بين سنغال ونيجريا وسلطنة كانو

قامت بنا الباخرة شمبليون التي بدت عظيمة وإذا بها كسائر المنشآت الفرنسية يعوزها النظام وحسن القيام على المسافرين، وفي خمسة أيام حللنا مرسيليا وبتنا بها ليلة، ثم أقَلَّتْنا الباخرة «هوجار» الفرنسية صوب غرب أفريقيا، وهوجار اسم لجبل في الصحراء الكبرى يحتمي فيه الطوارق الذين أذاقوا الفرنسيين الأمرين كما أصلاهم السنوسيون في مأواهم بين جبال تبستي، وهي ليست من كبريات السفن عتيقة المبنى غير متزنة فوق ماء البحر الأبيض، فما بالها عندما تخرج إلى عرض المحيط الأطلنطي المائج الرهيب؟ لبثنا يومين حتى وصلنا مدينة الجزائر فبدت جميلة جذابة بمدرجاتها التي تعلو فوق الميناء في شوارع مرصوفة نظيفة متسعة كل واحد يوازي أخاه ويعلوه في انحدار خفيف، وبين فترة وأخرى نرى مجموعة من درج تصعد بنا سراعًا إلى أعالي البلدة، ولعل أجمل جهاتها الأحياء الوطنية التي تختنق الطرق فيها حتى لا تكاد تتسع لرجلين متجاورين.

وأنت ترى من الأزياء خليطًا لا أول له ولا آخِر؛ هذا ارتدى المعطف من الصوف الأبيض وفي رجليه البلغة وفوق رأسه اللبدة لف حولها طيات من حبل سميك، وهذا لبس الطربوش المصري، وآخَر طربوشًا مغربيًّا يتدلى زره القصير وقد يجرد من زره تمامًا، وتلك السيدة تدثرت بإزار من صوف أو حرير أبيض وأرخت على وجهها قناعًا أبيض دون العينين، وتدهش إذ تسمع خليطًا من العربية المشوهة إلى جانب الفرنسية، تبدأ السيدة أو الرجل الكلام بالعربية وسرعان ما يعوج اللسان وتتدفق الألفاظ الفرنسية في طلاقة تفوق الوصف، وحتى صبية الشوارع يتحدثون بها رغم مظهرهم الرث الفقير، والعوز هناك منتشر إلى حد مخيف، على أن الحياة هناك رخيصة رفهت عنهم بعض الشيء، وتعجب إذ ترى الفرنسي والفرنسية إلى جانب الوطنيين في المسكن والمقهى يتجاذبون أطراف الحديث على قدم المساواة في ديمقراطية راقتني كثيرًا، هنا ذكرت الترفع الإنجليزي والصلف السكسوني الذي يفصل ما بين أبناء التاميز وأهل البلاد التي يحكمونها، وهذا كما يقول الفرنسيون مما جعل الاستعمار الفرنسي أهون أمرًا وأبعد أثرًا في نفوس المحتلين عن الاستعمار الإنجليزي؛ لذلك شعر الجزائريون بأنهم فرنسيون يسوي القانون بينهم وبين سادتهم، وبذلك نسوا عصبيتهم الأولى رغم ما هم عليه من خلاف في الدين والعادات.

لبثنا في مياه الجزائر يومين كاملين والباخرة تحمل وسقها من براميل النبيذ لتطفئ بها ظمأ الفرنسيين من نزلاء بلاد غرب أفريقيا، وقد كان معي على مائدة الطعام جمع مختلط من القوم: فرنسي وزوجته من نواحي مارسيليا وكانت لهما نغمة معوجة من الفرنسية الريفية التي كان يصعب فهمها حتى على أهل باريس، وكان يجاورني باريسي وهو شاب صغير السن وحيد أبويه لم يكد يتم دراسته حتى التحق بإحدى الشركات الفرنسية في نيجريا الإنجليزية، وهو لا يعرف من الإنجليزية سوى كلمات متقطعة محرَّفة، وزاد إعجابي به أنه قال بأن أجره في هذا العمل لا يجاوز أربعة جنيهات في الشهر، فأين هذا من أبنائنا الذين لا يحفزهم العمل على النزوح خارج مصر مهما بلغ أجره. ثم رجل قد نال منه الشيب وتعددت تجاعيد وجهه، له زوجة فتية صغيرة السن جميلة المحيا لم تخلف منه سوى فتاة في نحو التاسعة، وقد بدا على الزوجة الهم والانصراف عن زوجها وكأنها كانت تندب حظها؛ إذ لم تقترن بشاب يتناسب مع سنها الصغيرة رغم ما كان عليه الزوج من مظهر المرح والإغراق في النكات وحب المزاح، وإلى جوار أولئك ثلاثةٌ من شباب الإغريق عائدون إلى نيجريا مقر عملهم في إحدى الشركات، بعد أن قضوا في بلادهم إجازة هي خمسة شهور يمنحون إياها كل ثلاث سنين، ثم اثنان من أهل سويسرا أحدهما يتكلم الفرنسية فحسب؛ لأنه من جهات جنيف، والآخَر الألمانية؛ لأنه من زيورخ، وكنت أعجب لأنهما لم يستطيعا التفاهم إلا ببعض كلمات إنجليزية محرَّفة رغم أنهما أبناء وطن واحد، فقلت: كيف تسير الأعمال إذن في بلادكم على هذا النحو من اختلاف الألسن عندكم؟ ولِمَ لا تتعلمون لغة تسود الناس جميعًا؟ قالوا هذا متعذر؛ لأن أهل سويسرا تتعدد لغاتهم بين الألمانية والفرنسية والطليانية والرومانية، لذلك تُرِك أمر تعليم اللغة لاختيار الناس، على أن الأعمال الحكومية تجري باللغات الأربع.

أعجب بذاك الروح المغامر الوثَّاب الذي يحدو بكل أولئك إلى النزوح وراء طلب العيش حتى في بلاد لا تخضع لحكمهم، وهلا رغب أبناؤنا في الأسفار وطلب العيش، وعملنا على تشجيعهم حكومة وشعبًا وبخاصة إلى جهات السودان التي لا تنأى عنا كثيرًا؟ هنا أذكر قول صاحبنا المرح: إني أدهش إذ أرى مصريًّا لأول مرة في حياتي في تلك البحار النائية رغم تعدُّد أسفاري في أصقاع الأرض كلها! فردَّ الشاب الفرنسي يخاطبني قائلًا: إنكم تحكون الفرنسيين في ذلك؛ لأن أهل الريف في فرنسا يرغبون عن الأسفار كثيرًا. فقلت في نفسي: شتان بين النزعتين! حقًّا قد أثَّرَتِ الزراعة في أهل فرنسا فصرفتهم عن النزوح إلى الخارج في كثرة أبناء الإنجليز مثلًا، ولكن أثر الزراعة في القعود بالمصريين عن النزوح كان أفعل وأنكى، وكم كان القوم يفخرون بسعة أملاكهم الأفريقية التي تثبت ما كان لأبنائهم من جهود صادقة في نشر الدعاية الفرنسية بعيدًا، فقد أخضعوا تلك البلاد العربية لسلطانهم، ونشروا لغتهم بين أولئك الأقوام، وهم يقولون بأن فتح الإسلام لتلك البلاد قبلهم قد حدَّ من أثر وحشية تلك القبائل ومهَّدَ للحضارة الفرنسية، فهم مدينون للعرب كثيرًا، وهم يزعمون أن ميل الناس لهم هناك أكثر من حب السود للإنجليز في المستعمرات الإنجليزية، وذلك بفضل الصراحة الفرنسية والديمقراطية وسرعة الاختلاط تلك التي تشعر بالمساواة وتزيل الفوارق التي تزيدها السياسة الإنجليزية حدة، وهم يقولون بأن فرنسا أبعد ما تكون عن سياسة «فَرِّقْ تَسُدْ» التي يتخذها الإنجليز رائدهم؛ لذلك كانوا بغيضين حيثما حلوا.

في يومين كاملين وصلنا الدار البيضاء بعد أن عبرنا جبل طارق وقمنا بجولة خلال تلك البلدة، والحق أنها لتعد مفخرة الاستعمار الفرنسي، فلقد خلقوا بلدًا على أحدث ما يكون في الطرق الممدودة والأبنية الفخمة والمتنزهات المنسقة، وقد كانت من قبلُ محلة فقيرة غير ذات شأن بها مجموعة من أكواخ لقرصان البحر قريبة من الشواطئ، ولا تزال للبلدة القديمة بقية، وقد أقام الفرنسيون بلدًا آخَر للوطنيين ببوائكه وأزقته وأقبيته ومساجده، غير أنه نظيف جميل وقد أصبحت كازابلانكا أولى بلادهم التجارية؛ لذلك بدت ميناؤها ممدودة الأرصفة شاهقة الروافع تامة المعدات جديدة البنيان، وكانت الحركة التجارية بها صاخبة مائجة، غير أن المدينة رغم كل هذا لم ترقني كثيرًا؛ لأنها بدت إفرنجية بحتة لا يزينها ذاك السحر العربي الذي يبعث في تلك البلاد جمالًا يفوق الوصف، فالجزائر مثلًا تفوقها روعة؛ إذ فيها يختلط العربي بالبربري بالفرنسي مما جعل مناظرها منوَّعة غير موحَّدة ولا مملة كما هي الحال في جميع البلاد الإفرنجية.

عبرنا مدار السرطان، وهنا سرت موجة فزع جنونية عند جمهرة المسافرين من الحر والشمس، وقاموا يلبسون قبعاتهم البيضاء الكبيرة من الفلين، مع أنَّا كنا في ظلال الباخرة، ولا يكاد الواحد يرى زميله أو ابنه عاري الرأس حتى يصيح في وجهه مخيفًا إياه من خطر الأشعة فوق البنفسجية في شمس المنطقة الحارة، وكم بدا شكل العجائز من النساء مضحكًا وهن يلبسن تلك القبعات المنتفخة غير المنسجمة مع أرديتهن ولا مع سحنتهن، وكذلك صغار الأطفال الذين كانت تكاد تخفيهم تلك القبعات من تحتها. ولقد بدأ الحر يتزايد عاجلًا بعدما عبرنا خط عشرين من العروض الشمالية، وهدأ البحر حتى لم تكن تشقه موجة واحدة، وانتظم هبوب الرياح من الشمال الشرقي ومن ناحية القارة إلى يسارنا، بعد أن كان من قبلُ مضطربًا، وتلك لا شك هي الرياح التجارية المعروفة. كذلك أخذ القوم يلتهمون أقراص الكينين بمقادير كبيرة استعدادًا للقاء أخطار الملاريا التي تفتك بالجنس الأبيض في تلك الأصقاع فتكًا ذريعًا، فكنت أرى السيدة تسير وفي يدها أو في حقيبتها علبة الكينين تلتهم منها كثيرًا، وكان جل المسافرين في تلك الباخرة الفرنسية من ضباط الفرنسيين العائدين من فرنسا بعد قضاء إجازاتهم هم وعائلاتهم.

أما عن جماهير السمك الكبير الجثة، الأسود اللون، الطويل الخرطوم فحدث كأنه كان يسير في جيوش أو طوائف متضامنة تقفز في تقوُّس منتظم فوق الماء، وهي تسابق الباخرة عساها تلقف من الطعام بعض ما تلقي الباخرة من فضلات، ولا نكاد ننصرف عن ذاك المنظر حتى يصيح البعض Les poissons violants أي السمك الطيار، فنسرع وإذا سطح الماء تغطيه سحابة فضية رقيقة لامعة من سمك صغير ذي أجنحة يطير أسرابًا مائة متر أو يزيد، ثم يعود إلى مأواه من الماء، وقد يلمس الماء بذنبه ويخلف فيه شقًّا طويلًا، ثم يستأنف طيره وكأنه بذلك يستمد من الماء قوة تعاونه على السير، أو كأنه يتلمس صيدًا من سمك آخَر يأكله.

أصبحنا نقارب خط عرض ١٥° شمالًا، وما إن غربت الشمس حتى خيَّم الظلام فأخفى كل شيء، وتلك ظاهرة جلية في المناطق الحارة، حيث يقصر أمد الشفق في الغداة والعشي قصرًا يكاد يخفيه كلية، وكأن ذلك قد ساعد الأهلين أن يأووا إلى مضاجعهم مبكرين، فلم يسرفوا في السهر كما هي حالة الطوائف الأخرى من الأوروبيين مثلًا، ولذلك عاجلهم الكبر وبخاصة النساء اللاتي تذبل نضارة خدودهن عاجلًا، أما بين السود فيكون ذلك متأخرًا. وإن أعجب فعجبي من سرعة التغيير في الجو كلما خطونا درجة عرض واحدة داخل مدار السرطان؛ إذ كنا نلمس الحرارة تتزايد في سرعة مخيفة حتى أصبحنا في هجير أقَضَّ مضاجعنا، ولما نعد خط ١٥° وإن أثر أشعة الشمس لبالغ الشدة لا تكاد تحتمله جسومنا، هنا يقدر الإنسان حكمة البارئ الذي جعل من جلود سكان تلك المناطق غشاء أسود لا تجد تلك الأشعة المحرقة إليه سبيلًا، على أنها نالت من أذهانهم فركدت ومن جهودهم فخملت، وقد كنت ألمس ذلك في نفسي وأرثي لحال أولئك القوم من نزلاء تلك الأصقاع.

داكار

في أربعة أيام وبعض يوم أقبلنا على رأس من الأرض دقيق يمتد بعيدًا في المحيط، وينتهي بذؤابة معقوفة من صخور وجزيرات ممدودة تكسوها جميعًا الخضرة النضرة، وهو الرأس الأخضر كما أسماه البرتغاليون قديمًا، وهو من أخطر الأماكن على السفن؛ إذ كثيرًا ما لا تتبين صخوره فيصيبها العطب أو التدمير، وقد ألفينا هناك أربع سفن مهشمة غارقة على صخورها رغم ما يقوم على تلك الصخور من فنارات، وفي منعطف إلى جنوب ذلك أقيمت مدينة داكار، رست بنا الباخرة على الميناء ومن حولها المراسي الممتدة، وتحميها من أمامها جزيرة صغيرة تجعل منها ميناء حربيًّا عظيمًا، وذلك ما يعتزم الفرنسيون إتمامه قريبًا. نزلنا البلدة وإذا بها منسقة نظيفة كبيرة، جل أبنيتها مستحدثة وشوارعها متعامدة متوازية، ولا يعدو علو المباني هناك الطابق الثاني، وغالبها من طابق واحد، والمتاجر فقيرة المعروضات مما يناسب زنوج تلك الجهة من أقمشة قطنية بسيطة وأوانٍ منزلية جلها من الزنك، ويقطن كل تاجر عادةً خلف حانوته في نفس البناء، وهناك قسم أرستقراطي أقيم للجالية الفرنسية هو غاية في الجمال، تحفه الحدائق والمتنزهات وتقوم به دور الحكومة.

وفي ناحية أخرى «المدينة» كما يسمونها، وهي الناحية التي أقامتها الحكومة للوطنيين عقب الحرب مباشرةً تفاديًا من قذارة المدينة الوطنية القديمة التي تقع إلى ورائها، سرنا نجوب تلك الأرجاء والأهلون من حولنا تغص بهم الطرقات في ألوانهم الفاحمة وقاماتهم الشامخة وأجسامهم الممتلئة، يسترعي النظر منهم الزي الفضفاض من القماش المهفهف العديد اللون قاتمه، وجله من نسيج القطن الرقيق يحكي العباءات المنتفخة للرجال والنساء معًا، ويشق من جانبيه، ولعل أجمل ما يروق السائح رءوس السيدات التي نُسِّقَ الشعر من فوقها في أشكال هندسية مقوسة ومكورة تزيِّنها الحلقات والودع وما إليها، والمتزوجات يضعن فوق كل ذلك عارضة تبدو من جانبيها كور منتفخة سوداء من جديل أسود كأنه فرو الخراف، ويلف الرأس فوق ذلك بعصابة من منديل خفيف ملون، وأجساد السيدات أميل إلى السمن يتهادين في مشيتهن ويبدين من دلالهن ما يجتذبن به أنظار المارة، وهن باسمات لا ينفرن من الناس، بل على استعداد للتحدث مع أي إنسان، ويلبس بعض القوم الخفاف في أقدامهم على أن كثيرًا منهم يسيرون حفاة.

وكم كان يروقنا منظر القوم يفترشون الأرض أمام بيوتهم وبخاصة في المساء هروبًا من هجير الحجرات، ولقد أقامت الحكومة لهم أسواقًا عديدة مسقفة منظمة يعرضون فيها سلعهم من أردية وأقمشة ومأكل، وأظهر معروضات الطعام: السمك المجفَّف وبعض الفاكهة وثمر الكولا الذي يأكلونه طازجًا وطعمه كالجمار إلا أنه لزج، ثم أعواد من شجر السواك يحملونه جميعًا نساء ورجالًا، فأنت ترى الواحد منهم يسير وقد أمسك بأسنانه عصا صغيرة حسبتها لأول وهلة لفافة تبغ دقيقة، لكنك تراهم يمضغون أطرافها وينظفون بها أسنانهم طوال الوقت حتى ساعة الكلام، فهو يتحدث إليك وهو يحركها في فمه ويقرض من طرفها، وقد مررنا في المساء بقوم يدقون طبولًا من صفائح عدة، ويغنون ويصفقون ويقف بين الجمع اثنان أو ثلاثة يرقصون ويضربون الأرض بأرجلهم ضربات فنية، وهذه ما يسميها الإفرنج Tam Tam وهي شبه الدلوكة عند السودانيين.

وقف بي السير عند حانوت يبيع كتبًا كلها عربية، وكثير منها من مطبوعات مصر، فدخلت أسأل عن كتب تتحدث عن السنغال، فلاقاني شاب وسيم الطلعة رقيق الجانب اسمه أحمد سامي وهبة القويملي، وقال: جنابك ابن عرب؟ فقلت: نعم، ومصري. وقال: أنا أيضًا مصري أتجر في الكتب العربية من مصاحف ومصورات دينية وقليل من كتب الأدب. قلت: وهل لديك من الكتب ما يحدِّثنا عن بلادكم الأفريقية هذه؟ قال: ليس عندي منها إلا كتاب لرحَّالة اسمه محمد ثابت كتب عن أفريقيا، ولكنه لم يكتب عن تلك البلاد. وتناوَلَ كتابي «جولة في ربوع أفريقيا»، قلت: وهل تدري مَن مؤلِّف هذا الكتاب؟ وفتحت صفحة منه فيها صورتي فنظر الرجل وقال: أهو حضرتكم؟ قلت: نعم. وكانت مفاجأة لنا ظريفة أخذ الرجل بعدها يرحِّب بنا ويقول: «أهلًا بأهل الفضل والعلم، أهلًا بمَن جاب الأقطار كلها.» ولقد تحدَّث إليَّ عن الأهلين فقال بأن أغلبيتهم الساحقة من المسلمين، يحافظون على دينهم ويحاولون تعليم أبنائهم اللغة العربية ويحفِّظونهم القرآن، وقد أنشأ بعضهم المدارس لهذا الغرض، وهناك مدرسة أهلية كبيرة تسير على مناهج عربية على أن الحكومة لا تعاونها، أما المكاتب الأولية فكثيرة، وقد مررت بأحدها وكان الأطفال يجلسون على الأرض في صفين ووجوههم إلى الحائط، وبيد كلٍّ لوحٌ من خشب كتب عليه آيات القرآن، وأخذوا يهزون أجسامهم وهم يترنمون بحفظها، والعصبية الإسلامية بين الناس لا بأس بها، يهتم القوم بإقامة المساجد، وقد قامت جمعية اسمها «جمعية الإخاء الإسلامية» خوَّلَتْ لها الحكومة الاجتماع في ناديها مرتين في كل أسبوع للتحدث في الشئون الإسلامية، على أن الحكومة تقاوم الإسلام سرًّا لا جهرًا، فهي لا تبيح التبشير الإسلامي، لكنها تحشد كل يوم من مبشِّريها عددًا كبيرًا يحاولون استمالة السود بالمال والعطاء، لكن بعدما ينقاد الواحد لهم قليلًا لا يلبث أن ينقلب ويعود إلى إسلامه. ولقد زرت مسجدًا رئيسيًّا هناك وصليت فيه الظهر، وكان عدد المصلين به كبيرًا، على أن كثيرًا من البيض أخذوا يرمقونني بنظرات مريبة، وقد حدَّثني صاحبي أن البيض ممنوعون من الصلاة مع السود في المساجد، وإن صلَّى أحدهم في المسجد ناداه البوليس ونهره قائلًا: هذا المسجد للسود فقط، أما أنت فتستطيع الصلاة في دارك. وكثير من الأهلين يفهم العربية ويتحدَّث إليك بها، وأنت تسمع الكثير منهم في الطرقات يتوسلون بالرسول والصالحين فيقولون: يا محمد، يا رسول الله. وكلهم على مذهب الإمام مالك، وهم يتعصبون له جدًّا لدرجة أنهم لا يحبون الأحناف قطُّ، والجالية البيضاء كلها إسلامية أيضًا ومن جبال لبنان، ومذهب السواد الأعظم منهم شيعي، وكثير من المتاجر يكتب عنواناته بالعربية إلى جانب الفرنسية، وجل التجارة في أيدي اللبنانيين والسوريين، وهي تدر عليهم مالًا وفيرًا فقد يغتني الفرد منهم في سنة واحدة، وأنت تسمع رنين اللغة العربية السورية على طول الطريق وبخاصة من التجَّار أنفسهم، ولقد راقني من خادم صديقي صاحب المكتبة وكان زنجيًّا مسلمًا أن سيده قال في سياق حديثه معي «بأن العبيد هنا بالطبع لا يستطيعون قراءة كتب الأدب، فقراءتهم ضعيفة.» فصاح قائلًا: «العبيد! العبيد! كلنا عبيد الله.» فقلت: نعم. وأكبرت فيه تلك النفس التي هذبها ولا شك الإسلامُ الذي سوَّى بين المؤمنين جميعًا.

لبثنا في داكار يومين وقد أكبرنا فيها نظافتها وحسن تنسيقها، لذلك كانت الحالة الصحية فيها على خير ما تكون، ولا عجب، فهي عاصمة كل الممتلكات الفرنسية في غرب أفريقيا، وفيها يقيم حاكم أفريقيا الغربية الفرنسية «L’a.o.f» وقد نما عدد سكانها من ٢٥ ألفًا سنة ١٩٢٥ إلى ٤٠ ألفًا اليوم، وفيها يشرف الحاكم على سبع مقاطعات «موريتانيا، سنغال، النيجر، غينا الفرنسية، ساحل العاج، داهومي، السودان الفرنسي»، وهي التي تؤلف في مجموعها أفريقيا الغربية الفرنسية، ومجموع سكانها زهاء ١٤٫٥ مليونًا جلهم من المسلمين.

إلى بلاد النيجر

في ثمانية عشر يومًا وصلنا لاجوس ثغر نيجريا، فإذا بنا ندخل شعبة من مستنقع يطلقون عليه الكلمة الإنجليزية Lagoon، وهو هائل كأنه النهر الفسيح، ماؤه كدر مائج، وبعد أن سرنا طويلًا ألفينا الميناء على ضفتيه فتقدَّمْتُ إلى ضابط المهاجرة بالجواز وخطابات التوصية، فرحَّبَ الرجل بنا على غير عادة هؤلاء، ثم حللت في بهو الجمرك وإذا بشاب وسيم يتقدم إليَّ ويقول: أأنت الأستاذ ثابت؟ قلت: نعم. قال: أنا راسخ خليل صديق السيد محمد أبي السعود، وقد كتب إلينا أن نستقبلك. ثم قادني إلى المنزل بعد أن حال بيني وبين الذهاب إلى الفندق، وهناك تقبَّلني صديقه وزميله في المسكن عارف بركات، والأول من مسلمي سوريا، والثاني من الدروز يشتغلان بالتجارة ودور السينما، وقد تعرفت بواسطتهما إلى كثير من زملائهما السوريين الذين يكادون يحتكرون التجارة في تلك البلاد.

بدت مدينة لاجوس كبيرة عظيمة الامتداد، طرقها معبَّدَة، وأبنيتها نظيفة وشاطئ اللاجون بها جميل، وناهيك بأسواقها التي تغص بالأهلين من قبائل «ياروبا» في الغالب وزهاء نصفهم من المسلمين، والباقون بين وثنيين ومسيحيين وسحنتهم منفرة في الغالب، ورغم ذلك فإن نسبة العفاف عندهم محدودة جدًّا، فالفتاة مثلا تصادق مَن تشاء ما دامت بكرًا، ولا يرغب الشبان في زواجها إلا إذا حملت سفاحًا، وعندئذ يثقون في أن الراغبين فيها كانوا كثيرين.

والتقبيل غير معروف لديهم والنساء ينفرن منه، ويتزوَّج الرجل من عدد كبير من النساء قد يفوق العشر يؤثر عليهن واحدة تُعَدُّ رئيستهن يحترمنها ويركعن أمامها، ولا تغار الواحدة من الأخرى؛ لأنها ألفت تعدد الضرائر في بيت والداها من قبلُ، وهن يتخذن الصور الفوتوغرافية تمائم، فإذا وضعت عند مدخل حجرة النوم وخطت عليها الزوجة الخائنة لزوجها مات عشيقها على الفور، ومن خرافاتهم أن الرجل إذا ناداه عدوه فردَّ عليه مات عاجلًا.

وعند موت أحدهم تبقى الجثة يومين، ثم يخلع الأقرباء عليها أحسن الملابس ويعلن الناعي أهل البلدة وبيده دجاجة، ويهرب النسوة من رؤية الجنازة؛ لأن في ذلك شؤمًا عليهن، وإن كان الميت مصابًا بمرض وبيء حذَّر المنادي الناس أن يخرجوا خشية أن يصيبهم سوء، وتُدفَن الجثة في غير تجمهر وتعود الروح ليلة الأربعين إلى البيت، وعندئذٍ تجتمع الزوجات وقريباتهن ويأخذن في الغناء والتصفيق حول مصباح حتى تصيح إحداهن قائلة: ها هو آتٍ. ثم يقلد رجل حركات الفقيد وخطواته ويرتدي ملابسه ويزور حجرات الدار جميعًا، والنساء يسجدن على الأرض كي يباركهن الفقيد. وكان الدفن أولًا تحت سقف الدار نفسها، ثم حُرِّم ذلك اليوم.

وللياروبا في الاستدانة نظام عجيب يسمونه أيووفا Iwofa بمقتضاه يخدم المدين دائنه نصف اليوم حتى يسد دينه، وقد يظل البعض فوق عشر سنين يؤدي تلك الخدمة سدًّا لفوائد مبلغ بسيط قد لا يزيد على عشرة جنيهات، وقد يكون أولئك الخدم من الفتيات، وعندئذٍ لا يرغب ذووهن في تحريرهن من ذاك الأسر ويلبثن هكذا حتى تحين سن زواجهن، وعندئذٍ لا بد أن يدفع الزوج الدين بدل المهر لكي يتسلَّم خطيبته، وعاداتهم في التحية تلفت النظر؛ إذ ترى الواحد أو السيدة تركع نصف ركعة مرتين أو ثلاثًا، وهي تتمتم أمام مَن تحييه، وقد تكون مثقلة بطفل أو اثنين أحدهما يعلق وراءها والآخَر بين يديها، ولا تكاد تحمل السيدة شيئًا في يدها، بل الغالب أن تلف الطفل وراءها بحيث لا ترى إلا رأسًا ذات عينين براقتين وكأنه القرد الصغير، وتضع المتاع فوق رأسها وتترك يديها طليقتين، وهي التي تقوم بالعمل كله والرجل عاطل كسول، وما أجمل أن ترى السيدة أو الغادة تسير وقد كست وجهها بالأدهنة البيضاء «البدرة» في غير إتقان، فيبدو وجهها جيريًّا مرقعًا مضحكًا وذلك لكي تبدو بيضاء جميلة، وقد كثر بينهن المتفرنجات من المسيحيات، وهؤلاء يلبسن الأردية الإفرنجية على أنهن يسرن حفاة، وحتى طلبة المدارس وطالباتها يسيرون في الحلل البيضاء النظيفة ولكنهم يتركون الأقدام عارية، وكذلك أجناد البوليس، والحي الإفرنجي هناك فسيح كبير تقوم به دور الحكومة وهي عديدة؛ لأن لاجوس هي عاصمة نيجريا ومقر الحاكم العام.

قمت إلى كانو بقطار السكة الحديد، فعبرنا بالسيارة قنطرة هائلة هناك على «اللاجون» إلى الشاطئ المقابل للاجوس؛ إذ البلدة جزيرة محصورة بين المناقع من جميع نواحيها، وهناك اشتريت التذكرة بثلاثة جنيهات ونصف جنيه مصري في الدرجة الثانية، والعجب أن أجر الدرجة الأولى أحد عشر جنيهًا، وذلك لكيلا يستطيع السود دفعها، وبذلك تُترَك الدرجة الأولى للبيض وحدهم. وكان في وداعنا رهط من إخواننا السوريين، وأخذ القطار يشق بنا أحراشًا معقدة من شجر مشتبك وعشب كثيف مما ينمو عادة في المناقع الملحة، ثم تغيَّرَ المنظر بعد زهاء أربع ساعات فأضحى من الغابات الكثيفة التي تكثر في المناقع العذبة، وكان أظهر الشجر نخيل الزيت والنرجيل وشجر المانجروف، وظل هذا زهاء مائة ميل، ثم صعدنا هضبة وأوغلنا في سڨانا من النبات ذي العشب السائد الطويل، تتخلله أشجار متفرقة كانت تزيد كثافة عند المجاري المائية التي مررنا بالكثير منها وبخاصة نهر النيجر الذي يبلغ من الاتساع ثلاثة أضعاف نيلنا المبارك، وقبيل كانو بنحو ست ساعات تغيَّرَ المنظر فأضحى عشبًا أخضر قصيرًا تنتثر خلاله الأشجار على قلة فحاكى أرض مصر المحبوبة، وكان الطريق كله سهولًا لا تكاد تبدو فيها التلال إلا نادرًا.

وفي مناطق الغابات الأولى كنا نرى بين فترة وأخرى فجوات استأصلها الأهلون بالقطع والحرق وزرعوها ذرة أو «نيام»، وهو نبات جذري كالبطاطا في ضخامة هائلة يتخذون منه خبيصًا «كالعصيدة»، وهو من أغذيتهم الرئيسية وكذلك الموز، وتربة الأرض كلها حمراء تغاير كل المغايرة تربتنا السوداء الخصبة، وكلما أُجهِدت الأرض المزروعة تركها ذووها ولجئوا إلى بقعة أخرى استأصلوها وبدءوا زرعها، وقد استرعى نظري من معروضات المحطات نوع من الموز الأصفر الفاقع في طول قد يبلغ شبرًا ونصفًا، فشريت بعضه وما إن بدأت أنزع قشره لآكله حتى صعب عليَّ نزعه، وما أن تذوقته حتى بدا كالعجينة فكانت مني خيبة أمل، لكني علمت أن هذا النوع لا يُؤكَل طازجًا بل يُقشَّر ويقلى في زيت النخيل، ثم يُؤكَل، وهو من أحب الأطعمة عندهم، وزيت النخيل يبدو أحمر ثقيلًا كأنه العسل وهو عماد غذائهم يدخلونه في كل شيء، وهو مستمد من ثمرة نخيل الزيت، وهي كالبلح الأحمر الصغير في حجم الزيتون يعصرون لبابته الخارجية لاستخراج هذا الزيت الأحمر، وأما النواة فتُصدَّر للخارج لعصرها أيضًا، وهذا أهم موارد تلك البلاد؛ إذ يُصدَّر زيت اللبات هذا ليُنقَّى، وكذلك يُصدَّر النوى ليُعصَر في أوروبا، ويلي ذلك في القيمة الكاكاو، وفي نحو ثلث الطريق ركب القطار عائلة من الياروبا وجلس النساء إلى جواري بشكلهن المنفر رغم ما كُنَّ يتزين به من البدرة البيضاء والأقراط والشعر المجدول، ولهن في جدله طرائق جذابة تلفت النظر؛ فواحدة منهن كانت تجدل الشعر في عصا قائمة كأنها المسامير الكبيرة منثورة في الرأس كله، والأخرى تجدله في أقنية متوازية من مؤخر الرأس إلى مقدمه، ومعهن أطفال كثيرون وشاب مثقَّف يجيد الإنجليزية، وقد ابتاعوا من المحاط لفائف من ورق الموز في بعضها أرز معجون، وفي الآخَر معجون الذرة يضيفون إليه الزيت الأحمر ويأكلونه بأيديهم في شكل منفر، ولا تفتأ ترى الواحدة منهن قد ختمت هذا الطعام بثمرة الكولا، تقرضها تحت أسنانها وتظل تمتص عصارتها وتبدي من حثالتها القذرة فوق شفتيها، وأخيرًا تبصقه إلى الأرض، وهم يعتقدون أنه منشِّط للمعدة منبه للأعصاب، حتى إن المتعب المجهد إذا مضغه استعاد نشاطه، وكم أعجبني منظر الرجال ينزل الواحد منهم في المحاط وبيده إبريقه ويتوضأ عاجلًا، ثم يقيم الصلاة ويعود إلى القطار؛ فهم جميعًا محافظون على صلواتهم وبخاصة كلما قاربنا الشمال، وكثر شعوب «الهوسة» المتعصبون لإسلامهم على أنهم يكثرون من النظرات ولفت الرأس وتكرير الركوع مرات تزيد على ما يجب. أخيرًا بعد اثنتين وأربعين ساعة وصلنا كانو، وإذا بشاب وسيم الطلعة يناديني باسمي ويقول: «أنا محمد أبو السعود.» ومن حوله جمع من إخوانه المصريين والسوريين والطرابلسيين يرحبون بمقدمي وينقلونني في سياراتهم إلى الدار العامرة، وقد بالَغوا في إكرامي إلى حد جعلني عاجزًا عن شكرهم.

كانو

أخذنا نجول في أنحاء كانو وهي ثلاثة أقسام أساسية: القسم الإنجليزي وبه بيوت السادة الإنجليز ونواديهم وغالب دور الحكومة، ثم القسم السوري وفيه البيض من غير الإنجليز بمساكنهم ومتاجرهم، وسمي بالسوري؛ لأن أغلب البيض هناك منهم وبخاصة من مسلمي الشيعة، ويقيمون بيوتهم الفسيحة الجميلة، وفي جانب منها المتاجر نفسها في الغالب، والبيوت ليست متلاصقة ولا مكتظة. أما القسم الثالث وهو أجملها فهو كانو الوطنية موطن الأهلين من السود، وهي داخل سور قديم من الطين الأحمر وله بوابات عدة يقف عندها جندي من الداخل وآخَر من الخارج، والناس هناك جلهم من قبائل «الهَوْسَة» المتعصبين لإسلامهم، حتى إن البلدة داخل الأسوار لا يقطنها غير مسلم قطُّ، وبيوتهم تقام من اللبن يطلى بالطين الأحمر في تجزيع فني جميل، وتمتاز بأركانها المدبَّبة، وهي أنظف كثيرًا من بيوت أهل الجنوب من «اليروبا»، وسحن الناس بها مسحة من جمال وبخاصة العذارى من الغانيات، وأولئك يلبسن الأردية التي تغطي الجسم من دون الثديين، فيبدو الصدر كله عاريًا يسترعي نظر المارة، وخصوصًا إذا ما طَلَتِ الغادة وجهها بالبدرة البيضاء، أما المتزوجات فأرديتهن تغطي الجسم إلى ما فوق الثديين، ولقد عجبت لما أن علمت بأن الغيرة على النساء فاترة جدًّا عند الرجال، ونسبة العفاف قليلة وبخاصة عند غير المتزوجات، فالفتاة يباح لها أن تصادق مَن تشاء، وجل الناس هناك يتزوجون أكثر من واحدة، وللأغنياء أن يتسروا فوق الزوجات الشرعيات الأربع؛ ولذلك لم نعجب لما علمناه من أن البعض له من الذرية زهاء الستين بين ذكر وأنثى، ومن أغرب عاداتهم أن المولود البكر يُهمَل أمره ولا تُعنَى الأم به، وإذا كبر لا يقابل أباه ولا أمه مطلقًا ولا يجلس معهما على مائدة الطعام، ولقد حِرْتُ في تعليل ذلك ومن قائل إنه وليد عهد الجهالة الأولى يوم كان الأبوان لا هَمَّ لهما إلا إشباع الشهوة البهيمية، لذلك ينظر الأبوان إليه بشيء من الازدراء. والمعيشة في تلك البلاد رخيصة جدًّا؛ فرطل السمن بقرش ونصف، ورطل اللحم بنصف قرش، وأحب الأغذية لديهم «عصيدة» من دقيق الأدرة تسمى «الفورا»، والذي لا يستطيع ذلك فالفول السوداني مع البطاطا عديدة الأنواع هناك، وهم يبيعون نوعًا من اللحم ضُغِط بالدقيق وقُدِّد على الشمس فبدا رقائق مجزعة مصفرة منفرة.

وسوق البلد يعقد كل يوم وبخاصة بعد الظهر، وهناك نرى كل تاجر قد حمل معروضاته من قماش أو غذاء إلى حانوت صغير افترش بها أرضه، وإذا جاء المساء عاد ببضاعته كلها إلى داره، وتلك الحوانيت الضيقة تراها متراصة متجاورة ويدفع الرجل لها أجرًا زهيدًا، وللسوق سلطان يشرف عليه وتُقدَّم إليه الشكاوى المختلفة للحوادث التي تقع داخله، وله جنوده، ويظهر أن لكل شيء هناك سلطانًا حتى المتسولين الذين لا يحصون عدًّا، فلقد مَرَّ بنا واحد في هندام نظيف وشكل يدل على اليسار وهو يستجدي ويسمونه «سلطان المتسولين». والحكومة تزوِّد البلد بالماء النظيف في أنابيب تنتهي بصنابير يملئون جرارهم منها وسط الطرقات، ويدفعون لذلك ضريبة صغيرة على كل فرد، وذلك لحضهم على استعمال تلك المياه.

والسود هناك نظيفون على وجه العموم يكاد الواحد منهم يستحم كل يوم، وتبدو ملابسهم في مجموعها نظيفة وليس من بينها تلك القذارة التي كنا نلاحظها في الجهات الأخرى من أفريقيا السوداء، أو بين سكان الأحياء الفقيرة عندنا، ويتوسط البلدة بيت السلطان ويطلقون عليه أحيانًا «الملك» أو «الأمير»، والاسم الأخير هو الغالب؛ لأن الأمير عندهم أكبر مقامًا من السلطان، ولقد دعانا الأمير للقائه في قصره فبعث إلينا نائبه ولي العهد ووزيره الذي سُمِّي اليوم «الوالي»، وقد سبق لنا التعرُّف بالأمير والوالي على ظهر الباخرة كوثر ونحن عائدون من الحج، فدخلنا عدة أبهاء تفصل ما بينها بوابات عالية، فوقها أبراج مسقفة، يعلوها العلم الأسود الذي كُتِب عليه «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وأخيرًا دخلنا غرفة الاستقبال فكان الملك يجلس على مسطبة فُرِشت بالبسط، وإلى وراء ظهره غُطِّي الحائط بالحُصُر، وجلس الوزير وولي العهد والمحافظ على الأرض؛ إذ لا يُفرَش من أرض الغرفة إلا قطعة صغيرة تحت قدمَي الأمير، وجدران الغرفة نُقِشت بأصناف دوائر وتقوسات من الطلاء البارز في اللونين الفضي والأسود، وكل البناء باللبن كُسِي بالطين في غير طلاء، وكلما هطل المطر هدم بعضها وبخاصة الأسوار، وأُعِيد بناؤها.

جلسنا نتجاذب أطراف الحديث والأمير يفهم العربية جيدًا، لكنه لا يتحدث بها بسهولة بل يترك ذلك لوزيره سليمان الذي يتكلَّم العربية الفصحى، وكلما نسيت وتكلمت العربية المصرية الدارجة صاح وقال: «لا تتحدث بالجلجالية فإني لا أفهمها.» وكلٌّ من الأمير والوالي سليمان مصلح، فهما يطمحان إلى رفع المستوى العلمي في تلك البلاد، ويشيدان بمصر ورقيها وعلومها، ويرجوان أن تتاح الصلة العلمية بين البلدين عن طريق إيفاد المعلمين والكتب المصرية، وتيسير قبول طائفة من طلبة كانو في مدارسنا وجامعاتنا الأزهرية أو الملكية، وحتى نظام الكشافة والألعاب الرياضية يرغبان في إدخالها في المدارس، ولقد جمع الأمير فريقًا من أبنائه وأبناء وزرائه وألبسهم أردية اللعب الإفرنجية، ونظم منهم فرقة للألعاب السويدية يسرُّه أن يراها وهي تلعب دائمًا، والفضل في ذلك يرجع إلى نشاط الأخ «محمد أبو السعود» الذي تطوَّعَ بتعليم تلك الفرقة، والأمير يجل هذا الأخ المصري ويعده أحد أبنائه، وهو الوحيد الذي يدخل القصر بدون استئذانٍ ويزوره ولي العهد والوالي في بيته في غير كلفة، ويتناولون الطعام ويمزحون وكأنه بيت أخيهم، وكم يروقك منظر الناس وهو يحيون ولي العهد أو الوالي أو غيرهما من الوجهاء؛ إذ تراهم يتسابقون إليه ويركعون على الأرض مرات وهم يتمتمون وهو يرد التحية، وإذا كان راكبًا سيارته حيَّاه الناس بضمِّ قبضة اليد ورفعها، وهو يردها هكذا.

ويسرني جدًّا أن أرى النفر القليل من أبنائنا المصريين يسلكون في سيرتهم سلوكًا مشرِّفًا سودهم على الهيئات الأخرى جميعًا، وحبَّبهم إلى الوطنيين والإنجليز على السواء، وأعجب لِمَ لا ينزح كثير من أبنائنا إلى تلك البلاد التي تربطنا بها روابط وثيقة، ووجوه الكسب بها متوفرة يربح منها الغرباء كثيرًا ويعيشون فيها عيشًا ناعمًا راغدًا. والغرباء هناك يشتغلون بأحد أمرين: فتح المتاجر لبيع السلع المختلفة والاتجار في محصول البلاد الرئيسي وهو الفول السوداني، وفي نقله بالسيارات الكبيرة، والفول السوداني الذي يسمونه أحيانًا «الفستق» هو عماد ثروة الفلاح هناك يتأثر بتقلُّب أسعاره؛ فإذا غلا ثمنه انتعش الفلاح، وإذا انخفض ابتأس وساءت حالته، ومتوسط ثمن الطن المقشور اليوم زهاء ثلاثة جنيهات، وقد ينزل عن ذلك وقد يرتفع إلى ما فوق عشرة جنيهات، ويزرعه الفلاح قبل موسم المطر في أواخر يونيو بعد أن يخطِّط الأرض في مجاري متوازية، ثم ينبش حفرًا صغيرة برجله على طول الخطوط العالية من التربة ويرمي فيها بحبة واحدة، ثم يتركه للمطر حتى يحين الحصاد، أواخر سبتمبر وأوائل أكتوبر، وعندئذٍ يبدأ موسم العمل والحركة التجارية الناشطة هناك، وجل هذا الفول يُصدَّر إلى الخارج، وبخاصة لفرنسا لاستخراج الزيوت منه، وقسم كبير منه يموِّن الأهلين بعنصر غذائي هام؛ إذ كثيرًا ما يعيش الفلاح عليه وحده.

قصدت إلى زيارة معاهد التعليم فبدأت بمدرسة الشريعة وهي ملحقة بالمدرسة الابتدائية Middle School، وتلك يتعهدها ثلاثة شيوخ من أفاضل مَن تخرَّجوا في كلية غردون قسم القضاء الشرعي، وهم سودانيون وفدوا هناك ليعدوا الطلاب ليكونوا قضاة ومعلمين، وأساس التعليم العلوم الدينية واللغة العربية وقليل من العلوم العصرية، وقد تخرَّج من تلك المدرسة عدد يقوم بالتدريس في المدرسة الابتدائية، وقد زرنا المدرسة الابتدائية بعد ذلك وهي أربع سنوات، وبرامجها تعادل برامج المدارس الابتدائية عندنا، إلا أن غالب المواد تُدرَّس باللغة الإنجليزية؛ لذلك كان الطلاب أقوياء فيها جدًّا، وعدد الطلاب ١٥٥ زرت جميع فصولهم، وكان التدريس بطريقة التلقين في مجموعه، واللغة العربية تُدرَّس في جميع الفرق، على أن طلبة السنة الأولى لا يفهمون منها إلا قليلًا، أما طالب السنة الرابعة فيستطيع التحدُّث بها بدرجة لا بأس بها، وقد بدا لي أن الطلاب أذكياء؛ لأنهم كانوا يتقدَّمون إليَّ بأسئلة في الجغرافية ويناقشون فيها بذكاء مفرط وجرأة عجيبة.

والتعليم مجاني للجميع ولا يشترط في الطالب سن خاصة ولا زي خاص، فمنهم الصبي الصغير يجلس إلى جوار الشيخ، وجلهم حفاة حتى الأساتذة وناظر المدرسة نفسه؛ إذ كان يتقدمنا ونحن نتفقد المكان وهو حافي القدمين، والطلبة جميعهم داخلية يبيتون في بناء ملحق بالمدرسة أقيم من الطين في دور عدة يحتل كل واحد اسم ناحية من المدينة، وكنت إخال الطلبة ينامون على فُرُش وأسرَّة، ولشد ما كانت دهشتي عندما ألفيت الفراش عبارة عن حصير على الأرض ينام عليها الطالب بدون وسائد ولا حشيات مطلقًا، وهم يتناولون الطعام الوطني أربع مرات في اليوم، وفي الفناء أقيمت الأحواض من الإسمنت وركبت عليها صنابير المياه «والأدشاش» للاستحمام في الهواء الطلق، وليغسل الطلبة ملابسهم بأيديهم، وبيوت المدرسين ملحقة بهذا البناء كي يتسنى لهم مراقبة الطلبة، وقد ألحق بالمدرسة قسم جديد لتدريس مبادئ العلوم، به بعض الأجهزة البسيطة، وقسم آخَر للأشغال اليدوية من النجارة والحدادة وهذه اختيارية يحضرها الطالب بعد الظهر، أما الدراسة فمقصورة على الصباح فقط. وينفق على المدرسة الأمير من ماليته ويتكلف الطالب في المتوسط عشرة جنيهات في كل عام، وأجور المدرسين تبدأ من أربعة جنيهات في الشهر، ويشتغل الواحد ٢٨ حصة في الأسبوع، وكان يرافقنا في تلك الزيارة الوالي سليمان، وكان يقول إنهم يريدون أن يقتبسوا كثيرًا من مصر والمصريين لولا ضعف مالية البلاد.

وفي اليوم التالي قصدنا إلى زيارة المدرسة الأولية، وهي في بناء من الطين بسيط يجلس الأطفال على الحُصُر وأمامهم منضدة مستطيلة، وعلى مقربة منها زرنا المدرسة التحضيرية للشريعة، وهي في مكان ضيق ويلحق بها مكتبة خاصة بها ثمانمائة مجلد من الكتب القديمة في التاريخ والعلوم الدينية والطب القديم، يقصدها القليل للاستعارة والقراءة، ثم كانت زيارتنا لمصالح الحكومة، وقد أقيمت بالحجر على النظام الحديث، والموظفون جميعًا من الوطنيين، ويضمها جميعًا بناء واحد: قسم للداخلية ويرأسه الوالي «سليمان»، وقسم للمالية ويرأسه ولي العهد «شروما»، وثالث للخارجية، ثم رياسة الشرطة للأمير جالاديما، وهؤلاء الرؤساء مع الحاكم الإنجليزي  Resident ووكيله D. O. يؤلفون المجلس الأعلى الذي يجتمع برياسة الأمير مرة في داره، ومرة في دار الحاكم الإنجليزي، وفي بناء ملاصق المحكمة العليا ويرأسها شيخ القضاة، يجلس على فراش وإلى يساره المفتي والكَتَبة وأمامه على الأرض الجمهور والمتخاصمون، ثم المحكمة الجزئية ولها قاضيها وكلهم يلبسون أردية متشابهة من الأقمشة البيضاء والعمائم المنتفخة ويسيرون حفاة، والدفاتر الرسمية تُكتَب كلها «بالهوسة» في الأحرف الإفرنجية، وفي بعض المصالح تُكتَب صورة أخرى بالعربية ليطَّلِع عليها الأمير نفسه، أما الإنجليزية فلا تُستعمَل إلا في المالية. وميزانية الإيراد تقارب ربع مليون جنيه جلها من ضريبة الدخل والقطعان وضريبة المياه، وهي شلن لكل رجل، ونصف لكل أنثى كل ستة شهور، والمنصرف يقارب ذلك المبلغ وقد يزيد عليه، والوالي وأبناء الأمير يكثرون من زيارتهم لنا في منزل الأخ أبي السعود، حتى لقد اجتمع ذات مرة خمسة منهم في وقت واحد. وللأمير زهاء أربعين ولدًا، وقد أقام لهم فصلين للدراسة الخاصة في منزله: فصل للكبار وآخَر للصغار، يزودون ببعض العلوم التي لا يدركونها في المدارس الأخرى، وقد زرتهم وهم يتلقون الدرس ولم يفترقوا في هندامهم وشكلهم عن باقي الأهلين، وهم يسيرون حفاة أيضًا، ومنهم الابن المسمى «كبيرو» وهو الذي كان يرافق أباه في الحج، ويظهر أن الذي ميَّزَه عن سائر إخوته لونه، فإنه أخفهم سوادًا وأحسنهم شكلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤