الشر المعبود

قبل أن يستولي أول ملك على عرش مصر، كان الوادي مُقاطَعات مُستقلة لكل واحدة إلهٌ ودين وحاكم، وقد اشتهرت من بينها مُقاطَعة «خنوم» لما توفَّر لها من خصوبة الأرض واعتدال الجو وكثرة السكان، ولكنها كانت تدفع نصيبها کاملًا من ضريبة الشقاء والأحزان، ففسق بها المُترَفون، وتضوَّر الفلاحون جوعًا، وعاث الأشرار في الأرض فسادًا، وفتكت الأمراض والأوبئة بالضعاف والبائسين، وشمَّر للإصلاح رجال المقاطعة المسئولون، وعلى رأسهم القاضي «سومر» وحارس الأمن «رام» والطبيب «تحب»، وكافحوا الجريمة والعيوب مكافحةً شديدة صارت مَضرب الأمثال على الجهاد والصدق والعزم.

وفي أحد الأجيال التي مرَّت على تلك المقاطعة ظهَر بها رجلٌ غريب، كان شيخًا طاعنًا في السن حليق الرأس والذقن كعادة الكهنة المصريين، وطويل القامة نحيل الجسم، تُلوِّح في عينَيه نظرةٌ حادَّة تهزأ من فِعل السنين، يشعُّ منها نور الفطنة والحكمة، وكان رجلًا غريبًا حقًّا؛ فما لمست قدماه بلدًا حتى تساءل أهله عجبًا .. من الرَّجل؟ .. وأي بلد قذفه؟ وما الذي يريد؟ وكيف يضرب في الأرض حين ينبغي أن يخلد إلى السكينة والراحة في انتظار الانتقال إلى عالم أوزوريس؟

ولم يقف به شذوذه عند حد. كان يُثير وراءه عواصف الضجيج وزوابع الفتنة أينما حل وحيثما يتجه؛ فكان يغشى الأسواق ويزور المعابد ويدعو نفسه إلى الحفلات على غير معرفة بأصحابها، ويضع نفسه فيما لا يعنيه؛ فكان يُحادِث الأزواج عن زوجاتهم والزوجات عن أزواجهن، والآباء من أبنائهم، ويُجادل السادة والنبلاء، ويُكلِّم الخدم والعبيد، ويترك خلفه أثرًا عميقًا قويًّا يُهيِّج في النفوس ثورةً جامحة يشتدُّ من حولها الجدل والخصام.

وأثارت حياة الغريب مخاوف «رام» حارس الأمن فاتبعه كالظل وراقَبه عن كثب، وارتاب في أمره فقبض عليه وقدَّمه إلى القاضي لينظر في شأنه العجيب. وكان القاضي سومر رجلًا طاعنًا في السن عظيم التجارب؛ قضی أربعين عامًا من حياته الجليلة يُجاهد جهاد الأبطال تحت راية العدل والحقيقة، فأنفذ القضاء في حيوات المئين من المُتمردين، وملأ السجون بالآلاف من الأشرار والمجرمين، وكان يعمل صادقًا مُخلِصًا على تطهير المقاطعة من أعداء السلام والطمأنينة.

ولما مثل بين يدَيه الرجل الغريب أخذه العَجب واستولت عليه الحيرة، وساءل نفسه عما يرتكبه هذا الشيخ الفاني، ثم سأله بصوته المتَّزن وهو يُلقي عليه نظرةً فاحصة: ما اسمك أيها الشيخ؟

فصمت الرجل ولم يُجِب، وهزَّ رأسه كأنه لا يريد أن يتكلم أو لا يدري ما يقول.

واستاء القاضي من لياذه بالصمت بغير سبب معقول، وسأله بلهجةٍ خشنة: لماذا لا تُجيب؟ .. قل ما اسمك.

فقال الرجل بصوتٍ خافت وعلى فمه ابتسامةٌ خفيفة غامضة: لا أدري یا سیدي.

فتضاعف استياء القاضي وقال مُنتهرًا: ألا تدري ما اسمك حقًّا؟

– بلى يا سيدي .. نسيته.

– أتقول إنك نسيت اسمك .. بمَ يدعوك الناس؟

لا أحد يدعوني، لقد مات أهلي وذويَّ، ولبثت في الدنيا دهرًا طويلًا لا يدعوني أحد ولا يُناديني إنسان، وكان رأسي مُفعَمًا بالأفكار والأحلام فنسيت اسمي.

واتهم القاضي الشيخ بالبله والخرف، وتحوَّل عنه يائسًا إلى حارس الأمن وسأله: ما الذي حملك على سَوق هذا الرجل إلى المحكمة؟

فقال «رام»: إنه یا سیدي رجل لا يستريح ولا يُريح، يتطفَّل على الناس ويُجادلهم في الخير والشر، ولا يدعهم إلا وقد فرَّقت بينهم الفتنة والشقاق.

فالتفت إليه القاضي وسأله: ما الذي تريده من وراء ذلك؟

فحدَجه الشيخ بنظرةٍ حادَّة، وقال بصوتٍ قوي النبرات يهزأ بالسنين التي عاشها في هذه الدنيا: أريد أن أصلح هذه الدنيا البشعة يا سيدي.

فابتسم القاضي وسأله: أليس يوجد من يهبُ حياته لهذا العمل النبيل وهو قادر عليه؟ ماذا يفعل القاضي وحارس الأمن والطبيب؟ اطمئنَّ أيها الشيخ وأرِح نفسك ولا تُحمِّل شيخوختك ما لا طاقة لها به من بلوغ هذا المطلب العسير، وغيرك عليه أقدر.

فهزَّ الرجل رأسه بعناد وقال: جميع من ذكرت قد وُجدوا منذ الأزل، ولكنهم لم يقدروا بعدُ على تغيير هذه البشاعة التي تُشوِّه وجه الدنيا. ولا نزال نرى في كل بقعة من الأرض نُذرَ الشر وآثار الجريمة.

– وهل تنجح أنت إذا أخفقت جميع هذه القوى المؤتلفة؟

– نعم يا سيدي .. أمهِلْني وسوف ترى.

فابتسم القاضي في استخفاف وسأله: وماذا تدَّخر من الوسائل مما ليس لديهم؟

– إنهم يا سيدي يُطارِدون الأشرار ويُعالِجون الأمراض ويُضمِّدون الجِراح .. أما أنا فسبيلي أن أقضيَ على الداء. إن الداء كمين في مخبئه آمنًا، وهم لا يكترثون إلا لآثاره، وقد أنعمت النظر فوجدت أن المعدة أصلًا بلاء هذه المقاطعة، وجدت كثيرين لا يستطيعون أن يملئوا منها فراغًا فيعيَوا جوعًا، وآخرين لا يتركون بها فراغًا قط فيهلكوا نهمًا، ومن التجاذب والتنافر بين هاتين المعدتَين يحدث السلب والنهب والقتل؛ فالداء بيِّن والدواء بيِّن.

فقال القاضي: على العكس مما ترى، هذا داء لا دواء له!

هذا قولهم يا سيدي، وما يقولونه إلا لأنه ينقصهم شيءٌ متَّعني الرب به، هو الإيمان بالخير. إنهم لا يؤمنون بالخير حق الإيمان، ويُجاهدون في سبيله جهاد الآلات الصمَّاء التي لا تُحس، ويعملون بالأجر وللجاه والمجد .. فإذا خلَوا إلى أنفُسهم تهالكوا على ما يُجاهِرون بمقته من الإثم. هذا شأنهم يا سيدي، أما أنا فمؤمن حقًّا بالخير، فدعني أعمل على طريقتي وأمهِلْني رُويدًا.

وأهاج كلام الرجل الغضب في نفس حارس الأمن؛ إذ حسبه يلمزه من قريب، ولكن القاضي كان أوسع صدرًا وأليَن قلبًا، فأغضى عن قول الرجل. ولما لم يجد في عمله ما يستحق عقوبةً أطلق سراحه بعد أن أسدى إليه النُّصح.

وغادَر الرجل المحكمة وهو يُحسُّ بنشوة الظَّفر، وكان على وجه اليقين مؤيدًا بروح سامٍ لأنه كان يسير في الأرض بقوة مارد، ويتدفق في الحديث بحماسة شاب، ويفيض عليه قلبه بتفاؤل نبي، وكان لسانه ينفث سحرًا حلالًا وحجة تلزم المُتكبرين، فاستطاع في مدة وجيزة أن يستأثر بآذان القوم ويسحر قلوبهم ويُهيج عاطفة الخير في نفوسهم ويُوجههم إلى حيث يريد، فاتبعه الفقير وخضع له الغني وذل له المُتمرد العاصي. وكان أساسَ دعوته الجمالُ والاعتدال اللذان يعيش في ظلهما الفقير بالقناعة والغني بما فيه الكفاية. ووجد فيه ذاك المجتمع المريض طبيبًا صادقًا بارعًا فتعلَّق بمثله واعتنق مبادئه. وجاءت النتائج باهرةً يَخطَف نورها الأبصار ويذهل عقول العقلاء، فسُحقت الجريمة وهُزم الشر وأدبرت الأمراض، وأظلَّت السعادة بجناحَيها المقاطعة، فهلَّل الحُكام وكبَّروا، وآمنوا بالرجل الذي كانوا فيه يمترون، وسعدوا جميعًا لبلوغ الغاية النبيلة التي أنفقوا أعمارهم عبثًا في سبيل بلوغها.

وتقدَّم الزمان بخُطًى هادئة في جوٍّ صافٍ وطريق مُعبَّد، وتحوَّلت الأمور إلى غير ما عهد الناس.

وكان الحكام أول من أحسَّ بالعهد الجديد، والحق أنهم وجدوا أنفسهم عاطلين، والراحة لذة لا يذوقها إلا العاملون، فثقل الفراغ على ظهورهم، وشاهدوا بأعيُن جزعة مجدَهم ينهار وريحهم تذهب ونورهم ينقلب ظلامًا.

كان حارس الأمن قوة تُرهب أينما يحل، فرد إلى شيء تقتحمه العيون وتستهين به القلوب، وأضحى تمرُّ به العامة وكأنها تمرُّ بصنمٍ مُحطَّم.

وكان القاضي قوةً قدسية ومهابةً إلهية، فأصبح يُقلِّب كفَّيه آسفًا حزينًا لا يسمع تحية ولا رجاءً، ولا يُساق إلى رحابه من يَهابه، فأحسَّ بعزلة ووحشة، وبات كمعبدٍ مهجور في الصحراء. وأنَّ الطبيب بشكوى مكتومة، وحبس نفسه في داره لا يزوره إنسان ولا يزور إنسانًا، وكان يكنز المال في القدور فأصبح يُنفق مما جمع وقلبُه واجف.

اطمأنَّ الإقليم جميعًا إلى الخير إلا أولئك الذين وهبوا أنفسهم «صناعة الخير». كانوا حيارى يائسين يتلفَّتون يمينًا وشمالًا فلا يجدون لأنفسهم مخرجًا مما هم فيه، وكان حارس الأمن أشدهم عذابًا؛ لأنه كان أعظمهم جراءة، ولكنه كان يخشى أن يُقدِم على التصريح بمخاوفه فيَجد آذانًا صمَّاء وقلوبًا مطمئنَّة إلى الخير. ولما نَفِد صبره انتهز فرصة اجتماعه بإخوانه وأقرانه وقال بشيء من التهيب مُتسائلًا: ماذا نفعل لو استغنی الحاكم عن خِدماتنا غدًا؟

فاصفرَّت الوجوه، وسأله سائل بلسان ملعثم: أمن المحتمل أن يستغنيَ عنا حقًّا؟

فقال رام وهو يهزُّ كتفَيه استهانةً: وماذا نفعل حتى نستحق البقاء؟

وكأنه بقوله هذا رفع صمامًا عن مِرجل يغلي ففاض كلٌّ بما في قلبه، فقال واحد منهم: هذه حال لا يمكن السكوت عليها.

وقال آخر وهو يهزُّ قبضة يده: لقد أفسد الشيخ الخَرِف المقاطعة.

وقال ثالث: إنه يحطم القوى الإنسانية العالية بهذه الدعوة الفاسدة التي تعوق التقدم وتقتل الهمم.

وسرَت النجوی من لسان إلى لسان، وأبان كلٌّ عما بنفسه إلا القاضي فإنه لزم الصمت، وسها إلى الأفق البعيد كأنه لا يسمع مما يدور حوله شيئًا، وكاد مَظهره يجلب اليأس إلى قلوب الكثيرين من أعوانه، إلا أن رام همس لهم خارجًا: لا تخشَوا القاضي؛ فقلبه معنا، ولكن لسانه الذي مُرِّن على الكلام عن العدالة لا يُطاوعه على ما نحن بسبيله.

واتفقت كلمتهم.

وأشرقت الشمس ذات صباح فإذا بالرجل الغريب قد اختفى، وبحث عنه مُريدوه في كل مكان، وفتَّشوا عنه في كل بقعة من الإقليم فلم يعثروا له على أثر.

وأحدث اختفاؤه دهشة وانزعاجًا، وأثار أقاويل مُتباينة؛ فمن قائل إنه هجر المقاطعة إلى غيرها بعد أن اطمأنَّ إلى ثبات عقيدته، ومن قائل إنه صَعِد إلى السماء بعد أن أدَّى رسالته. وشمل الحزن المقاطعة كلها ووجفت القلوب جميعًا.

وتنفَّس السادة الصُّعداء، وانتظروا على أملٍ سعيد وكلهم يحلم بالمجد الآفل والنعيم الذاهب، ويُمنِّي نفسه ويستنظرها.

ولكن النفس يلحقها الجزع كلما دنت من الأمل المُرتقَب، فباتت أعصاب القوم ثائرة وقلوبهم حائرة، وكان يقضُّ مضاجعَهم أن يروا عامة الناس ما تزال مُتمسكة بالدعوة، مُخلِصة لذكرى الشيخ الغريب.

واهتاج الغضب حارس الأمن فصاح: ينبغي ألا تدوم هذه الحال.

ونظرت إليه أعينٌ أحياها الطمع وأضناها الأمل، فاستدرك قائلًا همسًا: أعرف في مقاطعة «بتاح» راقصةً فاتنة أَوْلتها الآلهة حُسنًا لا يُقاوَم، فلماذا لا نستعيرها أشهُرًا؟ وإني أعلم أن حاكم الإقليم راغب في نفيها لما يُهيِّج جمالها من الفتنة والملاحقة، فليَكُن إقليم خنوم منفاها إلى حين؛ وهي بغير شك حقيقةٌ بأن تُفرِّق ما بين الأخ وأخيه والزوج وزوجه، وبأن تُغْري الأغنياء بالانقضاض على السلاسل التي وضعوها في أعناقهم طائعين .. انتظروا خيرًا قريبًا.

وحقَّق ذلك العبقري فِكرته الخطيرة.

وشاهدوا جميعًا بأعينٍ مُشرِقة بنور الفرح ذلك النظام يتقوَّض بُنيانه ويتهاوی حجرًا على حجر، وردَّت المعدة إلى عرشها تتحكم في الرقاب والعقول، وعادت الحياة الشيطانية تملأ جو «خنوم» الهادئ، وتعصف بالسلام المُخيِّم على ربوعه، واستأنفت عصبة الحكم جهادها، ووجدت نفسها مرةً أخرى تُكافح وتُناضل عن الخير والعدالة والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤