الفصل الخامس

بعد مضي خمس عشرة سنة ١٦٥٥، الحديقة التابعة لدير شقيقات الصليب، في باريس.

أشجار ظليلة سامقة، إلى اليسار، البيت الذي له عدة أبواب تنفذ إلى شرفة فسيحة تنتهي بدرج.

في منتصف المسرح ترتفع أشجار ضخمة منفصلة وسط فضاء إهليجي الشكل، إلى اليمين في الجناح الأول، مقعد حجري نصف دائري، تحيط به شجيرات مخضرة.

يظهر على طول المسرح من الخلف طريق تصطف على جانبيه أشجار القسطل، ينحني في اليمين — الجناح الرابع — إلى باب كنيسية ترى من خلال الأشجار. وترى من خلال صفي الأشجار المتشابكة فوق الطريق مساحات من العشب، وطرق مليئة بأشجار أخرى، وأجمات من الأشجار والأطراف البعيدة من الحديقة، ثم قبة السماء، وتصل إلى الكنيسة عن طريق باب جانبي إلى شرفة ذات عمد، تكتنفها كروم قرمزية، تمتد الشرفة إلى الأمام، وتختفي عن الأعين خلف الشجيرات القائمة إلى اليمين.

والوقت خريف، تتطاير أوراق الأشجار على العشب الذي ما زال نضرًا، وثمة بقع قائمة من الأوراق الدائمة الخضرة، وأوراق نبات السدر، وتحت كل شجرة بساط من الأوراق الصفراء، تنتثر أوراق الأشجار في جميع أرجاء المسرح، ويسمع لها صوت وهي تتفتت تحت الأقدام، وتنتشر في أرض الشرفة، وعلى المقاعد.

وبين المقعد الذي إلى اليمين، والشجرة القائمة في الوسط إطار للتطريز كبير، يقع أمامه مقعد صغير، وسلال ملأى بالصوف الملفوف في خصل وكرات، وفي الإطار طنفسة لم تكتمل بعد.

وعند رفع الستار ترى الراهبات رائحات غاديات بالحديقة، تجلس قلة منهن على المقعد الحجري حول راهبة مسنة، تتساقط أوراق الأشجار.

المشهد الأول

الراهبة مارتا (وهي تخاطب كبيرتهن الأم مرغريت) : لقد رأيت كلير تقف أمام المرآة لتصلح من عقصة شعرها.
كلير : وأنا لقد شهدت الأخت مارتا في هذا الصباح تتناول خوخة من فوق فطيرة كبيرة.
الأم مرغريت : هذا لا يحسن أيتها الأخت مارتا، ولا يليق.
كلير : لم تكن سوى لمحة، ولم أزد.
مارتا : وهل على من تتناول خوخة صغيرة حرج؟
الأم : سأنبئ مسيو دي برجراك في هذا المساء بما فعلتماه.
كلير : كلا إنه لذاع السخرية!
مارتا : إنه ولا ريب قائل إننا نحن الراهبات ككل بنات حواء من ذوات الدلال.
كلير : بل أكبر الظن أنه سيقول: إن الراهبات لمنهومات!
الأم مرغريت (ضاحكة) : ولكنه سيقول إنهن حانيات رقيقات.
كلير : أليس حقًّا إنه قد ألف الحضور في كل يوم سبت من الأسبوع منذ عشر سنين، لم يتخلف عنها يومًا واحدًا.
الأم : بل أكثر من ذلك، ولعلها أربع عشرة سنة من ذلك اليوم الذي جاءت فيه ابنة عمه في ثوب حدادها لتقيم بيننا أبدًا، كأنها الطائر الحزين وسط أطيار بيض.
مارتا : وإنه أبرع من عرف كيف ينقي الحزن عن خاطرها مذ حلت بديرنا، وإن كان حزنها عضالًا، لم يخفف الزمن من حرقته!
جميع الراهبات (كل بدورها) : إنه غريب الأطوار كلما جاء إلى الدير لا يلبث أن يدخل روحًا جديدة على أفقه، إنه يطرد الهم من نفوسنا بمجانته اللاذعة، إننا نحبه جدًّا، ونصنع له الفطائر، إنه يعاكسنا، ما ألطفه!
مارتا : ولكنه ليس كاثوليكيًّا طيبًا.
كلير : سنجعله على الدهر مؤمنًا، وإلى الصواب سنرده على الأيام.
الراهبات جميعًا : نعم، نعم، سنفعل ذلك.
الأم مرغريت : أحذركن أن تأتين شيئًا كهذا فيقلل من زوراته، أو يمتنع عن روحاته وغدواته.
مارتا : ولكن يا إلهي!
الأم مرغريت : لتطمئن عليه نفوسكن، إن الله به عليم خبير.
مارتا : إنه كلما حضر يوم سبت راح يقول بشمم وإباء: أختاه، لقد أكلت أمس أكلًا دسمًا شهيًّا!
الأم مرغريت : رباه، أقال ذلك؟ لقد لبث آخر مرة يومين كاملين لم يذق فيهما طعامًا.
الأخت مارتا : وا أسفًا له.
الأم مرغريت : إنه الفقر!
مارتا : ومن نبأك بذلك؟
الأم مرغريت : مسيو لوبريه نبأني.
الأخت مارتا : أو لا يمدون إليه يد العون؟
الأم مرغريت : لا يفعلون؛ لأن ذلك يغضبه.

(في أحد ممرات الدير في المؤخرة تبدو روكسان في ثوب الحداد، وقد أرخت على وجهها نقابًا أسود، ويمشي إلى جانبها بأبهة دي جيش، وقد بدت الشيخوخة عليه، يسيران على مهل، تقف الأم مرغريت عندما تشاهدهما.)

مرغريت : لقد حان أن ندخل، فإن السيدة مادلين تتمشى في الحديقة مع زائر لها.
الأخت مارتا (تهمس لكلير) : إنه الكونت دي جيش الذي أصبح يلقب بالمارشال دون دي جرامون؟
الأخت كلير (تنظر نحوهما) : أظن ذلك.
الأخت مارتا : لقد فرطت أشهر على آخر زيارة له.
الراهبات (كل بدورها) : إنها مشاغله، واجبات البلاط الملكي، مسئولياته العسكرية.
الأخت كلير : مشاغل الحياة.

(ينصرفن، أما روكسان ودي جيش فينزلان في سكون، ويقفان أمام إطار للتطريز.)

المشهد الثاني

دي جيش : أتقيمين هنا، هذا البياض ما فائدته، وأنت في ثياب الحداد أبدًا؟
روكسان : لن أفارق الدير آخر الحياة.
دي جيش : أولا تزالين على عهده باقية؟
روكسان : نعم، وسأبقى.
دي جيش (بعد فترة سكون) : أو عفوت عني؟
روكسان (بكل بساطة وهي تنظر إلى صليب الدير) : ما دمت هنا فليس في خاطري من آثار الناس شيء من ألم أو موجدة.
دي جيش : أكان حقًّا إنسانًا …؟
روكسان : ليتك عرفته حق معرفته!
دي جيش : لم أعرف عنه إلا قليلًا … أو لا تزالين محتفظة بآخر رسائله فوق قلبك؟
روكسان : ألبسه حجابًا مقدسًا، لا يفارق صدري معلقًا بهذا المخمل.
دي جيش : أو لا تزالين تحبينه، وقد رحل من هذه الدنيا؟
روكسان : يخيل إليّ أحيانًا أنه لم يمت، فإن قلبينا لا يزالان يتناجيان كأنما روحه ترفرف عليَّ، وتلفني تحت جناحيها.

(سكون.)

دي جيش : وسيرانو … أيأتي لزيارتك؟
روكسان : نعم أحيانًا، هذا الصديق القديم هو بمثابة الصحيفة اليومية لي، وهو يزورنا بانتظام، فإذا كان الجو صحوًا وضعنا له كرسيًّا تحت الشجرة التي تجلس أنت الآن تحتها، وأنتظره هنا، وأنا دائبة على شغلي، وتدق الساعة، وفي الدقة الأخيرة أسمع دون أن أتلفت خلفي وقع صوت عصاه على الدرج، فيجلس ويروح يمجن ساخرًا من الثوب الذي أنسجه، ولا أنتهي منه آخر الحياة، وينثني يحدثني بأخبار الأسبوع، وما جرى خلال غيبته. (تلمح لوبريه نازلًا الدرج) ها هو ذا لوبريه، كيف حال صديقنا؟
لوبريه : خلفته في حال سوء.
دي جيش : وا أسفاه.
روكسان : ويحك، لا تبالغ.
لوبريه : لقد صدقت فيه نبوءاتي الواحدة إثر الواحدة الفاقة والحرمان، والبؤس، والاستهداف المتصل بالنقد اللاذع للنبلاء والأشراف، والأصدقاء المزيفين، والشعراء الذين يسرقون القصائد، وبالجملة معاداة جميع الناس.
روكسان : ولكن سيفه لا يزال مرهوبًا، فلن يكون يومًا لأحد مغلوبًا.
دي جيش (يهز رأسه) : من يدري؟
لوبريه : إني لأخشى عليه عدوًّا واحدًا، هو أنكى عليه من سائر أعدائه، وما عدوه الألد إلا العزلة والكمد، وها هو ذا الشتاء يدخل عليه المرقد، كأنه الذئب الجائع تسلل للنهش والعض، وكثيرًا ما قضى الليالي طاويًا، وقد شد على بطنه بمنطقة، متجلدًا لأنياب الجوع الحداد، وقد استحال أنفه الذي جلب عليه الوبال على مثل لون العاج القديم، ولم يبق لديه إلا ثوب أسود يستر بدنه!
دي جيش : هذا آتاه القدر مواهب كثيرة وذكاء، فأضاعها جميعًا هباء، ومثله لا يستحق شفقة ولا رثاء.
لوبريه (بضحكة مريرة) : سيدي المارشال …
دي جيش : لا داعي للرثاء له، إنه عاش عمره لم يلتزم بشيء في دنياه، حرًّا في أفكاره، كما في أعماله.
لوبريه (بابتسامة كسيفة) : سيدي الدوق!
دي جيش : نعم، فلست أنكر أن عندي كل شيء، وأنه لا يملك شيئًا، ولكني وددت لو تصافحنا، (ينحني بالتحية لروكسان): الوداع.
روكسان : سأرافقك إلى الباب، (ينحني دي جيش للوبريه، ويتجه مع روكسان نحو درج الشرفة).
لوبريه : أعلى البلاء تراه المحسود؟
دي جيش (يقف على الدرج) : نعم، أحيانًا أراني لفكرة الحسد نهبًا، ولا عجب فإن المرء كلما أصاب على الدهر نجاحًا مرموقًا، لا يلبث فجأة أن يستشعر بالمجد برمًا وضيقًا، دون أن يكون قد ارتكب خطأ جسيمًا، ولست أعني بهذا أنه يحس في أعماق صدره وخزًا وتأنيبًا، ولكني أعني ضجرًا وملالًا عجيبًا، وكلما صعد درجات المجد تراكمت على هدب ثوبه العسكري الأوهام والأشجان، كما يحدث وأنت تصعدين هذا الدرج حين يكتنس هدب ردائك الأسود أوراق الخريف الميتة.
روكسان (بتهكم) : أراك مسترسلًا مع الأخيلة العنيفة القاسية.
دي جيش : هي والله كذلك، والآن فلأنصرف مودعًا.
(ينحني انحناءة التوديع) لوبريه! ائذني لي يا روكسان لحظة، (يتجه نحو لوبريه، ويحدثه بصوت منخفض): حقًّا يا صاح ليس فينا من أوتي الجرأة على التحرش بصاحبك، فلا عجب إذا أضمر له الناس كراهية وحقدًا، حتى لقد قيل لي بالأمس في البلاط: إنه بات يُخشى عليه من حادث يقع له.
لوبريه : ويلاه! ماذا تقول؟
دي جيش : نعم، فليقلل من خروجه، وليكن على حذر من أعدائه.
لوبريه (يرفع ذراعيه نحو السماء) : ليكن على حذر!
يالله … ولكنه سيحضر بعد قليل، وسأنبهه إلى ما يكاد له، أجل سأحذره، ولكن …
روكسان : (واقفة عند أعلى السلم) من ذا أرى؟ (تدنو راهبة نحوها) من هذا يا أختاه؟
الراهبة : راجينو يريد رؤيتك، يا سيدتي!
روكسان : دعيه يدخل، (تلتفت إلى دي جيش ولوبريه): لقد جاء يشكو البؤس، فقد جال في خاطره يومًا أن يكون شاعرًا، فإذا هو يصبح بدوره مغنيًا في الكنيسة.
لوبريه : وصاحب حمام!
روكسان : وممثلًا.
لوبريه : وموظفًا تافهًا.
روكسان : وحلاقًا.
لوبريه : ومعلم موسيقى.
روكسان : وماذا لعله صائر الآن؟
راجينو (يدخل مسرعًا) : آه … سيدتي (يلمح لوبريه) سيدي.
روكسان (تضحك) : اقصص على لوبريه ماذا صنع الدهر بك، وسأعود حالًا.
راجينو : ولكن … سيدتي.

(روكسان تخرج غير ملتفتة إليه مع دي جيش، ويعود راجينو إلى لوبريه.)

المشهد الثالث

راجينو : حسنًا! ما دمت أنت هنا، فخير لها أن تبقى جاهلة بما حدث، كنت ذاهبًا الساعة إليه، فما كدت أدنو ثلاثين قدمًا من داره حتى رأيته خارجًا؛ فأسرعت إليه لألحق به، وأبصرته ينعطف في طريق آخر، وإذا بخادم يلقي فجأة من نافذة كان يعبر تحتها كتلة ضخمة من الخشب عليه، هل كان ذلك قصدًا أو مصادفة، لست أدري.
لوبريه : يا للخونة الأوغاد، وماذا حدث لسيرانو؟
راجينو : فلما وصلت إليه وجدته …
لوبريه : هذا شيء نكر.
راجينو : وجدته، يا سيدي، وجدت صديقنا وشاعرنا ملقى على الأرض، والدم ينزف من ثقب كبير في رأسه.
لوبريه : أتراه قُضِي؟
راجينو : كلا، ولكني احتملته إلى حجرته، له الله. آه، لو رأيت في أية حجرة يعيش!
لوبريه : هل يتألم؟
راجينو : كلا يا سيدي، إنه فاقد الوعي.
لوبريه : هل التمست له طبيبًا؟
راجينو : لقد التمست أطباء كثيرين فتحللوا … ولكن طبيبًا كريمًا رضي أن يذهب ليفحصه.
لوبريه : إن قلبي لمتفجع عليه، ينبغي ألا تنبئ روكسان النبأ وشيكًا، وما رأي الطبيب فيه؟
راجينو : لقد تكلم أخيرًا، أبسبب الحمى، أم بسبب التهاب المخ؟ لست أدري، آه لو رأيته، وقد عصب رأسه باللفافات، فلنذهب في الحال إليه؛ لأنه الآن وحده صريع الداء، ليس بجانبه أحد مواسيًا، ولا راعيًا، إن الخطر من الموت محقق، إذا هو غادر فراشه أو تحرك.
لوبريه (يسحب راجينو إلى جهة اليمين) : فلنمض من هنا، فتعال بنا، هذا الطريق من الكنيسة أقرب الطرق إليه.
روكسان (تعود من توديع دي جيش فتلمحهما، وهي لا تزال على الدرج، يتواريان خلف أعمدة الكنيسة، فتنادي) : مسيو لوبريه!

(لوبريه وراجينو يسرعان تاركين روكسان تنادي.)

روكسان : أيذهب حين أناديه، أتراها مشكلة أخرى من مشكلات هذا الرجل الطيب راجينو؟ (تنزل الدرج).

المشهد الرابع

(تجلس روكسان وحيدة ساهمة.)

روكسان : أواه … هذا هو اليوم الأخير من شهر سبتمبر، إنه ليوم جميل، وقد بدأت كآبتي تبتسم، هذه الكآبة التي كانت روعة الربيع تغضبها، أصبحت قسوة الخريف تغريها على الابتسام.
(تأخذ في شغل الإبرة، وفي هذه اللحظة تدخل أختان تحملان كرسيًّا فتضعانه تحت الشجرة): آه … هذا هو المقعد العتيق الذي يجلس فوقه صديقي القديم!
الأخت مارتا : تصفينه «بالعتيق»، وهو أحدث كرسي في قاعة الاستقبال!
روكسان : شكرًا يا أختاه، (الراهبتان تبتعدان): لن يلبث أن يحضر، (تدق الساعة أربعًا، فتصغي إلى دقاتها): الساعة تدق مؤذنة بمقدمه، وهو لم يأت بعد … يا عجبًا! أراه لأول مرة متأخرًا … رباه لا بد أن الراهبة المنوطة بالباب … أين قمع الخياطة؟ ها قد وجدته، لابد أن هذه الراهبة قد حجزته عند الباب تحضه على التوبة، لا يمكن أن يتأخر أكثر من ذلك … يا إلهي … هذه ورقة ذابلة، (تسقط الورقة الذابلة على إطار شغلها فتزيحها عنها)، ولكني على يقين من أن لا شيء يمكن أن يعوقه عن الحضور، أين مقصي؟ ها هو ذا داخل حقيبتي.
أخت (من فوق السلم) : مسيو دي برجراك!

المشهد الخامس

روكسان (دون أن تلتفت وراءها) : ماذا كنت أقول لنفسي اللحظة؟ (تمضي في الخياطة، وقد أوشك الظلام أن يعم ما حولها).

(هنا يبدو سيرانو شاحبًا مخيفًا، وقد أسدل القبعة على عينيه، تنسحب الراهبة التي كانت تقوده، ثم يأخذ في نزول السلم رويدًا بمشقة، معتمدًا على عصاه.)

روكسان : يا لله … لست أدري كيف أجعل اللون الأصفر في هذا الغطاء متمشيًا مع بقية الألوان …
(تتنبه إلى سيرانو، فتقول في شيء من العتاب): هذه أول مرة تتأخر فيها منذ أربعة عشر عامًا.
سيرانو (وقد وصل إلى الكرسي، وجعل يقول بصوت مرح لا يتفق مع معالم وجهه الشاحب) : أي ورب، إنني أكاد أتميز من الغيظ، لقد أرغمت على التأخير.
روكسان : وما الذي أرغمك عليه؟
سيرانو : بزيارة مفاجئة.
روكسان : آه … أبعض الثقيلات هي؟
سيرانو : بل كان يا ابنة العم أحد الثقلاء.١
روكسان : وهل استطعت منه خلاصًا؟
سيرانو : نعم، قلت له إنني آسف أشد الأسف، فاليوم يوم السبت، اليوم الذي اعتدت فيه الذهاب إلى مكان طيب، وموضع محبوب، فلن تستطيع قوة في الأرض احتجازي عنه أو تأخيري، فلتأت بعد ساعة أو نحوها.
روكسان : إذن على هذا الضيف أن ينتظر طويلًا؛ فإني غير تاركتك قبل المساء.
سيرانو : ولكن من يدري، فقد أضطر إلى الرحيل قبله؟

(يغمض عينيه، ويصمت لحظة.)

(الأخت مارتا تمر في الحديقة فتلمحها روكسان، وتشير إليها أن تأتي.)

روكسان (لسيرانو) : ما بالك اليوم لا تعاكس الأخت مارتا كعادتك؟
سيرانو (يصحو من ذهلته) : آه … سأفعل بلا شك … (يتصنع الضحك): يا أختنا مارتا، اقتربي، (تتقدم فتقف أمامه): ها … ها … ألا تزال العينان الجميلتان تغضان الطرف حياء، وتعبسان تجلدًا واستهزاء؟
مارتا (ترفع بصرها ضاحكة) : ولكن … (تلمح وجهه الشاحب؛ فيعتريها شيء من الفزع): رباه …
سيرانو (يشير إلى روكسان، ويقول لها بصوت محبوس) : صه، إن هذا الذي رأيته لا يهم، (بصوت مرتفع): لقد تناولت أمس طعامًا دسمًا، ونعمت بأكل شهي.
مارتا : أعرف ذلك، (لنفسها): ولذلك أراه شاحبًا مفرط الشحوب، (تخاطبه مسرعة راعشة الصوت): هلا جئت بعد قليل إلى المطبخ، أتتناول شرابًا ساخنًا؟ إنك ستأتي، ناشدتك الله أن تجيء.
سيرانو : نعم، نعم، سأجيء.
مارتا : آه … أراك اليوم أكثر تعقلًا!
روكسان (وقد سمعتهما أخيرًا وهما يتهامسان) : أتراها تحاول أن تعظك لتتحول بك إلى مذهبها في الدين ونحلتها؟
مارتا : كلا، فإني متحاشية، محاذرة.
سيرانو : يا عجبًا، ما الذي جرى، لقد كنت يا أختنا مارتا لا تكفين عن الكلام في الدين، واليوم لا أجدك تحاولين إدخال الدين في رأسي، إنه لشيء عجاب حقًّا، (في شيء من الغضب المصطنع): ولكني جاعلك تعجبين أنت الأخرى … سأهاجمك اللحظة بمفاجأة، (يبدو كأنه يبحث عن مداعبة لطيفة يفاجئها بها): آه … أتحسبين عجيبًا مني أن أطلب إليك الصلاة لأجلي في الكنيسة هذا المساء … ما قولك يا أخت فيما طلبته؟
روكسان : عجبًا! …
سيرانو (ضاحكًا) : ما لي أرى الأخت مارتا مبهوتة ذاهلة؟
مارتا (بهدوء) : لم أكن أتوقع أن تسمح لي بذلك.

(تخرج.)

سيرانو (يعود إلى روكسان، وينحني فوق إطار شغل الإبرة) : يا للشيطان! ألا تزالين حائكة … أيها الغطاء المغزول متى أرى نهايتك؟
روكسان : كنت أرتقب هذه النكتة اليوم منك، (في هذه اللحظة تسقط الرياح أوراقًا ذابلة من فوق الشجر).
سيرانو : الشجر يتساقط علينا أوراقًا … نذير خريف مقبل.
روكسان (ترفع بصرها، ثم تنظر إلى ممرات الحديقة التي غطتها الأوراق المتساقطة) : إن لها لونًا أشقر جميلًا، ألا ترى إليها وهي متساقطة.
سيرانو : لله ما أحلاها في تساقطها! في تلك المسافة القصيرة التي تمتد من الفرع إلى الأرض، تعرف الأوراق كيف تتجمل قبل الوداع الأخير، ومع انزعاجها من العفن فوق الثرى تأبى إلا أن تضفي على سقوطها جمال خفق الطائر.
روكسان : ما لي أرى سيرانو اليوم حزينًا؟
سيرانو (ينتبه لنفسه) : ما أنا بمحزون يا روكسان مطلقًا.
روكسان : هيا دع الأوراق لشأنها، واقتصص علينا الجديد يا جريدتي.
سيرانو : ها هي.
روكسان : أجل؟
سيرانو (يبدو أكثر شحوبًا، ويحاول إخفاء ألمه) : السبت اليوم التاسع عشر من الشهر أصيب الملك بالحمى، من البطنة والتخمة بعد أن ملأ طبقه ثماني مرات من «مربى» العنب والفواكه، وقد اتهم مرضه بالخيانة العظمى، فحكم عليه بالفصد، وهكذا خلا نبضه الملكي من آثار الحمى. أقيمت يوم الأحد حفلة متنكرة في جناح الملكة، فأوقدت سبعمائة شمعة، وثلاثة وستين من الشموع البيض، ويقال: إن قواتنا انتصرت في المعركة على قوات جان النمسوي، أعدم أربعة دجالين شنقًا، مرض كلب مدام داتي الصغير …
روكسان : مسيو دي برجراك، هلا تكرمت بالسكوت؟
سيرانو (مسترسلًا) : الاثنين؛ لا شيء غير أن مدام ليجدامير اتخذت عشيقًا جديدًا.
روكسان : أوه … أوه.
سيرانو (يستولي عليه الصمت، ويشتد به الألم) : الثلاثاء؛ انتقل البلاط إلى فونتبلو. الأربعاء؛ تحدثت لامونجلا إلى الكونت دي فيهسك، فقالت له: «لا».
الخميس؛ منسيني ملكة فرنسا، أو تكاد … وفي الخامس والعشرين تحدثت الحسناء لامونجلا إلى الكونت فيهسك، فقالت له: «نعم»، وفي يوم السبت السادس والعشرين من الشهر …

(يغمض عينيه، ويطرق برأسه.)

(سكون.)

روكسان (تعجب لسكوته؛ فتلتفت، وإذ تراه على هذه الحال تنهض مذعورة) : يا لله، لقد أغمي عليه، (تهرول نحوه صارخة): سيرانو … سيرانو.
سيرانو (يفتح عينيه، ويغمغم بصوت شارد) : ماذا …
(يلمح روكسان جاثية بجانبه، فيصلح من قبعته فوق رأسه، ثم يغوص بخوف في جوف كرسيه): كلا، كلا، أقسم لك … لا شيء بي … دعيني.
روكسان (بهلع) : ولكنك …
سيرانو : إنه جرح أراس … ذلك الجرح القديم الذي تعرفينه.
روكسان : واهًا لك يا صديقي المسكين.
سيرانو : هذا أمر لا أهمية له، وسيزول وشيكًا ألمي، (يضحك مغالبًا): لقد انتهى وزال كل شيء …
روكسان (وهي واقفة بجانبه) : كلنا من جرحه متألم، أما أنا فجرحي هنا، جرحي القديم (تشير إلى قلبها) هنا … في هذا الموضع تحت الرسالة التي اصفرت صفحتها، ولا أزال أشهد عليها إلى اليوم دمعًا ودمًا …

(الشمس تأخذ في المغيب.)

سيرانو : رسالته … لقد كنت قد وعدتني أن تريني كتابه في يوم ما لأقرأه.
روكسان : أتريد رسالته؟
سيرانو : نعم … أريد اليوم …
روكسان (تعطيه الرسالة المدلاة في سلسلة من عنقها) : هاكها …
سيرانو : أتأذنين لي في فضها؟
روكسان : افضضها واقرأ، (تعود إلى شغلها فتطويه).
سيرانو (يقرأ) : وداعًا روكسان، إني لا محالة ميت …
روكسان (تقف متعجبة) : أتقرؤها بصوت مسموع؟
سيرانو (مستمرًا في القراءة) : في هذه الليلة بالذات أشعر يا حبيبتي أن روحي قد ناءت بحب مكتوم لم يصب تعبيرًا … روكسان وداعًا إني الليلة سأموت، فلا تعود عيناي اللتان أسكرهما الحب …
روكسان : كم هي عجيبة قراءتك لرسالته؟
سيرانو (مستمرًا في القراءة) : عيناي اللتان تطربهما قبلة في الهواء لكل حركة تأتينها، أذكر منها حركة ألفيتها حين تلمسين جبينك، فلا يسعني إلا أن أصيح …
روكسان (مضطربة) : كم هي عجيبة قراءتك للرسالة!

(يخيم الظلام فلا يشعر به.)

سيرانو (متابعًا القراءة) : فأصيح، الوداع!
روكسان : إنك تقرأها …
سيرانو : أي عزيزتي، حبيبتي، كنزي.
روكسان (حالمة) : إنك تقرأها بصوت …
سيرانو : حبيبتي.
روكسان (ترتعش) : وبصوت لست أسمعه لأول مرة، صوت ليس على سمعي غريبًا، (تقترب منه دون أن يشعر فتقف خلفه، وتنظر إلى الرسالة، والظلام مخيم).
سيرانو (يتلو) : لن يفارقك قلبي لحظة واحدة، وإني لباق في العالم الآخر الرجل الذي تجاوز حبه الحدود. الرجل …
روكسان (تلمس كتفه بيدها) : يا عجبًا، كيف تواتيك القراءة، والليل أرخى سدوله؟

(يرتعش ويلتفت إليها ليجدها بجانبه؛ فيضطرب، ويطرق برأسه … سكون طويل.)

روكسان (في حلكة الظلام، تضم يديها، وتتكلم بتؤدة) : ألا تزال على ديدنك، تؤدي الدور ذاته أربعة عشر عامًا، دور الصديق الذي يسلي النفس، ويضحك، ويروح عن الصدر، وإن كان حزينًا آسيًا؟
سيرانو : روكسان …
روكسان : لقد كنت أنت …
سيرانو : كلا، روكسان، كلا.
روكسان : كان ينبغي أن أفهم حين كان يناديني باسمي.
سيرانو : كلا، روكسان … لم أكن أنا …
روكسان : بل لقد كنت أنت.
سيرانو : أقسم لك …
روكسان : إني مقدرة موقفك النبيل، كل تلك الكتب كانت كتبك.
سيرانو : كلا.
روكسان : والكلمات العزيزة النشوى كانت كلماتك، والصوت الساري في جوف الليل كان صوتك.
سيرانو : أقسم لك، كلا، كلا.
روكسان : والروح الشاعرية كانت روحك.
سيرانو : لم أحببك يومًا.
روكسان : بل أحببتني.
سيرانو : لقد أحبك هو …
روكسان : بل أنت أحببتني …
سيرانو : كلا، كلا، (بخفوت).
روكسان : أراك تخفض من صوتك.
سيرانو : كلا يا حبيبتي الغالية.
روكسان : رباه … كم من أشياء ماتت، وكم من أشياء جديدة ولدت … لماذا لزمت الصمت أربع عشرة سنة، وها هي ذي رسالة لم يكتبها هو، وسكبت أنت عليها دموعك؟
سيرانو (يناولها الرسالة) : وهذا الدم دمه.
روكسان : إذن لماذا هذا الصمت الجليل ينهار اليوم؟
سيرانو : تسألينني لماذا؟

(لوبريه وراجينو يندفعان إلى الموضع مسرعين.)

المشهد السادس

لوبريه : أي استهتار بالحياة هذا … آه … كنت على يقين أني هنا واجده … ها هو ذا.
سيرانو (يضحك وهو ينهض) : أنت … يا لك من عفريت.
لوبريه (لروكسان) : لقد قضى على نفسه يا سيدتي بمغادرته فراشه.
روكسان : يا إلهي، أكان ضعفك منذ قليل هو السبب في …
سيرانو : نعم، لم أكن قد انتهيت من سرد الحوادث، ففي يوم السبت السادس والعشرين من الشهر، وقبل العشاء بساعة واحدة، مات السيد دي برجراك قتيلًا …

(يرفع قبعته، وتظهر الأربطة حول رأسه.)

روكسان (في هلع) : ويلتا … ماذا أرى … سيرانو، رأسه ملفف بأربطة، ويلتا ماذا صنعوا بك ويحهم.
سيرانو : بضربة سيف مسددة من كف صنديد إلى صميم القلب، كنت أتمنى أن تكون نهايتي، ولكن القدر قد سخر مني، وهأنذا قتيل من كمين، من سقطة كتلة من الخشب تصيبني من الخلف، لا من أثر طعن وضرب، قطعة خشب هوت فوق رأسي من كف خادم مهين، جميل والله، لقد كنت الخاسر حتى في الموت.
راجينو : أواه سيدي (يبكي).
سيرانو : راجينو … لا تجعل لبكائك شهيقًا وزفيرًا … (يمد إليه يده): قل لي يا صاحبي ماذا تصنع الآن يا أخا الود والعهد؟
راجينو (وهو يبكي بحرارة) : أنا الآن أطفئ الشموع عند موليير.
سيرانو : موليير.
راجينو : ولكني سأترك خدمته غدًا؛ لأني محتج متألم، فقد كانوا بالأمس يمثلون على المسرح رواية «سكابان»، وبدا لي أنهم سرقوا منك فيها مشهدًا.
لوبريه : مشهدًا كاملًا؟
راجينو : نعم يا سيدي، المشهد الذي فيه تقول: ماذا هو بالله صانع؟
لوبريه : نعم، لقد انتحله موليير منك انتحالًا.
سيرانو : صه! صه! لقد أحسن عملًا (إلى راجينو)، وهل أصاب المشهد إعجاب الناظرين؟
راجينو : أجل يا سيدي، لقد ظلوا له ضاحكين.
سيرانو : وا أسفي، لقد كانت حياتي حياة الملقن الذي يهمس الكلام للغير، ثم هو في النهاية يذهب نسيًا منسيًّا. (لروكسان): أفتذكرين ليلة جاء كريستيان يتحدث إليك تحت الشرفة والليل بهيم، لقد كانت كل كلمة في ذلك الحديث من صميم حياتي، بل حياتي نفسها، وبينما كنت مختفيًا في الحديقة وسط الظلمة البادية، كان آخر يصعد ليقتطف قبلة النصر له دانية، ذلك عد وحق أنا به مقر حتى باب مقبرتي الآتية … لموليير العبقرية، ولكريستيان الجمال، والصباحة، والصفحة البهية.

(تدق أجراس الكنيسة، وتبدو الراهبات من بعيد ذاهبات إلى الصلاة.)

سيرانو : ليذهبن إلى الصلاة ما دام ناقوسهن يدق.
روكسان (تنهض وتنادي) : أختاه … أختاه.
سيرانو (يمسك بها) : كلا، كلا، لا تنادي أحدًا، فلن تجديني حين تعودين؛ لأني سأكون عندئذ قد رحلت.

(الراهبات يدخلن الكنيسة، وتسمع عندئذ أنغام الموسيقى الكنسية الشجية.)

سيرانو : كنت في حاجة إلى شيء من الموسيقى، وها هي ذي تأتيني في الوقت المناسب.
روكسان : بل لتحي يا سيرانو ولتعش، إني أحبك.
سيرانو : كلا، تلك أسطورة من الأساطير حيث تقول الفتاة لفارس أحلامها الذي صبغ جبينه الحياء: «أحبك»، لا يلبث أن يحس دمامته تذوب على حرارة كلماتها كأنها الشمس الحامية، ولكني وا أسفاه سأبقى آخر الحياة دميمًا كما أنا.
روكسان : يا ويحي … لقد كنت سبب شقائك.
سيرانو : أنت، بالعكس، فقد كنت أجهل حنان المرأة، فأمي لم تجدني جميلًا، وما كانت لي في هذه الدنيا أخت حانية، ولا شقيقة راعية، بعد ذلك صرت أخشى الخليلة الساخرة الغاوية؛ فابتعدت عن النساء ناجيًا.
وأنا لك مدين، لقد وجدت فيك الصديقة الوفية، ولولاك لما مر بحياتي ثوب امرأة.
لوبريه (يريه القمر وهو يبزغ من خلال الشجر) : وها هو صديقك الآخر، أقبل ليراك.
سيرانو (يضحك للقمر) : آه … حقًّا … ها هو ذا.
روكسان : ما أحببت في دهري إلا إنسانًا واحدًا، وهأنذي أفقده للمرة الثانية.
سيرانو (لصديقه لوبريه) : سأصعد الليلة إلى منازل القمر بغير حاجة إلى اختراع جهاز يعين على الصعود إليه.
روكسان : ماذا تقول؟
سيرانو : أي نعم، هناك عند هذا القمر، سأهتدي إلى فردوسي الجميل الباهر، وألتقي بالأرواح الأثيرة التي أحبها، والصحب الكرام الذين أتوق إلى لقائهم، سألتقي بسقراط، وجاليليو.
لوبريه (ثائرًا حزينًا) : كلا، كلا، يا لله ما أقسى النهاية وأمرها! أكذا يكون ختام شاعر، ونهاية قلب كبير؟ أكذا يوافي الموت مثله؟ أكذا تحم المنية الغادرة؟
سيرانو : ما لي أرى لوبريه متذمرًا؟
لوبريه (مختنقًا بالعبرات) : أواه … يا صديقي الحبيب.
سيرانو (ينهض شارد اللب والنظرات) : ها هم أولاء شباب غسقونيا وفتيانها، المادة الأساسية … أي والله هنا العقدة!
لوبريه : يا للعجب … حتى في هذيانه لا يكف عن علومه.
سيرانو : لقد قال كوبرنيكوس.
روكسان : أواه …
سيرانو : ولكن ماذا بربك كان يريد أن يفعل؟ ماذا بربك كان يريد أن يفعل داخل سفينته … ؟ هذا الفيلسوف والعالم الطبيعي الشاعر، المبارز، الموسيقار، الرحالة إلى الآفاق العليا، المفحم في أجوبته وردوده، العاشق أيضًا، وفي العشق بؤسه … هنا يرقد هرقل سافينيان دي سيرانو دي برجراك، الذي كان كل شيء، والذي لم يكن أي شيء.
ولكني ذاهب … معذرة لا أستطيع أن أستبقي أحدًا في انتظاري، كما ترون جميعًا، وتشهدون بأعينكم، ها هو ذا ضياء القمر يقترب ليأخذني، (يسقط، فيعيده بكاء روكسان إلى الحقيقة، ينظر إليها، ويداعب نقابها).
سيرانو : لا أريد يا روكسان أن تبكي الآخر أقل مما أنت غدًا باكيتي، ذلك الفتى الجميل الناضر الباهر، ولكني أريد شيئًا واحدًا حين تغمر جسدي الناحل برودة الموت وهدأته، وهو أن تضفي على هذا النقاب الأسود معنى مزدوجًا؛ ليكون حدادك عليه حدادًا عليَّ، ولو قليلًا.
روكسان : أقسم لك.
سيرانو (تسري فيه قشعريرة، وينهض هائجًا) : كلا، ليس هنا … كلا أفي جوف كرسي أنت موافي؟
(يمضي مهرولًا، فيجرون خلفه): دعوني … لا تلمسوني … (يذهب فيستند إلى جذع الشجرة): لا سناد لي غير الشجرة. (سكون)، إنه٢ في طريقه نحوي، أحس كأن حذائي قد استحال ثقيلًا كأنه من المرمر، وقفازي من الحديد، (يجهد في مكانه): آه … ولكن ما دام دانيًا نحوي، فلأنتظره واقفًا، (يمسك سيفه): وسيفي في يدي.
لوبريه : سيرانو …
روكسان (منهارة) : سيرانو.

(يتراجعون مذعورين.)

سيرانو : أراه ينظر إليَّ ويحدق، ليته يجرؤ على النظر إلى أنفي … القبيح، (يشهر السيف): ماذا تقول؟ صراع لا نفع منه، أعرف ذلك، ولكن المرء لا يبارز مؤملًا في الانتصار، وإنما يجالد مستيئسًا مكافحًا، أي ورب إن المبارزة لأجمل وأروع حين تكون بغير نفع، ولكن من هم الذين أرى قبالتي … أأنتم ألف أم مائة؟ آه … عرفتكم معاشر أعدائي السابقين، أيها النفاق، أهذا أنت؟ (يضرب بسيفه الفضاء): هاكها إذن هه … هه … هه … وأنتم من تكونون؟ معاشر المرائين، والكاذبين والجبناء، خذوا (يضرب الفضاء)، أأبرم صلحًا معكم؟ كلا! كلا! … أعرف أنك في النهاية طارحي إلى الأرض، وما أهمية هذا؟ ولكني الساعة مجالدك، ومجالدك، ومجالدك، (يضرب الفضاء بحركات عنيفة، ثم يقف فجأة من الضرب لاهثًا مقطع الأنفاس): لقد سلبتموني أيها الأوغاد كل شيء: الغار، والورد خذوهما كذلك، إن هناك على الرغم من محاولاتكم شيئًا واحدًا لن تستطيعوا له سلبًا، شيئًا أنا الليلة معي آخذه في رحلتي إلى الله، تحيتي لبارئي، لأكنس به أعتابه المقدسة … هناك شيء أنتم أعجز من أن تسلبوه، وسآخذه أنا معي على الرغم منكم، سليمًا ناصعًا لا شية فيه، (يشهر السيف): ذلكم هو … (يسقط السيف من يده، فيترنح ويقع في أحضان لوبريه وراجينو).
روكسان (تنحني عليه، وتطبع قبلة على جبينه) : وما هو؟
سيرانو : ذلكم هو … (في هذه اللحظة يفتح عينيه فيعرفها، ويبتسم لها) … هو ريش خوذتي!
(ستار)
١  يعني الموت.
٢  يعني الموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤