذان، اذهبا إلى مونفليري، وغنياه لحنًا راقصًا!

(وكان الممثل يسكن في تلك الناحية، فيتقدم أحد العازفين يريد بابه.)

سيرانو (إلى الوصيفة) : الليلة أتيت كعادتي لأسأل روكسان … (إلى الغلامين) أطيلَا العزف، وأكثرَا من التوقيع، وأفسدا النغم، وانشزا ما استطعتما نشوزًا حتى تزعجاه، وتكدرا عليه عمله، (مخاطبًا الوصيفة) لقد جئت كدأبي كل ليلة لأسأل روكسان إذا كان حبيب النفس لا يزال كعهدها به لا عيب فيه؟
روكسان (وهي خارجة من البيت) : لله كم هو مليح، وكم هو ذكي ألمعي، وكم أنا أحبه!
سيرانو : أكريستيان الذكي الألمعي حقًّا؟
روكسان : بل أحسبه أذكى حتى منك أنت، وأفتن ألمعية يا ابن عمي!
سيرانو : ما أحب هذا إلى خاطري، فليكن كما تصفين!
روكسان : أحسبني لست واجدة في هذا العالم كله إنسانًا قد برع مثل براعته، في حلاوة عبارته، وعذوبة كلامه، وملاحة تأديته للمعاني التي تجيش في صدره، وقد تأتي عليه أحيان يلوح عليه فيها أن ذهنه منه شارد، وشاعريته غائبة، والمعاني عليه مستعصية، ثم إذا هو فجأة قد عاد المتحدث الساحر.
سيرانو (متظاهرًا بأنه غير مصدق ما قالت) : إنك تبالغين!
روكسان : بل أنت الذي تبالغ وتجاوز كل حد، ولكن لا بدع فأنتم كذلك معاشر الرجال تتصورون أنه ما دام الفتى مليحًا جميل الوجه، فلا عقل له، ولا فطنة!
سيرانو : وهل يعرف كيف يصف القلب وصف خبير؟
روكسان : إنه لا يصف، بل يحلل ويفيض في دراسة الموضوع!
سيرانو : ويكتب.
روكسان : بل أكثر من ذلك، ألا تسمع إليه وهو يقول: «كلما أخذت من قلبي زاد قلبي ونما»، (متفاخرة): فما رأيك في هذا؟
سيرانو (بزمة من شفتيه) : أهذا كل ما عنده؟
روكسان : بل استمع لما بعده: «واعلمي أن الإنسان لا غنى له عن القلب لكي يتألم، فإذا احتفظت بقلبي لديك فابعثي قلبك إليَّ بديلًا».
سيرانو : إني لا أفهم مراده، فهو تارة يدعي أن عنده من القلب أكثر مما يطلب، وأخرى يشكو أن صبابة القلب لا تكفيه.
روكسان (باستياء) : أنت لا يعجبك العجب، إنها الغيرة.
سيرانو (مضطربًا) : ماذا تعنين؟
روكسان : غيرة الشاعر منك والشاعرية، فاصغ الآن إلى هذه الآية في الرقة: «إن قلبي لديك له صرخة واحدة هي صرخة الحب، ولو أن القبلات ترسل بالمداد بريدًا لكنت تقرئين، يا سيدتي، كتابي بشفتيك!»
سيرانو (يبتسم ابتسامة الرضى بالرغم عنه) : ها! ها! هذه الأبيات … (بازدراء) تافهة.
روكسان : إذن فاسمع مزيدًا …
سيرانو : يا عجبًا، أفحفظت كل رسائله إليك عن ظهر قلب؟!
روكسان : كلها.
سيرانو : حقًّا إن هذا بلا ريب تقدير عظيم!
روكسان : إنه شاعر فحل.
سيرانو (بتواضع) : عجبًا! شاعر فحل؟
روكسان : إنه وايم الحق كذلك.
سيرانو (محييًا) : ليكن ما تقولين، إنه شاعر فحل.

(تأتي الوصيفة مسرعة.)

الوصيفة : الكونت دي جيش (إلى سيرانو، وهي تدفعه إلى البيت) ادخل فلعله من الخير ألا يراك مخافة أن يعرف السر أو طريقه!
روكسان : أظن ذلك هو عين الحكمة، فإنه يحبني وهو ذو سلطان، فإذا عرف خافية أمري ذهب كل أملي، وفجعت في حبي، ولرمى قلبي بضربة منه قاضية.
سيرانو (وهو يدنو من البيت) : ليكن ما تشائين.

(يدخل دي جيش.)

المشهد الثاني

روكسان (محيية دي جيش) : لقد كنت موشكة أن أخرج.
دي جيش : جئت للوداع.
روكسان : أمسافر أنت؟
دي جيش : إلى الحرب.
روكسان : يا لله!
دي جيش : ونحن مسافرون الليلة.
روكسان : كذا؟
دي جيش : لقد صدرت لي الأوامر بالذهاب؛ لأن أراس محاصرة.
روكسان : أراس محاصرة؟
دي جيش : يبدو لي أن نبأ سفري قد نزل منك على قلب كالصخرة الصماء.
روكسان (بأدب) : أوه …
دي جيش : أما أنا فمحزون، وفي القلب غم، رباه، هل سيتاح لي بعد اليوم أن أراك؟ لست أدري! فهل علمت أنني قد أعطيت مقاليد القيادة؟
روكسان (بغير اكتراث) : مرحى.
دي جيش : قيادة فرقة الحرس.
روكسان : فرقة الحرس؟
دي جيش : وهي الفرقة التي يعمل فيها ابن عمك المتبجح المتعجرف أخو الخيلاء، وإني لواجد هناك وسيلة للانتقام منه.
روكسان (من فرط الروع تختنق، وكأنما لم تصدق ما سمعت) : كيف ذلك؟ أيسافر الحرس إلى أراس؟
دي جيش (ضاحكًا) : ولم لا؟ أليست فرقتي؟
روكسان (وقد تهاوت جالسة على المقعد لنفسها) : كريستيان.
دي جيش : ماذا بك؟
روكسان (بتأثر) : إنني في غم شديد، ويأس بالغ من أمر هذا السفر، عندما تتعلق النفس بشخص، ثم تعلم أنه إلى الحرب الغداة مرتحل!
دي جيش (مندهشًا ومنسحرًا) : لأول مرة أسمع منك هذا الكلام الحلو، ولكن في يوم سفري.
روكسان (وقد غيرت من لهجتها، وراحت تحرك مروحتها) : أحقًّا تنتوي من ابن عمي ثأرًا؟
دي جيش (مبتسمًا) : أريد أن أعرف أولًا هل أنت عليه أو معه؟
روكسان : بل عليه!
دي جيش : أترينه أحيانًا؟
روكسان : لا أراه إلا قليلًا.
دي جيش : إنه اليوم يلازم ضابطًا في الحرس، ضابطًا اسمه نو … فيلان … فيليه …
روكسان : هل هو طويل؟
دي جيش : ولكنه غبي!
روكسان : من ينظر إليه يحسبه كذلك، (متدللة متلطفة): ولكن ما الذي في خاطرك أعددته للثأر من سيرانو؟ أحسبك قد فكرت في أن تلقي به في أكثف القتال، وأحر نار المعمعة، ذلك أحب شيء إلى نفسه، إنه انتقام يائس، ولكني أعرف وجهًا آخر أشد جرحًا لكبريائه وأفجعه!
دي جيش : وما هو ذاك؟
روكسان : لو أنك خلفته في باريس مكتوف الأيدي، طوال الحرب هو ورفقاؤه الذين لا يفارقهم؛ لكانت تلك الطريقة الوحيدة لإغاظة رجل مثله، فإن أردت عقابه، احرمه من ركوب الأخطار.
دي جيش : يا للمرأة من دهائها ومكرها، من ذا يتصور فكرة كهذه، أو يتخيل للثأر شيئًا كهذا الذي أسمعه؟
روكسان : ألا فاعمل يا سيدي على أن تدعه للهم والنكد يأكلان قلبه، واتركه للفراغ يذله، ويخضعه ويحرمه من مضارب السيف ومقارعه …
دي جيش (وهو يقترب منها) : أتحبينني يا روكسان إذن … ولو قليلًا؟ (روكسان تبتسم له لتخدعه).
دي جيش : أود لو يكون هذا الذي رأيته الليلة منك، من مشاركتي فيما أعمل من حقد، دليلًا على الحب يا روكسان!
روكسان : إنه لدليل …
دي جيش (يبسط بين يديه كتبًا) : هذه أوامر السفر، وسترسل حالًا إلى كل فرقة وكتيبة ما خلا (يحتجز منها كتابًا)، ما خلا هذا؛ فإنه خاص بفرقة شبان الحرس، وإني به لمحتفظ … حقًّا إن سيرانو سوف يتميز من الغيظ، إذ يعلم أنه لن يشهد للحرب ميدانًا، ولن يلتمس في ساحاتها من تيجان النصر إكليلًا، يا عجبًا، ما كنت أحسبك من بين النساء تعرفين مكرًا … أو تكيدين للناس كيدًا …
روكسان : إنما أفعل ذلك قليلًا …
دي جيش (وقد دنا منها) : لقد أضعت لبي، اسمعي، الليلة موعد سفري، ولكنني لا أستطيع الفرار حين أحس أنك تجزعين لفراقي، اسمعي، يوجد بالقرب من هنا، في شارع أورليان، دير أسسه الأب إثناسيوس، ولا يأذن الآباء لغير رجال الدين بدخوله، ولكنني كفيل بأولئك؛ فلهم أردان يجدون متسعًا لإخفائي فيها.
إنهم رهبان في خدمة ريشليو، ومن يك من العم في وجل يخشى ابن الأخ، وسيعتقد الجميع أنني في طريقي إلى أراس … وسآتي إليك متنكرًا فدعيني، أيتها الفاتنة اللعوب، أؤخر رحلتي يومًا.
روكسان (بقوة) : ولكن سمعتك ومجدك، إذا علم الناس، ماذا يكون مصيرهما؟
دي جيش : أف لهما …
روكسان : ولكن … الحصار، أراس …
دي جيش : ليكن ما يكون، فأذني لي في البقاء!
روكسان (برقة) : كلا … فإن واجبي أن أثنيك عن ذلك.
دي جيش : يا لها من كلمة!
روكسان : ارحل! (لنفسها) كريستيان يبقى «بصوت عال»: أريد أن تكون بطلًا يا أنطونيو!
دي جيش (يستخف به الفرح) : إني إذن لمسافر، (وانحنى على يدها يقبلها) أفأنت راضية؟
روكسان : نعم أيها الصديق …
الوصيفة (تنحني له باحترام ساخر) : نعم أيها الصديق.

(ينصرف دي جيش.)

روكسان (إلى الوصيفة) : إياك أن تذكري كلمة واحدة مما جرى … فإن سيرانو لو علم بأنني حرمته محضر المعارك المنتظرة، لما صفح آخر الدهر عني.

المشهد الثالث

روكسان (يتجه بوجهها نحو البيت منادية) : يا ابن العم، هلم إلينا مبادرًا، (يأتي سيرانو مسرعًا): إننا ذاهبتان إلى دار كلومير هذه (تشير إلى الباب المقابل) لنستمع إلى الكاندر وإلى ليزيمون.
الوصيفة (تضع أصبعها على آذانها) : أجل، ولكن أصبعي ينبئني بأننا سنتأخر، ولن نصل في الوقت المناسب لسماعهم.
سيرانو (لروكسان) : لا تدعي الفرصة تفوتك لسماع هذه القردة المدربة (وقد وصلوا إلى منزل كلومير).
الوصيفة : انظر، لقد لفوا مطرقة الباب بالقماش، (توجه الكلام إلى المطرقة): لقد كمموك حتى لا يفسد رنينك على القوم سماع المحاضرات الرائعة، واهًا لك من مشاكسة متوحشة!

(ترفع المطرقة بحذر، وتطرق على الباب بتؤدة.)

روكسان (وقد رأت الباب يفتح) : اقترب يا سيرانو، وإذا جاء كريستيان — كما أتوقع — فلينتظرني حتى أعود.
سيرانو : كلمة قبل أن تدخلي: في أي موضوع أنت راغبة في أن يتحدث كريستيان الليلة؟
روكسان (مترددة) : ولكن … لست أدري …
سيرانو (ملحًّا) : نبئيني؛ فليس في النبأ من يأس.
روكسان : أفتكتم عنه الذي أنا منبئتك به؟
سيرانو : سوف لا يعلم حرفًا منه.
روكسان : إني منتوية ألا ألقي عليه الليلة سؤالًا، ولا أطلب إليه شرحًا، ولا تفسيرًا، ولكني قائلة له: أطلق لخيالك عنانه، ارتجل.
سيرانو (مبتسمًا) : كن عظيمًا!
سيرانو (مبتسمًا) : حسنًا.
روكسان : صه!
سيرانو : صه!
روكسان : اكتم السر، ولا تنبس بكلمة. (تنصرف عنه مولية، وتغلق الباب).
سيرانو (والباب يقفل) : شكرًا.

(يفتح الباب ثانية، وتطل روكسان.)

روكسان : قد يعد ما سيقوله!
سيرانو : كلا! يا للشيطان، كلا!
روكسان وسيرانو (معًا) : صه (ثم يغلق الباب).

المشهد الرابع

(يدخل كريستيان في الموعد موافيًا.)

سيرانو (ينادي كريستيان) : لقد علمت ما يفيدنا … هيئ قريحتك، فالفرصة مواتية لننال فخرًا، فهيا بنا ولا تضع الوقت سدى، ولا تكن — كما أرى — غاضبًا متجهمًا، تعال بنا نذهب إلى بيتك، لكي ألقنك وأعلمك مما أوتيت علمًا …
كريستيان : كلا.
سيرانو : ماذا تقول؟
كريستيان : كلا إني أنتظر روكسان ها هنا.
سيرانو : هل جننت يا فتى … تعال معي لنتعلم …
كريستيان : قلت لك كلا … فقد مللت هذه الكتب المستعارة، وبرمت بهذا الغزل المحفوظ، والتشبيب الموحى به … والتمثيل المردد المعاد، والانتفاض الدائم، والرعشة المستمرة … لقد كان هذا حسنًا في البداية … أما الآن فإني أحس أنها تحبني فلم أعد خائفًا، ولا بي في الحب من وجل، وسأكلمها بنفسي، وأتحدث إليها حديث شعوري وإحساسي.
سيرانو : عجبًا!
كريستيان : لست أنكر أنني أفدت من دروسك، وانتفعت بتلقينك وتدريبك … ولكن من علمك أنني لست على الكلام قديرًا، فإني على كل حال لست ضعيفًا غبيًّا، ولا أخرس عييًّا، وستعلم أنني الليلة الشارح المبين، والمعلن المتكلم … يا عجبًا … أأعجز عن عناقها، وضمها إليّ! … (يلمح روكسان خارجة من الدار المجاورة): ها هي ذي قادمة، لا تتركني يا سيرانو!
سيرانو : تكلم يا صديقي، وأرنا مبلغ براعتك (ينصرف ويذهب ليختبئ خلف جدار الحديقة).

المشهد الخامس

(تخرج روكسان من دار مدام كلومير في سرب من صاحباتها وأترابها، فتودعهن لدى الباب.)

روكسان : إلى اللقاء يا برثنوئيد، ويالكاندر إلى اللقاء يا جرميوني.

(تخطر متهادية، وفي أثرها وصيفتها.)

روكسان (ما زالت تودع صديقاتها) : إلى اللقاء يا أريمدونت، (ينحنين لروكسان، ويتبادلن عبارات الوداع، ثم ينصرفن في متشعب الطرق).
الوصيفة (ضجرة مضحكة) : لقد فاتتنا المحاضرة عن «الإحساسات الرقيقة» من تلكؤك يا سيدتي؛ فحرمنا من متعة طيبة (تدخل البيت نافرة، وفي هذه اللحظة تلمح روكسان صاحبها كريستيان فتدلف نحوه).
روكسان : أهذا أنت … لقد دنا الإمساء، ونأى الصحب، وطاب النسيم، لا نفس صاعد ولا حس، فلنجلس سويًّا، ولنتكلم فإني أصغي إليك (سكون).
كريستيان (يجلس بجوارها على مقعد ممدود. سكون) : إنني أحبك …
روكسان (تغمض عينيها) : هات حديثك عن الحب.
كريستيان : إنني …
روكسان : فصل وبين!
كريستيان : إنني أحبك كثيرًا …
روكسان : بلا شك … ثم ماذا؟
كريستيان : ثم إنني لأرى في حبك لي منتهى سعادتي، قولي إنك تحبينني.
روكسان : إنك تقدم القشور، وكنت أنا أطمع في اللباب، ألا حدثتني قليلًا كيف تحبني؟
كريستيان : كيف؟ حبًّا جمًّا …
روكسان : هلم … هلم … أحلل هذه العقد المتشابكة، وأبن عن شعورك …
كريستيان (الذي اقترب منها، وأخذ يلتهم بعينيه جيدها الأبيض) : جيدك! ليتني أستطيع له تقبيلًا!
روكسان : كريستيان!
كريستيان : إنني أحبك!
روكسان (تهم بالنهوض) : أما لهذا الحديث المعاد من نهاية؟
كريستيان (وهو يمسكها بقوة) : كلا، كلا، إنني لا أحبك.
روكسان (عادت إلى مقعدها) : هذا حسن … فماذا بعد؟
كريستيان : بل أعبدك.
روكسان (تنهض وتبتعد) : آه!
كريستيان : أجل، لقد صيرني الحب أحمق!
روكسان (بجفوة) : هذا لا يروقني كما لا يروقني أن تكون قبيح الوجه كئيبًا …
كريستيان : إنني …
روكسان : هلا ذهبت واستجمعت شتات فصاحتك الشاردة!
كريستيان : ويحي …
روكسان : إنك تحبني، لقد عرفت ذلك، الوداع (تسير صوب البيت).
كريستيان : مهلًا! أريد أن أقول لك …
روكسان (وهي تغلق في وجهه الباب) : إنك تعبدني … نعم لقد عرفت ذلك. كلا … كلا … ارحل من هنا.

المشهد السادس

سيرانو (وقد تسلل منذ هنيهة دون أن يراه أحد) : إنك كنت موفقًا …
كريستيان : أغثني!
سيرانو : وما أصنع لك؟
كريستيان : الرحمة بي أيها الصديق، إذا لم أستعد في الحال رضاها قتلت نفسي.
سيرانو : وكيف بالله عليك أستطيع أن أعطيك درسًا، ونحن تحت شرفتها.
كريستيان : ها هي ذي في حجرتها.
سيرانو (وقد أحس رثاء لهذا الشاب المستهام العاجز المتحير، وأجفل إذ رأى الضياء في حجرتها، ولكن الظلام كان داجنًا، والليل حلكة) : لا يزال ثم أمل في إصلاح ما أفسدته، وإن كنت لا تستحق مني العطف الذي أوليتكه وأظهرته، فاسمع ما أنا مشير به، سأختبئ أنا تحت الشرفة، وألقنك الكلام لفظًا لفظًا، بل حرفًا حرفًا …
كريستيان : ولكن …
سيرانو : صه … (يدخل الغلامان يناديانه).
الغلامان : هلم.
سيرانو : صه (يشير إليهما أن يخفضا صوتهما).
الغلام الأول (هامسًا) : لقد ذهبنا فعزفنا عند دار مونفليري …
سيرانو : اذهبا فاكمنا غير بعيد عنها، أحدكما في شارع، والثاني في شارع آخر، وإذا دخل علينا أحد فنبهانا بعزفكما.
الغلام الثاني : وأي نغم نعزف، نغم السيد جاسندي؟
سيرانو : ليكن النغم مرحًا إذا كان القادم امرأة، وحزينًا إذا كان رجلًا.

(يختفي الغلامان، فيتجه كل منهما صوب ركن من الشارع.)

(سيرانو ينادي كريستيان.)

كريستيان (مناديًا) : روكسان!
سيرانو : انتظر (يتناول من الأرض بعض الحصا، فيحصب الشرفة بحصوات دقاق منها).

المشهد السابع

(روكسان، كريستيان، سيرانو لا زلنا نراه في أول المشهد مختبئًا تحت الشرفة.)

روكسان (في الشرفة) : سمعت هاتفًا باسمي مناديًا …
كريستيان : أنا …
روكسان : ومن تكون؟
كريستيان : كريستيان …
روكسان (باحتقار) : أهو أنت؟
كريستيان : أريد أن أكلمك.
سيرانو : أحسنت … امض هكذا برفق متوانيًا.
روكسان : لست لك بسامعة، فإنك لا تحسن كلامًا … اذهب عني.
كريستيان : رحمة.
روكسان : كلا، إنك لم تعد تحبني.
كريستيان (وقد بدا سيرانو يلقنه وهو في مكمنه) : يا رب السماء، أتقولين إنني لم أعد أحبك، بينما في كل يوم أرى الحب في جوانحي متلظيًا …
روكسان (وقد همت بأن توصد الشرفة) : عجبًا! هذا أحسن قليلًا، فهات ما عندك سبحًا طويلًا.
كريستيان (ما زال يلقن الكلام) : لقد نما الحب في صدري الخفاق بعد أن حل به كيوبيد القاسي، واتخذه مهدًا له.
روكسان (تخرج إلى الشرفة، وقد هزها هذا الكلام الطريف اللذيذ في سمعها) : هذا أحسن نوعًا، ولكنك تبدو كأنك تشكو كيوبيد، وتحسبه قاسيًا، فكان حريًّا بك أن تخنق الوليد وهو في المهد صبيًّا …
كريستيان : وا أسفاه، لقد حاولت ولكن سدى، فإن هذا الوليد قد انقلب هرقل، وارتد جبارًا عتيًّا …
روكسان : وهذا أحسن!
كريستيان : وما لبث أن خنق الحيتين التوأمتين … الكبر … والشك،٢ وكأنه يعبث فحسب.
روكسان (متكئة على الشرفة) : أسلوب جيد، ولكن ما بالك هكذا متلعثمًا قليلًا ومضطربًا، فهل في العقل خالج وخبال سرى منه إلى ملكة الخيال؟

(سيرانو يجذب كريستيان إلى ما تحت الشرفة، ويتسلل إلى مكانه وهو يهمس له في أذنه …)

سيرانو : أفسح لي مكانك، فإن الموقف قد توعر.
روكسان : مالي أجد الليلة كلماتك حيرى مترددة؟
سيرانو (يقلد صوت كريستيان) : لأن الليل قد أوغل، فهي في الظلام تتلمس طريقها إلى أذنيك …
روكسان : ولكن لماذا لا تلاقي كلماتي هذا الحائل في طريقها إليك؟
سيرانو : لا عجب، إذا هي اهتدت إليَّ فلم تتردد ولم تضطرب؛ لأن قلبي يتلقفها، بل ما أكبر قلبي، وما أدق أذنك، وما أسرع مهبط الكلمات إذا هي من الأعالي نزلت، وما أبطأها إذا صعدت!
روكسان : أخال كلماتك الأخيرة قد ألفت الصعود؛ لأنها قد انتظمت فلم أعد أحس خلالها تلعثمًا ولا ترددًا.
سيرانو : مع المرانة والتكرار تقل مشقة مثل هذه الرياضة!
روكسان : في الحق يخيل لي أنني أتكلم من أفق عال.
سيرانو : عال حقًّا، ولو سقطت منه على قلبي كلمة قاسية، لأوردته حوض المنية.
روكسان : إذن فلأنزل إليك.
سيرانو : كلا …
روكسان (تشير إلى المتكأ القائم تحت الشرفة) : اصعد فوق هذا المتكأ، وقف مليًّا …
سيرانو : كلا.
روكسان : وكيف تعصي، أفتكون على الحب أبيًّا؟
سيرانو (وقد استأثرت به شيئًا فشيئًا) : بل انتظري هنيهة جارية … فإن هذا الموقف بديع، والفرصة نادرة قلما تكون مثلها مواتية، الفرصة التي يتحدث قلبانا فيها بين مختف لا يرى، وآخر ليس مرئيًّا.
روكسان : ولماذا الخفية؟
سيرانو : إنه لبديع ظاهر اللذة فليس السر فيه عصيًّا؛ لأنك وأنا على هذه الصورة بين نصف مختبئ، ونصف منكشف، إنما ترين أطواء ثوبي سودًا كأنها الأكفان البالية، ولأنني أرى من ثوبك الناصع الأضواء البهية، أنا الشبح وأنت الضياء، أنا السواد وأنت البهاء، فهل تتصورين مقدار هذه اللحظات في نفسي لو أنني كنت البليغ الفصيح، ولم أكن عييًّا؟
روكسان : ولكنك بليغ، دعوت إليك البيان فجاء ملبيًا.
سيرانو : ولكن حديث نفسي لم ينبعث من قبل من نبعة القلب جاريًا، كما ترينه في هذه الليلة متدفقًا ضافيًا …
روكسان : ولماذا؟
سيرانو : لأن لا بد لكلماتي أن ترقى إليك الآن في مشقة.
روكسان : ماذا تقول؟
سيرانو : إن لعينيك شعاعًا يجعل القلوب واجفة، والأبصار زائغة راجفة، ولكن الليلة يبدو لي أني أحدثك للمرة الأولى.
روكسان : هذا صحيح، فإن صوتك يبدو غريبًا مختلفًا …
سيرانو : لأني في هذا الظلام الرفيق الحاني قد اجترأت على أن أكون نفسي ولو مرة واحدة. (يتلعثم، ويهاجمه شعوره القديم، وحبه الدفين): رباه لست أدري ماذا أقول، فاصفحي الصفح الجميل، فإن هذه اللذة الجديدة التي لا عهد لي بها ما أعذبها على النفس، وما أحلاها!
روكسان : كيف تقول جديدة؟
سيرانو : نعم جديدة؛ لأن الإخلاص في القول أصبح الساعة رائدي إليك، وكان خوفي من سخرية الناس لا يفتأ يقبض القلب.
روكسان : وعلام السخرية؟
سيرانو : لتلك الدوافع … ولطالما أنزوى القلب حياء وراء الفصاحة والبيان، وكم من مرة أهم فيها باجتذاب نجمة علوية، فأنثني من خشية المهزأة لأجتني زهرة دنية.
روكسان : وما للزهرة إنها حلوة ندية.
سيرانو : ولكنها جديرة منا بالازدراء هذا المساء.
روكسان : بالله، ما سمعتك تقول قولًا مثل هذا قبل الآن!
سيرانو : وماذا علينا لو تركنا السهام والمشاعل والجعاب، ولذنا بعيدًا بأشياء أبرد ظلًّا وأحنى؟ … وماذا علينا بدلًا من أن نرتشف ماء ليس به طعم في قدح صغير رقيق من الذهب لو تركنا النفس تشفي غليلها، وتعب في بحبوحة النهر الزاخر.
روكسان : وما قولك في البلاغة؟
سيرانو : إذا كنت قد استعنتها على مشاغلتك في البداية، فاليوم حاشا أن أتخذها مستعارًا؛ لأن ذلك سبة بل إهانة، لهذا الليل النفاح، والعبق الفواح، والطبيعة البليغة في ذاتها لا حاجة بها إلى البلاغة وأدواتها، ولا إلى الكلمات المنمقة المصقولة التي تزدان بها كتب العاطفة ورسالاتها، انظري إلى كواكبها، وتطلعي إلى مسابحها في الفلك ومذاهبها … إن النظر إلى الطبيعة ينزع من نفوسنا كل بهرج وزيف، وإن أخشى ما أخشاه أن كيمياءنا المستعذبة من صناعة وبيان قد يتلاشى فيها محض الشعور وخالصه، وقد لا تلبث النفس بهذه الحيل والخدع الفارغة أن تضمحل وتذوي، فيكون كسبنا لهذه الأشياء المصنوعة الزاهية هو في الواقع خسارتنا لكل شيء.
روكسان : قل لي أيضًا ما البلاغة؟
سيرانو : البلاغة في الحب جريمة، والالتجاء إلى كلامها الرشيق، وتعبيرها المنمق بغيض إلى النفس الصادقة كريه؛ لأنها أدنى في حلبة الحب الصادق الصريح إلى ملاكمة، أو مجالدة، أو معركة سلاحها الألفاظ … أو مباراة كلامية أداتها الكنية والمجاز، ودقة الاستعارة، فعلام الفزع إلى البلاغة إذا كانت اللحظة المحتومة لا بد آتية في النهاية، وإلا فيا ويح الذين لا يعرفون تلك اللحظة السماوية، اللحظة التي يمضي فيها الحب الزاخر في قلوبنا مطهرًا سائر نواحينا، وتصبح كل كلمة مختارة، أو تشبيه، أو استعارة، تافهة لا قيمة لها ولا اعتبار.
روكسان : وافرض أن هذه اللحظة التي وصفتها قد جاءت فعلًا وتجلت فماذا لعمرك أنت قائل فيها؟ وأي الكلمات أنت على التعبير عنها مستعين؟
سيرانو : كل كلام يومئذ يقال جميل، وكل ما يرد على الخاطر صالح، حسبي أن أتلقى الكلمات من خاطري لحظة تواردها فأنثرها بغير نظام، وأقذف بها في غير تنسيق، نثري الأزهار، لا أصطنعها باقات مرتبة الورود بجانب الرياحين … يومئذ يغني قولي: إني أحبك إني مستهام بك، لم أعد أحتمل إني أختنق، هذا كثير، اسمك في قلبي يخفق خفق الجرس، ولهذا كان قلبي في خفقان دائم متصل، إذ الجرس لا يني عن الخفقان، مدويًا باسمك في رنين حلو.
أذكر يومًا من أيام السنة الماضية، هو الثاني عشر من شهر مايو، يوم خرجت من دارك في الصباح، وقد صففتِ شعرك تصفيفة جديدة، فاتخذت بريق شعرك نبراسًا لي، وكنت كمن يتطلع إلى قرص الشمس القرمزي، فلا تقع عينه إلا على بقع ذهبية تموج في ناظريه.
روكسان : هذا هو لعمرك الحب.
سيرانو : أجل، إن هذا الذي يملأ حسي رهيبًا غيورًا متلظيًا باكيًا، هو الحب؛ لأن الحب أبدًا حزين، حتى وسط أفراحه، مبتئس حتى في لحظات مباهجه وانشراحه.
أي والله إنه الحب، وإن كان العجيب فيه أنه لا ينطوي على حب ذات، أو حب لنفسه، فأنا من أجل حبك أرتضي أن أقتل بسرور ما أجد منه في صدري وإحساسي، حتى وإن ظللت بسره تجهلين، بل ستلبثين الدهر كله عنه لا تدرين شيئًا، ولا تعرفين، حسبي وأنا في وحدتي ومنآي، وعزلتي وجواي، أن أسمع أحيانًا صدى ورنينًا، لذلك الرغد الذي اشتريته لك كريمًا لا ضنينًا، كل لمحة منك توقظ في نفسي فضيلة، وكل نظرة مني إليك تهيئ شجاعة جديدة مجهولة، وشهامة لم تكن من قبل عندي وبسالة، أفتراك أيتها العزيزة بدأت تفهمين … لقد توانيت فهمًا، وتباطأت وجدانًا، ألا تعلمين أنني في اللحظات التي ترقى فيها آمالي أبعد ما تكون صعدة ورقيًّا، أحس أنني قد أوتيت تعويضًا مواسيًا، لم أكن من قبل لمثله مؤملًا، ولا راجيًا، فاليوم لم يبق لي إلا أن أموت فما أهنأ المنية، لقد كان لكلماتي فيك وقع السحر، وهأنذا أراك تضطربين بين الأغصان الزرقاء في ظلمة الليل … إنك ترتعدين كورقة ناضرة بين أوراق الشجر … ولقد أحسست بالرعشة الحلوة وهي تنزل من يديك على فروع الياسمين المتدلية من الشرفة (يقبل بجنون طرف فرع متهدل).
روكسان : أي والحب … إنني لواجفة … والعبرات من عيني واكفة، إني لك، فقد شربت من أدبك، وسكرت من حبك!
سيرانو : فليأت إذن الموت، فأنا، أنا حقًّا باعث هذه النشوة …
روكسان : فما هو؟
كريستيان (من تحت الشرفة) : قبلة (تتراجع روكسان) … فدعيني أسأل شيئًا واحدًا …
روكسان : ماذا؟
سيرانو : واهًا لك.
روكسان : أنت تسأل؟
سيرانو : نعم … أنا … (لكريستيان) أيها الأحمق، إنك متسرع.
كريستيان : ألا ترى أنها قلقة، فيجب أن أغتنم الفرصة؟
سيرانو (لروكسان) : لقد عجل لساني بما لم يساير وجداني محاذرًا، وقد أدركت اللحظة أني كنت جسورًا، يا للخجلة، باغيًا.
روكسان (تعتريها خيبة أمل) : أو تصر على هذا فحسب؟
سيرانو : ليس ثمة إصرار، نعم، نعم، إن حياءك ليردك عنها؛ ولذا فالقبلة التي سألتها لك أن ترجعي فيها.
كريستيان (إلى سيرانو وهو يجذبه من ثوبه) : لماذا؟
سيرانو : صه يا كريستيان.
روكسان (من فوق حافة الشرفة) : ماذا تقول بصوت خافت؟
سيرانو : لقد جاوزت القصد، فكنت أحدث نفسي وألومها، وكنت أقول: اسكت يا كريستيان! (يبدأ العازفان في العزف) لحظة! ها هي مواقع إقدام منا دانية.

(تغلق روكسان الشرفة، ويلبث سيرانو يرهف السمع للأنغام، أحد العازفين يعزف نغمًا مرحًا، والآخر يعزف نغمًا حزينًا)

يا عجبًا! ما بالها ابتدأت حزينة، ثم عادت لاهية، ثم انقلبت باكية؟ ليس القادم إذن رجلًا ولا امرأة، فمن يكون إذن إذا لم يكن راهبًا تقيًّا …؟

المشهد الثامن

(يظهر قسيس حاملًا مصباحًا، وهو يبحث بين البيوت واقفًا لكل باب مناديًا.)

سيرانو (للقسيس) : ما حاجتك أيها القسيس تحذو حذو ديوجينيس بمصباحك؟
القسيس : ولكني أفتش عن المرأة، وإن كان النهار قد راح.
كريستيان : إنه يقف في طريقنا.
القسيس : أريد دار مدام مادلين روبان؟
كريستيان : وماذا يريد؟
سيرانو (يأخذ بيده، ويشير إلى شارع بعيد صاعد وهو يقول) : خذ هذا الطريق واستقم فيه إلى نهايته.
القسيس : بارك الله فيك يا بني … سأدعو الله لك ليجزيك خيرًا (يخرج).
سيرانو : ولتتبعك تمنياتي الصادقة.

(يعود سيرانو إلى كريستيان.)

المشهد التاسع

كريستيان (متأوهًا متحرقًا) : ألا تحصل لي على تلك القبلة ناشدتك الله!
سيرانو : كلا.
كريستيان : إن عاجلًا وإن آجلًا …
سيرانو : هذا حق … إن اللحظة لا بد آتية، اللحظة التي ستخامر كما فيها نشوة الجنون، وسكرة الهوى، فلا يلبث أن يلتقي الثغر بالثغر، وأن يميل الشارب الأشقر على شفاه من الورد … (لنفسه): لكم تمنيت أن تكون بسبب …

(تفتح الشرفة؛ فيتسلل كريستيان تحتها مختبئًا.)

المشهد العاشر

روكسان : ألا تزال واقفًا يا كريستيان إلى الآن … لقد كنا نتحدث عن ماذا؟
سيرانو : عن القبلة ما حدها سحرًا والتذاذًا، وما عجبي منك إلا أن شفتيك لست أدري ما الذي يمسكهما، فإن كانت اللفظة ملهبة محرقة في معناها، فماذا عسى أن تكون هي بذاتها، وماذا هي بالشفتين صانعة من حرها ونارها.
أواه يا مالكتي … لا تدعيها ترعب حياءك، أو تخجل تواضعك، أفلم تتركي منذ لحظة العبث جانبًا، واستدرجك في غير فزع الابتسام إلى التأوه والأنين، ومن الأنين تقدمت إلى الدمع السخين، فهلا تدرجت في رفق خطوة أخرى من الدمعة إلى القبلة، وليس بينهما إلا رعدة لحظة، وخفقة قلب أخرى، وفي الجوانح من وسوستها رنين؟
روكسان : صه … صه …
سيرانو (في حماسة اللحظة وحرارتها) : ما القبلة، وما أدراك ما القبلة، إن هي إلا في ميثاق الحب الإمضاءة والتوقيع، العهد المختوم، والوعد المطبوع، اعتراف من القلب يسأل التوكيد، ونقطة النون، في لفظة «الفتون»، وسر لا يهمس به في الأذنين … وإنما يوسوس به في الفم والشفتين، رفرفة جناح، تحمل الأرواح إلى لذة بلا نهاية، ونشوة أبدية، وخليط مركب من عصير أزهار برية، نفاحة الأرج زكية، وتفريج عن القلب وتنفيس، حين يطغى الفيضان على الحافتين، فينساب إلى الشفتين.
روكسان : حسبك … حسبك …
سيرانو : القبلة يا سيدتي كانت قديمًا عنوان تكريم، وشارة رضوان، إن ملكة فرنسا منحتها يومًا لعظيم اكتسب حظوتها.
روكسان : ثم ماذا؟
سيرانو : لقد كان ذلك العظيم هو اللورد باكنهام، وكان يتألم في صمت كما أتألم … وكان يعبد ملكته كما أعبدك أنت يا ملكتي، وكان حزينًا كحزني … وكان وفيًّا.
روكسان : وأنت جميل كباكنهام!
سيرانو (لنفسه متحسرًا) : هذا صحيح، إني جميل، لقد نسيت ذلك.
روكسان : اصعد إذن لنقتطف هذه الزهرة التي لا مثيل لها.
سيرانو (انحنى وأمسك بكريستيان يدفعه إلى الشرفة) : اصعد.
روكسان : أو أنفاس القلب تفريجًا وتنفيسًا؟
سيرانو (يشد صاحبه، ويهمس له) : … هيا اصعد.
روكسان : أو هي طنين النحل …؟
كريستيان (مترددًا) : ولكن يخيل إلي الآن أنها قبلة خطرة.
روكسان : أو هي اللحظة الأبدية، والنشوة السرمدية.
سيرانو (يدفع كريستيان) : اصعد أيها الحيوان.
كريستيان (يتسلق المتكأ والأغصان حتى يبلغ المكان، ويحتوي روكسان في الأحضان، ثم ينحني على شفتيها؛ فيقتطف ما شاء الحب أن يقتطف) : أواه يا روكسان.
سيرانو (مناجيًا) : أيها الألم الممض الذي يرفرف كالطائر في الصدر مني والحنايا، وهذه هي القبلة، وليمة الحب ومأدبته، مني قريبة دانية، ولكني منها الطريد المنبوذ في ناحية، كأنني الشحاذ الطريح في الظلام،٣ يرتقب من الموائد فتاتًا، أو فضلات من طعام تساقط عليه، سارية إليه هاوية.
أي روكسان، أحس أن قلبي الآن لديك؛ لأنك تقبلين على تلك الشفاه المتوهمة، الكلمات التي قلتها الساعة!

(يسمع عزف الغلامين على قيثارتيهما بلحنيهما المتباينين … نغم حزين، ثم نغم مفرح: إنه الكاهن، فيجري متظاهرًا بأنه قادم اللحظة من مكان بعيد، ويقول بصوت واضح النبرات): هولا!
روكسان (تطل لترى) : ما الذي جرى؟
سيرانو : هذا أنا … كنت مارًّا من هنا، ولكن هل رأيت كريستيان؟
كريستيان (مندهشًا) : عجبًا، سيرانو.
روكسان : أسعدت صباحًا يا ابن العم.
سيرانو : أسعدت صباحًا يا ابنة العم.
روكسان : إنني عما قليل موافية (تختفي داخل الدار).

(يعود الكاهن حامل المصباح يتلمس الطريق.)

كريستيان (يلمح الكاهن) : أنت ثانية، (يسير الكاهن خلف روكسان).

المشهد الحادي عشر

القسيس : ماجدولين روبان! إني متأكد أنها تسكن هذه الدار.
سيرانو : أقلت «رولان»؟
القسيس : لا، بل روبان … باء ألف نون!
روكسان (تظهر على عتبة الدار يتبعها راجينو وهو يحمل مصباحًا، ثم كريستيان) : وما هذا؟
القسيس : إنه خطاب.
كريستيان : ماذا؟
القسيس : إنه كتاب لا يليق بحمله غير كاهن أو قسيس … لأنه من أمير عظيم …
روكسان (باضطراب) : ما أحسب الكتاب إلا من دي جيش.
كريستيان : أو يجرؤ على هذا.
روكسان : إنه لن يضايقني بعد اليوم، حسبي أني أحبك.

(نقض الكتاب فيقدم راجينو في تلك اللحظة فيدني منها مصباحًا، وتقرأ هي على ضوئه.)

«سيدتي …

الطبول تدق، وفرقتي تتأهب للرحيل، وأنا وحدي المتخلف، وإن ظن الجميع أنني قد استبقت، لقد راودتني الجرأة على عصيان نصحك، والتمرد على أمرك، وأنا الساعة مختبئ وراء جدران الدين رابض، متحينًا الفرصة المواتية تبسم لي، وتومض لكي أتزود بوداع الليلة وأسعد، وقد حملت كتابي هذا راهبًا أبله لا يدري ماذا حمل في اليد، لقد ابتسمت لي شفتاك العذبتان، فلا طاقة لي على الرحيل دون أن أراهما مرة أخرى قبل البين …»

روكسان : أحسبك يا أبي لم تعلم ما في هذا الكتاب فاسمع إذن (تقرأ بصوت عال).

«سيدتي …

«أمر الكردينال مطاع، وكلمته قانون، وإن كنت بالأمر لا ترحبين، أو فيه لا ترغبين، وتنفيذًا لأمره، وتحقيقًا لمشيئته … بعثت إليك بهذا الكتاب، على يد رجل تقي ورع، ذكي حازم أريب؛ لكي تتلقي منه في الحال في بيتك بركة الزواج سرًّا بكريستيان، وإن كنا نعلم أنك للزواج به كارهة … ولكن فلتصبري ولتستسلمي يعوضك الله عن صبرك خيرًا كثيرًا، والسلام».

الكاهن (وقد اشتد اغتباطه) : إنه لسيد عظيم، بارك الله فيه، وما شككت في حسن رسالته، وشريف غايته.
روكسان (همسًا إلى كريستيان) : ألا ترى أني أحسن قراءة الكتب؟

(يدير القسيس المصباح ناحية سيرانو.)

القسيس : فأنت الزوج إذن يا سيدي؟
سيرانو : يحس بالأرض تميد به، ولكنه لا يجيب.
كريستيان (مبادرًا) : بل أنا هو.
القسيس : وهو يرفع المصباح ليراه، ولكنه يتبين خياله وجهًا مليحًا، (ولكن).
روكسان (مقاطعة) : يا عجبًا … إن للكتاب حاشية نسيتها: «تبرعي إلى الدير بمائة وعشرين بستولًا».
القسيس (بفرح) : نعم السيد العظيم، والمولى الكريم.
(لروكسان): وما تقولين، ألا تسلمين أمرك لله وتذعنين؟
روكسان (بعد لحظة كأنما تستخير ضميرها، وتناجي خاطرها) : ثم لا تلبث أن تتخذ سمات المكره المستشهد منه).
روكسان : أسلم (تلتفت إلى راجينو بأن يتقدم بالمصباح يهدي إلى الطريق، يدخلون البيت إلا سيرانو الذي يتخلف).
(لسيرانو) ابق يا ابن العم بموضعك هذا لترد عنا غائلة دي جيش، وتكون له بمرصد، فإذا جاء فاحم الباب في وجهه، ولا تبحه دخولًا، فهمت؟
سيرانو : فهمت، (إلى الكاهن قبل أن يتوارى عنه): كم يستغرق عقد القران منك؟
الكاهن : حوالي ربع الساعة.
سيرانو (يدفعهم داخل الدار) : ادخلوا فإني هنا ماكث، وليفعل الله ما يشاء.
روكسان (لكريستيان) : هلم! (يدخلون).

المشهد الثاني عشر

سيرانو : كيف السبيل ليت شعري إلى احتجاز دي جيش ربع ساعة؟
(يعتلي المتكأ، ويتسلق الجدار في اتجاه الشرفة): والآن لأتسلقه … لدي خطتي (يبلغ سمعه عزف القيثارة، وهي تعزف تعزف لحنًا محزنًا) أن رجلًا في الطريق! (ويسرع إلى قبعته فيرخيها على عينيه، ويخلع سيفه، ويتزمل بردائه، يصبح اللحن تشاؤميًّا) لن أخطئ هذا المرة! (يطل مختبرًا الارتفاع من الشرفة إلى الأرض): ليست المسافة بعيدة على كل حال.

(يتمشى في الشرفة، ويمده يده إلى فرع مديد في دوحة من الجدار قريبة؛ فيتعلق به، ويمسكه بكلتا يديه، على الأهبة ليسقط من فوقه): سأرج هذا الأفق رجًّا خفيفًا.

المشهد الثالث عشر

(يظهر شبح دي جيش وهو ملثم، يتلمس الطريق في الظلام.)

دي جيش : يا عجبًا لهذا الكاهن اللعين! ما الذي يمكن أن يريده؟
سيرانو (لنفسه) : ويحي إن هو عرف صوتي، (يترك يدًا متعلقة بالشجرة، وباليد الأخرى يتظاهر بأنه يدير مفتاحًا خفيًّا في الباب) كريك! كراك، (بخشوع): سيرانو! عد إلى قديم غسقونيتك!
دي جيش (ينظر إلى الدار) : نعم، هذه هي الدار … مالي لا أتبين الأشياء جيدًا، إن هذا القناع ليضايقني.

(يقف دي جيش بالباب، ويهم بأن يدخل البيت، يترك سيرانو جسده في تلك اللحظة يهوي من مكمنه، فيسقط بين الباب وقدمي الكونت، يتعمد أن يحدث سقوطه صوتًا يوحي بأنه سقط من مكان عال جدًّا، ويظل راقدًا على الأرض بلا حراك، وكأنه قد غشي عليه.)

دي جيش (يتراجع) : يا لله ما هذا؟ (يرفع عينيه إلى أعلى فلا يرى إلا السماء؛ لأن الغصن الذي كان متعلقًا به عاد إلى مكانه بعد انحنائه): من أين سقط هذا الرجل إذن؟
سيرانو (وهو يتحامل ويجلس، ويتحدث بالغسقونية) : من القمر انحدرت …
دي جيش : من أين قلت؟
سيرانو (وكأنه يحلم) : كم الساعة الآن؟
دي جيش : هل فقد الرجل عقله؟
سيرانو : أي البلاد هذا البلد؟ وأي الأيام هذا من الأسبوع؟ وأية ساعة هذه؟ وأي فصل من فصول السنة؟
دي جيش : ولكني.
سيرانو : إني في ذهول.
دي جيش : سيدي!
سيرانو : من القمر سقطت كما تسقط القنبلة.
دي جيش (وقد عيل صبره) : أهذا! سيدي!
سيرانو (بصوت مدو وقد هب واقفًا) : لقد هويت منه!
دي جيش (متراجعًا) : حسنًا! حسنًا! لقد هويت منه … لعله مخبول …
سيرانو (متجهًا نحوه) : قلت لك إنني من القمر انحدرت، وأنا في ذلك لا أتكلم مجازًا، ولا أستخدم استعارة.
دي جيش : ولكن …
سيرانو : لم يكن لي الخيار وأنا أهوي في أن أعرف مكان استغرقت، منذ كنت في تلك الكرة الصفراء وأقمت؟ لست أدري.
دي جيش (غير عابئ) : لقد أقمت هناك، فدعني أمضي وشأني.
سيرانو (يمنعه عن المسير) : نبئني الحق، أين أنا؟ ولا تخف عني في أي قطر كنت، وبين أي قوم مثل النيزك سقطت.
دي جيش : عجبًا!
سيرانو : لم يكن لي الخيار، وأنا أهوي أن أعرف مكان سقوطي، فهل ثقل جسمي طرح بي إلى القمر أو إلى الأرض؟
دي جيش : ولكن أنصت لي يا سيدي.
سيرانو (يصرخ صرخة مدوية يتراجع لها الكونت) : يا إلهي، إن وجوه أهل هذا البلد سود.
دي جيش (يتلمس وجهه بيديه) : وكيف كان ذلك؟
سيرانو (خائفًا) : أفي بلاد الجزائر أنا؟ ولعلك أنت من أهل البلاد؟
دي جيش (أدرك أنه يلبس قناعًا) : واهًا لهذا القناع!
سيرانو (متصعنًا اهتداءه إلى الحقيقة) : فأنا في البندقية إذن، أو لعلي في جنوا؟
دي جيش (محاولًا المرور) : دعني أمر؛ فإن غادة تنتظر.
سيرانو (وكأنه قد اهتدى إلى الحقيقة) : أنا في باريس إذن يا رجل؟
دي جيش (يبتسم بالرغم عنه) : يا للوغد! إنه مسل.
سيرانو : عجبًا! أتضحك؟
دي جيش : نعم، ولكني أريد أن أمضي لسبيلي.
سيرانو (مشرق الوجه) : لقد هبطت باريس، مع الزوبعة الأخيرة، (يلقي الكلام على عواهنه، نافضًا الغبار عن ردائه، منحنيًا في أدب): معذرة، إنه السفر، إن الأثير يغطي بعض جسمي، وغبار الكواكب يملأ عيني، حتى مهمازي تكسوهما بعض الشعرات من النجوم)، ثم يلتقط شعرة من كمه: يا عجبًا، هذه شعرة في صدريتي ما أحسبها إلا من ذنب نجم مذنب، (ينفخها في الفضاء كأنما يردها إليه).
دي جيش (وقد ضاق ذرعًا) : سيدي! (ولكن سيرانو يسارع إلى الانحناء ليمسك بساقه كأنما يريد أن يريه شيئًا).
سيرانو : يا لله ما هذا الذي وجدته مغروزًا في ساقي؟ هذه سن من أسنان الدب الأكبر حين كنت أمر بقرب «السماك الرامح» انحرفت، فرارًا من حربته المثلثة الأسنة، فسقطت على «الميزان»، واستويت جالسًا على إحدى كفتيه، وأحسب أن مؤشره قد قيد وزني عليه، هناك في السماء، (يحاول دي جيش الانصراف؛ فيمسك سيرانو بزر من أزرار صدريته): وإني لأقسم لك يا سيدي أنك لو ضغطت أنفي بين أصبعيك لنفث لبنًا حليبًا.
دي جيش : تقول لبنًا حليبًا؟
سيرانو : نعم؛ من أثر خوضي وسبحي في نهر المجرة «الطريق اللبني».
دي جيش : بل بمرورك على الجحيم!
سيرانو : كلا! بل هبطت من السماء، (يضم ذراعيه على صدره): وهل تصدق يا سيدي بالله عليك أنني في منحدري من السماء رأيت «الشعرى اليمانية» تضع على رأسها «طاقية»، (يسر إليه كلامًا): وقد نجوت من عضات الدب الأصغر؛ لأنه لا يزال حدثًا لا يعرف عضًّا؛ (يضحك): ومررت بكوكب «القيثارة»، فقطعت من أوتارها وترًا، (متفاخرًا): وفي نيتي أن أضع في رحلتي هذه كتابًا أو سفرًا، وقد حملت بين طيات قبائي الشائط نجيمات دقاقًا، ركبت في سبيلها الأخطار، وأحسبها تصلح لكي تكون «سطور نجوم» بين أجزاء الكتاب الذي أعتزم طبعه.
دي جيش : أو لم تنته بعد؟ لقد تحملت الكثير وأريد …
سيرانو : إني أعرف ما تريد …
دي جيش : سيدي!
سيرانو : أحسبك الآن تتشوق لمعرفة شيء مني عن القمر، ومم يتركب، وهل يعيش الناس على سطح هذه القرعة الكروي؟
دي جيش (ضاحكًا) : كلا، كلا، إني أريد …
سيرانو : لقد فطنت، إنك تريد أن تعرف كيف صعدت السماء، ألا فاعلم يا سيدي أني قد اهتديت إلى طريقة عجيبة من حسر تفكيري، وصميم مبتكري.
دي جيش (مبتئسًا) : إنه لمجنون.
سيرانو (باحتقار) : فلم ألتجئ إلى الرخ الثقيل كما فعل رجيومونتانس، ولا إلى اليمامة الوجلة التي استخدمها أركيتاس.
دي جيش : هذا والله مجنون، لكنه مجنون مثقف.
سيرانو : كلا لن أكون مقلدًا شيئًا سبقني إليه القدماء.

(وفلت منه، وكان ينجح في بلوغ باب دار روكسان، لولا أن سيرانو جرى في أثره مستعدًّا لاستخدام العنف والقوة لمنعه ورده.)

سيرانو : لقد ابتكرت ست طرق لاقتحام القبة الزرقاء، وغزو قلاعها.
دي جيش (يلتفت خلفه) : ستة طرق؟
سيرانو (بطلاقة لسان) : أما الطريقة الأولى: فهي أن أقف مثل كفك عاريًا، تحيط بي قوارير بلورية، ملأى بعبرات الطبيعة الباكرية، في البكرة الندية، معرضًا الجسد للشمس المتوهجة القاسية؛ فتمتص قطر الندى، وتمتصني معه.
دي جيش (بدهشة، يقف على الرغم منه مصغيًا) : هذه واحدة، فما هي الثانية؟
سيرانو (وهو يتراجع خطوات؛ لكي يبعد به عن الشرفة الدانية) : والثانية يا صاح أن أعمد إلى توليد الرياح والأهوية، فأحتجزها في صندوق من خشب الأرز، بوساطة مرايا متعددة الأوجه، وعدسات محرقة، ثم أرقى بها.
دي جيش (وهو يتقدم خطوة) : والثالثة ما هي؟
سيرا (يتراجع خطوة مثلها) : أما الثالثة فتحتاج إلى براعة آلية؛ لاصطناع جرادة عملاقة، ذات أذرع صلبية، وألقي بنفسي في جوفها، محركًا إياها بمادة بارودية تحدث انفجارات متصلة، تقذفني إلى تلك الحقول السماوية الزرقاء حيث قطعان النجوم.
دي جيش (يتبعه وهو ساهم يعد على أصابعه) : عجل بالرابعة.
سيرانو : ولما كان للأدخنة والأبخرة خاصية الصعود إلى الطباق العالية، أروح أملأ بها منطادًا، بالقدر الذي يكفي لحملي معه.
دي جيش (يتابعه مندهشًا) : هذه طرق أربع، فلعل الخامسة أبدع.
سيرانو : أو ألطخ نفسي بنخاع من جسد ثور، أيتها الثيران، ما دامت فيبي،٤ وهي تتضاءل، تحب ارتضاع الدهن.
دي جيش (مندهشًا) : هذه خمس، فما السادسة؟
سيرانو (وكان قد تراجع بدي جيش إلى أن بلغا الجانب الآخر من المكان، ووقفا بجانب أحد المقاعد) : أو أركب لوحًا من حديد، وأمسك في يدي بقطعة من مغناطيس أقذف بها في الفضاء، ولا يكاد المغناطيس يطير حتى يندفع وراءه الحديد منجذبًا إليه، ثم أبادر بقذف المغناطيس كرة ثانية، وهكذا دواليك.
دي جيش : هذه ست طرق كلها طيبة باهرة فاخرة، فأيتها كانت المختارة؟
سيرانو : اخترت سابعة.
دي جيش : إنه لمدهش، فما تلك؟
سيرانو : حدس إن استطعت.
دي جيش : ليتني عرفت.
سيرانو : دعني أمثلها تمثيلًا (يمد ذراعيه، ويلوح بهما في الفضاء كما يفعل الطافي فوق صفحة الماء، ويمثل الخرير والأمواج) هويش! هويش!
دي جيش : وما هذا؟
سيرانو : ألا تخمن؟
دي جيش : لا.
سيرانو : هذا هو اللج المتقاذف، أو هو حركة المد والجذر في تلك الساعة الساحرة التي يغازل القمر فيها الأمواج، ويجتذب عندها اللج الرجراج، وقد رحت بعد الاستحمام في الماء الملح الأجاج، أستلقي على الرمال، حتى إذا أقبل القمر الوهاج، جذب إليه اللجة فانجذبت من رأسي؛ لأن شعري كان مبتلًّا بالماء، ولم أزل أرقى السماء طبقًا طبقًا، حتى رأيتني فجأة قد اصطدمت …
دي جيش (يجلس من الدهشة فوق المتكأ ليستمع إلى النهاية) : وماذا بعد؟
سيرانو (يعاود لهجة الغسقوني الصميم، ويترك التقليد) : لقد مضت الدقائق المحدودة فلن أمنعك بعد هذا ولا دقيقة واحدة؛ وقد تمت صيغة القران.
دي جيش (يثب واقفًا) : يا عجبًا، هذا الصوت أعرفه …

(تفتح الأبواب في تلك اللحظة، ويأتي الخدم والغلمان يحملون في أيديهم الشموع مستبقين العروسين، وقد تماسكا باليدين، وفي أثرهما الكاهن، ويحمل راجينو كذلك مشعلًا مضيئًا، وفي الساقة الخادمة بثياب النوم مبهوتة.)

سيرانو (يرفع قبعته) : والآن، هل عرفت من أنا؟
دي جيش (وقد كاد يجن من الدهشة والغضب معًا) : وهذا الأنف … أنت سيرانو.
سيرانو (منحنيًا بأدب) : لقد انتهوا الآن من عقد القران.

المشهد الرابع عشر

دي جيش : يا إلهي، ومن العروسان؟ (يدور في القوم يلتمس الوجوه، فيلمح روكسان): أأنت، (ثم يلمح كريستيان): وهذا هو؟ (ينحني لهما انحناءة الإعجاب): يا لك من ماكرة غادرة، (ويلتفت إلى سيرانو): تهنئاتي الحارة، أيها المخترع صاحب الآلات الطائرة؛ فإن قصتك والله لتحتجز على باب الفردوس القديسين والأبرار، ونصيحتي لك ألا تغفل في كتابك مما بسطته لي صغيرة ولا كبيرة، فإنه بلا شك سيكون ذا فائدة جليلة.
سيرانو (منحنيًا) : سوف أقوم يا سيدي بتنفيذ وصيتكم.

(يتقدم الراهب إلى الكونت ليريه العروسين، وهو مغتبط جذلان تهتز لحيته البيضاء.)

الكاهن : زوجان جميلان تفضلت عليهما يا بني فوحدت بعقد القران اتباعًا لوصيتك.
دي جيش (يرمقه ببرود) : حسنًا! (إلى روكسان): هلمي أيتها العروس، ودعي القرين قبل وشك الفراق.
روكسان (مروعة) : وكيف هذا؟
دي جيش (يوجه الكلام إلى كريستيان) : إن فرقتك الساعة راحلة، فلتلحق في الحال بها.
روكسان (جازعة) : أمسافرة إلى الميدان؟
دي جيش : بلا شك.
روكسان : ولكن فرقة شبان الحرس لا تذهب …
دي جيش : بل هي ذاهبة لا محالة، (يتذكر الورقة التي في جيبه فيخرجها): وهذا هو الأمر الصادر بشأنها … (إلى كريستيان): احمل الأمر إلى البارون بنفسك.
روكسان (ترتمي في أحضان فتاها الوسيم الجميل صارخة) : كريستيان.
سيرانو (لنفسه) : يظن أنه بذلك يسبب لي ألمًا.
دي جيش (إلى سيرانو هازئًا متهكمًا) : ما زالت ليلة الزفاف نائية.
سيرانو (وهو على المشهد حزين كظيم «لنفسه») : أواه … إن في لدغة تهكمه ألم الموت، إن كان يدري، ولكني المتجلد الصبور.
كريستيان : هات شفتيك مرة أخرى.
سيرانو : حسبك الآن، وهلم.
كريستيان (يهوي على صفحتها تقبيلًا) : يشق على النفس فصالها، ولكنك لا تدري …
سيرانو (يحاول أن يبعد به) : بل أدري.

(أصداء طبول مدوية من مكان سحيق.)

دي جيش (من الخلف) : لقد آذن الرحيل، والفرقة على أهبة المسير.
روكسان (تتشبث بكريستيان لتمنعه، ويمسك به سيرانو ليجتذبه معه) : سيرانو، وصيتي لك أن ترعاه، وإلى ذمتك أعهد به، فهلا وعدتني أنك عليه حريص، وهلا أقسمت ألا تدعه يجازف يومًا بالحياة، وأن تصد الأخطار عنه، وتقيه البأس والبلاء.
سيرانو : سأبذل جهدي، أما أن أعد فليس في إمكاني.
روكسان (متوسلة باكية) : إذن فأقسم على أنه سيكون الحاذر الحريص على نفسه!
سيرانو : وفي هذا أيضًا سأبذل جهدي، ولكن …
روكسان : وفي الحصار لا تدعه يعاني بأسًا، أو يشكو بردًا.
سيرانو : كل ما في مكنة الإنسان أنا فاعله …
روكسان : وأن يبقى على حبي مخلصًا وفيًّا.
سيرانو : بلا شك، ولكني …
روكسان : وأن يكتب لي أحيانًا.
سيرانو : أما هذا فلك به وعدي وثوقًا واطمئنانًا.
(ينزل الستار)
١  يعني الشمس.
٢  الإشارة هنا إلى هرقل الجبار الذي تقول الأساطير الإغريقية: إنه قتل الحية ذات الرؤوس التسعة.
٣  إشارة إلى قصة أليعازر المسكين الذي كان يشتهي الفتات الساقط من مائدة الغني (لوقا ١٦: ١٩).
٤  إلهة القمر، وهي رمز له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤