عبر أمريكا من الغرب إلى الشرق

أقبلنا على غرب أمريكا وافدين من هنولولو، وفي أربعة أيام رسونا على سان بيدرو الثغر الصغير، وأقلنا الترام إلى لوزانجليز أكبر بلاد غرب أمريكا؛ سكانها يزيدون على مليون وربع، وهي فاخرة تكاد تحكي نيويورك في نظامها ونواطحها وحتى في شارع الملاهي المسمى «برودوي»، ومن أجَلِّ ما بها مزرعة للسباع تروض فيها نحو مائتي أسد، وتدرب على أعمال السينما ويكاد الكثير منهم يكون أليفًا، ثم مزرعة التماسيح تُربَّى فيها للغرض نفسه، وعمر بعضها مائة عام، وفي البلدة ستار مُعَدٌّ بعدد ١٠٥ آلاف مقعد، أما عن امتداد بساتين الفاكهة التي اشتهرت بها كلفورنيا من برتقال وتفاح فذاك ما لا نظير له في أي مكان، وحولها تقوم منابع البترول في غابة من المدافن ذات المنظر المنفر.

أقلنا الترام إلى عاصمة السينما في العالم، وهي: هوليوود، فهي تخرج ٨٥٪ من أفلام الدنيا، وهي محط آمال الناس ممَّن آنس في نفسه الجمال أو القدرة الفنية، ووجاهة الناس والمباني والطرق لا تحد وبخاصة حياة الليل حين يبدو الجمال الفائق في الوجوه والأجسام والأزياء، وهل أنسى روعة شارعي هوليوود بوليڨار وهوليوود أڨينو؟ والمعيشة هناك متكلفة غالية إلى أقصى حد، وقد وُفِّقت إلى زيارة بعض الاستديوهات أذكر منها استوديو شارلي شابلين، وزرت بعض النجوم في قصورهن وأذكر منهن ماريون ديڨر وآن هاردنج، وحضرت بعض الروايات في الملهى الصيني وفيه تُعرَض الأفلام لأول مرة، وهندسته صينية وعلى أرضه أسماء كل النجوم بخطهم وهو محفور على الصخر، وحي السكن فوق الجبال واسمه بيڨرلي، وهو آية في الروعة وحسن التنسيق، وقد حضرت بعض التمثيل في المسرح المنقور في الجبل والذي يصورون فيه الأفلام في الهواء الطلق، وأمامه تمد المقاعد لمَن أراد بدون مقابل.

figure
الأنوار الخاطفة في حي برودواي بنيويورك.

إلى سان فرنسسكو

قمت بالباخرة وكنت آثرت دخول أمريكا من الغرب؛ لأن الأطباء أقل قسوة في الكشف من رجال نيويورك.

فأذهلتنا روعة الميناء بأجوانها وجزائرها ومنحدراتها ترص عليها مباني أحياء البلدة الهائلة، ومررنا في المدخل بجزيرة اللصوص التي يُسجَن بها رؤساء العصابات من قطَّاع الطرق المشهورين في شيكاغو وغيرها، وقلب المدينة شارع Market بناطحاته الهائلة، أذكر منها ناطحة التلفون من ثلاثين دورًا، ويعمل بمكاتبها ١٦٠٠ موظف، والمدينة مشهورة بفنادقها ففيها ١٥٠٠ فندق كبير و٣٠٠ مطعم فاخر، مع أن سكانها لم يبلغوا ثلاثة أرباع المليون، على أن ٥٥٪ منهم روَّاد شوارع وفنادق، وعلى ذلك فحرمة التربية المنزلية تكاد تكون مهملة، والمتنزه الرئيسي «القرن الذهبي» مساحته ١٠١٣ فدانًا، ولعل أغرب ما هنالك المدينة الصينية تحوي أكبر مجموعة من الصينيين خارج بلاد الصين، فكنت أسير في الشوارع وكأني في پكين تمامًا حتى الطعام ودور الملاهي، وبالبلدة جامعة كبيرة بها ٢٢ ألف طالب واسمها جامعة بركلي، ويعدون فيها دراسة صينية لعدد ١٦٠٠ طالب، ومما عجبت له بعض المصارف التي تفتح أبوابها طول الليل، ومع ذلك لم تخلُ البلدة من المتسولين والفقراء والعاطلين.

سياتل

قمت شمالًا بالقطار إلى سياتل، وكانت غابات شجر Red wood الهائلة تسد الطريق وتقوم حولها مقاطع الخشب ومناشره، وفي تلك الجهة أعلى أشجار الدنيا جميعًا قد تتسع فجوة الشجرة لمرور عربة، وقد يزيد طولها على خمسين مترًا، وشوارعها بالأرقام، وفي غاية الوجاهة والنظافة، وقد ركبت سابحة أربع ساعات إلى ڨكتوريا عاصمة جزيرة فانكوڨر في كندا، فبدت هادئة مبانيها وطيئة تخالف بلاد الولايات المتحدة، حتى إني شعرت بالفرق في كل شيء، وفي أربع ساعات أخرى وصلت بالسابحة إلى مدينة فنكوڨر، تحفها الأشجار الهائلة وتزينها الزهور الجذابة، وقد كثرت الكنائس وزاد المبشرون جدًّا وقلت الوجاهة وبدت رقة الحال على الكثيرين.

سافرت بالقطار عبر الجبال بوديانها وغاباتها وثلاجاتها، ودهشت لما رأيت نهر فريزر ثلاثة أمثال النيل في الاتساع، والخشب يعوم في المجاري أينما سرت، وبعد ١٨ ساعة دخلنا چاسپر پارك: وسط الجبال، واخترت فندق الأهرام والمكان حرم قومي لا يباح امتلاكه ولا صيد الحيوان به ولا قطع النبات ليظل آية طبيعية يستمتع بها مَن يرغب في الراحة والسكون، ومساحته ٤٢٠٠ فدان، ومن غريب الحيوان الذي يمرح حرًّا الدب والموس والألك، وللهنود الحمر عدة أشباح يعبدونها ويكثرون حولها، وكان النهار طويلًا لا تغيب الشمس إلا في العاشرة مساءً.

إلى وينج

قام بنا القطار وعبر المنحدرات في شجيراتها القصيرة، ثم دخلنا سهول الغلال وامتدت البريري إلى الآفاق في عشبها القصير وحقول قمحها الذي كان على وشك الحصاد، وتقوم هنا وهناك مخازن القمح في مستطيلات شاهقة يسمونها الروافع Elevators، والمنطقة عارية عن الشجر والآبار ومتوسط سعة المزرعة ٦٠٠ فدان حولها الأسوار، والدولة تمنح مَن يتقدَّم لإصلاح الأرض ربع ميل، أي نحو ١٦٠ فدانًا لمدة ثلاث سنين، فإن نجح في إصلاحها وزرعها تُرِكت له بسعر خمسة جنيهات للفدان. وعجبت أن القمح هناك يُبذر في مايو ويُحصد في أغسطس، أما في الشتاء فتُكسَى الأرض بالثلوج إلى علو متر، وهنا أجود أصناف القمح في العالم، وتنتج المنطقة فوق ٥٠ مليون إردب، والجو هناك متطرف جدًّا، وكلما قاربنا المدينة اسودت التربة وجاد نوعها، والمنطقة تكاد تخلو من السكان وتشكو قلة الأيدي؛ لذلك لا يقل أجر العامل عن ٥٠ قرشًا يوميًّا. لبثنا في هذه السهول ٢٨ ساعة بعدها دخل القطار وينبج، وتمتاز بشوارعها الفسيحة وبمظهرها الريفي النظيف وبأهلها البسطاء البعيدين عن المكر، ومنها قمنا في ١٤ ساعة إلى منيابلس شمال منعطف المسيسبي الذي يحكي حرف S وسنتپول على طرفه الجنوبي، ومعنى «مينا» في اللغة الهندية مياه؛ لأن البلدة حولها ١١ بحيرة وحول المنطقة كلها نحو مائة ألف بحيرة صغيرة، والبلدة تُعرَف بمتنزهاتها الهائلة؛ إذ يخص الفدان منها مائة شخص، وتسمى أحيانًا «مدينة البحيرات والمتنزهات والڨلات»، وبها جامعة منسوتا الهائلة بها ٢٧ ألف طالب، وتعد ثالثة جامعات الولايات المتحدة ورابعة جامعات الدنيا، وفيها مصنع لفورد ينتج ٥٢٥ سيارة في اليوم، وبالبلدة أكبر مطاحن القمح في العالم، تخرج ٩٠ ألف برميل من الدقيق في اليوم، وفي مخازنها فوق مائة مليون إردب من القمح تطحنها كل عام، وجل الناس يملكون سياراتهم وبيوتهم.
أما شيكاغو فوصلناها بقطار المفتخر «زيفر» في ست ساعات ونصف، وكان يسير بسرعة ٧٠ ميلًا، وكان الطريق سهولًا تزينها المضخات الهوائية الضخمة، وكانت شباك سكك الحديد تملأ الآفاق بحيث كنا نرى ثلاثة قُطُر تمر تحت بعضها، ثم بدت الناطحات يكاد يحجبها دخان المصانع، أما وجاهة البلدة ومبانيها فقد أذهلتنا وبخاصة وسط البلدة المسمى «اللوپ»، وسمي كذلك لأن ترام الهواء «الألڨيتر» يطوقه في دائرة، وكثير من الناطحات يصل ٤٤ دورًا مثل ناطحة فيلد، Board of Trade، وفي أغلبها جراچات للسيارات في كل دور، ولعل أجمل الشوارع الذي يطل على بحيرة مشجن ويُسمَّى «مشجن أڨنيو»، حركة المرور به مخيفة بحيث لا يسمح المرور إلا في نصف الشارع في الدفعة الواحدة، ويليه في الجمال شارع State وقسم من شارع البحيرة يسمى Gold Coast؛ لأنه مسكن الأثرياء، وهناك ناطحة تسمى مليونيرز بها ١٤ دورًا، في كل واحد يسكن مليونير من الأغنياء، وشاطئ البحيرة كأنه شاطئ البحر بموجه ومعدات المراسي وحركة الشحن، وهناك حي للزنوج به ٢٣٤ ألف زنجي، وفندق كبير خاص بهم اسمه رتز Ritz، ولمكتبة المدينة ٥٢ فرعًا في أحيائها المختلفة، ودور الملاهي في غاية الكثرة والوجاهة، والتزاحم عليها هائل ومظهر الغنى يبدو حتى على صغار الناشئة، وبالبلدة ١٦٩ متنزهًا أكبرها لنكلن، ومساحته ٦٠٠ أيكر، ولعل الشهرة العالمية للبلدة في لحومها المجففة، وقد زرنا مجازرها الضخمة ويسمونها Union Stock Yard في مساحة ٤٠٠ أيكر، ودخلت مصنع سوفت من بين كبريات مصانعها، وهو يشتري من الذبائح في اليوم الواحد بمليون وربع مليون ريال؛ ففي عنبر الخنازير يذبح ٧٥٠ في الساعة، أي مليونًا وستمائة ألف في السنة، وقسم الأغنام يذبح ٨٠٠ رأس في الساعة، أي مليونًا وثلاثة أرباع المليون في السنة، وقسم البقر ١٨٠، أي ٤٠٠ ألف في العام، ومفتشو الدولة يشرفون على الذبح والإعداد، وكذلك حاخام اليهود يشرف على ذبح «الكاشير»، وكل الذبح والسلخ والتقطيع والتثليج والشحن يجري بعمليات آلية غاية في العجب، ورغم ذلك فبالمصنع ٥٥ ألف عامل، والبقرة العادية تزن ألف رطل الصافي من لحمها ٥٥٠، ومن الباقي يستفيدون بنحو ١٥٠ في مآرب أخرى، وفي ٢٥ دقيقة يُعَدُّ لحم الحيوان للتصدير، وتستطيع أن تشتري ما تشاء، على أنهم يتركون اللحم الذي سيصدر بعيدًا في المثالج والمباخر زهاء يومين كاملين كيلا يصيبه العطب. قمنا إلى نياجرا وسط مزارع للفاكهة ممدودة ووصلناها في عشر ساعات، وكان الجو عابسًا مطيرًا، وهناك حللت فندقًا صغيرًا أنيقًا، وتلك منطقة للسائحين عُنِيَ القوم بتنسيقها أيما عناية وزوَّدوها بالفنادق والمطاعم. أما عن روعة مشهد الشلال فذاك ما لا يجدي فيه الوصف، وتقسمه جزيرة جوت إلى شطريه الكندي الذي يحكي الحدوة، ويشمل ثلثي الشلال، والثلث الآخَر في الولايات المتحدة، ونستطيع أن نصل إلى أسفل الشلال وندخل الكهوف التي خلفها وراء مائه الهاوي بواسطة زورق نحيل أو بواسطة ترام هوائي، وقد تفنَّن القوم في إلقاء الأضواء الملونة القوية على الماء ليلًا لتزيده روعة، والمنطقة تسمى أرض شهر العسل؛ لأنها خير ما يلائم كل أليفين أو حديثي عهد بالزواج، لذلك بدا على الزوار جميعًا الإفراط في الجمال ووجاهة الهندام.
figure
پارك أڨنيو مسكن أكبر سراة العالم بنيويورك.

قمنا إلى تورنتو في ثلاث ساعات، فبدت مدينة صبغتها دينية، فكل شيء مغلق يوم الأحد حتى الملاهي، وبها ٣٥٠ كنيسة، وذلك شائع في أغلب بلاد كندا من أثر العصبية الدينية الكاثوليكية للفرنسيين، على أن البلدة تُعَدُّ العاصمة الإنجليزية لكندا بها ٦٩ متنزهًا منها متنزه «روزديل» وكأنه الغابة المغلقة، به من شجر الإسفندان — وهي الشجرة الرمزية لكندا — ٣٦ ألفًا، وهم يحرصون على إنبات شجرة منها أمام كل بيت، وجامعتها فاخرة بها ٣٨ بناءً و٨٠٠٠ طالب، ويسمونها مدينة البيوت؛ لأن ٦٤٪ من سكانها يمتلكون مساكنهم.

figure
شلال نياجرا الرائع.

قمنا إلى العاصمة أتاوة وسط مزارع مُدَّتْ على حساب الغابات، وأقبلنا على النهر الفسيح الذي هالتنا سعة بحيراته وتعدُّدها وكثرة قناطره، وكان يغص بالأخشاب السابحة التي تعوم إلى مناشر الخشب ومصانع الورق، وكنا نرى مداخنها تسد الآفاق، ثم أشرفنا على دار البرلمان بهندستها الجذابة وبرجها الباسق، تطل على النهر وتدق ساعتها فتُسمَع في كافة أرجاء البلدة، وأفخر فنادقها «شاتولوريي» على شكل قصور القرون الوسطى، وإلى جوار البلدة شلالات شودبير الرائعة. وزرنا بها مزرعة نموذجية مساحتها ٩٠٠ فدان، واللغتان الفرنسية والإنجليزية تقومان جنبًا إلى جنب في المحررات والمطبوعات وبعض الجرائد وحتى أسماء الشوارع.

أقلنا القطار في ثلاث ساعات إلى منتريال، أكبر بلاد كندا؛ فسكانها يقاربون مليونًا وربع، ٧٦٪ منهم فرنسيون من الكاثوليك، وهي العاصمة الاقتصادية لكندا، وقد بدت فرنسية صرفة لا تكاد تسمع في الطريق إلا اللغة الفرنسية، وهندسة المباني والكنائس على النظام الفرنسي، والعصبية الدينية بالغة الحد، فلا يخلو طريق من القسس، والحكومة بيد رجال الدين، وبالبلدة ٢٥٠ كنيسة لذلك سُمِّيت مدينة الكنائس، والصحافة جلها فرنسية وأكبر الجرائد La Presse يُوزَّع منها ثلاثمائة ألف يوميًّا، وبالمدينة جامعتان وكثيرًا ما تقع المشاحنات بين الطلبة من الفرنسيين والإنجليز، وعجبت أن يقوم القانون الفرنسي والإنجليزي جنبًا لجنب في المحاكم، وبالمدينة ٧٢ متنزهًا أكبرها مساحته ٦٩٢ أيكر، وفي متنزه آخَر ٥٠٠٠ شجرة إسفندان بعدد قتلى الحرب الماضية من أهل المدينة.
figure
كريسلر يعلو ٧٧ دورًا في سماء نيويورك.

قمنا إلى كوبك فبدت أكثر إمعانًا في الفرنسية من سابقتها، وتُسمَّى مدينة الصخرة، تشرف عليها شاتو فرنتناك من بقايا القرون الوسطى في شكل كالطوابي، وقسم كبير منها يقوم على مدرجات المرتفعات، لذلك كثرت الطرق الملتوية والتي نصعدها بدرج، والنهر هناك فسيح جدًّا وكأنه البحر، على أن ماءه عذب إلى مسافة ٤٠ ميلًا، وقد شاهدنا مستودعَ غلال شركة سكة حديد كندا الباسفيكية ويتسع لنحو مائة مليون إردب، والمصانع المختلفة تملأ الآفاق ويسترعي النظر العربات ذات العجلتين، وعربات الترام المكشوفة رغم برودة المنطقة. ومظهر المدينة ديني بحت لا تغيب الكنائس ولا القسس والرهبان عن العين أبدًا، أذكر منها معبد الفرنسسكان يتناوب فيه الراهبات من السيدات التعبُّد على مدرجاته صباح مساء.

قمنا إلى نيويورك، ومنها عرجت الباخرة على بسطن مهد الثورة ومقر بنيامين فرنكلن وبيته الصغير، وقد وقفنا بشرفة دار البلدية التي أعلن وشنطن منها استقلال البلاد عن الإنجليز، واعتلينا ربوة بنكر Bunker مكان الموقعة الفاصلة بين الإنجليز والأمريكان، ثم عرجت بنا الباخرة على جزائر أزورا، فجبل طارق، فإيطاليا، فالإسكندرية من أرض الوطن العزيز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤