الفصل الخامس

الشفرة المؤابية

اصطفَّ حشدٌ كبير ومتنوع من الناس على رصيفَي شارع أوكسفورد بينما كنتُ وثورندايك نقطع طريقنا على مهلٍ باتجاه الشرق. أعلنتْ زهورُ الزينة والرايات المتدلية عن إحدى تلك المناسبات التي يتمُّ الإعلانُ عنها بين الحين والآخر على يد حكومةٍ محبَّةٍ للخير لتسلية المتسكعين العصريِّين والتخفيف عن اللصوص البائسين؛ ذلك أن أحد الدوقات الروس الكبار والذي عزل نفسه — وسط خطابات الوداع المتفجرة بالعاطفة — متخلِّيًا عن حكم شعبٍ محبٍّ له وإن كان كثيرَ المطالب، كان سيمرُّ قريبًا في طريقه إلى مبنى جيلدهول وسيرافقه في تلك العربة الدوقية أميرٌ بريطاني يتسم بالطيش الشديد.

وبالقرب من شارع راثبون بليس توقف ثورندايك ونَبَّهني إلى رجل أنيق يقف متسكعًا في أحد المداخل وفي يده سيجارة.

قال ثورندايك: «هذا صديقنا القديم المفتش بادجر. يبدو أنه مهتمٌّ بصورة كبيرة بذلك الرجل الذي يرتدي معطفًا خفيفًا.» ثم نادى قائلًا: «كيف حالك يا بادجر؟» لأن في تلك اللحظة وقعت عينَا المحقق على ثورندايك وانحنى له محيِّيًا. ثم قال ثورندايك: «مَن هذا؟»

ردَّ المفتش: «هذا هو ما أريد معرفته سيدي. أنا أتتبعه منذ نصف ساعة، لكنني لا أستطيع أن أتعرف عليه، رغم أنني على يقين أنني رأيتُه قبل ذلك في مكان ما. لا يبدو الرجل غريبًا، لكنْ لديه شيء كبير في جيبه؛ لذا ينبغي أن أُبقيَه على مرأًى مني حتى يمرَّ الدوق بسلام.» ثم أضاف في نبرة كئيبة: «أتمنى لو أن أولئك الروس البغيضين يظلون في بلدانهم. إنهم يتسببون لنا بمتاعبَ جمَّةٍ لا نهاية لها.»

قال ثورندايك: «إذن فهل تتوقع وقوعَ أيِّ حوادث؟»

قال بادجر: «باركك الرب يا سيدي. الطريق كلُّه يعجُّ برجال شرطة يرتدون ملابس مدنية. من المعروف أن العديد من الأشخاص اليائسين تبعوا الدوق إلى إنجلترا، وهناك الكثير من المنفيين الذين يعيشون هنا ويرغبون في أن ينالوا منه. مهلًا! ما هذا الذي يفعله الرجل الآن؟»

كان الرجل ذو المعطف الخفيف قد رأى عينَي المفتش المدققتين فيه بشدة، ومن ثَم غاص وسط الحشد على حافة الرصيف. وأثناء تعجُّلِه هذا داس بقوة على قدم رجل ضخم الجثة تبدو عليه ملامح الصرامة، وسرعان ما أُلقي الأول على قارعة الطريق في عنف شديد حتى إنه وقع على وجهه. كانت لحظة حظه العاثر أنْ كان هناك رجل شرطة يمتطي حصانًا ويحاول السيطرة على الحشد، وقبل أن يفهم معنى الصيحة التي كان مصدرها المحتشدين أمامه، كان حصانه قد داس بحافر إحدى قدمَيه الخلفيتين بقوة على ظهر الرجل الممدد.

أشار المفتش إلى رجل شرطة والذي سرعان ما أفسح لنا الطريق وسط الحشد؛ لكن حتى وبينما كنا نقترب من الرجل الجريح، نهض الأخير في صلابة ونظر حوله بوجه شاحب وخالٍ من التعابير.

سأله ثورندايك في لطفٍ ونظَر في تلهُّف إلى عينيه الخائفتين الذاهلتين: «هل تأذيتَ؟»

كانت إجابته: «لا يا سيدي؛ فقط أشعر ببعض التعب — بعض الضعف — هنا.»

ثم وضع يده المرتعشة على صدره، وظل ثورندايك ينظر إليه في قلق، ثم قال للمفتش بصوت خفيض: «أحضر عربة أجرة أو عربة إسعاف، بأسرع ما يمكنك.»

تمَّ إحضارُ عربة أجرة من شارع نيومان، وأُودعَ الرجل الجريح داخلها. ثم دخلنا أنا وثورندايك وبادجر وانطلقنا عبر شارع راثبون بليس. وكلما سارت العربة، زاد الشحوب والذهول والقلق على وجه الرجل المريض؛ وكانت أنفاسُه متلاحقةً وغير منتظمة، وكانت أسنانُه تصطكُّ في بعضها قليلًا. استدارت عربة الأجرة إلى شارع جودج، ثم — فجأة وفي لمح البصر — حدث تغيير. ارتخى جفنَا الرجل وكذلك فكُّه، وأصبحت عيناه غائمةً، ثم تكوَّم جسدُه بالكامل في الزاوية في كومة منكمشة على بعضها، في ارتخاء هلامي غريب لجسد ميت لكنَّ أنسجته لا تزال على قيد الحياة.

صاح المفتش في نبرة تنم عن الصدمة؛ ذلك أن حتى رجال الشرطة يتمتعون بالشفقة: «يا إلهي! لقد مات الرجل!» وجلس يحدق في الجثة وهي تهتز اهتزازًا خفيفًا بفعل اهتزاز العربة، حتى توقفنا داخل فناء مستشفى ميدلسيكس، حيث خرج بسرعة — وقد تجددت فيه روح النشاط — ليُساعد الحمَّال في وضع الجثة على السرير ذي العجلات.

قال المفتِّش ونحن نتتبع السرير ذا العجلات إلى غرفة الطوارئ: «سنعرف مَن هو الآن على أيِّ حال.» أومأ ثورندايك من دون أن يُبديَ تعاطفًا؛ فقد كانت الغريزة الطبية بداخله في هذه اللحظة أقوى من الغريزة القانونية.

انحنى الطبيب على السرير، وأجرى فحصًا سريعًا بينما كان يستمع إلى روايتنا للحادثة. ثم انتصب في وقفته ونظر إلى ثورندايك.

وقال: «أعتقد أنه نزيفٌ داخلي. على أيِّ حال، لقد مات! يا لَه من متسوِّل مسكين! لقد فارق الحياة تمامًا. آه! ها قد أتى الشرطي؛ لقد أصبحت المسألة في يده الآن.»

أتى رقيب شرطة إلى الغرفة وأنفاسه متلاحِقة، وانتقل بعينَيه في دهشة بين الجثَّة والمفتش. لكن الأخير ومن دون أن يُضيعَ الوقت، شرع في إفراغ محتويات جيب المتوفَّى، وبدأ بالشيء الضخم الذي جذب انتباهه في البداية؛ والذي اتضح أنه طردٌ مكوَّن ملفوف بورق بُنِّيٍّ ومربوط بشريط أحمر.

ثمَّ صاح في إحباط بينما كان يقطع الشريط ويفتح الطرد: «فطيرة لحم خنزير، حقًّا! من الأفضل أن تفتش أنت جيوبه الأخرى أيها الرقيب.»

لم تكشف الأشياءُ القليلة التي نتجت عن التفتيش عن شخصية الرجل، عدا شيء واحد؛ وكان ذلك عبارة عن خطاب مغلق لكنه لا يحمل ختمًا، ويحمل عنوانًا مكتوبًا بخطٍّ سيِّئٍ للغاية وكان العنوان هو: إلى السيد أدولف شونبيرج، ٢١٣ شارع جريك ستريت، منطقة سوهو.

علَّق المفتش قائلًا بينما رمق الظرف المغلق بنظرة حزينة: «أعتقد أنه كان سيسلمه باليد. سآخذه أنا بنفسي، ومن الأفضل أن تأتيَ معي أيها الرقيب.»

دسَّ المفتش الخطاب في جيبه، وبعد أن ترك الرقيب يأخذ في حوزته الأشياء الأخرى، سلك طريقه إلى خارج البناية.

ثم قال بينما كنا نعبر إلى شارع بيرنيرز: «أعتقد أيها الدكتور أنك لن تأتيَ معنا! هل تريد أن ترى السيد شونبيرج؟»

فكَّر ثورندايك للحظة، ثمَّ قال: «حسنًا، المكان ليس ببعيد، ونحن نريد أن نرى ما ستنتهي إليه هذه الحادثة. نعم؛ لنذهب معًا.»

كان المنزل رقم ٢١٣ بشارع جريك ستريت هو أحد تلك المنازل التي توحي إلى ناظره وبصورة لا تُقاوم فكرة أنه آلة أرغن كنسية، فكان حلقَا باب المدخل مزيَّنَين بصفٍّ من مقابض الأجراس النحاسية المرتبطة بمقابض الأبواب الداخلية.

فحص المفتش تلك المقابضَ وكأنه خبير موسيقي، وبعد أن قاس قوتها، اختار المقبض الأوسط على الجانب الأيمن وسحبَه بخفَّة؛ حينها انفتَحَت نافذة في الطابق الأول وخرج منها رأسُ إنسان. لكنَّنا لم نكد نحصل على لمحة خاطفة له؛ ذلك أنه حين نظر في عين المفتِّش التي كانت موجَّهةً نحوه، كانت الرأس قد انسحبت إلى الداخل بسرعة مُفاجئة، وقبل أن نتمكَّن من أن نتكهَّن بشيء عن شخصية من ظهر، فُتح باب الشارع وخرج منه رجل. وكان على وشك أن يُغلق الباب خلفه حين قاطعه المفتِّش.

«هل يعيش السيد أدولف شونبيرج هنا؟»

تفقَّدنا الوافد الجديد — وكان يهوديًّا ذا شعر أحمر — بعناية من خلال نظارته ذات الإطار الذهبي بينما كرَّر الاسم.

«شونبيرج … شونبيرج؟ آه، أجل! أعرفه. إنه يعيش في الطابق الثالث. رأيته يصعد قبل وقت قصير. الطابق الثالث من الجهة الخلفية.» ثم أشار إلى الباب المفتوح بإشارة من يده ورفع قبَّعتَه تحية لنا واتجه إلى الشارع.

قال المفتش وهو ينظر في تردُّدٍ إلى صفِّ الأجراس: «في رأيي أن من الأفضل أن نصعد.» ومن ثَم بدأ يصعد الدَّرج، وتبعناه جميعًا.

كان هناك بابان في الطابق الثالث من الجهة الخلفية، لكن وبما أنَّ أحدهما كان مفتوحًا ويُظهر غرفةَ نوم لا يوجد بها أحد، طرق المفتِّش طرقات خفيفة على الآخر. هنا فُتح الباب في الحال تقريبًا، فخرج إلينا رجلٌ قصير مخيف الشكل وأخذ ينظر إلينا بنظرات عدائية.

قال الرجل: «ماذا تُريدون؟»

سأله المفتش: «السيد أدولف شونبيرج.»

قاطعه الرجل: «حسنًا، ماذا بشأنه؟»

قال بادجر: «كنت أريد أن أتحدث معه.»

احتجَّ الآخر قائلًا: «إذن لماذا تطرَّق بابي عليك اللعنة؟»

«ألا يعيش الرجل هنا؟»

أجاب صاحبنا وهو يستعدُّ لكي يُغلق الباب: «لا. في الطابق الأول من الجهة الأمامية.»

قال ثورندايك: «عذرًا، ولكن كيف يبدو السيد شونبيرج؟ أقصد …»

قاطعه الساكن قائلًا: «كيف يبدو؟ إنه يهوديٌّ متورِّدُ الوجه، وله ذقنٌ تُشبه الجزرة، ويرتدي نظارة ذهبية!» وبعد أن قدَّم لنا الرجل هذا التصوير الانطباعي، وضع حدًّا للمحادثة بأن أغلق الباب بقوة وأوصده بالمفتاح.

استدار المفتش نحو الدرج متعجبًا وغاضبًا، وتبعه الرقيبُ على عجل، حتى وصل إلى الطابق الأرضي، ثم تبعهما ثورندايك وبعده أنا كما حدث من قبل. وعلى عتبة الباب وجدنا الرقيب يلهث وهو يستجوب شابًّا يَرتدي ملابس أنيقة، كنتُ قد رأيتُه ينزل من عربة أجرة بينَما كنا ندخل المنزل، وكان الشاب الآن يقف ويضع تحت إبطه دفترًا صغيرًا ويشحذ قلمًا من الرصاص بعناية كبيرة.

قال الرقيب: «لقد رآه السيد جيمس وهو يخرج يا سيدي. وقد توجه نحو الميدان.»

سأله المفتش: «هل بدا على عجلة من أمره؟»

أجابه الصحفي: «للغاية. بمجرد أن دخلتم أنتم المنزل، انطلق هو بسرعة شديدة. لن تستطيعوا اللحاق والإمساك به الآن.»

قال المفتِّش بغلظة: «نحن لا نريد أن نُمسك به.» ثم تراجع مبتعدًا عن آذان الصحفي الفضولي وقال بنبرة خفيضة: «لا شك أن ذلك الرجل كان هو السيد شونبيرج، ومن الواضح أنه لديه أسباب تدفعه لأن يُخليَ المكان؛ لذا سأعتبر فِعلي مبررًا إن فتحتُ الخطاب.»

ثمَّ أتبع الكلام بالفعل، وبعد أن فتح المظروف بدقة، أخرج ما فيه من محتوًى.

ثمَّ صاح متعجبًا حين سقطت عيناه على ما يحتويه المظروف: «يا إلهي! ما هذا بحق السماء؟ ليس هذا باختزالٍ، لكن ما هذا حقًّا؟»

ثم أعطى الورقة إلى ثورندايك، والذي رفعها باتجاه الضوء وتحسَّسها بدقة، ثم شرع يفحَّصها باهتمام كبير. كانت الورقة عبارة عن نصف ورقة رقيقة من ورق الملاحظات، وكان كلَا جانبَيها مغطًّى بحروف غريبة ومبهمة مكتوبة بحبر أسود مائل للبُنِّيِّ وفي سطور مُتواصِلة من دون أيِّ مسافات تُشير لوجود كلمات؛ وبدت الأحرفُ وكأنها جزءٌ من مخطوطة قديمة أو سِفْر عفا عليه الزمن، لولا الورقة الحديثة التي كانت مكتوبة عليها.

سأل المفتِّش في تلهُّف: «ماذا تفهم من هذا أيها الدكتور؟» بعد أن صمتَ لبرهة كان ثورندايك خلالها قد فحص الكتابة الغريبة بحاجبَين معقودين.

أجابه ثورندايك: «ليس بالكثير. إن الحروف تعود للغة المؤابية أو الفينيقية — وهي إحدى اللغات السامية البدائية في الواقع — وهي تُقرأ من اليمين إلى اليسار. وأرى أن هذه اللغة هي العبرية. على أي حال، لا يُمكنني أن أرى أيَّ كلمات إغريقية، وأرى هنا مجموعة من الأحرف التي قد تُكوِّن واحدة من الكلمات العبرية القليلة التي أعرفها، والكلمة هي «باديم» بمعنى «يكذب». لكن من الأفضل أن تجعل خبيرًا يفك شفرتها لنا.»

قال بادجر: «إن كانت تلك اللغة عبرية، فيُمكننا أن نتدبر أمرنا فيها؛ فهناك الكثير من اليهود تحت تصرُّفِنا.»

قال ثورندايك: «من الأفضل كثيرًا أن تأخذ الورقة إلى المتحف البريطاني، وأن تُعطيَها إلى القيِّم على الآثار الفينيقية لكي يفكَّ شفرتها.»

ابتسم المفتِّش بادجر ابتسامة ماكرة بينما دسَّ الورقة في دفتر ملحوظاته. وقال: «سنرى ما يُمكن أن نفهمه منها بأنفسنا أولًا، لكنِّي أشكرك جزيل الشكر على نصيحتك، أيها الدكتور. لا، يا سيد جيمس، لا يُمكنني أن أعطيَك أيَّ معلومات في الوقت الحالي؛ من الأفضل أن تذهب إلى المستشفى.»

قال ثورندايك حين سلكنا طريقنا نحو المنزل: «أعتقد أن السيد جيمس قد جمع ما يكفي من المعلومات لكي يُحقِّقَ غرضه. لا بد وأنه تَبِعنا من المستشفى، ولا أشكُّ في أنه قد حصل على بنود التقرير الصحفي الذي سيَنشره مُفصَّلًا في ذهنه في هذه اللحظة. ولستُ واثقًا من أنه لم يسترق النظر إلى الورقة الغامضة على الرغم من حذر المفتش.»

قلت له: «بالمناسبة، ماذا تَفهم من الورقة؟»

أجابني: «على الأرجح إنها شفرة. إنها مكتوبة بأبجدية سامية بدائية، وهي كما تعرف مطابقةٌ لتلك الخاصة باللغة الإغريقية البدائية. وهي مكتوبة من اليمين إلى اليسار، ككتابات اللغة الفينيقية والعبرية والمؤابية بالإضافة إلى اللغة الإغريقية الأقدم. والورقة هي ورقة ملاحظات عادية ذات لون كريمي، والحبر هو حبر صيني عادي لا يُمحَا كالذي يستخدمه صانعو الوثائق. تلك هي الحقائق، ومن دون المزيد من التعمق في دراسة الورقة نفسها، فلن نتمكَّن من فهْم الكثير.»

«لماذا تعتقد أنها شفرة أكثر مما تعتقد أنها رسالة عادية مكتوبة باللغة العبرية؟»

«لأنَّ من الواضح أنها رسالة سرية من نوع ما. إن كلَّ يهودي متعلم يعرف اللغة العبرية إلى حدٍّ ما، وعلى الرغم من أنه قادر على القراءة والكتابة فقط بالأحرف العبرية المربعة الحديثة، فمن السهل تبديلُ أبجدية بأخرى بحيث لا تمثِّل اللغة في حدِّ ذاتها أيَّ حماية أو أمان. ومن ثَم، فإنني أتوقع أن الخبراء حين يُترجمون هذه الرسالة، فإن الترجمة لن تكون سوى مزيج من الهُراء غير المفهوم. لكننا سنرى، وفي تلك الأثناء فإن الحقائق التي لدينا تقدِّم العديد من الاقتراحات المُثيرة والتي تستحق أن نأخذَها في عين الاعتبار.»

«أعطني أمثلة.»

قال ثورندايك وهو يهزُّ إصبع سبابة على نحوٍ تحذيري في وجهي: «لا، يا عزيزي جيرفس. لا تفعل، أرجوك، لا تَسمح للتراخي العقلي بأن يتسلَّل إليك. لديك تلك الحقائق القليلة التي ذكرتُها لك. فكِّر فيها كلٍّ على حدة ثم فكِّر فيها بصورة جماعية، ثم فكِّر في علاقتها بالملابسات. لا تُحاول أن تستخلصَ من عقلي المعلومات في حين أن لديك عقلًا ممتازًا تستخلصها منه.»

في صباح اليوم التالي برهنت الجرائد تمامًا على صحة رأْي صديقي في السيد جيمس. كانت كلُّ الأحداث التي وقعت — بالإضافة إلى بعض الأحداث التي لم تحدث — قد نُشرت بتفاصيل كاملة وواضحة، كما أُشير على نحو مطول إلى الورقة «التي وُجدت مع جثة الداعي للفوضوية»، و«المكتوبة باختزال خاص أو بشفرة ما.»

وانتهى الخبر بالجملة المُرضية — رغم أنها غير حقيقية — والتي تقول «وفي تلك القضية المعقَّدة والمهمة، حصلت الشرطة بحكمة على مساعدة الدكتور ثورندايك، والذي لا شك أن الشفرة المشئومة سرعان ما ستنحلُّ وتبوح بكل أسرارها أمام ذكائه الحاد وخبرته الكبيرة.»

قال ثورندايك ضاحكًا بعد أن قرأتُ عليه هذا المقتطف لدى عودته من المستشفى: «هذا إطراء كبير، لكنه غيرُ ملائم قليلًا إذا ما كان سيحثُّ أصدقاءَنا على إيداع بضعة تذكارات تافِهة في شكل مركبات نترية في سُلَّمِنا الرئيسي أو في القَبو. بالمناسَبة، لقد قابلتُ مفوِّضَ الشرطة ميلر على جسر لندن. والشفرة، كما يُطلِق عليها السيد جيمس، قد تسبَّبت في حالة غضب كبير في سكوتلاند يارد.»

«هذا طبيعي. ماذا فعلوا في هذا الشأن؟»

«لقد تبنَّوا اقتراحي، في النهاية، بعد أن وجدُوا أنهم لا يُمكنهم أن يفهموا شيئًا بأنفسهم، وأخذوها إلى المتحف البريطاني. وقد أحالهم مسئولو المتحف إلى البروفيسور بابلباوم، عالم الكتابات القديمة المعروف، والذي قدَّموا إليه الورقة.»

«هل أبدى رأيًا فيها؟»

«أجل، على نحو مؤقَّت. بعد فحصٍ سريع، وجد أنها تتكوَّن من عدد من الكلمات العبرية المحشورة بين مجموعات من الحروف التي لا معنًى لها على ما يبدو. وقد قدَّم إلى المفوِّض ترجمة ارتجالية للكلمات، فطبع ميلر على الفور عدة نُسخ منها باستخدام الطباعة الهيكتوغرافية، ووزَّعها على المسئولين الكبار في قسمه؛ لذا في الوقت الراهن …» هنا أطلق ثورندايك ضحكة صغيرة مكتومة ثم أكمل: «إن سكوتلاند يارد مُنخرطةٌ في مسابقة لاكتشاف الكلمات الناقصة — أو بالأحرى المعاني الناقصة. وقد دعاني ميلر لأُدليَ بدَلْوي؛ ولهذا فقد أعطاني إحدى النسخ لأنظر فيها مع صورة فوتوغرافية للورقة.»

figure
الشفرة.

سألتُه: «وهل ستفعل؟»

أجاب ضاحكًا: «لا بالطبع. أولًا، لم يتمَّ استشارتي بشكل رسمي، ومن ثَم فإنني متفرج غير فاعل، رغم أنني مهتمٌّ بالأمر. ثانيًا، لديَّ نظرية خاصة بي سأضعها موضع اختبار إذا ما سمحت الفرصة. لكن إذا ما أردتَ أن تُشارك في المسابقة، فأنا مخوَّلٌ لي أن أُريَك الصورة الفوتوغرافية والترجمة. سأُمررهما لك، وأتمنَّى لك أن تسعد بالعمل عليهما.»

ثم أعطاني الصورة الفوتوغرافية وورقة أخرجها للتوِّ من دفتر ملحوظاته، وراح يُشاهدني في سعادة وأنا أقرأ الأسطر القليلة الأولى.

ويل، مدينة، أكاذيب، سرقة، فريسة، صوت، سوط، قعقعة، عجلة، حصان، عربة، يوم، ظلمة، كآبة، غيوم، ظلام، صباح، جبل، ناس، قوي، نار، هم، لهب.

قلتُ معلِّقًا: «لا يبدو ذلك واعدًا جدًّا من النظرة الأولى. ما نظرية البروفيسور؟»

«نظريتُه — المبدئية بالطبع — هي أن الكلمات تمثِّل صلب الرسالة ومجموعات الحروف لا تُعدُّ سوى أشياء محشورة بين الكلمات.»

قلت معترضًا: «لكن سيكون هذا بالتأكيد خدعة مكشوفة للغاية.»

ضحك ثورندايك. وقال: «هناك سذاجة طفولية حيال الأمر، وهي مُثيرة للاهتمام كثيرًا لكنها مثبِّطة. أغلب الظن أن الكلمات زائفة وأن الأحرف هي التي تحتوي على الرسالة. أو، مرة أخرى، قد يكون الحل في اتجاه مختلف تمامًا. لكن أنصت! هل عربة الأجرة هذه تتَّجه نحو هنا؟»

كانت كذلك؛ فقد توقَّفتْ أمام منزلنا وبعد لحظات قليلة كان هناك خطوات تصعد الدرج بصوت سريع وحادٍّ ثم توقفتْ عند الباب. وحين فتحتُ الباب، وجدتُ نفسي أمام رجل غريب حسن الملبس، وبعد أن رمَقني بنظرة سريعة استرق النظر في فضول من فوق كتفي إلى داخل الغرفة.

قال الرجل: «أشعر بالارتياح يا دكتور جيرفس أني قد وجدتُك والدكتور ثورندايك في المنزل، حيث قصدتُكما في مسألة مهنية طارئة بعضَ الشيء.» ثم أكمل حديثه بعد أن دخَل استجابةً لدعوتي: «اسمي بارتون، لكنَّكما لا تعرفاني، رغم أنني أعرفكما شكلًا. لقد أتيتُ لأطلب منكما إن كان باستطاعة أحدكما أن يأتيَ — والأفضل أن تأتيَا معًا — معي الليلة لفحص أخي.»

قال ثورندايك: «يتوقَّف هذا على الظروف وعلى المكان الذي يوجد به أخوك.»

قال السيد بارتون: «الظروف، في رأيي، مثيرة للريبة بصورة كبيرة، وسأَعرضُها عليكما في سرِّيَّة تامَّة بالطبع.»

أومأ ثورندايك بالموافقة وأشار إليه ليجلس إلى كرسي.

أكمل السيد بارتون حديثه بعد أن أخذ الكرسي الذي عُرض عليه: «لقد تزوَّج أخي حديثًا للمرة الثانية. هو يبلغ من العمر خمسة وخمسين عامًا، أما زوجته فتبلغ ستة وعشرين عامًا، ويمكنني القول إن الزيجة لم تكن ناجحةً بأي شكل من الأشكال. وفي غضون الأسبوعين الماضيين، تعرَّض أخي لعدوى غريبة في معدته تسبَّبت له في ألمٍ كبير، ويبدو أن طبيب أخي لا يستطيع تحديدَ اسمٍ لها. وقد قاومتْ تلك العدوى كلَّ دواء وعلاج أخذه حتى الآن. ويتزايد الألمُ وتتفاقم المحنة يومًا بعد يوم، وأشعر أن نهايته ليست بعيدة، إلا إذا تمَّ اتخاذ أمر حاسِم.»

سأله ثورندايك: «هل يسوء الألم أكثر بعد تناوله الطعام؟»

صاح الزائر: «هذا هو الحال بالتحديد! إنَّني أعرف ما يجول بخاطرك، وقد جال بخاطري أيضًا؛ حتى إنَّني حاولتُ مرارًا أخْذَ عينات من الطعام الذي يَحصل عليه. وقد نجحتُ هذا الصباح.» وهنا أخرج من جيبه زجاجةً عريضةَ الفم، ووضعها على الطاولة بعد أن نزع عنها غلافها الورقي. ثم أضاف: «حين ذهبتُ إليه كان يَتناول الأروروت كإفطار له، والذي قد اشتكى من أنَّ به طعمًا رمليًّا، وقد افترضتْ زوجتُه أن ذلك بسبب السكَّر. في تلك الأثناء، حصلتُ على هذه الزجاجة، وأثناء غياب زوجته، تمكنتُ من دون أن يُلاحظني أحدٌ أن أحصل في الزجاجة على بعض الأروروت الذي تركه، وسأكُون ممنونًا للغاية إن فحصتما تلك الزجاجةَ وأخبرتماني إن كان الأروروت يَحتوي على شيء لا يَنبغي له أن يحتويَ عليه.»

ثم دفع بالزجاجة باتجاه ثورندايك، الذي حملها في مقابل النافِذة وبعد أن أخرج بعض محتوياتها بقضيب زجاجي، فحص الكتلة العجينية باستخدام عدسة؛ ثمَّ وبعد أن رفع الغطاء الزجاجي الذي يتَّخذ شكل الجرس عن المجهر الموضوع على طاولته بجوار النافذة، مسح بكمية صغيرة من المادة المشتبه بها على شريحة زجاجية، ووضعها على منصَّة المجهر.

ثم قال بعد فحص سريع: «أُلاحظ وجودَ بضعة جسيمات كريستالية بها، والتي تبدو في شكلها وكأنها حمض الزرنيخ.»

صاح السيد بارتون: «آه! هذا ما كنتُ أخشاه تمامًا، لكن هل أنت متأكد؟»

قال ثورندايك: «لا، لكن يُمكن اختبار الأمر بسهولة.»

ضغط على زرِّ الجرس المتصل بالمعمل، وهو ما يُشكِّل استدعاءً جعل مساعدَه في المعمل يأتي بسرعة استثنائية.

قال ثورندايك: «هلَّا أعددتَ عدة اختبار مارش يا بولتون من فضلك؟»

ردَّ بولتون: «لديَّ عدتان جاهزتان يا سيدي.»

«إذن فقُم بصبِّ الحمض في واحدة منهما وأحضره لي، وأحضر معه قطعة قرميد.»

وبعد أن اختفَى مُساعدُه في صمت، استدار ثورندايك نحو السيد بارتون وقال:

«بافتراض أننا وجدنا حمض الزرنيخ في هذا الأروروت، كما هو من المرجح، ماذا تريد منا أن نفعل؟»

أجاب العميل: «أريدكما أن تأتيَا وتفحصَا أخي.»

«ولماذا لا تأخذ مني رسالةً إلى طبيبه؟»

«لا، لا؛ أريدك منك أن تأتيَ — أرغب في أن تأتيَا كلاكما — وأن تضعَا على الفور حدًّا حاسمًا لهذا الأمر الشنيع. فكِّرَا في الأمر! إنها مسألة حياة أو موت. أنتما لن ترفضَا، أليس كذلك؟ أتوسَّل إليكما ألَّا ترفضَا مساعدتي في هذه الظروف العصيبة.»

قال ثورندايك بعد أن ظهر مساعدُه مرة أخرى: «حسنًا، لننظر أولًا ماذا سيُخبرنا به الاختبار.»

تقدَّم بولتون نحو الطاولة ووضع عليها قنينة صغيرة كانت محتوياتُها في حالة فوران، وزجاجةً مكتوبًا عليها «هيبوكلوريت الكالسيوم»، وقرميدة بيضاء من البورسلين. كانت القنينةُ الصغيرة مثبتةً بقمع أمان ويخرج منها أنبوبٌ زجاجيٌّ نحو صنبور دقيق وقد أشعل أمامه بولتون بحذرٍ عودَ ثقاب. فاندلع من الصنبور في الحال لهبٌ صغير بلون بنفسجي باهت. أخذ ثورندايك في تلك اللحظة القرميدة وأمسك بها فوق اللهب لبضع ثواني، فظلَّ شكلُ سطحها كما هو لم يتغير عدا دائرةٍ صغيرة من الرطوبة المكثفة. وكانت خطوة ثورندايك التالية هي تخفيف الأروروت بماء مقطرة حتى يُصبح سائلًا، ثم يصبُّ بعد ذلك كميةً صغيرة منه في القمع. جرى السائلُ ببطء في الأنبوب الزجاجي وحتى القنينة فاختلط سريعًا بالمحتويات الفوَّارة فيها. بدأ يظهر تغييرٌ فوريٌّ في سمات اللهب، والذي تحوَّل تدريجيًّا من لونٍ بنفسجي باهت إلى لون أزرق باهت، فيما تكوَّنت فوقه غيمةٌ باهتة من دخان أبيض. أمسك ثورندايك مرة أخرى بالقرميدة فوق الصنبور، لكن هذه المرة لم يَكد اللهبُ الباهت يلمس السطح الخزفي البارد حتى ظهرت عليه بقعةٌ سوداء لامعة.

علَّق ثورندايك قائلًا وهو يرفع السدادة عن زجاجة المادة الكاشفة: «هذا حاسم، لكننا سنقوم بتنفيذ الاختبار الأخير.» ثم وضع قطراتٍ قليلةً من محلول الهيبوكلوريت على القرميدة فاختفت البقعةُ السوداء في الحال وتلاشت. فقال وهو يضع السدادة ويستدير نحو عميلنا: «يمكننا الآن أن نُجيبَ على سؤالك يا سيد بارتون. إن العينة التي أحضرتَها تحتوي بكل تأكيد على الزرنيخ، وبكميات كبيرة للغاية.»

صاح السيد بارتون وهو ينهض من على كرسيه: «إذن ستأتيانِ وتساعدانني على إنقاذ أخي من هذا الخطر المميت. لا ترفض يا دكتور ثورندايك، رحمةً بي، لا ترفض.»

فكَّر ثورندايك للحظة.

وقال: «قبل أن نقرر، لا بد وأن ننظر فيما لدينا من ارتباطات.»

وبعد أن رمقني بنظرة سريعة ذات مغزًى، دخل إلى غرفة المكتب وتبعتُه في دهشة؛ لأنني كنت أعرف أننا لم يكن لدينا أيُّ ارتباطات لهذا المساء.

قال ثورندايك بينما أغلق باب غرفة المكتب: «والآن، يا جيرفس، ماذا سنفعل؟»

أجبتُه: «في رأيي، ينبغي علينا أن نذهب حيث يبدو أن الحالة طارئة جدًّا.»

ردَّ عليَّ موافقًا: «بالفعل هي كذلك. وربما في النهاية كان الرجل يُخبرنا بالحقيقة.»

«إذن أتظنُّ أنه لا يفعل؟»

«لا، إنها حكاية معقولة ظاهريًّا، لكن هناك الكثير من الزرنيخ في عينة الأروروت هذه. ومع ذلك، أظن أننا لا بد وأن نذهب. هذه مخاطرة مهنية عادية، لكن ليس هناك داعٍ لمشاركتك في الأمر.»

قلت بنبرة تنمُّ عن الغضب بعض الشيء: «شكرًا لك. أنا لا أرى المخاطرة التي ينطوي عليها الأمر، لكنني لديَّ الحق في المشاركة إن كان هناك أيٌّ منها.»

أجابني مبتسمًا: «جيد جدًّا. سنذهب معًا. أعتقد أنه بإمكاننا أن نتدبر أمرنا.»

ثم دخل غرفة الجلوس مرة أخرى، وأعلن قراره للسيد بارتون، والذي كان شعورُه بالارتياح والامتنان يُثيران الشعور بالشفقة تجاهه.

قال ثورندايك: «لكنك لم تُخبرنا بعدُ أين يعيش أخوك.»

كانت الإجابة: «ريكسفورد في إيسيكس. إنه مكان منعزل، لكننا إذا ما لحقنا بقطار السابعة والربع من شارع ليفربول، فسنكون هناك في غضون ساعة ونصف.»

«وماذا عن العودة؟ أعتقد أنك تعرف مواعيد القطارات، أليس كذلك؟»

أجاب عميلُنا: «أوه، أجل. سأحرص على ألَّا يفوتَكما قطارُ العودة.»

قال ثورندايك: «إذن سأكون معك في غضون دقيقة.» ثم أخذ القنينة التي كانت محتوياتُها لا تزال تفور إلى المعمل، وعاد بعد بضع دقائق وهو يحمل قبعته ومعطفه.

كانت عربةُ الأجرة التي أحضرت عميلَنا لا تزال تنتظر، وسرعان ما كانت عجلاتُها تقعقع عبر الشوارع نحو المحطة، حيث وصلنا في الوقت المناسب لنحصل على سلال العشاء ونختار مقصورتنا دون عجلة.

أثناء الجزء الأول من الرحلة كان رفيقنا يتمتع بمعنويات عالية. لقد أخرج الدجاجة الباردة من السلة وتجرَّع الكلاريت في تلذُّذٍ واستمتاع وكأنه لم يكن هناك ما يُشغل بالَه، وبعد العشاء أصبح مبتهجًا حد المرح الصاخب. لكن بمرور الوقت، تسلل إلى سلوكه شيءٌ من القلق والانزعاج. أصبح صامتًا ومنهمكًا، ونظر في ساعته خلسةً عدة مرات.

قال الرجل في نبرة تنمُّ عن الانزعاج: «لقد تأخر القطار كثيرًا! إنه متأخر عن موعده بسبع دقائق!»

قال ثورندايك: «إن بضع دقائق قبل موعده أو بعده ليست ذات أهمية كبيرة.»

«لا، بالطبع لا؛ لكن مع ذلك … آه، حمدًا للرب، لقد وصلنا!»

ثم دفع برأسه خارج النافذة الجانبية وحدَّق في تلهُّفٍ على طول الرصيف، ثم قفز على قدمه وخرج من القطار إلى الرصيف بينما كان لا يزال يتحرك.

وبينما كنا ننزل من القطار، انطلق جرسُ إنذار بقوة على الرصيف، وبينما كان السيد بارتون يهرع بنا عبر مكتب حجز التذاكر الفارغ إلى خارج المحطة، كان بإمكاننا سماعُ صوت القطار القادم والذي غطَّت ضوضاؤه على ضوضاء انطلاق قطارنا من المحطة.

صاح السيد بارتون قائلًا وهو ينظر في تلهُّفٍ عبر الطريق أمام المحطة: «لم تَصِل عربتي بعد. معذرة، انتظرَا هنا دقيقة وسأذهب لأستفسر عن الأمر.»

ثم انطلق كالسهم عبر مكتب الحجز ونحو الرصيف، بينما كان القطار القادم يدخل المحطة. تبعه ثورندايك بخطوات سريعة وخفية، وأطلَّ برأسه من خلال باب مكتب الحجز وشاهد ما كان يقوم به؛ ثم عاد وأشار إليَّ.

وقال وهو يُشير إلى جسر مشاة حديدي يمتدُّ فوق السكة الحديدية: «ها هو.» وبينما كنت أنظر، رأيت شيئًا بارزًا، في مقابل الضوء الخافت في السماء، وكان يجري بسرعة وكأنه يتسابق نحو أعلى الجسر.

كان قد قطع ثلثَي الجسر بالكاد حين انطلقتْ صافرةُ الحارس معبرةً عن تحذير صاخب.

صاح ثورندايك: «أسرع يا جيرفس. لقد انطلق!»

ثم قفز على خط السكة الحديدية، وتبعتُه أنا في الحال، وبعد أن عبرنا الخط، تسلقنا معًا إلى الممر الجانبي المقابل لمقصورة درجة أولى خالية. كانت سكينة ثورندايك تحتوي من بين أجزاء أخرى على مفتاح لفتح عربات القطار، وكان ثورندايك قد أخرجها بالفعل. تم فتح الباب بسرعة، وبينما كنا ندخل منه، هرع ثورندايك ونظر خارج القطار إلى الرصيف.

ثم قال: «لقد دخلنا في الوقت المناسب تمامًا! إنه في إحدى المقصورات الأمامية.»

ثم أعاد إغلاق الباب وجلس وشرع يملأ غليونه.

قلت والقطار يغادر المحطة: «والآن، هلَّا شرحتَ لي تلك المسرحية الكوميدية الصغيرة.»

قال: «بكل سرور، إذا كان الأمر يحتاج لأيِّ تفسير. لكن لا يمكن لك أن تكون قد نسيتَ ملاحظات السيد جيمس المتملقة في تقريره عن حادثة شارع جريك ستريت، والتي تُعطي انطباعًا صريحًا بأن الورقة الغريبة كانت بحوزتي. وحين قرأت ذلك، عرفت أنني ينبغي عليَّ أن أنتبه إلى محاولات استعادتها، رغم أنني لم أتوقع أن يكون الأمر بهذه السرعة. ولكن وحين أتى السيد بارتون من دون سابق معرفة أو موعد سابق، كنتُ أتعامل معه بشيء من التشكك. وقد زادت شكوكي حين أراد منا أن نذهب كلينا معه. وزادت أكثر حين وجدتُ كمية كبيرة للغاية من الزرنيخ في عينته، وقد تحولت تلك الشكوك إلى يقين حين تركتُ له حرية اختيار القطار الذي سنذهب به وصعدتُ بعدها إلى المعمل وفحصتُ جدول المواعيد ووجدتُ أن آخر قطار يتجه إلى لندن يغادر ريكسفورد بعد عشر دقائق من الوقت المحدد لوصولنا. من الواضح أن تلك كانت خطةً لإزاحتنا بأمان تمامًا من الطريق بينما يقوم هو وبعض أصدقائه بتفتيش منزلنا بحثًا عن الورقة المفقودة.»

«فهمت؛ وهذا يُفسِّر قلقه البالغ من تأخُّر القطار. لكن لماذا أتيتَ إذا كنتَ تعرف أن الأمر خدعة؟»

قال ثورندايك: «يا صديقي العزيز، إنني لا أفوِّت أبدًا تجربة مثيرة إذا ما كان باستطاعتي اختبارها. هناك احتماليات في هذا الأمر أيضًا، ألا ترى ذلك؟»

«لكن ماذا عن احتمالية أن أصدقاءه قد اقتحموا منزلنا بالفعل؟»

«لقد توليتُ أمر احتمالية كهذه؛ لكنني أظن أنهم سينتظرون السيد بارتون وسينتظروننا.»

ولأن قطارنا كان هو الأخير في وجهته، فقد توقَّف في كل محطة وكان يسير ببطء شديد وكأنه يزحف؛ لذا فقد كانت الساعة قد تخطَّت الحادية عشرة حين وصلنا إلى شارع ليفربول. هناك خرجنا ونحن نتوخى الحذر، واختلطنا في الحشود وتبعنا بارتون على الرصيف وهو غيرُ واعٍ لنا، وعبرنا الحاجز، وخرجنا إلى الشارع. لم يبدُ عليه أنه في عجلة من أمره؛ ذلك أنه بعد أن توقف ليُشعل سيجارًا كان يسير بوتيرة هادئة في شارع نيو برود.

نادى ثورندايك على عربة أجرة، وبعد أن أومأ لي أن أدخلها، أمر السائق أن يذهب إلى زقاق كليفورد إن.

ثم قال بينما كانت العربة تقطع شارع نيو برود: «عُد بظهرك للخلف قليلًا، فسنمرُّ على مخادعنا الغبي، ها هو بالفعل، إنه تجسيدٌ حيٌّ يسير على قدمين للحماقة الناتجة عن التقليل من ذكاء خصمك.»

وعند زقاق كليفورد إن، نزلنا من العربة، وبعد أن انسحبنا إلى ظلام الزقاق المظلم الضيق، ثبَّتْنا أنظارنا على بوابة إنر تيمبل لين. وفي غضون عشرين دقيقة تقريبًا، رأينا صديقنا وهو يقترب من الجهة الجنوبية من شارع فليت، وقد توقف عند البوابة، واستعمل القارعة وبعد حديث سريع مع الحارس الليلي اختفى عبر البوابة الصغيرة. انتظرنا نحن خمس دقائق أخرى، ثم عبرنا الطريق بعد أن منحناه الوقت الكافي ليقطع المدخل.

نظر إلينا الحارس بنظرات يعلوها بعضُ الدهشة.

وقال: «هناك رجل دخل إلى منزلكما للتوِّ يا سيدي. وقد أخبرني أنكما تنتظرانه.»

قال ثورندايك بابتسامة جافة: «صحيح. أنا أنتظره. طاب مساؤك.»

ثم تسلَّلنا عبر الزقاق وتخطينا الكنيسة وسِرْنا عبر الأديرة الكئيبة، مبتعدين عن جميع المصابيح والمداخل المضاءة بمسافة كبيرة، حتى أصبحنا أمام مبنى الوثائق فسِرْنا من أكثر النقاط المظلمة حوله حتى وصلنا إلى شارع كينجز بينش ووك، حيث سار ثورندايك مباشرة نحو منزل صديقنا أنستي، والذي كان يعلو منزلنا بطابقين.

سألتُ ثورندايك بينما كنا نصعد السلم: «لماذا أتينا إلى هنا؟»

لكن لم يكن سؤالي بحاجة إلى إجابة حين وصلنا إلى بسطة الدرج؛ ذلك أنني استطعتُ من خلال الباب المفتوح لمنزل صديقنا أن أرى أنستي بنفسه في حجرة مظلمة بصحبة اثنين من رجال الشرطة بزيٍّ رسميٍّ واثنين آخرين بزيٍّ مدنيٍّ.

قال أحد الذين يرتدون زيًّا مدنيًّا: «لم تأتِ الإشارة بعد يا سيدي.» وقد عرفت أنه محقق برتبة رقيب في قسمنا.

قال ثورندايك: «لا، لكن عضو العصابة وصل. لقد دخل إلى هنا قبلنا بخمس دقائق.»

قال أنستي: «إذن، سيداتي وسادتي، سنفتتح حفلة الرقص بعد قليل. تم تشميع الألواح، والعازفون يستعدون، و…»

قال الرقيب: «ليس بصوتٍ عالٍ إذا سمحت يا سيدي. أعتقد أن هناك شخصًا آتيًا من جهة كراون أوفيس رو.»

كانت حفلة الرقص قد افتُتحت بالفعل؛ حيث بينما كنا ننظر بحذر من النافذة المفتوحة ونحاول أن نتخفَّى في ظلام الحجرة المظلمة، تسلَّل أحدهم خلسة من الظلام، وعبرَ الطريق وانسلَّ إلى داخل منزل ثورندايك. تَبِعه سريعًا شخصٌ ثانٍ، ثم ثالث، وعرفتُ أن الشخص الثالث كان هو عملينا المخادع.

قال ثورندايك: «والآن استمعوا إلى الإشارة. إنهم لن يُضيِّعوا الوقت. اضبطوا الساعة!»

دقَّ جرسُ ساعة إنر تيمبل ذو الصوت الهادئ واختلط بأصوات جرسَي ساعتَي كنيسة سانت دانستان والمحاكم الأكثر خشونة، معلنةً كلها عن قدوم منتصف الليل؛ وبينما كان آخرُ صدًى للدقات يخفتُ، سقط شيءٌ معدني — من الواضح أنه كان عملة معدنية — على الرصيف تحت نافذتنا محدثةً صوتَ صليلٍ حادة.

وعلى وقع هذا الصوت هبَّ المراقبون واقفين في نفس الوقت.

قال الرقيب وهو يخاطب الرجلين ذوَي الملابس الرسمية: «اذهبَا أنتما الاثنان أولًا.» وحيث إن كلًّا منهما كان يرتدي حذاءً ذا نعل مطاطي، فقد تسلَّلَا من دون صوت على الدرج الحجري وعلى طول الرصيف. تبعهما بقيتُنا، وقد أولينا اهتمامًا أقل إلى الهدوء، وبينما كنا نهرع باتجاه منزل ثورندايك، كنا نسمع خطوات أقدام سريعة وخفية على الدرج فوقنا.

همس أحدُ رجلَي الشرطة وهو يسلِّط ضوء مصباحه على الباب الحديدي الخارجي لغرفة الجلوس الخاصة بنا، والذي كانت آثارُ عتلة كبيرة بارزةً عليه: «إنهم ينجزون عملهم كما هو واضح.»

أومأ الرقيب في تجهُّم، وبعد أن أمر رجلَي الشرطة أن يبقيَا على بسطة الدرج، قادنا صعودًا إلى أعلى.

وبينما كنَّا نصعد الدرج، كنَّا نسمع خشخشة خافتة من فوقنا، وفي بسطة الدرج في الطابق الثاني، قابلْنا رجلًا ينزل السلَّم من الطابق الثالث في هدوء، لكن من دون أن يكون متعجِّلًا. كان هو السيد بارتون ولم أتمكَّن سوى من أن أعجَب بهدوئه ورباطة جأشه حين مرَّ بالمحققين. لكن وقعتْ عينُه فجأةً على ثورندايك وتلاشى ما كان يتحلَّى به من هدوء. وبعينين جاحظتين من الرعب، توقَّف وكأنه تمثال حجري؛ ثم هرب وحاول أن يُسرعَ بشدة في نزوله على الدرج، وفي غضون لحظة جاءت صرخةٌ مكتومة وصوتُ شجارٍ فعرفنا أنه تمَّ إيقافُه. وفي الطابق التالي قابلنا اثنين آخرين من الرجال — وقد كانوا على عجلة أكثر وأقل هدوء — وقد حاولَا أن يتجاوزانا؛ لكن الرقيب كان قد سدَّ طريقهما.

صاح الرقيب متعجبًا: «يا إلهي! هذا مواكي؛ وأليس هذا توم هاريس؟»

قال مواكي بنبرة حزينة وهو يحاول أن يتخلص من قبضة الضابط: «لا بأس أيها الرقيب. لقد أتينا إلى المكان الخاطئ. هذا كلُّ ما في الأمر.»

ابتسم الرقيب ابتسامة خافتة ورد عليه: «أعلم ذلك. لكنك دومًا ما تأتي إلى المكان الخاطئ يا مواكي. والآن ستأتي معي إلى المكان الصحيح.»

ثم دسَّ يدَه بداخل معطف الرجل، وأخرج منه عتلةً مطوية كبيرة؛ وهنا توقف اللصُّ القلِق عن أيِّ محاولة أخرى للاحتجاج.

ولدى عودتِنا إلى الطابق الأول، وجدنا السيد بارتون ينتظرنا في تجهُّم، وهو مقيد بالأصفاد إلى أحد رجلي الشرطة، ويراقبه بولتون في استهجان عميق.

قال الرقيب بينما قاد فرقتَه العسكرية الصغيرة وسجناءَه: «لن أُزعجَك الليلة يا دكتور. ستسمع منَّا في الصباح. طاب مساؤك يا سيدي.»

ثم نزل الموكب الكئيب على الدرج وعُدنا نحن إلى منزلنا مع أنستي لندخن آخر غليون في اليوم.

قال ثورندايك: «إن بارتون هذا رجل قوي، وهو يتسم بالسرعة والمنطقية والبراعة، لكن ما أفسده هو اتصاله الدائم بالحمقى. أتساءل ما إن كانت الشرطة سترى أهمية ذلك الحدث البسيط.»

قلت: «سيكونون أكثر مني ذكاءً إذا ما فعلوا.»

قاطعني أنستي والذي كان يحب أن يستخفَّ برئيسه الموقَّر: «بالطبع، لأنه لا يوجد أيٌّ من ذلك. لا يوجد سوى نشاط ثورندايك. إنه مشوَّش كثيرًا بحقٍّ بشأن هذا الأمر.»

بصرف النظر عن مدى صحة ذلك، كانت الشرطة متحيرة كثيرًا تجاه تلك الحادثة؛ ففي الصباح التالي، زارنا المفوَّض ميلر بنفسه من سكوتلاند يارد.

قال ميلر وهو يدخل في الحال في صلب الموضوع: «هذا أمر غريب؛ أقصد أمر تلك السرقة. لماذا أرادوا أن يقتحموا منزلك، هنا في إنر تيمبل؟ ليس لديك شيءٌ ذو قيمة، أو ما يُطلقون عليه «شيء نفيس» هنا، أليس كذلك؟»

أجابه ثورندايك والذي كان يعاني من نفور شديد من الكليشيهات بكافة أنواعها: «ليس أكثر من ملعقة شاي فضية.»

قال المفوَّض: «الأمر غريب؛ بل في غاية الغرابة. فحين وصلتْنا رسالتُك، ظننا أن دعاة الفوضوية الأغبياء هؤلاء قد اختلط عليهم الأمرُ فيما يتعلق بدورك في القضية — أعتقد أنك رأيت الورقة — وأرادوا أن يقتحموا بيتك ويفتشوه لسبب ما. ظننا أننا ألقينا القبض على العصابة، ولكن بدلًا من ذلك وجدنا أنفسنا أمام مجموعة من الأغبياء العاديين الذين سئمنا منهم. إنه من المزعج يا سيدي أن تظن أنك اصطدت سمكة سالمون ثم تخرج الصنارة فتجد سمكة أنقليس صغيرة.»

وافقه ثورندايك وهو يكبت ضحكه: «لا بد وأن ذلك يمثِّل خيبة أمل كبيرة.»

قال المفوض: «هو كذلك. لكن هذا لا يعني أننا غير مسرورين كثيرًا للقبض على أولئك المحتالين، وخصوصًا هالكيت أو بارتون كما يدعو نفسه — إن هالكيت فاسق كبير وشرير أيضًا — لكننا لا نريد التعرض لأي خيبات أمل أخرى الآن. لقد كان هناك تلك المهمة الكبيرة بشأن ماسة في بيكاديلي وتابلن وهورن، ولا أجد مانعًا من أن أُخبرك أننا لم نحصل فيها حتى ولو على ظلِّ دليل. ثم يأتي أمرُ مسألة دعاة الفوضوية هذه التي لا نفهم فيها شيئًا.»

سأله ثورندايك: «لكن ماذا عن الشفرة؟»

صاح المفوض في انزعاج كبير: «أوه، تبًّا للشفرة! ربما كان البروفيسور بابلباوم خبيرًا، لكنه لم يُقدِّم لنا الكثير من المساعدة. إنه يقول إن الورقة مكتوبة بالعبرية، وقد ترجمها إلى لغة غير مفهومة تمامًا. فقط استمع لهذا!» ثم سحب من جيبه مجموعة من الأوراق، ووضع صورة فوتوغرافية من الورقة أمام ثورندايك، وبدأ يقرأ تقرير البروفيسور: «الورقة مكتوبة بأحرف الكتابة الشهيرة لميشا ملك المؤابيين (مَن هو هذا الملك بحق الجحيم؟ لم أسمع عنه من قبل. هل هو شهير بالفعل؟!) واللغة هي العبرية، والكلمات تفصل بينها مجموعاتٌ من الأحرف التي لا معنًى لها، والتي من الواضح أنها حُشرت لتُضلل القارئ وتُربِكَه. والكلمات نفسها غير متوالية منطقيًّا بدقة، لكن وباستنطاق كلمات أخرى بعينها، نحصل على سلسلة من الجمل الواضحة، والتي معناها غير واضح كثيرًا، لكنها وبلا شك مجازية. وموضَّحٌ بالجداول المرفقة طريقةُ فك الشفرة، والرسالة المقترحة مقدمة في الورقة المرفقة. ومن الجدير بالملاحظة أن كاتب هذه الورقة على ما يبدو ليس على دراية كبيرة باللغة العبرية كما هو واضح من غياب أيِّ بناء نحوي.» هذا هو تقرير البروفيسور أيها الدكتور، وها هي الجداول التي توضِّح كيف عمل على الشفرة. إنني أُصاب بالدوار من مجرَّد النظر إليها.»

ثمَّ أعطى لثورندايك مجموعة من الأوراق الملفوفة، والتي نظر فيها صديقي بانتباه بالغ لبرهة من الوقت، ثم مرَّرَها إليَّ.

قال ثورندايك: «هذا عمل منهجي وشامل. لكن دعونا ننظر الآن للنتيجة النهائية التي وصل إليها.»

figure
تحليل البروفيسور. مكتوب بخط اليد: تحليل الشفرة مع ترجمتها إلى أحرف العبرية المربعة الحديثة + ترجمة لها إلى الإنجليزية. ملحوظة: تُقرأ الشفرة من اليمين إلى اليسار.

دمدم المفوض قائلًا بينما كان يُفتش في أوراقه: «قد يكون منهجيًّا للغاية، لكنني أؤكد لك أنه كله هراء!» كان قد نطق بآخر كلمة في شراسة بينما ضرب الطاولة بالورقة التي تحتوي على النتيجة النهائية لما بذل البروفيسور من جهد. وأكمل حديثه قائلًا: «هاك، هذا هو ما يُطلق عليه البروفيسور «الرسالة المقترحة» وأعتقد أنها ستجعل شعرك يشيب. قد تكون تلك رسالة من مستشفى المجانين.»

أخذ ثورندايك الورقة الأولى، وبينما كان يقارن المقترحات المبتدعة بالترجمة الحرفية، لاحتْ على محيَّاه الجامد عمومًا ابتسامة خافتة.

وعلَّق قائلًا: «المعنى غامض قليلًا بلا شك، لكن إعادة إنشاء الرسالة في غاية البراعة؛ وعلاوة على ذلك، أعتقد أن البروفيسور على حق. أعني أن الكلمات التي أمدَّنا بها هي الأجزاء المحذوفة من الفقرات التي أُخذت منها كلمات الشفرة. ما رأيك يا جيرفس؟»

أعطاني الورقتين، وقد تضمنت الأولى الكلمات الفعلية للشفرة، في حين تضمنت الثانية الرسالة المقترحة، بعد إدخال الكلمات الناقصة. كان محتوى الأولى كما يلي:

ويل، مدينة، أكاذيب، سرقة، فريسة، صوت، سوط، قعقعة، عجلة، حصان، عربة، يوم، ظلمة، كآبة، غيوم، ظلام، صباح، جبل، ناس، قوي، نار، هم، لهب.

وبعد أن تحوَّلت إلى الورقة الثانية، قرأت الرسالة المقترحة:

ويل للمدينة اللعينة! إنها مليئة بالأكاذيب والسرقة؛ لم تُغادِر الفريسة. صوت السوط، وضوضاء قعقعة العجلات وقفز الأحصنة، والعربات الوثابة.

يوم يتَّصف بالظلمة والكآبة، يوم ملبَّد بالغيوم والظلام الكثيف، بينما ينشر الصباح خيوطه على الجبال، وأناس أقوياء وعظماء.

تشتعل النار أمامهم، ومن خلفهم يستعر اللهب.

انتهت الورقة الثانية هنا وبينما كنتُ أضعها من يدي، نظر إليَّ ثورندايك متسائلًا.

قلت مبديًا اعتراضي: «هناك الكثير من إعادة التشكيل فيما يتعلَّق بالنص الأصلي. لقد قدَّم البروفيسور أكثر من ثلاثة أرباع الرسالة النهائية.»

انفجر المفوَّض قائلًا: «بالضبط. إنها كلها رسالة البروفيسور وليسَت الشفرة.»

قال ثورندايك: «لكنَّني ما زلت أعتقد أن القراءة صحيحة بقدر ما يذهب إليه الأمر.»

صاح المفوض القانط قائلًا: «يا إلهي. أتُريد أن تقول يا سيدي إنَّ هذا الكلام الفارغ هو المعنى الحقيقي للشفرة؟»

أجاب ثورندايك: «لستُ أقصد ذلك. إنَّما أقول إنها صحيحة بقدر ما يذهب إليه الأمر؛ لكنني أشك في أنها هي حلُّ الشفرة.»

قال ميلر في حماسة مفاجئة: «هل فحصتَ الصورة الفوتوغرافية التي أعطيتُك إياها؟»

قال ثورندايك مراوغًا: «نظرتُ فيها، لكنَّني أريد أن أفحص الورقة الأصلية إن كانت معك.»

قال المفوض: «إنَّها معي؛ فقد أرسلها لي البروفيسور بابلباوم مع حلِّ الشَّفرة. يُمكنك أن تُلقيَ نظرة عليها، لكنَّني لا أستطيع أن أتركها معك من دون إذن خاص.»

ثمَّ سحب الورقة من دفتر ملحوظاته وأعطاها لثورندايك، الذي أخذها باتجاه النافذة وتفحصها بعينِه عن كثب. ومن عند النافذة انتقل إلى المكتب المُجاوِر، وأغلق الباب خلفه؛ ثم سرعان ما عرفتُ من صوت انفجار خافت أنه قد أشعل موقد الغاز.

قال ميلر وهو يُمسك بترجمة الشفرة مرة أخرى: «بالطبع، هذه الثرثرة هي ما قد تتوقع الحصول عليه من مجموعة من دعاة الفوضوية المخبولين؛ لكن لا يبدو أنها تَعني أيَّ شيء.»

قلتُ له موافقًا: «ليس بالنسبة لنا، لكن ربما كان للجُمَل معانٍ ذات ترتيب مسبق. ثم هناك الأحرف بين الكلمات التي من المحتمل أنها هي التي تمثل الشفرة.»

قال ميلر: «لقد اقترحتُ هذا على البروفيسور، لكنه لم يوافق على كلامي. إنه متأكد أنها مجرد حروف زائفة.»

«أعتقد أنه مخطئ، وأعتقد أن صديقي يعتقد ذلك أيضًا. لكننا سرعان ما سنرى ما سيقول.»

غمغم ميلر قائلًا: «أوه، أعرف ما سيقوله. سيضع الورقة تحت المجهر ويُخبرنا بمن صنع الورقة وما يتكون منه الحبر ولن نتمكن من اكتشاف أيِّ شيء.» وقد بدا المفوَّض محبطًا بشدة.

جلسنا بعض الوقت نفكر في صمت في الجمل الغامضة التي أخرجها البروفيسور في ترجمته، حتى ظهر ثورندايك مرة أخرى بعد مرور فترة طويلة وهو يُمسك بالورقة في يده. ووضع ثورندايك الورقة في هدوء على الطاولة بجوار المفوض، ثم قال متسائلًا:

«أهذه استشارة رسمية؟»

أجابه ميلر: «بالطبع. لقد خُوِّلتُ أن أستشيرَك فيما يتعلق بالترجمة، لكنَّ شيئًا لم يُذكر بشأن الورقة الأصلية. مع ذلك، إذا ما كنت تريدها للمزيد من الفحص، فلك ذلك.»

قال ثورندايك: «لا، شكرًا لك. لقد انتهيتُ من فحصها، واتضح أن نظريتي صحيحة.»

صاح المفوَّض في حماسة: «نظريتك! أتقصد أن تقول …؟»

«وبما أنك تستشيرني بشكل رسمي، فسأعطيك هذه.»

ثم أعطاه ورقة، فأخذها المفوض وبدأ يقرؤها.

ثم سأل وهو ينظر إلى ثورندايك في عبوس وحيرة: «ما هذا؟ من أين أتى هذا؟»

أجابه ثورندايك: «هذا هو حلُّ الشفرة.»

أعاد المفوض قراءة محتويات الورقة، ثم راح يُحدِّق مرة أخرى في صديقي بينما كانت تعابير العبوس الناتج عن حيرته تزداد على وجهه.

ثم قال عابسًا: «هذه مزحة يا سيدي؛ أنت تمزح معي.»

أجابه ثورندايك: «على الإطلاق. هذا هو الحل الصحيح.»

صاح ميلر متعجبًا: «ولكن هذا مستحيل. انظر إلى ذلك يا دكتور جيرفس.»

أخذتُ الورقة من يده وبينما كنتُ أنظر فيها، لم أجد صعوبة في فهم شعوره بالمفاجأة. كانت الورقة تحمل نصًّا قصيرًا يقول:

أشياء بيكرديلي في بناية كيمبلي الكائنة في رقم ٤١٦ من شارع ووردور بالطابق الثاني من الجهة الخلفية. وقد أُخفيت لأن مواكي العجوز شخصٌ حقير.

صحتُ متعجبًا: «إذن لم يكن ذلك الرجل من دعاة الفوضوية قط؟»

قال ميلر: «لا. لقد كان أحدَ أفراد عصابة مواكي. كنا نشك أن مواكي له يد في هذا الأمر، لكننا لم نستطع أن نُثبت عليه شيئًا. ثم أضاف وهو يضرب فخذه: «يا إلهي! أتمنى أن يكون هذا صحيحًا، وأستطيع أن أضع يدي على الغنيمة! أيمكنك أن تُعيرني حقيبة يا دكتور؟ سأذهب إلى شارع ووردور في التوِّ واللحظة.»

أمددناه بحقيبة فارغة، وشاهدناه من النافذة وهو يتجه نحو ميتر كورت في انعطاف سريع.

قال ثورندايك: «أتساءل إن كان سيجد غنيمته. الأمر يتوقف فقط على ما إن كان مكان إخفائها معلومًا لأكثر من واحد من أفراد العصابة. في الواقع، كانت هذه القضية غريبة وحافلة بالمعلومات أيضًا. وأعتقد أن صديقنا بارتون وشونبيرج المراوغ كانَا هما العقلَين المدبرَين اللذين أنتجَا تلك الشفرة المثيرة للفضول.»

قلت: «هل لي أن أسألك كيف حللت لغز الشفرة؟ فلم يستغرق ذلك منك طويلًا.»

«لا، لم يستغرق طويلًا. كان الأمر مجرد اختبار لفرضية ما.» ثم أضاف في نبرة صارمة زائفة: «ولا ينبغي لك أن تطرح مثل هذا السؤال، بالنظر إلى أنك كنت تمتلك ما يبدو أنه كل الحقائق الضرورية بخصوص القضية منذ يومين، لكنني سأجهز وثيقة وسأوضح لك الأمر في صباح الغد.»

•••

قال ثورندايك بينما كنا ندخن الغليون في الصباح بعد تناول الإفطار: «لقد نجح ميلر في مسعاه؛ فقد كانت «الغنيمة الكاملة»، كما يُطلق هو عليها، «في بناية كيمبلي» دون أن يَمسَّها أحد.»

ثم أعطاني ورقة جلبها رسولٌ مع الحقيبة الفارغة قبل وقت قصير، وكنت على وشك أن أقرأها حين سمعنا طَرْقًا كثيرًا على الباب. كان الزائر الذي أدخلتُه هو رجل مسنٌّ هزيل وأشعث، وبينما كان يدخل من الباب أخذ يتنقل بنظره في فضول من خلال نظارته المقعَّرة بيني وبين صديقي.

ثم قال: «اسمحَا لي أيها السيدان أن أُقدِّم نفسي. أنا البروفيسور بابلباوم.»

انحنى له ثورندايك محيِّيًا وطلب منه أن يجلس.

أكمل زائرُنا حديثه قائلًا: «لقد ذهبتُ إلى سكوتلاند يارد البارحة عصرًا، وسمعت بحلِّك المثير للغز الشفرة وبالدليل القاطع على صحته. ومن ثَمَّ فقد اقترضتُ الورقة التي بها الشفرة وأمضيتُ الليلة بطولها وأنا أدرسها، ولكنني لا أستطيع أن أربط بين الحل الذي قدَّمتَه وأيٍّ من الأحرف. وأتساءل إن كنت ستُسدي لي معروفًا وتُطلعني على طريقة حلِّك للشفرة وتوفِّر عليَّ لياليَ أخرى دون نوم؟ ويمكنك أن تثق في تكتمي على الأمر.»

سأله ثورندايك: «هل الورقة معك؟»

أخرجها البروفيسور من دفتر ملحوظاته، وناولها لصديقي.

قال الأخير: «أتُلاحظ أيها البروفيسور أن هذه الورقة عادية وليس بها أيُّ علامة مائية؟»

«أجل، لاحظتُ ذلك.»

«وأن الكتابة بالحبر الصيني الذي لا يُمحى؟»

قال العالم وقد نفد صبره: «أجل، أجل، لكن ما يُثير اهتمامي هو الكلام المكتوب وليس الورقة أو الحبر.»

قال ثورندايك: «بالتأكيد. مع ذلك، كان الحبر هو ما أثار اهتمامي حين وقع نظري على الورقة قبل ثلاثة أيام. فسألت نفسي: لماذا قد يستخدم أحدُهم هذا الشيء المزعج في حين أن بإمكانه الحصول على حبر كتابة جيد؛ لأن هذا الحبر يبدو أنه مصنوع من أعواد؟ ما المميزات التي يتمتع بها الحبر الصيني على حبر الكتابة؟ إنه يتمتع بالعديد من المزايا عند استخدامه في الرسم، لكن عند استخدامه في الكتابة فهو لا يتمتع إلا بميزة واحدة، وهي أنه لا يتأثر بالبلل. إذن نجد أن الاستنتاج المنطقي الذي نحصل عليه هو أن هذه الورقة كانت — لسبب ما — ستتعرض للبلل. لكن هذا الاستنتاج يقودنا إلى استنتاج آخر في الحال، وهو استنتاج استطعتُ أن أضعه موضع اختبار بالأمس، هكذا.»

ثم ملأ قدحًا من الماء وطوى الورقة وأسقطها فيه. وفي الحال ظهر عليها مجموعة جديدة من الأحرف ذات لون رمادي مثير للفضول. وفي غضون ثواني، أخرج ثورندايك الورقة المبللة ورفعها أمام الضوء، والآن ظهر نقشٌ جديد بأحرف شفافة، وكأنه علامة مائية مميزة للغاية. كان النقش مكتوبًا على امتداد الكتابة الأخرى ويقول:

أشياء بيكرديلي في بناية كيمبلي الكائنة برقم ٤١٦ من شارع ووردور بالطابق الثاني من الجهة الخلفية. وقد أُخفيت لأن مواكي العجوز رجل حقير.

نظر البروفيسور إلى النقش بازدراء عميق.

وسأل عابسًا: «كيف حدث هذا باعتقادك؟»

قال ثورندايك: «سأُريك. لقد أعددتُ ورقة لأوضح هذه العملية امتداد الكتابة الأخرى إلى الدكتور جيرفس. إنها عملية بسيطة إلى حدٍّ بعيد.»

أحضرَ من المكتب لوحًا صغيرًا من الزجاج، وصحنًا خاصًّا بالصور الفوتوغرافية كان به ورقة رفيعة منقوعة في الماء.

قال ثورندايك وهو يرفع الورقة ويضعها على اللوح الزجاجي: «هذه الورقة منقوعة طوال الليل، وهي الآن تبدو وكأنها عجينة.»

ثم فرد ورقة جافة على الورقة المبتلة وكتب بثقل عليها بقلم رصاص صلب: «مواكي شخص حقير». وحين رفع الورقة العلوية، بدا أن الكتابة انتقلت بلون رمادي داكن إلى الورقة المبللة، وحين رفعها أمام الضوء، كان النقش واضحًا وشفافًا وكأنه مكتوب بالزيت.

قال ثورندايك: «حين تجفُّ هذه الورقة، ستختفي الكتابة تمامًا، لكنها ستظهر مرة أخرى متى ما ابتلت الورقة.»

أومأ البروفيسور.

وقال: «رائع للغاية، وكأنه طرس في الواقع. لكنني لا أفهم كيف يمكن لرجل جاهل مثل هذا أن يكتب باللغة المؤابية الصعبة.»

قال ثورندايك: «لم يفعل. على الأرجح أن «الشفرة» قد كتبها أحد قادة العصابة، والذي بلا شك أعطى الأعضاء الآخرين نُسخًا منها لاستخدامها بدلًا من الورق الأبيض وذلك من أجل التواصل السري فيما بينهم. لا شك أن الهدف من الكتابة المؤابية هو تحويل الانتباه عن الورقة نفسها، في حال سقطت في أيدٍ خاطئة، وينبغي أن أقول إن ذلك أدَّى الهدف المنشود منه ببراعة.»

وقف البروفيسور وكأنه قد لدغ بتذكره المفاجئ لجهوده التي بذلها.

وقال ناخرًا: «أجل، لكنني رجلُ علمٍ يا سيدي ولستُ رجلَ شرطة. وكلُّ رجل يُبدع في مجاله.»

ثم التقط قبعته وخرج من الغرفة ممتعضًا بعد أن تمنى لنا صباحًا مشرقًا بنبرة جافة.

ضحك ثورندايك ضحكة خفيفة.

وغمغم قائلًا: «مسكين أيها البروفيسور! إن صديقنا بارتون المخادع أمامه الكثير من الأسئلة التي عليه أن يُجيب عنها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤