بين أمريكا الجنوبية والشمالية

قمت مرة من الإسكندرية إلى بلاد المغرب جميعها، فبلاد الأندلس، فشمال غربي إسبانيا، ومنها ركبت الباخرة إلى أمريكا الجنوبية، وقد يبدو هذا البرنامج عجيبًا، وسبب ذلك أني أردت أن أرى مبلغ أثر الحضارة العربية في تلك البلاد التي نزلها العرب، فإنهم بعد أن حلوا المغرب انتقلوا إلى الأندلس حيث ازدهرت حضارتهم وبلغت أوج عزها، فطبعوا البلاد بطابع ميَّزَ الأندلسيين على سائر الأوربيين، وهؤلاء هم الذين كشفوا أمريكا واستعمروها ونزلوا إليها زرافات لا تزال سلائلهم تمثِّل السواد الأعظم هناك.

بدا لي لما زرت تلك البلاد أن الطابع العربي يسودهم جميعًا حتى في أقاصي بلاد أمريكا الجنوبية من البرازيل إلى الأرجنتين إلى شيلي إلى بيرو، فظهرت لي الملامح العربية واضحةً في تقاطيعهم وخمرية ألوانهم وسمرة عيونهم، وبخاصة النساء اللواتي يلبسن أردية شرقية مهفهفة أفاريزها هادلة منتفخة بعضها فوق بعض، وغالبهن يرخي على رأسه «الطرحة» السوداء فوق تاج من العاج وكأنه شبه حجاب، وفي رقصهن لا يخاصرن الرجال بل يرقصن حلقات وحدهن والصنج بأيديهن.

أما الموسيقى فأحبها لديهم القيثار شبيه العود برنينه الضخم، ويألفون نظام «التقاسيم» والفتيات يقفن ويختلسن النظرات من وراء الأبواب وهي نصف مغلقة، فإن نظرت إليهن انزوين وراءها أو أغلقنها. ومغازلات الشباب لهن من دون النوافذ بالقيثار أمر مألوف، ولا تُستنكَر المغازلة العلنية؛ إذ تُعَدُّ نوعًا من الإطراء المستحب، ولا يجوز للغادة أن تحضر مجالس الرجال عارية الأذرع، ولا يباح للصديق زيارة منزلٍ ما إلا في حضرة صاحبه، والزواج يتم بدون تعارُف سابق بين الزوجين، ويظل الشاب في كنف أبيه وهو متزوج.

وهم كرام مؤدبون لا يمر أحدهم على الغير دون أن يُقرِئهم التحية، سواء أعرفهم أم لم يعرفهم، وعند الطعام أو العطاس يظهر لك تمنياته الطيبة، كأن يقول لك «بالصحة»، والسلام عندهم عناق متواصل، وكثير منهم يعتقد في التشاؤم والتفاؤل، فتراهم يعلقون سعف النخيل فوق بيوتهم الفاخرة تيمُّنًا، وهم يقدرون الأدب والشعر التقدير كله، وفي لغتهم بقية من العربية في كثير من الألفاظ والحروف، خصوصًا حروف: ث C، خ J، ذ D.

أما بيوتهم وهندستها فلا تزال عربية إلى حد كبير، فمدخل البيت يكسوه القيشاني ويلتوي على نفسه كي يحجب الداخل عن أنظار المارة، ويتوسطه فناء رئيسي مكشوف تطل أغلب الحجرات والنوافذ عليه في أعمدة وبوائك نحيلة تزيِّنها الزهور والنافورات والمصابيح التي تحكي مصابيح المساجد، وجميع النوافذ تغشاها شباك الحديد الثقيل.

وكنت ألمس وقار العرب وأدبهم ظاهرًا، وكانوا يجمعون بين الأرستقراطية في مظهر السيادة والإمارة والأبهة، وبين الديمقراطية في رفع الكلفة والجمع بين الغني والفقير في صعيد واحد.

أليس في كل ذلك ما يؤيد سلطان العرب وسيادة عناصر حضارتهم التي بزت غيرها، وكانت أقرب مثالًا من نفوس الناس وأصلح بقاءً من غيرها؟

وما كادت ترسو الباخرة حتى وقعت لي مفاجأة كادت تذهب بآمالي في دخول تلك البلاد؛ تقدَّمَ الأطباء للكشف على المسافرين وبدا لهم أني مصاب بالرمد الحبيبي «تراكوما»، وعلى ذلك رفضوا دخولي تلك البلاد وحتموا عليَّ البقاء بالباخرة حتى تعود بي من حيث أتت، ولكن الله قدَّرَ لي أن أنجو من هذا الموقف بخطاب من وزير شيلي المفوض إلى وزير المعارف هناك، وقصة هذا الخطاب أني لما تقدَّمت أطلب التأشير على جواز السفر إلى شيلي، طلبَتْ مني السفارة أن أقدِّم شهادات عددها تسع، بعضها يثبت أني موظف، والآخَر أني حسن السمعة، وأعجبها اثنتان: واحدة بأنه لم يسبق لي احتراف التسول، والأخرى بأني لم أشتغل بتجارة الرقيق الأبيض قطُّ؛ فحصلت على كل الشهادات عدا هاتين وطال بي الانتظار، وفوتوا عليَّ باخرتين، فثُرْتُ وقابلت السفير محتجًّا على تلك المعاملة، فطيَّبَ خاطري واعتذر بأن القانون يحتم ذلك، وقال بأنه أساء الظن بي؛ إذ التبس عليه الأمر وخالني أنتسب إلى أسرة ثابت ثابت متعهد السماد الألماني أكبر منافس لنترات شيلي، وعرض ترضية لي خطابًا لأخيه وزير معارف شيلي ليمكِّن لي زيارة المعاهد هناك، والخطاب كُتِب بالإسبانية وهي لغة أمريكا الجنوبية، تذكرت وأنا في موقفي الحرج هذا الخطاب فبادرت بإخبارهم بأني لا أقصد الإقامة في بلادهم؛ لأني موفد بمهمة رسمية إلى وزارة معارف شيلي، وها هو الخطاب الذي يؤيد صدق ما أقول! فلما قرءوه مدوا إليَّ أيديهم مرحبين مصافحين وصرحوا لي بالمقام عندهم ما شئتَ؛ لأنهم يجلون رجال التعليم الإجلال كله، وبذلك أنقذ الموقف وأتممت رحلتي من غرب إسبانيا إلى أمريكا الجنوبية. ولبثنا في المحيط الأطلنطي المائج الرهيب اثني عشر يومًا حتى ظهر أول قبس من الشاطئ الأمريكي، وفي تمام اليوم الرابع أقبلنا على خليج ريودجانيرو عاصمة البرازيل، فبدا آية من الإبداع والجمال تميِّزه عدة مخاريط منثورة هائلة ومن صخر الجرانيت، ويسمون بعضها أصابع الإله تقديسًا لجمالها، وعلى أحدها أُقِيم تمثال للمسيح من رخام أبيض طوله أربعون مترًا، وارتفاع تلك الصخرة ٢٥٠ مترًا، وما كان أجمل منظر الخليج أثناء الليل في شكله الهلالي البديع الذي كانت تتلألأ عقود مصابيحه وعددها مائة ألف. نزلنا البلدة وتسلقنا كثيرًا من مرتفعاتها، وكنا نسير وسط الأحراش والغابات الكثيفة بفواكهها التي لا تدخل تحت حصر، أذكر من بينها نوعًا من الموز طوله لا يعدو إصبع الخنصر وحلاوته فوق كل وصف، أما الناس فكان جلهم من السود المتأنقين في الهندام المثقفين في العقول، وهم من نسل أجناس ثلاثة: البرتغاليين الأذكياء، والسود المعروفين بحرارة القلب وحب الأسرة، والهنود الحمر ذوي العواطف الوثَّابة والمكر الشديد، وما كنت إخال ريو بتلك الفخامة والعظمة من قبلُ.

قمنا إلى سانتوس التي شابهت إسكندرية القديمة، ثم استأجرنا سيارة مسافة ستين كم إلى سان پاولو، فأخذنا نصعد حافة هضبة تكسي جوانبها بالغابات البديعة، ولما كنا على سطحها الذي قارب ألف متر في الارتفاع بدت تربة الأرض ناعمة حمراء تتخللها المستنقعات والأحراش، وتلك التربة الحمراء Terra Roxa خير جهات العالم في إنتاج البن الذي كنا نرى شجيراته تملأ الآفاق في ارتفاع يناهز طول قامة الرجل، وكان الثمر يكاد يكسو أعواد الفروع كلها في حجم كالنبق الصغير، وفي داخل كل ثمرة حبتان من البن، والبرازيل تمون العالم بنحو ٧١٪ من حاجته من البن، وقد كان الفلاحون هناك يضجون للهبوط الشديد الذي أصاب أثمان البن فحلت بالبلاد كلها ضائقة مالية قاسية؛ لأنه المحصول الرئيسي هناك كالقطن عندنا، وله هناك وزارة تُسمَّى «وزارة البن»، وكانوا يحرقون البن في الحقول لكي يقل المعروض في الأسواق فيعلو الثمن، ونفقات المعيشة هناك زهيدة جدًّا: أذكر أول مرة أني دخلت هناك مطعمًا وأكلت أكلًا شهيًّا، وأخيرًا قدَّمَ لي الخادم كشف الحساب، فكان «سنكو ميل رايس» أي خمسة آلاف رايس، فخفت من ضخامة هذا المبلغ، وإذا به كله يوازي ستة قروش مصرية فقط. زرت في سان پاولو معهد الأفاعي ويسمونه «بوتانتان»، فراعتني به آلاف الحيات في أحجام مختلفة وألوان ونقوش جميلة تربى كلها في حظائر لأخذ السم منها، تقدَّمَ الحارس منها وأخذ يجرها بعصاه الحديدية المعقوفة، ثم أمسك برأس الحية، ولم تكد تفتح فمها حتى وضع تحت الفك قضيبًا، ثم ضغط بملقط على جوانب اللثة فسال السم الشفاف في قطرات غزيرة، ثم اقتلع نابها الذي بدا دقيقًا كالإبرة وألقى بالحية في خندق ماء هناك، وفي جانب من المكان معمل للمركبات التي تُتَّخَذ من ذاك السم، وهو أكبر مصدر للسم في العالم.
figure
أكداس البن الذي يُحرَق في سان پاولو.
figure
قد تزيد الأفعى على قامة الرجل.
قمنا إلى أراجواي، ثم بونس أيرس عاصمة أرجنتين، فهالني ما رأيت من فخامة الأبنية وتنسيق المتنزهات وامتداد الطرق اللانهائي، أذكر من بينها شارعًا اسمه «رڨاداڨيا» طوله عشرون كم، فهو أطول شوارع الدنيا، وكان الفندق الذي حللته لسوريٍّ في شارع اسمه «ركنكيستا»، جل ملاكه وتجاره من الشوام الذين يتكلمون العربية، فكنتُ أشعر وكأني في وطني خصوصًا عندما كانت تُقدَّم إليَّ الأطعمة الشرقية كالملوخية والفول المدمس الذي ما كنت إخال أني سآكله في بلاد الدنيا الجديدة. والنزلاء الأجانب كثيرون جدًّا وأكثرهم من الطليان، ثم الشوام، ثم الألمان، وكنت أسمع الناس يتكلمون لغات مختلفة في الطريق: هذا بالإنجليزية وذاك بالفرنسية والآخَر بالإسبانية أو العربية وهكذا فكأنه بلد عالمي، أما مجون الليل وأضواؤه وملاهيه فيكاد يفوق باريس، والبلدة تُسمَّى بحق باريس أمريكا، ومستوى الثقافة في البلاد مرتفع جدًّا، فعدد الجرائد ٥٢٠ وبعضها يظهر فيما بين ٤٢، ٥٢ صفحة يوميًّا، ومنها ما له ثلاث طبعات في اليوم الواحد، وقد أتيحت لي زيارة الجامعة وتبيَّنَ لي أن عدد المدارس الابتدائية والأولية ١١ ألف مدرسة طلبتها مليون، والثانوية ٢٠٦ بها ٤٥ ألف طالب، والجامعات خمس أكبرها بونس إيرس. دهشت لهذا التقدم ولما يمضِ على استقلال البلاد إلا قرن وربع قرن، ولم يزد السكان على ١٢ مليونًا، ولن أنسى موقفي من بعض شبان الجامعة حين بدرني قائلًا: أظن أن حالة التعليم في مصر لا تزال متأخرة؟ فسكَتُّ قليلًا وقبل أن أجيب قال: أظن أن نسبة الأمية في مصر ٥٠٪، فقلت على الفور: تقريبًا، وأنا في شدة الخجل.
figure
تربية الأفاعي في بوتانتان بالبرازيل لأخذ السم منها.

والقوم يفاخرون بوطنهم إلى حد الجنون، وهم يقولون عن أنفسهم بأنهم أرق الشعوب وأكثر بلاد الدنيا تقدُّمًا ورقيًّا.

figure
ميدان البرلمان في بونس أيرس.

قمنا بالقطار نعبر القارة إلى جبال الإنديز والمحيط الهادي، فبدا الريف متسعات من الحقول شبه المهملة، يكسوها العشب البري ويندر فيها الشجر، وتلك سهول الپامپاس المملة مصدر ثروتهم، فحيوان الرعي عماد مواردهم.

والناس يمتلكون مساحات شاسعة يسمونها Estancia وهم خليط من الهنود الحمر والأوربيين، وأمهر الرعاة يسمون «الجوكا» ويشبهون فلاحي مصر في بساطة معيشتهم؛ فبيوتهم أخصاص حولها الزرايب والطرق متربة، وبقدر ما كانت الوجاهة والتأنُّق بين سكان العاصمة بدت لي البساطة في الريف، وهم على جانب كبير من الكرم، أذكر أني زرت عائلة ريفية في قرية مندوزا فكانت كراسي الدار من عظام جماجم الثيران، والماء في براميل كبيرة والشرب في قرون الحيوانات، ثم قُدِّم لي الشاي المعروف «بالماتي» ومنقوعه أصفر مخضر، وشربناه بغير سكر، وفي قرعة مستديرة لها فتحة تضع فيها اﻟ bambilla، وهي أنبوبة معدنية آخِرها منتفخ مثقب كالمصفاة، ولما حان وقت الطعام أُوقدت النيران في العراء ووضع الرجل «سيخًا» طويلًا فيه قطعة كبيرة من فخذ الثور بجلدها وشعرها، وهم لا يأكلون اللحم إلا بجلده، وأمسك البعض بالقيثار وبعض الفتيات قمن يرقصن حول النار، وكئوس ألماتي تُقدَّم بين آونة وأخرى، وكنت أطرب جدًّا لنغماتهم؛ لأنها إسبانية نصف شرقية، وكانوا يترنمون بأغنية الطعام ويصيحون Carne con Cuero أي ما ألذ اللحم بجلده. وقد تسلمت خنجرًا وأخذ كل منا يسلخ به شرائح اللحم ويأكلها، وقد وُضِع أمامنا إناء كبير به طعام يحكي «العصيدة» من الذرة، كان الواحد يضرب بملعقته وسط الإناء ويجرها إليه، ثم يرفعها إلى فمه ويعقب وراءها اللحم.

والزراعة في البلاد لا تزال متأخرة؛ لأن اعتمادهم على الرعي، لكن الدولة أخذت تشجِّع الزراعة وتساعد النزلاء الوافدين من الأجانب للقيام بهذا الغرض، وتسهل لهم شراء الأرض بثمن بين ١، ٣ جنيهات للفدان، وبالتقسيط لمدد بعيدة، وقد تُقدِّم الحكومة لهم قروضًا مالية. وفي بونس أيرس رأيت دار المهاجرة أُعِدَّتْ لأربعة آلاف نزيل يقيمون خمسة أيام مجانًا هم وعائلاتهم على حساب الدولة، حتى ينقلوا إلى الأرض التي سيزرعونها، ويعفون جميعًا من الجمارك ونفقاتها.

figure
ترويض الخيل البرية في البامباس.

وصلنا سفح جبال الإنديز عند بلدة مندوزا في ٢٠ ساعة، وهي تحكي حلوان تمامًا، وبعد قضاء يوم فيها قمنا بقطار الجبال لنعبر الإنديز فأخذنا نسير في مدرجات شبه صحراوية، وكان حيوان اللاما والجاناكو يمرح على تلك المرتفعات، وبعد ممر أسپاياتا بدأت عظمة الجبال تبدو في تعقيدها وذراها التي تجللها الثلوج، تزينها قمة أكونكاجوا أعلى قرى الأمريكتين «فوق ٧٠٠٠ متر»، هنا سار القطار على القضبان المسننة؛ لأن المنحدر وعر جدًّا، وكانت الثلوج تكسو الأرض إلى علو مترين، وقد زُوِّدَتِ القاطرة بجهاز لتكسير الجليد وإخلاء الطريق منه، وكم جزنا من أنفاق وحواجز أقيمت لاتقاء كثافة الثلوج، وعند الحدود بين الأرجنتين وشيلي دخلنا نفقًا طوله ٣٣٠٠ متر، وارتفاعه عن سطح البحر ٣٣٠٠ متر أيضًا. ولما وصل القطار وسطه سمعنا صليل أجراس الحدود بين الدولتين تدق من تلقاء نفسها بمجرد مرور القطار على أسلاكها، ثم أخذنا بعدها في الانحدار السريع، وعند قرية لوزنديز بدا على بعد أول قبس من بريق المحيط الهادي، وكانت صفحة الجبال هناك أغنى بالنبت والشجر والمنحدرات المائية، وأكثر قرى وسكانًا من المنحدر الشرقي.

دخلت سنتياجو عاصمة شيلي، فأدهشني رخص المعيشة بها؛ فأجر الفندق الفاخر للنوم والغذاء ١٨ پيسو يوميًّا، أعني ١٥ قرشًا، وأجر الترام ملليمان، وكذلك مسح الحذاء، وثمن الحذاء الجيد عشرون قرشًا، وصندوق السجاير بخمسة مليمات، هذا على عكس الغلاء الفاحش الذي ألفيته في الأرجنتين؛ ولذلك لم أستغرب لمظهر الفقر والبساطة هناك، فالشوارع تغص بالمتسولين وماسحي الأحذية الحفاة القذرين، على عكس مظهر الغنى والفخفخة الذي رأيناه في بونس أيرس.

قمنا إلى فلبرويزو على المحيط الهادي فبدت بلدتين: العليا فوق الجبال للسكنى، والسفلى على مدرجات البحر للتجارة وفيها الترام، أما العليا فنصلها بالروافع الكبيرة نظير مليم واحد، وغالب البيوت من الخشب اتقاء الزلازل الكثيرة هناك، ويظهر أن روعة الجبال والمحيط إلى كثرة العواصف والزلازل هي التي جعلت الناس أميل إلى الهدوء والتقطيب، فقلما ترى أحدهم مبتسمًا، وحتى الأطفال يلعبون في الطريق دون أن تسمع لهم جلبة أو ضحكًا.

قامت بنا الباخرة «سنتا كلارا» تعرج على ثغور الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية، ورسونا ببلاد صحراء أتكاما مثل أنتوفجاستا وتوكوپيليا التي أُقِيمت في قرى صغيرة لاستخراج ما حولها من نترات الصودا، وتلك أغنى جهات الدنيا بذاك السماد الذي وقفنا يومًا كاملًا نشحن باخرتنا من بلوراته البيضاء التي تشبه الملح، ثم وقفنا ببلاد پيرو وأخذنا القطار ٨ ساعات إلى بحيرة تتكاكا أعلى بحيرات العالم العذبة «فوق ٤٠٠٠ متر»، وفيها ركبنا الزوارق التي تسمى balsas بشراعها العجيب من شرائح الخشب، وكان البرد قارسًا، وهنا شعرت لأول مرة بدوار شديد وصداع وقيء وضعف، ثم أخذ الدم يتقاطر من الأنف، وذلك من أثر الارتفاع الشديد الذي سبَّب خفة في الضغط الجوي. أما سحن الناس فمنفرة للغاية، ترى أفواههم مفتحة دائمًا كالبلهاء وصدورهم مقوسة، وذلك من أثر خفة الضغط أيضًا، والقوم كلهم يدمنون مضغ ورق أخضر بيضاوي يُقطَف من شجرة قصيرة كنا نراها تستظل بشجر الموز، وهذا هو شجر الكوكا الذي يُؤخَذ الكوكايين منه، وقد رأينا مصنعين له في بلدة كزكو هناك. رست بنا الباخرة على كلاء وأكبر ثغور پيرو، ومنها أخذنا الترام نصف ساعة إلى ليما عاصمة البلاد، فراعتني عظمتها وفخامة أبنيتها وتنسيق ميادينها تزيِّنها التماثيل البديعة، وقد زرت الكتدرائية التي أسَّسها الطاغية الإسباني «بتزارو» بعد أن غزا البلاد وقضى على مدنية الأنكا، وكان مثلًا في الوحشية والغلظة، وهناك تُعرَض جثته محنَّطة، وكانت محكمة التفتيش تعقد في ميدان هذه الكنيسة وتأمر بالناس حرقًا وتعذيبًا، وقد حضرت هناك حفلة صراع الثيران لأول مرة، وأخذت مقعدي من المدرج الهائل، ولما حان موعد اللعب دُقت الطبول ودخل الفرسان يطوفون بالحلبة، ثم انتحوا جانبًا ودخل ثور هائج وأخذ الرجال يعاكسونه كلٌّ بحرامه الأحمر، ولا يكاد الثور يهاجم أحدهم حتى يعاكسه رجل آخَر، ولما أن أجهد الثور أظهر الرجل سهامه وأخذ يهاجم الثور ويضرب بالسهم في كتفه ويتركه عالقًا به فيؤلمه كلما أراد الحركة، وقد زادت السهام المرشوقة في كتف الثور على عشرين، هنا خارت قوة الثور وأخذ يترنح وهو غاضب والدم يسيل من كتفه، وأخيرًا هاجمه الرجل وبيَّت سيفه في مقتل منه، فخَرَّ الثور صريعًا وسط تهليل القوم، وقد انهالت القبعات على ذاك البطل، وانصرف الجميع مغتبطين لتلك الوحشية التي لم أشهد مثلها من قبلُ.
figure
شوارع ليما الفاخرة.

قمنا إلى إكوادور جمهورية خط الاستواء، ووقفنا بثغر جوايا كويل وبيوته من أكواخ خشبية كلما نظرت داخل بيت منها ألفيت السكان من عرايا السمر يتصبَّب العرق من أجسامهم، ولا يكادون يستطيعون الحركة؛ لأن حرارة المكان خانقة مجهدة، والقوم همج متأخرون غذاؤهم لا يكلفهم شيئًا، فهو من الكاكاو صباحًا والموز ظهرًا والأناناس ليلًا، وتلك أكثر غلات البلاد ولا ثمن لها، وقد شحنت باخرتنا من الموز ٢٤ ألف عرجون نقلناها معنا إلى نيويورك، وقد أثَّرَ هذا الفقر في رخص الأثمان، فكنتُ أدفع قرشين ونصفًا ثمن الأكلة الشهية وملليمًا للترام.

figure
الباخرة تشق بنا قناة بناما.
قامت الباخرة إلى قناة بنما عند بلدتي «بالبوابناما» حيث بتنا ليلتنا، وفي الصباح المبكر دخلنا القناة وكانت ذات شقين متجاورين تفصل بينهما الأرصفة، زُوِّدت بالمتنزهات والمصابيح والروافع، وفي مكان من تلك الأرصفة رُبِطت باخرتنا في ست قاطرات كهربائية على الجانبين — وتُسمَّى Mules — وأقفلت الأهوسة فأخذ الماء من تحتنا يعلو والقاطرات تجرنا حتى أدخلتنا هويسًا آخَر، وهي تعلو بنا درجات حتى بلغنا ٢٥ مترًا فوق سطح المحيط، ثم نزلت بنا هذا الارتفاع بالطريقة عينها حتى دخلنا المحيط الأطلنطي، ومناظر المروج والجبال من حولنا ساحرة، وقد تمَّ ذلك كله في سبع ساعات، وقد بالغ الأمريكيون في تنسيق المكان ونظافته اتِّقَاءَ خطره الصحي؛ لأنه كان أكثر جهات الدنيا وباءً، فأضحى اليوم متنزهًا صحيًّا بديعًا، وقد كلَّفها حفرها وإعدادها هكذا زهاء ١٤٠ مليون جنيه. رسونا على «كرستوبال كولون» في الطرف الآخَر من القناة، ثم قمنا نعبر بحار جزائر الهند الغربية، وقد أخذ الدفء يزيد وكان الماء كأنه يصعد بخارًا حارًّا من أثر تيار الخليج الساخن، وفي ستة أيام كاملة أقبلنا على نيويورك.

نيويورك

حللنا الجمرك وكان التفتيش في سهولة لم أعهدها وسرعة مدهشة بفضل الدقة الشديدة وحسن النظام، ونزلت فندق «إنديكوت» في شارع «٨١»، وهو قصر فاخر في ثمانية أدوار، لكن رغم ذلك كان يبدو قزمًا متواضعًا إزاء ما يحوطه من ناطحات، وما كدت ألقي بنظرة على الخريطة حتى بدت المدينة منظَّمة، طرقها تمتد متوازية ومتعامدة، وتحصر بينها كتلًا متساوية الامتداد، وعدد أرقام الأبنية واحد في كل كتلة بصرف النظر عن عدد البيوت؛ فبعض المباني مثلًا يحمل أكثر من رقم واحد، والبعض يكون جزءًا من رقم، وأنت إذا نظرت إلى المسكن رقم ٢٥٠ مثلًا كانت جميع البيوت التي تحمل ذاك الرقم في جميع الشوارع على استقامة واحدة، وليس للشوارع أسماء بل أرقام تفوق الثلاثمائة: شرقية وغربية، عليا وسفلى E. and W. Up and Down.
نزلت أجوب بعض جهاتها فأذهلني ما رأيت: السيارات تكاد تسد الطرق سدًّا، والمارة يتلاصقون فوق أفاريز الطرق وهم سائرون في عجلة مدهشة، ووسائل النقل متعددة أخصها القطار المرتفع Elevator ويشق أغلب الشوارع الرئيسية، وهو قائم على شباك من حديد غليظ بمحاذاة الدور الثالث من البيوت، وتصعد إلى كل محطة بدرج مرتفع، ثم نوع آخَر يسير تحت الأرض subway في سرعة مخيفة ويفضِّله رجال الأعمال، ثم ترام الطريق العادي، ثم الأوتوبيس، وأنت لا تشتري تذكرة للدخول لأن الوقت ثمين والتزاحم شديد، لكن ألقِ بالقرش Nickel في الصناديق أمامك وادفع الحاجز تراه يدور بك إلى مكان القطار، ومتى وقف القطار فُتِحت الأبواب من تلقاء نفسها، ثم دقت الأجراس وعادت فأغلقت، كل ذلك بدون حارس أو رقيب، وخير ما يميِّز نيويورك ويملك على السائح لبه ناطحات السحاب، وتلك في نظري تمثِّل العظمة والفخامة والفن لكن يعوزها الجمال؛ إذ تراها كتلًا غير متجانسة تشمخ إلى السماء بلونها الأغبر الذي أكسبها إياه تزاحم البلد وكثرة مصانعه وما تصعد من هباء ودخان، وقد أرخت تلك النواطح على الطرق حجابًا من ظلماتها، فبدت قاتمة وكادت تمنع ضوء الشمس، وترى الطرق بينها مختنقة رغم اتساعها العظيم، ولقد حاولت مرارًا أخذ صور فتوغرافية لبعض تلك الطرق، فكان يعوزها الضوء حتى في رابعة النهار، إلى ذلك فإن تلاحق السيارات وحركة المرور كانت تسد المنظر، لذلك تؤخذ غالب الصور من السماء، صعدت بعض تلك الناطحات وأروعها وأسماها Emp. S. Buil.، وهو أعلاها وأحدثها، أدواره ١٠٢ وعلوه ٤٠٤ أمتار، وهو يشغل مساحة هائلة من الأرض، وكلما علا عشرات الأدوار ضاقت مساحته وتقاربت جدرانه، وقد قُدِّرت مساحة أدواره كلها بثلاثة وستين فدانًا إنجليزيًّا، وجدران ذلك البناء تكسوها طبقة برَّاقة من مرمر أو رخام تربط ما بين قطعه صفائح من معدن أبيض، يمتد مع الأحجار إلى قمة البناء فيكسبه بريقًا جذَّابًا، وأرضه يكسوها الرخام يحده النحاس الأصفر. هنا أخذت أطوف بالمكان أستعرض ما فيه من متاجر وسلع ومقاصف، ولما أعياني السير قصدت إلى الروافع لتقلني إلى أعلاه ودفعت ريالًا أجر الصعود — وتلك ضريبة على الأجانب تدر أرباحًا طائلة؛ لأن سيل الزائرين لا ينقطع صباح مساء، وتلك الروافع ترص عشرات متجاورة، وعلى كل واحد كُتِب بالضوء الأدوار التي يقف عليها، وبعضها «إكسبريس» لا يقف إلا كل عشرة أدوار مرة، وبعضها مزدوج يفتح على دورين في آنٍ واحد. وصلت القمة وهناك بعض المقاهي الفاخرة جلست فيها أطوح النظر يمنة ويسرة والعقل حائر في تلك القدرة المالية التي مكَّنَتْ أولئك من إقامة تلك الشوامخ، فقد كلَّفهم هذا البناء وحده ثمانية ملايين جنيه، ويتعمق أساس البناء في الأرض مائة متر، ويقدرون إيجار القدم الواحدة — الشبر — بخمسة ريالات؛ أي إن إيجار الغرفة الصغيرة مائة جنيه في العام، ومجموع سكان هذا البناء ٢٥ ألفًا فكأنه مدينة صغيرة.
figure
ربوة الكركڨادو في ريودي جانيرو نصعدها بالترام المعلق.

وما إن أقبل الليل حتى كادت تلتهب المدينة ضوءًا، وبخاصة عند تقاطع شارعي «برودوي، ٤٢» مقر الملاهي الفاخرة، والأمريكيون معروفون بالإسراف في وسائل الإعلان، كنت أنظر فأرى مياهًا وسوائل تتدفق، وأناسًا تجري وتلعب، وحيوانات تتحرك، ومخطوطات تتابع كل ذلك من النور المتوهج في ألوان متغيرة بين لحظة وأخرى، ويظل هذا الليل كله، ودور الملاهي والمطاعم وبعض المتاجر مفتوحة طول الليل، وتُسمَّى تلك البقعة بالطريق الأبيض العظيم، إذا نظرته من قمة الناطحات شابَهَ حفرة مشتعلة بالنيران.

دخلنا تياترو Radio city في ناطحة ركفلر، فسرت في أبهاء وممار تُكسَى بأفخر البسط وتُبطَّن جدرانها بالمرمر، والصالة بها ٦٢٠٠ كرسيٍّ كُسِيت أرضها بالقطيفة الثقيلة، وما كاد دور اللعب الأول ينتهي حتى دار المسرح الهائل حول نفسه وظهر منظر جديد عليه جمهور هائل من اللاعبين يفوق المائة، ثم ما لبث أن غاص المسرح بهم وظهر أعلاه مسرح آخَر بجمع جديد من الممثلين. وكانت الأضواء الملونة تشع على اللاعبين فتغيِّر من ألوان ملابسهم، وكم هالتني العجلة التي لاحظتها أينما سرت، فالناس يسيرون بسرعة، فإذا سألت واحدًا شيئًا أجابني وقدماه تسرعان في السير، فالوقت لديهم ثمين، وحتى المقاهي والمطاعم لم أجد بها مقاعد، بل كنتُ ألقي بقطع النقود في الصندوق فيملأ الإناء بما أشتهي، والطعام فيها طازج ساخن رخيص، وتتكلف الأكلة نحو عشرة قروش. وكم هالني إقبال الناس على الصحف، وكنت أينما حللت أرى الجرائد مطبوقة وقد تركها صاحبها بعد أن تصفَّحَها، ولمَن شاء أن يقرأها في القطار أو الترام أو على رصيف الطريق وحتى في سلة المهملات، وكثيرًا ما كنت أرى الواحد يفتح صندوق المهملات ويأخذ جريدة يقرؤها، ثم يعيدها إلى الصندوق الذي يلقاه في طريقه، والبلدة في الواقع ثلاث مدن فوق بعضها: تحت الأرض وفي السطح وعلى متن الجو؛ أذكر مرة أني كنت أقف على رأس أحد الطرق أشاهد حركة المرور، وإذا بدخان وبخار يتفجر في زمجرة تحت قدمي، ففزعت وخلته بركانًا أو حريقًا، وإذا بتلك نوافذ من شباك الحديد أُعِدَّتْ لتصريف الهواء الفاسد الحار من المدينة والطرق تحت الأرض، ثم تعوضه المضخات بأهوية سليمة منعشة باردة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤