الفصل الرابع

الترتر الأزرق

وقف ثورندايك على الرصيف ينظر يمنة ويسرة في قلق متزايد بينما كانت لحظة مغادرة القطار تقترب.

وبينما كان يخطو بخطوات مترددة إلى داخل مقصورة تدخين فارغة بعد أن أشار الحارس برايته الخضراء، قال: «يا له من سوء حظ! أخشى أننا قد فوَّتنا صديقنا.» ثم أغلق الباب وبينما بدأ القطار يتحرك، أخرج رأسه من النافذة.

ثم أكمل قائلًا: «أتساءل إن كان هو هذا الرجل. إذا كان هو فعلًا، فقد لحق بالقطار بشقِّ الأنفس، وهو الآن في إحدى العربات الأخيرة في القطار.»

كان محلُّ تخمينات ثورندايك هو السيد إدوارد ستوبفورد من شركة ستوبفورد ومايرز، من شارع بورتشجل، وهي شركة لأعمال المحاماة، وكانت صلتُه بنا الآن سببها برقية وصلت إلى منزلنا في مساء اليوم السابق. كانت البرقية خالصة مقابل الرد، وتقول:

«هل يُمكنك أن تأتيَ إلى هنا غدًا لكي تتولَّى أمر الدفاع؟ القضية مهمة وكل التكاليف علينا. ستوبفورد ومايرز.»

وكان ردُّ ثورندايك بالإيجاب، وفي ساعة مبكِّرة من صباح اليوم وصلت برقيةٌ أخرى — لا شك أنها بُعثت ليلًا — وكانت تقول:

«سنُغادر إلى وولدهيرست بحلول الثامنة وخمس وعشرين دقيقة. من تشارينج كروس. سأُعرِّج عليك إن أمكن. إدوارد ستوبفورد.»

لكنه لم يُعرِّج علينا، وبما أنه لم يكن معلومًا لأيٍّ منَّا، فلم يكن بإمكاننا أن نعرف ما إن كان من بين الركاب على الرصيف.

كرَّر ثورندايك حديثه قائلًا: «يا لَه من سوء حظ شديد؛ لأن ذلك يمنعنا من التدقيق الأوَّلي في القضية وهو أمر غاية في الأهمية!» ثم راح يملأ غليونه وهو غارقٌ في التفكير، وبعد أن نظر على الرصيف عند جسر لندن من دون أيِّ جدوى، أخرج الجريدة التي اشتراها من كشك الكتب، وبدأ يُقلِّب صفحاتِها، وكان يُعرِّج بعينَيه بسرعة على الأعمدة فيها، غيرَ عابئ بالإغراءات الصحفية في الفقرات أو المقالات.

ثم قال وهو لا يزال ينظر عبر الجريدة: «يا لَها من خسارة كبيرة أن نذهب إلى خضمِّ التحقيق من دون استعداد، أن نواجه التفاصيل من دون فرصة للتفكير في القضية بصفة عامة! على سبيل المثال …»

توقَّف عن الكلام ولم يُكمل جملتَه، وبينما رفعتُ نظري متسائلًا، رأيتُ أنه كان قد قلب الصفحة وكان يقرؤها بعناية.

ثم سرعان ما قال وهو يُعطيني الجريدة ويشير إلى فقرة في أعلى الصفحة: «يبدو أن هذه هي قضيتنا يا جيرفس.» وكانت الفقرة مقتضبة وعنوانها: «جريمة قتل فظيعة في كينت»، وكان نصُّها كالآتي:

figure
اكتشاف الجريمة.

اكتُشفَتْ جريمة فظيعة صباح أمس في مدينة وولدهيرست الصغيرة، التي تقع على الخط الفرعي من تقاطع هالبيري. وقد اكتُشفت الجريمة على يدِ حمَّال كان ينظر في عربات القطار الذي كان قد وصل لتوِّه. وحين فتح باب مقصورة تابعة للدرجة الأولى، راعه أن وجد جثة امرأة تَرتدي ثيابًا عصرية وأنيقة ممدَّدة على الأرض. استُدعيتِ المساعدة الطبية في الحال، وحين وصل الطبيب المسئول الدكتور مورتون، تأكد من أن الوفاة لم تحدث إلا قبل عدة دقائق.

وحالةُ الجثة لا تدَعُ مجالًا للشك أن جريمة قتل شنعاء قد ارتُكبت، وأن سبب الوفاة هو جرح غائر في الرأس، سببُه أداةٌ مدبَّبة استُخدمَت بعنف شديد، حيث أحدثت ثقبًا في الجمجمة ووصلت إلى المخ. والسرقة لم تكن هي الدافعَ وراء الجريمة، حيث تأكد ذلك من خلال حقيقة وجود حقيبة أدوات زينة باهظة الثمن على رفِّ الحقائب، كما أن مجوهرات السيدة القتيلة التي تشتمل على عدة خواتم ماسية ثمينة لم يمسَسْها أحد. وقد ذاعت إشاعةٌ مفادها أن الشرطة المحلية ألقت القبض على أحد الأشخاص.

علَّقتُ قائلًا بينما أعدتُ إليه الجريدة: «يا لَه من أمر شنيع، لكن الخبر لا يُقدِّم لنا الكثير من المعلومات.»

ردَّ ثورندايك موافقًا: «أجل، لكنه يُقدِّم لنا شيئًا لنفكر فيه. هناك جرح غائر في الجمجمة، وسببُه أداةٌ مدبَّبة، أي بفرض أنه لم يكن جرحًا ناتجًا عن رصاصة. والآن ما نوع الأداة التي يُمكن أن تتسبَّب في مثل هذه الإصابة؟ كيف يُمكن استخدام مثل تلك الأداة في مساحة ضيقة ومحدودة مثل عربة قطار، ومَن هو الشخص الذي يُمكن أن يحوز على مثل تلك الأداة؟ هذه أسئلة أولية من الجدير أن نفكر فيها، وأوصيك أن تفكر في إجابتها مع إضافة مشكلة الدافع المحتمل أيضًا — باستثناء السرقة — وأي ملابسات غير القتل يمكن أن تكون سببًا في تلك الإصابة؟»

علَّقتُ قائلًا: «إن مجموعة الخيارات فيما يتعلق بنوعية هذه الأداة ليست بالكبيرة.»

«إنها محدودة للغاية، ومعظمها — مثل مِعوَلِ عامل الجصِّ أو المطرقة المستخدمة في أعمال الجيولوجيا — مرتبطٌ بوظائفَ ومِهَنٍ معينة. ألديك مفكِّرة؟»

كانت لديَّ مفكِّرة وبعد أن قبلتُ بتلك الملحوظة، أخرجتُها وبدأتُ أدوِّنُ أفكاري في صمت، بينما شريكي جالسًا ومفكرتُه على ركبته أيضًا وكان يُحدِّق بنظرات ثابتة إلى خارج النافذة. وظل هكذا غارقًا في أفكاره ويدوِّن شيئًا في مفكرته بين الحين والآخر حتى هدَّأ القطارُ من سرعته عند تقاطع هالبيري، حيث كان علينا أن نَنتقل لخطٍّ فرعي.

وبينما كنا نخرج من القطار، رأيتُ رجلًا يرتدي ملابس أنيقة ويُسرع على الرصيف من ناحية نهايته ويتفحَّص في لهفة وجوهَ الركاب القلائل الذين نزلوا. وسرعان ما لمحَنا من بعيد، فأتى إلينا مسرعًا وسألنا وهو يَنتقِل بنظره بيننا:

«الدكتور ثورندايك؟»

أجابه صديقي قائلًا: «أجل. وأفترض أنك السيد إدوارد ستوبفورد، أليس كذلك؟»

انحنى المحامي محيِّيًا صديقي، وقال في انزعاج كبير: «إنه أمر مريع. أرى أنك تُمسك بالجريدة. إنه أمر في غاية الفظاعة. وأنا في غاية الارتياح أن وجدتُك هنا. كدتُ أفوِّت القطار، وخشيتُ أن أفوِّت لقاءك.»

قال ثورندايك: «يبدو أن أحدهم قد أُلقيَ القبض عليه.»

«أجل، إنه أخي. إنه لأمر مريع. لنَسِرْ على الرصيف. لن يُغادرَ قطارُنا إلا بعد ربع ساعة.»

أودعْنا حقيبة جلادستون المشتركة بيننا وحقيبة السفر الخاصة بثورندايك في إحدى مقصورات الدرجة الأولى الفارغة، ثم سِرْنا — والمحامي يسير بيننا — نحو نهاية الرصيف غير الموجود بها أحد.

قال السيد ستوبفورد: «وضْعُ أخي يَملؤني بالفزع، ولكن دعْني أخبرْك بالحقائق بالترتيب، ولتحكم أنت بنفسك. تلك المخلوقة المسكينة التي قُتلت بوحشية شديدة كانت الآنسة إيديث جرانت. وكانت فيما مضى عارضةً، وهكذا كان أخي كثيرًا ما يستعين بها لأنه يعمل رسَّامًا؛ اسمه هارولد ستوبفورد وحروفه الأولية المستخدمة في أعماله هي إيه آر إيه. والآن …»

«أعرف أعماله جيدًا، ويا لها من أعمال ساحرة!»

«هذا رأيي فيها أيضًا. في الواقع، في تلك الأيام كان شابًّا صغيرًا، في حوالي العشرين من عمره، وأصبح مقرَّبًا للغاية من الآنسة جرانت — بطريقة بريئة إلى حدٍّ كبير — رغم أن علاقتهما لم تكن متحفظةً كثيرًا؛ لكنها كانت فتاةً لطيفة ومحترمة — كما هو الحال مع معظم العارضات الإنجليزيات — ولم يفكر أحد في وقوع أيِّ مكروه. ولكنهما تبادلَا الكثيرَ من الخطابات وبعض الهدايا الصغيرة ومن بين تلك الهدايا سلسلة مطرَّزة بالخرز بها مدلاة، وفي تلك المدلاة كان غبيًّا بما يكفي ليضع فيها صورته ويكتب عليها: «إلى إيديث من هارولد».

بعد ذلك، عملت الآنسة جرانت في المسرح في مجال الأوبرا الكوميدية، لما تتمتَّع به من صوت جميل؛ ومن ثَمَّ تغيَّرت عاداتُها ومعارفها بعض الشيء؛ وفي تلك الأثناء وبينما خطب هارولد امرأة أخرى، كان حريصًا وبصورة طبيعية على استعادة خطاباته، وحريصًا بصورة خاصة على استبدال هدية أقل إثارة للشبهات بالمدلاة التي في السلسلة. وقد أرسلتْ إليه خطاباتِه في النهاية، لكنها رفضت تمامًا أن تتخلَّى عن المدلاة.

طوال الشهر المنصرم كان هارولد يَمكث في هالبيري ويقوم بنزهات للرسم في الريف المحيط بالمدينة، وقد أخذ القطار صباح أمس المتجه إلى شينجلهيرست، وهي المحطة الثالثة بعد هذه المحطة التي نقف فيها، وهي المحطة السابقة لمحطة وولدهيرست.

وقد قابل الآنسة جرانت على الرصيف هنا، وكانت آتيةً من لندن وفي طريقها إلى وورذنج. دخلَا القطار الفرعي معًا، وأخذَا مقصورة درجة أولى. ويبدو أنها كانت ترتدي المدلاة في ذلك الوقت، فقدَّم عرضًا آخر لها لتُبادله المدلاة، وقد رفضتْ ذلك العرض كالذي سبقه من العروض. ويبدو أن الحديث بينهما أصبح محتدمًا وغضبَا كلاهما؛ ذلك أن الحارس وأحد الحمالين في محطة مونسدين لاحظَا أنهما كانَا يتشاجران؛ لكن ما انتهى إليه الأمر هو أن السيدة انتزعت السلسلة ومعها المدلاة وألقتْها إلى أخي وافترقَا وديًّا في محطة شينجلهيرست، حيث نزل هارولد من القطار. حينها كان يَحمل كاملَ عدة الرسم الخاصة به، وكانت تشتمل على مظلة كبيرة من القماش الكتاني الخشن في أسفلها قضيبٌ ذو طرف مدبَّب مصنوع من الصلب للاتكاء به على الأرض.

وكانت الساعة العاشرة والنصف تقريبًا حين نزل في محطة شينجلهيرست، وبحلول الحادية عشرة كان قد وصل إلى مكان عمله وشرع في العمل، وظل يرسم مدة ثلاث ساعات. ثم جمع أشياءه وكان قد بدأ للتوِّ طريقَ عودته إلى المحطة حين استوقفته الشرطة وألقت القبض عليه.

والآن لاحظْ تراكمَ الأدلة الظرفية ضدَّه. لقد كان هو آخرَ شخص شوهد بصحبة الضحية؛ لأنه يبدو أن أحدًا لم يرَها منذ أن غادرَا مونسدين؛ وبدا أنه كان يَتشاجر معها حين شوهدتْ لآخر مرة على قيد الحياة، وكان لديه سببٌ لأن يرغب في موتها، وكانت لديه الأداة — وهي قضيب مدبَّب — القادرة على التسبب في الإصابة التي أودت بحياتها، وحين تمَّ تفتيشه، وُجدت معه المدلاة والسلسلة المكسورة، والتي كان من الواضِح أنها انتُزِعت منها بعنف.

وتقف شخصيتُه المعروفة ضدَّ كلِّ هذه الأدلة بالطبع، فهو الأكثر نبلًا ووداعة من بين الجميع، وكان في تصرُّفِه اللاحق معتوهًا إلى أقصى درجة إذا ما كان مذنبًا؛ ولكنني كمحامٍ لا يسعُني سوى أن أرى أن الشواهد تقف ضدَّه في هذه القضية بصورة ميئوس منها.»

ردَّ ثورندايك بينما كنا نأخذ أماكننا في العربة: «لن نقول «بصورة ميئوس منها»، رغم أنني أتوقع أن الشرطة مُتغطرسةٌ للغاية. متى سيُفتح التحقيق؟»

«اليوم في الساعة الرابعة. لقد حصلتُ على إذنٍ من قاضي التحقيق لتفحصَ الجثة وتكون حاضرًا في التشريح لمعرفة أسباب الوفاة.»

«أتعرفُ مكان الجرح بالتحديد؟»

«أجل، إنه يقع خلف الأذن اليُسرى وفوق حافتها؛ إنه ثقبٌ مستدير فظيع، وبه قطعٌ أو تمزُّقٌ وعرٌ يبدأ عنده وينتهي عند جانب الجبهة.»

«وكيف كانت الجثة ممددة؟»

«بطول الأرض، وكانت قدماها قريبتَين من الباب الجانبي.»

«أكان الجرحُ في رأسها هو الجرح الوحيد الذي أُصيبت به؟»

«لا، بل كان هناك قطعٌ طويل أو كدمة على وجنتها اليمنى؛ قال الطبيب الشرعي التابع للشرطة إنه جرحٌ رَضِّي، يعتقد أن سببه سلاحٌ ثقيلٌ وثَلِمٌ. ولم أسمع بوجود جروح أو كدمات أخرى.»

سأله ثورندايك: «هل دخل أيُّ شخص القطار أمس في محطة شينجلهيرست؟»

«لم يدخل القطار أحدٌ بعد أن غادر هالبيري.»

فكَّر ثورندايك في تلك الردود في صمت، ثم سرعان ما استغرق في تفكير عميق لم يستفق منه إلا حين غادر القطار محطَّة شينجلهيرست.

قال السيد ستوبفورد: «هنا تقريبًا وقعت جريمة القتل، أو على الأقل بين هنا ومحطة وولدهيرست.»

أومأ ثورندايك وهو شارد الذهن، وكان في تلك اللحظة مشغولًا وفي اهتمامٍ بالغ بملاحظة الأشياء البادية من النافذة.

ثم بعد برهة علَّق قائلًا: «أُلاحظ عددًا من الشرائح المبعثَرة هنا وهناك بين القضبان الحديدية، وبعض أجزاء الكراسي التي تبدو جديدة. أكان هناك بعضُ العمال يَعملون مؤخرًا؟»

أجاب ستوبفورد: «أجل، إنهم على خط السكة الحديدية الآن، أعتقد ذلك، على الأقل رأيتُ مجموعة من العمال يعملون بالقرب من وولدهيرست بالأمس، ويُقال إنهم أشعلوا النار في كومة قش؛ لقد رأيتُها وهي تنفث الدخان حين كنت في طريقي.»

«بالفعل؛ أعتقد أن الخط الحديدي الأوسط هو نوع من أنواع المسارات الجانبية؟»

«أجل، إنهم يُحولون قطارات البضائع والعربات الفارغة إلى هذه السكة. تلك هي آثار ما تبقَّى من الكومة المحروقة، ترى أنها لا تزال تحترق ببطء.»

حدَّق ثورندايك شاردًا في الكومة السوداء حتى توارت عن الأنظار خلف عربة فارغة لتحميل الماشية على السكة الوسطى. تَبِع تلك العربةَ صفٌّ من عربات البضائع، وتبعت تلك العربات عربةُ ركاب، إحدى مقصوراتها كانت تتبع الدرجة الأولى وكانت مغلقةً وممنوع الاقتراب منها. بدأ القطار يُهدِّئ من سرعته الآن فجأة، وبعد دقائق وصلنا إلى محطة وولدهيرست.

كان مما لا شكَّ فيه أن إشاعات قدوم ثورندايك قد سبقتنا؛ ذلك أن طاقم الموظفين بالكامل — وهو يتكوَّن من اثنين من الحمَّالين ومفتِّشٍ ورئيس المحطة — كان ينتظر في ترقُّبٍ على الرصيف وقد تقدَّم رئيس المحطة ليُساعدنا في حمل حقائبنا وذلك بصرف النظر عن مكانتِه أو وقارِه.

سأل ثورندايك المحامي قائلًا: «أتعتقد أن بإمكاني أن أرى العربة؟»

قال رئيس المحطة بعد أن سُئل عن ذلك: «لا يُمكنك أن ترى ما بداخلها يا سيدي. لقد أغلقتْها الشرطة، ويَنبغي عليك أن تطلب ذلك من المفتش.»

قال ثورندايك: «إذن أفترض أن بإمكاني أن أُلقيَ نظرةً على الجزء الخارجي منها، أليس كذلك؟» وقد وافق رئيس المحطة على ذلك وعرض أن يَصحبنا.

سأل ثورندايك: «مَن هم الركاب الآخرون الذين كانوا موجودين في الدرجة الأولى؟»

«لم يكن هناك أحدٌ يا سيدي. كانت هناك عربة واحدة فقط في الدرجة الأولى وكانت الضحيةُ هي الوحيدة فيها. لقد تسبَّب ما حدث في أن آلت الأمور إلى منعطف مريع.» ثم استطرد حيث بدأنا السير على طول السكة الحديدية: «كنتُ على الرصيف حين أتى القطار. وكنا نُشاهد كومة كانت تحترق على السكة، وكان وهجُها استثنائيًّا للغاية أيضًا؛ وكنت أقول حينها إننا يَنبغي أن نُحرِّك عربة الماشية التي كانت على السكة الوسطى؛ لأن الدخان والشرر كانَا — كما ترى يا سيدي — يَتطايران في الأرجاء، وظننتُ أن ذلك كان يُخيف الحيوانات المسكينة. ولا يحب السيد فيلتون أن تتمَّ معاملة حيواناته معاملة سيئة. فهو يقول إن ذلك يُفسد لحمها.»

قال ثورندايك: «لا شك أنه محقٌّ، لكن الآن، أخبرني؛ أتعتقد أنه من الممكن لأي شخص أن يصعد على متن القطار أو يُغادرُه من الجانب من دون أن يُلاحظه أحدٌ؟ هل يمكن لرجل على سبيل المثال أن يدخل إلى مقصورة من الجانب في إحدى المحطات وينزل منها حين يُهدِّئ القطار من سرعته عند المحطة التالية من دون أن يراه أحد؟»

أجاب رئيس المحطة: «أشك في ذلك. ومع ذلك، لن أقول إنه من المستحيل.»

«شكرًا لك. أوه، هناك سؤال آخر. أرى أن لديك مجموعةً من الرجال يَعملون على السكة الحديدية. والآن، هل يَنتمي هؤلاء الرجال إلى المنطقة؟»

«لا يا سيدي؛ إنهم غرباء، كلهم، وبعضهم فظٌّ ولكنه طيب القلب، لكنَّني لا أقول إن أحدًا منهم قد يتسبَّب بالأذى. هذا إن كنت تشكُّ أن أحدًا منهم متورِّط في هذا …»

قاطعه ثورندايك فجأة قائلًا: «أنا لا أفعل ذلك. أنا لا أشك في أحد؛ لكنني أريد أن أحصل على كافة الحقائق المرتبطة بالقضية منذ البداية.»

ردَّ المسئول خجلًا: «هذا أمر طبيعي يا سيدي.» ثم رُحْنا نُكمل مسيرنا في صمت.

قال ثورندايك بينما كنا نقترب من العربة الفارغة: «بالمناسبة، أتتذكَّر إن كان الباب الجانبي للمقصورة مغلقًا وموصدًا حين تمَّ اكتشاف الجثة؟»

«كان مغلقًا يا سيدي لكنَّه لم يكن موصدًا. أتعتقد يا سيدي …»

«لا شيء، لا شيء. المقصورة المغلقة بختم الشرطة هي هذه بالطبع؟»

ومن دون أن ينتظر ردًّا، بدأ ثورندايك فحْصَه للعربة فيما منعتُ وبطريقة مهذبة رفيقَينا من تتبُّعِه؛ حيث كانَا قد انتويَا ذلك. كان مُنتبهًا بصورة خاصة إلى الحافة الجانبية، وحين تفحَّص الجزء المقابل للمقصورة المشئومة بدقَّة، جال بنظره ببطء من الطرف إلى الطرف الآخر لمسافة بضع بوصات على سطحه، كما لو كان يبحث عن شيء بعينه.

وبالقرب من الطرف الخلفي، توقَّف وأخرج من جيبه قطعة ورق؛ ثمَّ وبطرف إصبعه الذي كان قد بلَّله، التقط من على الحافة الجانبية شيئًا صغيرًا للغاية، فوضعه بعناية على الورقة التي قام بطَيِّها ووضعها في دفتره الذي يحتفظ به في جيبه.

ثمَّ صعد بعد ذلك إلى الحافة، وبعد أن نظر في داخل المقصورة المغلقة من خلال نافذتها، أخرج من جيبه منفاخًا صغيرًا أو نافث مسحوق، ونفخ به تيارًا من مسحوق دقيق جدًّا يشبه الدخان على حوافِّ النافذة الوسطى، وكان يصبُّ كلَّ انتباهه على البقع المغبرة غير المعتادة التي استقر عليها هذا المسحوق، بل وحتى أخذ يقيس إحداها على دعامة النافذة باستخدام مسطرة صغيرة في جيبه. وبعد ذلك نزل عن الحافة الجانبية وبعد أن فحص الحافة الأخرى بإمعان، قال بأنه قد انتهى للوقت الحالي.

وبينما كنا نعود سيرًا على السكة الحديدية، مررنا بعامل، وبدا أنه يتفحص الكراسي والأسرَّة باهتمام بالغ.

سأل ثورندايك رئيس المحطة: «أعتقد أن هذا الرجل هو أحد العُمال، أليس كذلك؟»

كانت إجابته: «بلى، إنه رئيس العُمال.»

«سأعود وأتحدث معه للحظة. يُمكنكم أن تسبقوني بخطوات بطيئة.» ثم استدار صديقي بسرعة وراح يتحدث مع الرجل لبضع دقائق.

ثم قال ثورندايك بينما كنا نقترب من المحطة: «أعتقد أنني أرى مفتش الشرطة على الرصيف.»

قال مرشدنا: «أجل، ها هو. تعالَ يا سيدي لتنظرْ فيما تتعقَّبه.» وكانت لا شك هذه هي الحال، رغم أنه زعم أنه كان هناك بمحض الصدفة.

ثمَّ قال بعد أن قدَّم نفسه: «أعتقد أنك تودُّ أن ترى السلاح يا سيدي، أليس كذلك؟»

قال ثورندايك مصحِّحًا كلامه: «بل قضيب المظلة المدبَّب. أجل، إذا ما سمحتَ لي. سنذهب إلى المشرحة غدًا.»

«إذن ستمرُّون بالقسم في طريقكم، وإن كنتم تهتمُّون بإلقاء نظرة، فيمكنني أن أصحبكم.»

وبعد أن وافقنا على ذلك الاقتراح، سِرْنا جميعًا إلى قسم الشرطة، وكان معنا رئيسُ المحطة، والذي كان فضوليًّا إلى أقصى درجة.

قال المفتش وهو يفتح باب مكتبه ويستقبلنا فيه: «ها هم يا سيدي. لا تقولوا بأننا لم نوفر للدفاع كافة التسهيلات. هذه هي كلُّها أشياء المتهم، بما في ذلك السلاح الذي استخدم في الجريمة.»

احتج ثورندايك قائلًا: «انتظر؛ لا ينبغي أن نكون متعجلين في الحكم.» ثم أخذ من المفتش القضيب المدبَّب، وبعد أن تفحَّص طرفه الغريب بعدسته، أخرج من جيبه مقياسًا من الصلب يستخدم في قياس السُّمك، وراح يقيس به قطرَ الطرف المدبب بحرص بالغ، وكذلك القضيب الذي كان مثبَّتًا به. ثم قال بعد أن دوَّن ملحوظة بالقياسات في دفتره: «والآن سننظر في علبة الألوان وفي رسمته. هه! إن أخاك لَرجلٌ يحب النظام يا سيد ستوبفورد. إن أنابيب الألوان كلٌّ في مكانه، وسكاكين الألوان نظيفة، وكذا لوحة الألوان نظيفة ولامعة، والفُرَش ممسوحة ونظيفة — حيث ينبغي أن تُغسَل الفرش قبل أن تتصلب — كلُّ هذا يُعدُّ ذا مغزًى.» ثم فكَّ الرسمة من لوح الرسم الخالي الذي كانت مثبتةً به، وبعد أن وضعها على كرسي في إضاءة جيدة، أخذ خطوة للخلف لينظر إليها.

ثم صاح متعجبًا وهو ينظر إلى المحامي: «هل هذا هو عمل ثلاث ساعات فقط؟! إنه لَإنجاز رائع.»

أجابه ستوبفورد مغتمًّا: «أخي يرسم بسرعة كبيرة.»

«أجل، ولكن إنجاز هذا لا يُعدُّ سريعًا بشكل مذهل وحسب؛ وإنما كان في أسعد أوقاته أيضًا؛ إن العمل مليءٌ بالحيوية والمشاعر. لكننا لن نمكث لننظر إلى هذا العمل أطول من ذلك.» ثم أعاد وضْعَ القماش على دبابيسه، وبعد أن رمق المدلاة وبعض الأشياء الأخرى الموضوعة في درج، شكر المفتش على كرمه وانصرف.

ثم قال معلِّقًا بينما كنا نسير في الشارع: «تبدو الرسمة وعلبة الألوان موحيتَين جدًّا لي.»

قال ستوبفورد بنبرة كئيبة: «ولي أيضًا؛ لأنهما محبوسان، كصاحبهما العزيز المسكين.»

ثم تنهَّد بعمق وأكملنا مسيرنا في صمت.

كان مما لا شك فيه أن حارس المشرحة قد سمع بوصولنا؛ لأنه كان ينتظر عند الباب والمفتاح في يده، وبعد أن رأى إذْنَ قاضي التحقيق، فتح الباب ودخلنا معًا؛ لكن وبعد أن رمقْنا الجثة المكفَّنة والممدَّدة على طاولة التشريح بنظرة سريعة، استحال لونُ ستوبفورد شاحبًا وتراجع، قائلًا بأنه سينتظرنا بالخارج مع حارس المشرحة.

وبمجرد أن أُغلق الباب من الداخل، نظر ثورندايك في فضول حول المبنى المصمت الأبيض. كان هناك دفقٌ من ضوء الشمس يدخل عبر كوَّة وينصبُّ على الجثة الساكنة الراقدة بلا حَراك تحت الملاءة التي تغطيها، وكان هناك شعاعُ ضوء منحرف نحو أحد أركان المكان بجوار الباب، حيث عُلِّقت ملابس الضحية على صفٍّ من المسامير ووُضع بعضها على طاولة.

قال ثورندايك بينما كنا نقف أمام ملابسها: «هناك شيء محزن على نحوٍ لا يمكن التعبير عنه بالكلمات بشأن هذه الأشياء البائسة يا جيرفس. إنها بالنسبة لي تُعدُّ مأساوية، ومليئة بالإيحاءات المثيرة للشفقة، أكثر من الجثة نفسها. انظر إلى تلك القبعة الأنيقة الفخمة، وذلك الرداء الباهظ الثمن المعلَّق هناك، إن كلًّا منهما كئيبٌ وبائس؛ وتلك الملابس الداخلية الرقيقة الموضوعة على الطاولة والمطوية بحرص كبير — أعتقد أن مَن قام بطيِّها هي زوجة حارس المشرحة — وذلك الحذاء الفرنسي الصغير والجورب الحريري الشفاف. يا لَها من أشياء توحي على نحوٍ مثير للشفقة بجمالٍ أنثوي بريء وبحياة سعيدة خالية من الهم انتُزعت في غمضة عين! ولكن لا ينبغي لنا أن نفسح المجال كثيرًا للعاطفة. فهناك حياة أخرى على المحك، وفي يدنا إنقاذها.»

ثم رفع القبعة عن المسمار المعلقة عليه، وقلَّبها في يده. أعتقد أنها كانت مما يُطلق عليه «القبعة التصويرية»؛ فقد كانت عبارةً عن كتلة ضخمة ومسطحة وعديمة الشكل من الشاش والشرائط والريش وتتلألأ بترتر ذي لون أزرق داكن. وكان في أحد أجزاء حافتها ثقبٌ مهترئٌ، ومن ذلك الثقب تساقط الترتر المتلألئ في وابل صغير حين أُزيلت القبعة.

قال ثورندايك: «يتم ارتداء هذه القبعة وهي مائلة على الجانب الأيسر، وذلك استنادًا إلى الشكل العام للثقب ووضعه.»

رددتُ مقرًّا بكلامه: «أجل، مثل قبعة دوقة ديفونشاير في لوحة الرسام توماس جينزبرا.»

«بالضبط.»

وهزَّ القبعة ليُسقط بعض الترتر على راحة يده، وبعد أن أعاد القبعة إلى مكانها، وضع المجموعة الصغيرة التي سقطت في يده في ظرف وكتب عليه «من القبعة» ودسَّه في جيبه. ثم خطَا باتجاه الطاولة، وسحب الملاءة بإجلال بل وبرقَّة من على وجه المرأة الضحية، ونظر إليه في أسف وشفقة شديدين. كان وجهها جميلًا، في بياض الرخام، وكان هادئًا ومسالمًا في تعبيراته، وعيناه شبه مغلقتين، ويحيط به كتلةٌ من الشعر الأصفر النحاسي؛ لكن كان جماله هذا يُشوِّهه جرحٌ خطِّيٌّ طويل، نصفُه قطعٌ ونصفُه عبارة عن كدمة ويمتدُّ على الخد الأيمن من العين وحتى الذقن.

قال ثورندايك معلِّقًا: «إنها فتاة جميلة، ذات شعر أصفر داكن. يا لَها من فعلة شنيعة أن تُشوِّهَ نفسَها بهذا البيروكسيد المريع.» ثم أزاح الشعر بتؤدة من على جبهتها وأضاف: «يبدو أنها وضعت هذه المادة على شعرها لآخر مرة قبل نحو عشرة أيام. هناك ربع بوصة تقريبًا من الشعر الداكن عند الجذور. ماذا تستنتج من هذا الجرح الموجود على وجنتها؟»

«يبدو وكأنها هوت على زاوية حادة أثناء سقوطها، رغم أنني لا أرى ما يمكن أن تكون قد هوت عليه، حيث إن الكراسي في عربات الدرجة الأولى مزوَّدة ببطانة.»

«لا. والآن لننظر إلى الجرح الآخر. هلَّا دوَّنتَ الوصف؟» ثم ناولَني دفتره الصغير، ودوَّنتُ الآتي بينما كان يُملي عليَّ: «ثقبٌ مستدير نظيف في الجمجمة، خلف الأذن اليُسرى وفوق حافتها ببوصة واحدة، قُطرُه بوصةٌ واحدة وسبعة على ستة عشر من البوصة؛ وكسرٌ على شكل نجمة في العظم الجداري للجمجمة؛ والأغشية مثقوبة، والثقب عميق داخل الدماغ؛ وجرحٌ تسبَّب في تمزيق جلد فروة الرأس ويمتدُّ إلى حافة محجر العين اليسرى؛ وهناك شظايا من الشاش والترتر في حوافِّ الجرح. يكفينا هذا للوقت الحالي. سيمدُّنا الدكتور مورتون بالمزيد من التفاصيل إذا ما أردناها.»

ثم وضع في جيبه المقياس والمسطرة، وسحب شعرة أو شعرتين من فروة الرأس المصابة ووضعهما في الظرف مع الترتر، وبعد أن فحص الجثة بحثًا عن جروح أو كدمات أخرى (والتي لم يجد أيًّا منها)، أعاد الملاءة إلى وضْعِها واستعد للرحيل.

وبينما كنَّا نسير مبتعدين عن المشرحة، كان ثورندايك صامتًا ويفكر بعمق، واستنتجتُ أنه كان يحاول ربط الحقائق التي حصل عليها معًا. وبعد برهة قال السيد ستوبفورد الذي كان قد نظر إليه عدة مرات في فضول:

«سيتم عمل التشريح في تمام الثالثة، والساعة الآن الحادية عشرة والنصف فقط. ماذا تودُّ أن تفعل الآن؟»

توقف ثورندايك فجأة بعد أن كان ينظر إليه بانتباهٍ رغم ما كان به من انشغال عقلي وقال:

«إشارتُك إلى التشريح تُذكِّرني بأنني نسيتُ استخدام مادة صفراء الثور في قضيتي.»

قلت متعجبًا وأنا أحاول عبثًا أن أربط تلك المادة بأساليب إخصائيِّي علم الأمراض: «صفراء الثور! ماذا كنت ستفعل ﺑ…»

لكنني في تلك اللحظة صمتُّ، وقد تذكرتُ أن صديقي لا يحب مناقشة أيٍّ من أساليبه أمام الغرباء.

ثم قال صديقي مكملًا حديثه: «أعتقد أنه لن يكون هناك مَن يبيع الألوان للرسامين في مكان صغير بهذا الحجم. أليس كذلك؟»

قال ستوبفورد: «لا أعتقد ذلك. لكن ألا يمكنك أن تحصل على تلك المادة من جزار؟ هناك واحد عند الجهة المقابلة من الطريق.»

قال ثورندايك بعد أن كان قد لاحظ المحل: «صحيح. ينبغي أن يتمَّ إعداد الصفراء بالطبع، لكن يمكننا أن نُصفِّيَها بأنفسنا، هذا إن كان لدى الجزار أيٌّ منها. لكننا سنحاول وسنذهب إليه على أي حال.»

ثم عبر الطريق نحو محلِّ الجزارة، وكان اسم فيلتون يلمع على المتجر في حروف مذهَّبة، وبعد أن قدَّم نفسه للمالك الذي كان يقف عند الباب، شرح له مطلبه.

قال الجزار: «صفراء الثور؟ لا يا سيدي، ليس لديَّ أيٌّ منها الآن؛ لكنني سأذبح أحد الثيران بعد ظهر اليوم، وحينها يمكنك أن تحصل على بعض ذلك.» ثم أضاف بعد أن توقف برهة: «في الواقع، وبما أن الأمر ذو أهمية، يمكنني أن أذبح الثور الآن إذا كنت تريد ذلك.»

قال ثورندايك: «هذا لطف بالغ منك، وسيكون معروفًا كبيرًا أدين لك به. هل الثور في حالة صحية جيدة؟»

«إن حيواناتي في حالة ممتازة يا سيدي. لقد انتقيتُها من القطيع بنفسي. لكنك ستراها — أجل، واخترْ منها ما تشاء أن يُذبح.»

قال ثورندايك في نبرة ودية: «أنت حقًّا رجل طيب للغاية، لكنني سأذهب فقط إلى الصيدلي المجاور لك، وسأحصل على زجاجة مناسبة، ثم بعدها سأستغل عرضك السخي للغاية هذا.»

ثم أسرع نحو الصيدلي، وخرج من المتجر بسرعة، وكان يحمل طردًا مغلَّفًا بورق أبيض؛ ثم تبعنا الجزار في زقاق ضيق بجانب متجره. أدَّى ذلك إلى حظيرة مسيَّجة تحتوي على زريبة صغيرة بها ثلاثة ثيران ضخمة، وكان لون جلدها الأسود اللامع يتناقض بشكل غريب مع قرونها الطويلة البيضاء المائلة للرمادي التي تكاد تكون مستقيمة.

قال ثورندايك بينما كنا نسير بالقرب من الزريبة: «هذه الحيوانات بالتأكيد ممتازة للغاية يا سيد فولتون، وفي حالة جيدة جدًّا أيضًا.»

ثم انحنى وراح يفحص الحيوانات بدقة بالغة، خاصة فيما يتعلق بعيونها وقرونها؛ ثم اقترب من أقربها إليه، ورفع عصاه ونقر بها على الجانب السفلي من القرن الأيمن، وتَبِع ذلك نقرةٌ مماثلة على القرن الأيسر، وهو شيء ذهل الثور حين حدث له.

قال ثورندايك وهو ينتقل نحو الثور التالي: «إن حالة القرون تمكِّن المرء من الحكم على صحة الحيوان إلى حد ما.»

ضحك السيد فولتون وقال: «باركك الرب يا سيدي. ليس لدى الثيران أيُّ إحساس بقرونها، وإلا فما فائدتها بالنسبة لها؟»

من الواضح أنه كان محقًّا؛ لأن الثور الثاني لم يكن عابئًا بأيِّ شيء يحدث لقرونه كما الأول. لكن حين اقترب ثورندايك من الثور الثالث، اقتربتُ أكثر لأشاهد الأمر؛ ولاحظتُ أن الثور انسحب للخلف في ذُعرٍ واضح حين لامستِ العصا القرن، وحين تم تكرار النقرة، أصبح الثور مهتاجًا بصورة واضحة.

قال الجزار: «يبدو أنه لا يحب ذلك. يبدو وكأنه … يا إلهي، هذا أمر عجيب!»

كان ثورندايك قد وضع عصاه على القرن الأيسر، فجفل الثور وتراجع في الحال، وكان يهزُّ رأسه ويخور. لكن لم يكن له مساحة كافية ليبتعد عن ثورندايك الذي انحنى إلى داخل الزريبة فكان قادرًا على فحص القرن الحسَّاس، وقد فعل ذلك بانتباه بالغ، فيما كان الجزار ينظر إليه في اضطراب واضح.

قال الجزار: «أتمنى ألَّا تعتقدَ أن هناك خطبًا ما بهذا الثور يا سيدي.»

أجابه ثورندايك: «لا يمكنني أن أُحدِّدَ ذلك من دون المزيد من الفحص. ربما كان القرن هو الشيءَ الوحيد المصاب. إنك إذا ما قطعتَ القرن من أقرب نقطة منه إلى الرأس، وأرسلتَه إليَّ في الفندق، فسأفحصه وأُخبرك. ولكي نمنع وقوعَ أيِّ أخطاء، سأضع عليه علامة وأغطيه، لكي أحميَه من الإصابة في المذبح.»

وفتح الطرد الذي كان معه وأخرج منه زجاجةً ذات فمٍ كبير مكتوب عليها «صفراء الثور» ونسيجًا من الكوتابركا، وضمادةً ملفوفة، وقطعةَ شمع أحمر. وبعد أن أعطى الزجاجة للسيد فيلتون، غلَّف النصف الأقصى من القرن في النسيج والضمادة وثبَّتهما بإحكام باستخدام الشمع الأحمر.

قال السيد فيلتون: «سأقطع القرن وأُحضره لك بنفسي في الفندق، مع صفراء الثور. ستحصل عليهما في غضون نصف ساعة.»

كان الرجل ملتزمًا بكلمته؛ ذلك أن ثورندايك بعد نصف ساعة كان يجلس إلى طاولة صغيرة بجوار النافذة في غرفة الجلوس الخاصة بنا في فندق بلاك بول. كانت الطاولة مغطاةً بالجريدة، وعليها كان القرن الرمادي الطويل موضوعًا وكذلك حقيبة ثورندايك الخاصة بالسفر التي كانت الآن مفتوحةً ويظهر منها مجهرٌ صغير ومستلزماته. كان الجزار يجلس في صمت في كرسي وينتظر، وكان ينظر إلى ثورندايك بعينَين متشككتين لأجل التقرير الخاص بصحة الثور؛ وكنت أحاول أنا أن أُبقيَ السيد ستوبفورد بعيدًا عن الشعور بالجزع من خلال التحدث معه بحديث مبهج، رغم أنني أنا أيضًا كنت أراقب صديقي وهو يقوم بعمله الغامض بعض الشيء.

رأيتُه يفك الضمادة ويضع القرن على أذنه، ويُميله بعض الشيء يمنةً ويسرة. راقبتُه وهو يفحص الجزء الخارجي من القرن بإمعان من خلال عدسة مكبرة، ورأيتُه وهو يُقشِّر شيئًا من النهاية المدبَّبة ويضعه على شريحة زجاجية، وبعد أن وضع عليه قطرة من مادة كيميائية كاشفة، بدأ يعبث به باستخدام إبرتين مثبَّتتين. ثم سرعان ما وضع الشريحة الزجاجية تحت المجهر وبعد أن نظر فيها بإمعان لدقيقة أو اثنتين، استدار في حدة.

وقال: «تعالَ وانظر إلى ذلك يا جيرفس.»

لم أكن في حاجة لدعوة، حيث كان الفضول قد تملَّكني وبلغ مني مبلغه، فذهبتُ إليه ووضعتُ عيني على المجهر.

سألني: «ما هذا؟»

«جسيمٌ عصبي متعدد الأقطاب متغصن بشدة، لكن لا يمكن أن أكون مخطئًا.»

«وهذا؟»

ثم حرَّك الشريحة الزجاجية إلى موضع جديد.

«جسيمان عصبيان على شكل هرم وبعض أجزاء من الألياف.»

«وما رأيُك في نوع النسيج؟»

«أقول إنه من مادة القشرة الدماغية من دون شكٍّ.»

«أتفق معك تمامًا.» ثم أضاف وهو يستدير نحو السيد ستوبفورد: «وبهذا، يمكننا أن نقول إن حجة الدفاع قد اكتملت عمليًّا.»

صاح ستوبفورد متعجبًا بينما انتفض من مكانه: «ماذا تقصد بحق السماء؟»

«أقصد أننا يُمكننا الآن أن نُثبت متى وأين وكيف لاقت الآنسةُ جرانت حتفَها. تعالَ واجلس هنا وسأشرح لك. لا، لستَ في حاجة لأن تُغادرَنا يا سيد فيلتون؛ لأننا سينبغي علينا أن نستدعيَك للمحكمة.» ثم استطرد قائلًا: «ربما من الأفضل أن نُعرِّج على الحقائق ونرى ما تُشير إليه. في البداية لننظر في وضعية الجثة، حيث كانت ترقد وقدماها تقتربان من الباب الجانبي، مما يوضح أن الضحية حين وقعت كانت جالسة، والأكثر أرجحية أنها كانت واقفةً، بجوار ذلك الباب. ثم بعد ذلك هناك هذه.» ثم أخرج من جيبه ورقة مطوية، وفتحها فظهر عليها قرصٌ صغيرٌ أزرق اللون. ثم أضاف: «تلك هي إحدى حبات الترتر التي كانت قبعة الضحية مزينة بها، وفي هذا الظرف لديَّ منها أكثر والتي أخذتُها من القبعة نفسها.

لقد التقطتُ تلك الحبة من الطرف الخلفي لحافة الباب الجانبي لعربة القطار، ووجودُها هناك يؤكد تقريبًا أن الآنسة جرانت أخرجت رأسها من النافذة في ذلك الجانب في وقت ما.

والدليل التالي والذي حصلتُ عليه عن طريق تغبيرِ حوافِّ النافذة الجانبية بمسحوق خفيف أظهر أثرًا مدهنًا طوله ثلاث بوصات وربع البوصة على الحافة الحادة للدعامة اليمنى للنافذة (أقصد، اليمنى من الداخل).

والآن وبالنسبة للدلائل التي زوَّدتْنا بها الجثة، فإن الجرح في الجمجمة يقع خلف الأذن اليسرى وفوق حافتها، وهو دائريٌّ بالكاد، وقطرُه بوصة واحدة وسبعة على ستة عشر من البوصة على أقصى تقدير، وهناك جرح مهترئ في فروة الرأس يبدأ عند الجرح في الجمجمة وحتى العين اليُسرى. وعلى الخد الأيمن للضحية هناك جرحٌ خطيٌّ مكدوم طوله ثلاث بوصات وربع. ولا يوجد أيُّ جروح أخرى.

والدلائل التالية يزودنا بها هذا.» ثم أمسك بالقرن ونقر عليه بإصبعه، فيما كان المحامي والسيد فيلتون يُحدِّقان به في ذهول عقد ألسنتَهم عن الحديث. ثم أضاف: «أنتم تلاحظون أن القرن يساري، وتتذكرون أنه كان حسَّاسًا بدرجة كبيرة. وإذا ما وضعتم آذانكم عليه وأنا ألويه، فستسمعون صوتَ كسرٍ أو شقٍّ في أساسه العظمي. والآن انظروا إلى النهاية الحادة، وسترون عدة خدوش عميقة على طول القرن، وحيث تنتهي تلك الخدوش، نجد أن قياس قطر القرن هو بوصة واحدة وسبعة على ستة عشر من البوصة كما ترون على هذا المقياس. ويُغطي الخدوش بقعة دم جافة، وعلى أقصى طرف القرن هناك كتلة صغيرة من مادة جافة فحصتُها أنا والدكتور جيرفس تحت المجهر واتفقنا على أنها نسيج دماغي.»

صاح ستوبفورد في لهفة وقال: «يا إلهي! أتقصد أن تقول إن …»

قاطعه ثورندايك قائلًا: «دعْنا نُنْهِ سرْدَ الحقائق يا سيد ستوبفورد. والآن، وإذا ما نظرتم عن كثَب إلى بقعة الدم هذه، سترون شعيرةً قصيرة ملتصقة بالقرن، ومن خلال تلك العدسة، يمكنكم أن ترون بُصيلة الجذر. ستلاحظون أنها شعيرة لونها ذهبي، لكن وبالاقتراب من الجذر ستجدونها سوداء اللون، وجهاز القياس لدينا يوضح لنا أن طول الجزء الأسود هو أربعة عشر على أربعة وستين جزءًا من البوصة. والآن وفي هذا الظرف توجد بعضُ الشعيرات التي أخذتُها من رأس الضحية، وهي أيضًا ذهبية اللون وسوداء عند الجذر، وحين قستُ الجزء الذي باللون الأسود وجدتُ طوله أربعة عشر على أربعة وستين جزءًا من البوصة. ثم وأخيرًا هناك هذا.»

ثم قلب القرن، وأشار إلى بقعة صغيرة من الدم الجاف، ومثبَّت بها حبة ترتر زرقاء.

حدَّق السيد ستوبفورد والجزار كلاهما في القرن في صمت من شدة ذهولهما؛ ثم تنهَّد الأول بعمق، ورفع نظره إلى ثورندايك.

وقال: «لا شك أنك تستطيع شرح هذا اللغز، لكنني أشعر بالدهشة والذهول، رغم أنك توقظ فيَّ جذوة الأمل.»

أجابه ثورندايك: «ومع ذلك فإن الأمر في غاية البساطة، حتى بوجود تلك الحقائق القليلة أمامنا، والتي هي مجرد مجموعة من الأدلة التي في حوزتنا. لكنني سأقول نظريتي، وسأترك لكم الحكم.» ثم أسرع في رسم مخطط سريع على ورقة وأكمل حديثه: «كانت تلك هي الأوضاع حين كان القطارُ يقترب من وولدهيرست: كان هنا عربة الركاب، وهناك الكومة المحترقة، وهنا كانت عربة الماشية. كان هذا الثور في تلك العربة. والآن فرضيتي تقول بأنه في تلك اللحظة كانت الآنسة جرانت تقف ورأسها خارج النافذة الجانبية لكي تشاهد الكومة المحترقة. وقد خبَّأتْ عنها قبعتُها العريضة التي كانت ترتديها على الجانب الأيسر من رأسها عربةَ الماشية التي كانت تقترب منها، ثم بعد ذلك حدث هذا.» رسم مخطَّطًا آخر بمقياس أكبر. واستطرد قائلًا: «أحد الثيران — وهو صاحب هذا القرن — كان يُخرج قرنه الطويل من بين القضبان الحديدية. وفي لحظةٍ ما ضرب قرنُ هذا الثور الضحيةَ في رأسها، مما دفع بوجهها بعنف تجاه زاوية النافذة، ثم حفر في فروة رأسها جُرحًا وهو ينفصل عنها، وقد عانى الثور في قرنه كسرًا من عنف الالتواء وشدته. هذه الفرضية هي الأكثر أرجحية بطبيعتها، فهي تتناسب مع كافة الحقائق، وتلك الحقائق لا تُشير إلى أيِّ تفسير آخر.»

جلس المحامي لحظة وكأنه مصاب بالدوار؛ ثم وقف منتصبًا وأمسك بيد ثورندايك. ثم صاح في صوتٍ أجش: «لا أعرف ما أقول لك عدا أنك أنقذتَ حياة أخي وعسى الرب أن يجازيَك على هذا!»

ثم قام الجزار من كرسيه وقد ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ خفيفة.

وقال: «يبدو لي أن مادة صفراء الثور كانت ما يمكن أن تُطلق أنت عليه تمويهًا، أليس كذلك يا سيدي؟»

وهنا ابتسم ثورندايك ابتسامة غامضة.

•••

وحين عُدنا إلى المدينة في اليوم التالي كانت رفقتُنا تتكوَّن من أربعة أشخاص من بينهم السيد هارولد ستوبفورد؛ فالحكم الذي أصدرته هيئةُ محلفي محكمة التحقيق في أسباب الوفاة من فورها والذي كان مفادُه أن الوفاة حدثت «قضاءً وقدرًا» سرعان ما تَبِعه إطلاق سراحه من الحجز، وكان يجلس الآن مع أخيه ومعي، يستمع بانتباهٍ بالغ إلى تحليل ثورندايك للقضية.

واختتم الأخيرُ كلامَه قائلًا: «ومن ثَم، كانت لديَّ ستُّ نظريات محتملة لسبب الوفاة كنتُ قد كوَّنتُها قبل أن أصل إلى هالبيري، ولم يبقَ سوى أن أختار تلك التي تتناسب مع الحقائق. وحين رأيتُ عربة نقل الماشية، وحين التقطتُ حبة الترتر، وحين سمعتُ أوصاف الثيران، وحين رأيتُ القبعة والجروح، لم يبقَ شيءٌ لأقوم به سوى معرفة التفاصيل.»

سأله هارولد ستوبفورد: «ألم تشكَّ أبدًا في براءتي؟»

ابتسم ثورندايك إلى عميله القديم وقال:

«ليس بعد أن رأيتُ علبةَ ألوانك ورسمتَك، ناهيك عن قضيب المظلة المدبَّب.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤