عبر أوروبا من الشرق إلى الغرب

دخلنا البحر الأسود مقر الأنواء والعواصف الشتوية التي تُلقِي عليه من سحبها القاتمة غبرة أكسبته اسمه، ثم ألقت الباخرة مراسيها على مدرجات ثغر قوستنزا، وتشرف البلدة على الميناء من مرتفع، ورأينا بها بعض المساجد، فهي إحدى بلاد دبروجة الإسلامية، وكثير من أهلها يلبسون الطربوش.

أقَلَّنَا القطار وسط سهول الغلال التي كانت تُحصَد إذ ذاك في أواخر يونيو، وكانت تنتشر البيوت مبعثرة وسط الحقول بلونها الأبيض وسقوفها الحمراء، وكنا نرى النساء يعملن مع الرجال في الحقول وحتى في سكة الحديد، وأخيرًا وصلنا بوخارست: عاصمة رومانيا أو باريس الصغيرة؛ لأن أحياءها الجديدة تحكي جهات من باريس، وقد تجلَّى الفرق بين طبقة الأغنياء والدهماء؛ فالنزعة الأرستقراطية بالغة الحد بحيث يرتفع الأثرياء عن العامة، وحتى في الكلام يحتقرون لغتهم ويتكلمون بالفرنسية ويقرءونها في الجرائد والكتب التي تُطبَع خصيصًا لهم، وقد سمعت احتجاج الطلبة على ذلك والتهكم على ما أسموه بالهوس الفرنسي «فرانكو مانيا»، وغالب الملكية بيدِ تلك الطبقة وجل الأموال بيد فئة من اليهود، وقد فطنت الدولة لذلك وشرعت تعدِّل قانون توزيع الملكية رحمةً بالفقير. وأظرف ما استرعى نظري جمال الهندام الذي يزيِّنه التطريز، وزهاء الألوان، ويُعَدُّ النساء هناك أمهرَ أهل الدنيا في إتقان التطريز. وغذاء الفقير «عصيدة» من الذرة تُسمَّى «ماماليجا»، وأحب الشراب الجعة، وأفخم شوارع البلدة كاليا فيكتوريا أو شارع النصر على الأتراك، وبالمدينة زهاء ٢٠٠ كنيسة غالِبها على المذهب الإغريقي، والأحياء الفقيرة قذرة للغاية، واللغة السائدة هناك بين الجماهيرِ الألمانيةُ إلى جانب لغتهم القومية. قمنا من قرية جورجو على الدانوب بالباخرة تشق مياه النهر بين بلاد رومانيا من جانب وبلغاريا من الجانب المقابل له، وكان الجانب البلغاري كثير الربى، وكنا نرى الفتيات هناك يجمعن الورد من شجيراته التي تسد الآفاق، وصناعة ماء الورد من الموارد الرئيسية لتلك البلاد الفقيرة. ثم بدت سواحل يوغوسلافيا وبعدها تعقَّدَتِ الجبال وتلوَّى النهر واختنق واشتد تياره، وهنا أقاموا وسط النهر جسرًا وحطَّموا جنادل النهر في الجانب اليوجوسلافي، وصلح للملاحة، أما الجانب الآخَر فظل بجنادله ومنحدراته ودواماته المخيفة، ولبثت السفينة تسير وسط ليات هذا الخانق بمناظره الجذابة زهاء ثمان ساعات، بعدها انفرج النهر؛ لذلك لم نعجب لتسمية هذا الجزء من النهر بالباب الحديدي. أشرفنا على بلغراد عاصمة يوغوسلافيا والمدينة يعوزها الشيء الكثير من الجمال والنظافة والنظام، ويسمونها هناك بيوجراد؛ أي القلعة البيضاء، وكنا نرى سنابل القمح تُعلَّق على كثير من البيوت لتحل البركة، وعلى بعض البيوت رأينا دمية معلَّقة وعلمنا أن هذا إعلان عن وجود آنسة في سن الزواج داخل هذا البيت. واصلنا السير في الدانوب، وكانت سهول المجر تبدو إلى يمننا، وكانت تكثر على الجانبين هدارات الماء في عجلات يديرها التيار فتحرِّك مطاحن الغلال على الضفاف.

figure
في فناء جامعة كمبردج.
figure
قنطرة إليزابث أجمل قناطر بودابست.

وأخيرًا دخلنا بودابست عاصمة المجر، فبدت كالعروس تشرف على جانبي النهر في جمال فتَّان، «بودا» القديمة إلى اليسار «وبست» الحديثة إلى اليمين، يصل ما بينهما سبع من القناطر الأنيقة المعلقة. حللتُ البلدة فشعرت بالمتاع الكامل، فهي بحق «ملكة الدانوب» امتازت بكثرة ميادينها ومتنزهاتها وتماثيلها في تنسيق فائق، ونظافة الشوارع وحسن نظامها يدهش الزائر خصوصًا في الشارع الرئيسي «أندرسي أوت»، وإذا عبرت قنطرة اليصابات أجمل قناطر البلدة أخذت تصعد ربوة بودا وفي أعلاها القلعة القديمة والكنيسة وتمثال هنياد المجري الذي طرد الأتراك، وفي بودا القصر الملكي الفاخر، وبه ٨٦٠ حجرة جدَّدَتْها الملكة ماريا تريزا، ويواجه القصر من الجانب الآخَر للنهر البرلمانَ درة بودابست بهندسته القوطية وأبراجه المسننة الشاهقة، أما عن نقوشه وزخرفه وصوره من الداخل، فذاك أمره من الأعاجيب. ومن المتنزهات العامة جزيرة مرجريت إلى شمال البلدة، وبالمدينة مجموعة هائلة من المتاحف لعل أفخرها المتحف الزراعي معدوم النظير في العالم كله، ولقد زاره ملكنا الراحل وصمَّم أن يقيم نظيره في مصر، وقد بدأ تنفيذ ذلك بعد أن استقدم خبراء من متحف بودابست.

وغالب تجارة المجر بأيدي أقلية من اليهود يبغضهم الجميع، رغم أنهم الطبقة المستنيرة في البلاد، ومنهم الأطباء والمحامون والمهندسون، وفي بودابست كثير منهم حتى لقَّبَها بعضهم «جودابست»؛ لذلك لم أعجب لانتشار المقامرة في كل شيء. والمجري مَرِح، حفيف الروح، رقيق العاطفة، ساذج، كريم، نظيف، وهو موسيقي بفطرته، وجمال النساء هناك فاتن، وفي تقاطيع الوجوه شيء كثير من الجنس المغولي؛ لأن المجري أسيوي الأصل هاجَرَ إلى تلك البقعة منذ سنة ٨٩٦، ولا يزال الكثير منهم رعاة يعيشون على الفطرة، ويشتهرون بركوب الخيل وصيدها من البراري هناك، ويسمون «شيكوز» ويشبِّهون بلادَ المجر في وسط أوروبا بالواحة وسط الصحراء.

قمتُ صوب فينا عاصمة النمسا، تلك البلاد التي تتمثل في أهلها الجاذبية ورقة الحاشية إلى كفاية في العمل، فهم دائمًا باشُّون رغم جهدهم اليوم في الحصول على الرزق. تجلت عظمة المدينة في مبانيها الفاخرة، وشوارعها الفسيحة، ومتنزهاتها الجذابة، وبخاصة طريق «الرنج» الذي يطوق فينا القديمة، وهو أفسح طرق الدنيا، وعليه دار البرلمان الفاخر الذي يُشعِر بعظمة دولة النمسا القديمة، رغم عدد النواب القلائل الحاليين.

figure
الرنج أفسح طرق الدنيا يشرف عليه برلمان فينا.

ومن الأماكن الجديرة بالزيارة متنزه پراتر وكأنه الغابة تشقها الطرق، وتقوم عليها المقاهي والملاهي والملاعب والمراقص، ثم زرنا قصر «شوينبرن» لماريا تريزا، وفي إحدى غرفه التي كلَّفَتْ أربعين ألف جنيه أمضى الملك شارل آخِر ملوك النمسا صكَّ اعتزاله المُلك. دخلنا في المساء دار الأوبرا وحضرت رواية «الغجرية»، والدار من أفخر دور الملاهي وأكبرها في العالم، تتسع لنحو ٢٢٦٠ متفرجًا، ويكاد الزخرف داخلها يحكي أوبرا باريس. دهشت لتلك المنشآت التي لا تتناسب مع صغر الدولة وفقرها اليوم، فإنَّى لماليتها أن تنفق على كل أولئك، فالمدينة آخِذة في الاحتضار، ولذلك لم ندهش لما أن ارتمت في أحضان ألمانيا قبل الحرب. ومن ضواحيها الجميلة كوبنزل على علو ١٢٠٠ قدم، ثم بادن بحماماتها ومياهها المعدنية، وقد جملت بالمنشآت التي يجد فيها الزائر الراحة والاستمتاع، ثم سمرنج وسط الجبال المعقدة الرائعة، يدخل القطار إليه في مجموعة من أنفاق لا عدَّ لها، ومناظر الربى والثلوج والغابات من حولها تأخذ بمجامع القلوب، وكنا نرى القوم نساءً ورجالًا يتسلقون تلك الجبال مشيًا وعلى ظهورهم الجعب وهم يرتدون ملابس الرحلات في شيء كثير من التقشف.

ومن بلاد النمسا التي زرتها سالزبرج أو بلدة الملح في وهدة حولها المرتفعات بغاباتها، وقد دخلت أحد مناجم الملح بها فألبسونا حلة من جلد، وركبنا جرارة كهربائية أوغلت بنا في سراديب ضيقة، وكنا نصعد من الدرج ما يبلغ علوه أحيانًا ٢٥ مترًا، ونمر على تجاويف في الصخر، وفي بعضها تقام المقاعد والمصابيح من الملح الشفاف، وكنا نعبر بعض البحيرات الجوفية بزوارق، وقد تعلو بعض جهات المناجم ثلاثة آلاف متر، وفي مدينة سالزبرج بيت الموسيقي الشهير موزار تحتفظ الحكومة به متحفًا، وله تمثال في أحد الميادين. غادرت النمسا صوب شيكوسلوفاكيا فأخذت الجبال تتعقد وتزيد كثافة غاباتها، وكان القوم يجهزون الأخشاب للتصدير، وقد تسلقنا هضبة بوهيميا وفي وسطها دخلنا براها العاصمة، وكم قاست من ظلم المستعمرين من شعوب مختلفة، لكنها غالبت الظروف جميعها وظلت نيران الوطنية تتأجج في صدور بنيها، فشكَّلوا الجمعيات السرية وأهمها جمعية «مافي» حتى استعادوا استقلالهم كاملًا عقب الحرب العالمية الأولى، فساروا في سبيل النهوض بخطى أدهشت الجميع، «فبراها» تسمى بحق روما الشمال؛ لأنها صفحة تاريخية مجيدة تبدأ حوادثها منذ ٣٥٠٠ سنة. زرت القصر الملكي وكأنه الحصون، وفيه مخلفات من جميع العصور الظالمة الأولى، وإلى جانب القصر كنيسة سان فتس، وفيه يُدفَن عظماؤهم، وقد زرت قصر ولنشتين وبه بعض مختلفاته، وحصانه محشو محنط، ودخلت زقاقًا قذرًا في حي فلادسلاف وفيه بدأت جذوة حرب الثلاثين سنة. وفي ميدان المدينة القديم زرنا دار البلدة «راتهوس»، وفوق أرض الميدان عدد من الصلبان بقدر عدد أشراف البلدة الذين شنقهم الأعداء سنة ١٦٢٠، وتزيِّن برج الدار ساعة ملكية منذ سنة ١٤٩٠، وكلما دقَّتِ انفتحت أبوابٌ في أعلاها وتحرَّك إلى الأمام أشباح يمثِّلون المسيح والرسل الاثني عشر. وأكبر شوارع المدينة «فاكلافسكي نامستي»، وهو فاخر وبخاصة في أضواء الليل، على أن المدينة تبدو صغيرة مهملة وليست جديرة بعاصمة دولة ناهضة كهذه؛ لذلك فهم دائبون على الإنشاء والتعمير بسرعة عجيبة، فالكل يبدءون العمل مبكرين ساعتين في الصباح ويؤخرون ساعة الانصراف ليعوِّضوا ما فوَّتَه عليهم المستعمر، ويظهر أن متانة أخلاقهم نتيجة لما قاسوا من أهوال؛ ولهذا يُطلَق على عاصمتهم «مدينة الشدائد»، وقد بدءوا ينهضون بمختلف الصناعات، منها المنسوجات وآلات الموسيقى والبيرة والجلود والأحذية، وها نحن نرى مصانع باتا تطبق شهرتها الآفاق كلها كذلك الزجاج والخزف.

figure
الميدان الرئيسي في براها.
قمت إلى كارلسباد ويسمونها «كارلوفي فاري» كرهًا في الألمان ولغتهم، وكانت الأرض جبلية يكاد يكسوها نبات حشيشة الدينار hops، ومنها تُتَّخَذ خميرة البيرة، وتُعَدُّ بوهيميا أغنى بلاد العالم بزراعتها، ونباتها يحكي أعواد العنب الرقيقة، وهو هناك كالقطن عندنا المورد الرئيسي للفلاح. وصلت البلدة فألفيتها ممتدة على جانبي وادٍ جافٍّ ملتوٍ وتكثر به الينابيع مختلفة الحرارة والمركبات المعدنية لذلك أضحت من أشهر بلاد الاستشفاء، وأجَلُّ عيونها نبع «سپرودل» يصدرون من مائةٍ أربعةَ ملايين زجاجة كل عام، ويندفع ماؤه إلى الجو نحو عشرة أمتار، والمياه تفيد في أمراض المعدة والكبد والأمعاء والمجاري البولية والروماتزم، وكم كان يروقني منظر الجموع الرشيقة كلٌّ يمسك بكأسه ويمشي ذهابًا وجيئة وهو يتناول من مائه جرعة حسبما أمره الطبيب، ولهذا عُنِي القوم بالمقاهي والفنادق والمتنزهات اجتذابًا للزائرين.

(١) ألمانيا بلاد الفخامة والنظام

في أربع ساعات دخل القطار بنا درسدن، بعد أن اجتاز عقدًا من جبال إرزجبرج، فبدت مدينة هائلة منسقة منظمة نظيفة تكثر بها القصور القديمة والمتاحف الفنية، ومن ضواحيها التي وصلتها في ساعة: ميسن، وقد زرت بها مصانع الخزف السكسونيا المشهور، فشاهدنا عنابر العجينة، ثم عنبر الدواليب التي تحكي في شيء من التعقيد دواليب الفخار بقنا، ثم الأفران، ثم عنبر النقش، وهنا أدهشتني سرعة الرسم بأيدي الآنسات والفتيات بدقة وسرعة لا تُصدَّق، ثم عنبر الحفر لعمل التماثيل والنماذج، ثم المتحف وفيه تُعرَض بدائع ما أنتج المصنع. وفي ثلاث ساعات دخلت برلين، وأول ما قصدت شارع المدينة الممتاز «أنتردن لندن»، ويقوم عليه القصر الملكي وبه عرش غليوم آخِر أباطرتهم، والشرفة التي خاطب الشعب منها يوم إعلان الحرب العالمية الأولى، وكان به قسم من الفضة الخالصة صهرها فردريك الأكبر وحوَّلها نقودًا لما أعوزه المال في حرب السنين السبع، والقصر يطل على نهر سپري فرع الألب، وبجواره كنيسة الدوم أفخر كنائس برلين، بَهْوُها يتسع لخمسة آلاف جالس، وخلفها مدافن القياصرة. أما المعارض والمتاحف فيكاد يُعنى بها أكثر من أية دولة في العالم، ولقد رأيت في إحداها رأسَ نفرتيتي التي سُرِقت من مصر. وأينما سرتَ في برلين أخذتكَ عظمة البنيان وفرط النظافة والنظام ويقظة الناس ونشاطهم.

ومن المتنزهات الهائلة «تربتاو»، وكأنه الغابة في وسطه المرصد العتيد، ثم «تيرجارتن» تجاوره دار البرلمان أمامه تمثال بسمارك وعمود النصر علوه ٢٥٠ سلمًا، وأقيم تذكارًا للنصر في حرب السبعين، وعلى مقربة بوابة «براندنبرج» الهائلة التي تنافس بوابة باريس. وثاني الشوارع هناك في الوجاهة والعظمة «فردريك شتراس»، وحديقة الحيوان تمتاز بأن كل طائفة من الحيوان يقام لها بناء في هندسة بلادها، فدار النعام مصرية، ودار الفيلة هندية، ودار الإبل والظباء عربية، ودار الطيور المائية يابانية، وهكذا، وبجوارها أكواريوم لمختلف السمك، وبجانب الحديقة حظيرة بها ألف تمساح. قمت إلى ضاحية بوتسدام نظيرة فرساي في باريس، وكانت موطن فردريك الأكبر، والقصور الملكية بها متعددة وفاخرة تحوطها متنزهات سان سوسي، ومعناها بغير ملل، تلك التي حوت من التماثيل والنافورات والزهور والجواسق ما يحار فيه اللب، وبه قصر من طابق واحد أجمل حجراته غرفة فولتير صديق فردريك الأكبر، كذلك حجرات فردريك الخاصة وساعته التي وقفت ساعة وفاته تمامًا، ثم قصر الأورانجري لكثرة أشجار البرتقال حوله، والبانتيون مدفن العظماء، والقصر الحديث وبه حجرة الموسيقى تنقش الآلات كلها بالذهب على الجدران، فكان فردريك موسيقيًّا نبغ بصفة خاصة في الفلوت، ويُدفَن هو وأبوه في كنيسة سان سوسي، ورغم شدة الضيق المالي إذ ذاك فإن المرح لم تخف حدته بينهم، فلقد زرت «هوس فاترلند» أكبر مقاصف برلين، فكان جنة ساحرة من أضواء وثريات ومقاصير وأبهاء، وكل منها في هندسة مختلفة وأثاث منوَّع، ويمثلون فيها السماء تارةً في ضوء القمر، وأخرى في رعد وبرق ومطر لا تشك في أنه حقيقي، وتنتقل وأنت هناك من جو أوروبي إلى جو أفريقي إلى آخَر أمريكي إلى تركي في كل شيء. قمت إلى كولوني ويسمونها «كيلن» ثالثة مدن ألمانيا، غالب سكانها من الكاثوليك؛ لذلك لم أعجب لما علمت أن بها مائة كنيسة، وأفخرها الدوم في الهندسة القوطية الأنيقة التي قيل إنها تمت في أربعين عامًا؛ وذلك لكثرة نقوشها وتماثيلها ولبرجَيْها الشاهقَيْن، ويتسع فناؤها لأربعة وعشرين ألفًا، وتُعَدُّ معجزة فنية، ونهر الرين هناك عظيم الاتساع تعبره القناطر، ومن بينها أكبر قنطرة معلقة في أوروبا كلها.

figure
قصر سان سوسي في بتسدام بألمانيا.
figure
ردهة المرمر والودع في بتسدام.

سافرت إلى ميونخ فوصلتها في اثنتي عشرة ساعة، ويسمونها «منشن»، بدت كالعواصم الكبرى في ميادينها وكنائسها وجلها كاثوليكية، ولعل أروع ما يظل في ذاكرتي المتحف الألماني، وهو الوحيد من نوعه في العالم، فعلاوة على ما يُعرَض بالمتاحف الكبرى عادةً تجد به نماذج للمصانع الرئيسية والمناجم ووسائل النقل وتطورها وبراكين العالم وما إلى ذلك في حجمها الطبيعي. وقد زرت دار الجعة الكبرى في بنائها القديم من أربعة أدوار في أقبية وسراديب وأبهاء مزركشة، دخلت فألفيت الجماهير الغفيرة كلٌّ يمسك بجرة من الصلصال تتسع للتر يتناولها بيده، ثم يقدِّمها لحارس البراميل فيملؤها له من الجعة الألمانية الشهيرة ويعيد الكرة مثنى وثلاث ورباع، وترى البعض يحتسيها واقفًا وهو يتَّكِئ على برميل ضخم، وضوضاء المكان لا تخبو، وهو خير عنوان على الشعب البافاري ومبلغ ميله للشرب والمرح، وفي الأدوار العليا مطاعم لعلية القوم، جلست إلى الساعة الثانية صباحًا وأمامي الجرة لم آتِ على ثلثها، وكان إلى جواري بعض الأطفال يشربون مع آبائهم الجرة تلو الأخرى في شرهٍ زائد وسرعة مدهشة.

(٢) إلى هولندة بلد السلام

لم نلاحظ من خلال المناظر والسطح إلا أن التراب ضايقنا كثيرًا، والطرق الزراعية رديئة، وكانت الحقول تغص بالبقر الأحمر والأسود تزينه البقع البيضاء، وكان الصبية يمرون حاملين كئوس القهوة يشربها الناس جميعًا. دخلنا أمستردام فبدت غاية في الجمال وخفة الروح فاقت في نظري البندقية، تشقها القنوات في كل خطوة، وكفى أن بها سبعين قناة وأربعمائة قنطرة، وتطوقها المياه في حلقات عشر الواحدة خارج الأخرى، وكل أولئك تقطعها قنوات مستعرضة تتجه نحو المركز، أذكر أني وقفت على قنطرة فكنتُ أرى حولي ثماني قناطر، والبيوت يضرب في جدرانها الماءُ، وغالب طرقها مختنق قد لا يتسع لمرور شخصين، ويقولون بأن البلدة تقام على مجموعة من الأعمدة تغوص في الأوحال، فالقصر الملكي وحده يقوم على ١٤ ألف عمود، ويطل على ميدان «دام»، وكثير من الأبنية في هندسة القرون الوسطى خصوصًا دار شركة الهند الشرقية والغربية، ومن أعجب المباني بيت واجهته من زجاج إذا نظرت خلاله من الخارج بدا الداخل بنفسجيًّا، وإذا نظرته من الداخل كان اللون أبيض، وتلك مهارة للقوم في صنع الزجاج منذ القِدَم، وفي حي اليهود بيت الفنان «رامبرنت» الذي أنجبته المدينة، والقسم المستحدث من المدينة في خارجها في طرق فسيحة، وبه الإستاد ويتسع لأربعين ألفًا، ودار شركة الماس أقدم معمل لقطع الماس في العالم وأكبرها، وكنت أرى كثيرًا من الوجوه الأسيوية والزنجية جاءوا من المستعمرات ليدرسوا هناك.

figure
سدود هولندة التي تدفع غائلة البحر عنهم.

قمنا إلى لاهاي في مناظر مصرية إلا في مطاحن الهواء العديدة، فبدت شبيهة بمصر الجديدة عندنا، مبانيها موحَّدة المنظر، زرت قصر السلام فهو بالآجر في هندسة هولندية، مبيض من الداخل، بولغ في نقشه، تبرَّع ببنائه أمريكي، دفع مليون ونصف مليون ريال، وقد أهدت كل دولة جزءًا من الأثاث، وقد نقش القوم على أرض المدخل «تظل شمس السلام مشرقة علينا»، ثم زرت قصر الملكة، وأظرف ما به غرفتان إحداهما هدية من اليابان بحرائرها وخرط أخشابها، والثانية من الصين. قمنا بالترام في نصف ساعة إلى نوتردام، أكثر المدن حركة في التجارة، لكنها بدت ثقيلة الظل وإن شقَّتْها بعض القنوات، وميناؤها صاخب بالحركة منذ القِدَم. وفي الحق أن الشعب الهولندي نشيط، كفاه فخرًا أن غالَبَ البحرَ ومدَّ نصف أراضيه على حسابه بوساطة الجسور التي تعلو سطح البحر بنحو أربعين قدمًا وتتعدد داخل بعضها، وقد جفَّفوا الأرض وزرعوها وأصلحوها، لذلك كانت التربة فقيرة لا يجود بها سوى العشب وعلف الماشية، وغالب النقل بالصنادل التي تشق القنوات، أما العربات خصوصًا في الشوارع فلا تكاد تُرى، وكثيرًا ما كنتُ أرى الصنادل توسق بكور حمراء من الجبن «الفلمنك»، وكثير من الناس يتخذ الزوارق والصندل مسكنًا دائمًا لهم، وعددهم نحو مائة ألف.

ولعل في بطء سير تلك الوسائل ما يبرِّر ما عُرِف عن الهولندي من البطء في التفكير وفي العمل، ويؤخذ عليه بعض الجفاء في الحديث والشح المالي، أما نظافة مسكنه فمثالية رغم قذارة هندامه، والزي هناك عجيب مضحك؛ سروال فضفاض وجاكتة محبوكة ومنديل حول الرقبة، أما النساء فقلنسوة بيضاء ذات جناحين وجلباب طويل عليه فوطة زاهية اللون، وأحذية الجنسين من خشب تشبه «مركوب» الفلاح المصري، مصنوع من قطعة خشب واحدة؛ لذلك كانت كبيرة جدًّا. ويؤخذ على الهولندي إدمانه الخمر حتى النساء منهم.

(٣) إلى دنمركة

بلاد الديمقراطية والتعاون. قام بنا القطار من برلين، وعند شاطئ بحر البلطيق، اندفع بنا القطار كله فوق سابحة أبحرت بنا، وإلى جوارنا قطار آخَر، ثم رسونا على جزيرة جرنا فوقها القطار، ثم دخل بنا سابحة أخرى قامت بنا إلى شاطئ آخَر، ثم جرنا القطار إلى العاصمة.

كوبنهاجن

وكنا نرى الجزائر حولنا في كل ناحية، والسابحات تمخر ما بينها في نظام محكم وعددها أربع وعشرون، تنقل كل عام مليونًا من الأطنان ومليونًا من الأنفس، جمعت البلدة كل مظاهر العظمة، ففيها وحدها فوق ربع سكان الدولة، لكنها لم ترقني كثيرًا؛ إذ يعوزها الجمال في كل شيء، حتى في نسائها، على أن النظافة هناك فائقة الحد، وهم مرحون نشيطون نَهِمون في الأكل، يتناولون بين أربع أكلات وستٍّ في اليوم، وبخاصة التصبيرة المسماة «سمور برود»، وهو مزيح من الخبز والزبد والبيض وقطع الدجاج والسمك واللحم والخضر، وترى بائعيه منتشرين في كل مكان، أما الطعام الرئيسي فبطاطس مسلوق ولحوم خصوصًا لحم الخنزير، وهم متعلمون جميعًا ليس لمدارسهم برامج مسطورة ولا امتحانات عامة، بل كل ذلك يُترَك لحرية الأستاذ، والعجيب أنه لا يُشترَط في الأستاذ شهادة جامعية، ويكفي أن يُعرَف عنه امتيازه في ناحية معينة ليتعهدها في المدارس؛ لذلك شجَّعَ ذلك العلم لذاته لا للشهادات، ولا عجب فقد أصبحوا قادة العلم في شئون الزراعة والرعي، ورغم فقر تربة البلاد وتوزيع أراضيها على نحو أربع وأربعين جزيرة تحوطها المياه جميعًا، وذلك بفضل نظام الملكية المكين وميلهم الفطري للتعاون، والمستأجر للأرض يأخذها طوال حياته وبقيمة تكاد تظل ثابتة، ونحو ٩٠٪ من الأراضي ملك لصغار المزارعين، ولما تقلبت أسعار الغلال أوقفوا زراعتها وأعاضوها بزراعة الأعشاب للرعي.

وبفضل المتعاونات أقيمت مصانع منتجات المرعى، فهي تصدِّر من الزبد وحده نحو ١٤ مليون جنيه كل عام لإنجلترا وحدها، وجميع الفلاحين أعضاء في جمعيات التعاون، وقد يشترك الواحد في عشر منها، وبفضلها تحسَّنَ نسل الماشية وزاد إنتاجها، ونحو ٤٠٪ من الصادرات من الزبد وهو أجوده في العالم، وتكاد الحكومة تُشرِف على كل شيء، فهي أشبه بأوتوقراطية مصلحة، ولعل أفخم بناء هناك دار البلدية «راتهوس» بهندسته الهولندية الضخمة غير الجذابة، ثم القصر الملكي القديم، وكأنه متحف علمي وفيه البرلمان، وهناك رأيت الدستور مسطورًا ومعروضًا في سلة من الفضة إطارها من زجاج، وقد بلغ من ديمقراطيتهم أن الملك يخرج ماشيًا أو راكبًا يجوب أطراف البلدة ويخاطب الناس ويداعب الأطفال بنفسه، وحدائق القصر تفتح ليتريض فيها الناس جميعًا.

لذلك عشقوا الديمقراطية، يرفع الوجيه قبعته احترامًا للخادم، ولا تلمس فوارق الطبقات أبدًا، وفي خُلُقهم التسامح والمسالمة، وللمخالف أقسى العقوبات، وهم لا يحبون الشجار ولا النقاش الأجوف، ومستوى المعيشة هناك مرتفع جدًّا، حدث أني قابلت يهوديًّا مصريًّا يعيش هناك، وقد كان يضج من الحالة مع أن دخله أربعون جنيهًا في الشهر.

(٤) سويسرا

قمت من فرنسا صوب جنيف، فهالتني نظافتها والإفراط في تنسيقها، حتى أعمدة النور زُيِّنت بأصص الزهور ومجاميع الثريات، وأرصفة البحيرات آيات فنية، وقد أقَلَّتْني الباخرة إلى لوزان، وزرت هناك قصر عصبة الأمم، ثم عرجنا على أفيان من مدن الاستشفاء بفضل عيونها المعدنية، وأينما سرتَ في جنيف ترى ذُرَى الجبال وبخاصة قمة «مون بلان» تتلألأ بثلوجها الوضَّاءة ومن حولها المنحدرات تكسوها الخضرة الجميلة، وأنت لا تكاد تجد قصاصة ورقة صغيرة ملقاة في الطريق.

حدث مرة أن شرينا كمثرى وأخذنا نقشِّرها ونرمي القشر في الطريق، وبعد أن فرغنا من أكلنا اعترضنا البوليس وكان قد تعقَّبَنا وأخرج كراسة المخالفات وطلب إلينا دفع ١٦ فرنكًا، فدفعناها وتسلَّمَ أحدنا الإيصال غاضبًا وطواه في يده ثم رماه في شيء من التحدي، فأعاد البوليس الكرة وكرَّر الغرامة مضاعَفَةً، ثم أمرنا أن نجمع كل ما ألقيناه في الطريق من قشر، وأشار إلى سلة المهملات لتُلقَى فيها.

figure
قنطرة «مون بلان» عند منفذ الرون من بحيرة جنيف في سويسرا.

وسويسرا بلاد عجب، جمعت شعوبًا مختلفة، فهم يتكلمون أربع لغات أو خمسًا، ولكل ناحية من البلاد لغة من هاتيك، ومذاهبهم الدينية تختلف من مكان لآخَر، حتى لقد خُيِّلَ إليَّ أنهم متناقضون في أشياء كثيرة، كرام وبخلاء، أثرياء وبؤساء، وأهل الريف يكدون في الصيف ليدَّخِروا للشتاء، يقيمون بيوتهم الخشبية بأنفسهم، وينسجون ملابسهم، ويعدون غذاءهم من الألبان، أما في المدن فترى التكلُّف والتأنُّق خصوصًا في إقامة الفنادق والمقاهي لاجتذاب السائحين، وقد ساعدهم على ذلك جمال الطبيعة حولهم، وهم ديمقراطيون إلى أقصى حد؛ فالبلاد جمهورية من عدة ولايات، كل ولاية تضم عدة جماعات «كميون»، والجماعة نفر قليل أشبه بشركة لها رأس مالها وامتيازاتها، وكل فرد منهم مساهِم في الغابات والأراضي المحيطة، وله قسط من الإيراد يتقاضاه نوعًا لا نقدًا، ولكل ولاية قوانينها الخاصة التي تُسَنُّ بالتصويت العام في مجتمعاتهم التي يعقدونها مرةً في العام، فتجمع الجماعة في مكان فسيح ويقف الرئيس ويمر عليه الجميع مؤيدين أو مخالفين أي اقتراح يعرضه، ورئيس الجمهورية لا يزيد راتبه على ٤٠٠ جنيه سنويًّا، وليس للبلاد جيش؛ فالأمة كلها جيش واحد عند اللزوم، والحرس السويسري معروف بالأمانة والإخلاص، فلقد فني الحرس عن آخِره دفاعًا عن لويس السادس عشر وكان من السويسريين، ولا يزال حرَسُ البابا في روما منهم. ومن أعجب ما رأيت هناك البوليس من كلاب سان برنار يدرِّبها رهبان أديرة الجبال على الإسعاف والإنقاذ واقتفاء الأثر، وكنَّا نراها تحمل جعبة في رقبتها بها بعض أدوات الإسعاف، ويهديها شمُّها الحاد إلى موضع مَن اختفى في الثلوج من عابري السبيل، فإن أمكنها الإسعاف فبها، وإلا عادت سراعًا لتستنجد ببعض الرهبان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤