الفصل الثامن

رسالة من أعماق البحر

إن طريق وايتشابل، رغم أنه يحتوي على آثارٍ متناثرة لماضٍ أكثر حيوية من طريق كوميرشيال المجاور له والخالي تمامًا، ليس طريقًا مبهجًا. وخاصة عند طرفه الشرقي — حيث يبدو أن حداثته الباهتة تعكس حياة قاطنيه غير الممتعة — فإن طوله المخيف الباهت يُوقع الكآبة في نفوس المارة. لكن حتى أطول الطرق وأكثرها كآبة يمكن أن يتحول إلى طريق مبهج؛ وذلك من خلال محادثة خفيفة تغلب عليها الحكمة والفكاهة، وهكذا كان الأمر حيث كنتُ أسير نحو الغرب بجوار صديقي جون ثورندايك، فقد بدا أن الطريق الطويل والممل قد تحوَّل إلى طريق قصير للغاية.

كنا قد ذهبنا إلى مستشفى لندن لرؤية حالة غير عادية لتضخم الأطراف، وأثناء عودتنا، كنا نناقش تلك الحالة الجسدية الغريبة وارتباطها بحالة العملقة من جميع الجوانب بداية من «ذقن جيبسون» إلى جسد عوج ملك باشان.

علَّق ثورندايك بعد أن تجاوزنا شارع ألدجيت هاي ستريت قائلًا: «كان الأمر سيُصبح مثيرًا لو أن أحدهم قد وضع إصبعه في الحفرة النخامية لجلالة الملك — بعد وفاته بالطبع — بالمناسبة، هاك هو زقاق هارو؛ أتذكر وصفَ ديفو لعربة الموتى المنتظرة هنا، والموكب الكبير الآتي من الزقاق؟» وأخذ بذراعي وقادني عبر الطريق الضيق حتى المنعطف الحاد عند حانة «ستار آند ستيل» حيث استدرنا لننظر خلفنا.

ثم قال وهو غارق في أفكاره: «أنا لا أمرُّ من هذا المكان أبدًا، لكن يبدو أنني أسمع قعقعة الجرس وصيحة سائق العربة الكئيبة …»

ثم توقف فجأة، حيث ظهر فجأة شخصان أمام الممر المقنطر وكانَا يتقدمان الآن نحونا بسرعة كبيرة. كان الشخص الأول — وهو الأسبق منهما — امرأةً يهودية ممتلئة الجسم في منتصف العمر، وكانت شعثاء وتلهث بشدة؛ أما الآخر فكان شابًّا حسن الملبس وكان أقل شعورًا بالانزعاج من رفيقته. وبينما كانَا يقتربان منا، تعرَّف الشاب على صديقي فجأة وبادره بالحديث بنبرة تنمُّ عن القلق.

«لقد تم استدعائي لتوِّي للنظر في قضية قتل أو انتحار. أتُمانع أن تنظر في الأمر لأجلي يا سيدي؟ إنها قضيتي الأولى وأشعر بتوتر شديد.»

هنا اندفعت المرأةُ وأمسكت بالطبيب الشاب من ذراعه.

وصاحت: «أسرع! أسرع! لا تتوقف للحديث.» كان وجهها أبيضَ من الشحوب كشحم الخنزير ويلمع بفعل العرق؛ وكانت شفتاها ترتعشان ويداها ترتجفان ونظرت إلينا بعينَي طفلة صغيرة مرتعبة.

قال ثورندايك: «بالطبع سأذهب يا هارت.» ثم استدرنا وتبعنا المرأة التي كانت تدفع المارة بمرفقها بصورة محمومة لتُسرع في طريقها.

وسأل ثورندايك الشاب بينما كنا نسير بسرعة: «هل بدأت الممارسة هنا؟»

أجاب الدكتور هارت: «لا يا سيدي. إنني أعمل مساعدًا. ورئيسي في العمل هو الطبيب الشرعي للشرطة، لكنه خرج لتوِّه. إنه لمن اللطف الشديد منك أن تأتيَ معي يا سيدي.»

قاطعه ثورندايك: «لا! لا! إنني قادم فقط من أجل أن أرى مدى استفادتك من تعليمي لك. يبدو أن هذا هو المنزل.»

كنا قد تبعنا مرشدتنا إلى شارع جانبي، وكنا قد وصلنا إلى نصفه تقريبًا حين رأينا مجموعة من الناس تجتمع حول مدخل منزل. وقف الناس يشاهدوننا ونحن نقترب، وانسحبوا جانبًا لكي يفسحوا لنا مجالًا للدخول. أما المرأة التي كنَّا نتبعها فقد هرعت إلى داخل المدخل بنفس السرعة التي كانت تسير بها في الشارع، واستمرت في سرعتها تلك وهي تصعد الدرج. لكن وباقترابها من الدور العلوي أبطأت فجأة وبدأت تتسلَّل على أطراف أصابع قدمها في خطوات صامتة ومترددة. وحين وصلتْ إلى بسطة الدرج الخاصة بالدور العلوي، استدارت لتُواجهنا وأشارت بإصبع سبابة مرتعشة إلى باب الحجرة الخلفية، وهمستْ بصوت يكاد يكون غير مسموع: «إنها هناك.» ثم صعدت أولى درجات الدور التالي وهي تكاد تفقد وعيها.

وضعتُ يدي على مقبض الباب ونظرتُ للخلف إلى ثورندايك. كان يصعد الدرج ببطء ويتفحص عن كثب الأرضية والحوائط والدرابزين أثناء صعوده. وحين وصل إلى بسطة الدور العلوي، أدرتُ مقبض الباب ودخلنا الغرفة معًا، وأغلقنا الباب خلفنا. كانت الستارة لا تزال مغلقة وفي تلك الإضاءة المعتمة الخافتة، لم نستطع أن نرى شيئًا غير عادي في البداية. بدت الحجرة الرديئة الصغيرة أنيقة ومرتَّبة بصورة كبيرة، عدا كومة من الملابس النسائية القديمة الملقاة على أحد الكراسي. وبدا السرير غير ممسوس عدا الجسد الذي كان ينام عليه والذي لم يكن واضحًا بصورة كافية، وكان وجه ذلك الجسد الهادئ الذي كان مرئيًّا على نحوٍ خافت في جانبه المظلم، قد بدا نائمًا لولا سكونه التام وتلك البقعة الداكنة على الوسادة بجانبه.

تسلل الدكتور هارت على أطراف أصابعه إلى جوار السرير بينما فتح ثورندايك الستارة؛ وفي حين كان ضوء النهار المتوهج يملأ الغرفة، تراجع الطبيب الشاب للخلف وهو يشهق من الرعب.

وصاح قائلًا: «يا إلهي! يا لَها من مسكينة! إن هذا لشيء مريع يا سيدي!»

غمر الضوءُ الوجهَ الأبيض لفتاة جميلة في الخامسة والعشرين من عمرها، وكان وجه الشابة الميتة هادئًا ومسالمًا وجميلًا وخاليًا من أيِّ زينة ويكاد حسنُه يبلغ حُسنَ الملائكة. وكانت الشفتان متباعدتين قليلًا وعيناها شبه مغلقتين وكأنهما ناعستان، وتُظلِّلهما رموشٌ طويلة؛ وكان للفتاة شعرٌ أسود كثيف بضفائرَ كبيرةٍ والذي كان مغايرًا للون بشرتها البيضاء.

سحب صديقُنا أغطية الفراش بضع بوصات، فظهر — تحت ذلك الوجه الجميل، الهادئ والمبهم، والمريع في نفس الوقت بفعل ثباته وشحوب لونه الشديد وكأنه كالشمع — جرحٌ فظيع وغائر كاد يُقسم عنقَها الرقيق المتناسق.

نظر ثورندايك إلى وجهها الأبيض الممتلئ بنظرة تنمُّ عن الإشفاق الشديد.

وقال: «لقد قطع عنقها بطريقة وحشية لكنها رحيمة، وذلك بسبب وحشية القطع نفسها. لا بد وأنها ماتت من دون أن تستيقظ.»

صاح هارت وهو يقبض يديه ويتحول لونُ وجهه إلى القرمزي بفعل غضبه: «ذلك الغاشم! ذلك الوحش الشيطاني الرعديد! يجب أن يُشنَق! أقسم بالرب أنه لا بد وأن يُشنق!» كان الشاب يلوح بقبضتيه في الهواء أثناء غضبه، وكانت الدموع تترقرق في عينيه.

وضع ثورندايك يده على كتفه. وقال: «هذا هو سببُ وجودنا هنا يا هارت. أخرجْ مفكرتك.» ثم انحنى على جسد الفتاة القتيلة.

وبفعل ذلك الاستنكار الودِّيِّ من ثورندايك، استجمع الشابُ رباطةَ جأشه وبدأ تحقيقه بعد أن فتح مفكرته، في حين انشغلتُ أنا بإعداد مخطَّطٍ للغرفة بطلب من ثورندايك، مع عملِ وصفٍ لمحتوياتها وطريقة ترتيبها. لكن تلك المهمة لم تمنعني من أن أُبقيَ ناظريَّ على تحركات ثورندايك، وبعد برهة توقفتُ عن أداء مهمتي لرؤيته وهو يكشط بعض الأشياء التي وجدها على الوسادة باستخدام سكين جيبه.

سألني بعد أن ذهبتُ إلى جواره: «ماذا تستنتج من هذا؟» وأشار بالنصل إلى كومة صغيرة لما بدا أنه رملٌ فضي، وبعد أن نظرتُ عن كثب أكثر، رأيتُ أن جسيمات مشابهة لها كانت متناثرةً على أجزاء أخرى من الوسادة.

قلتُ متعجبًا: «رمل فضي! لا أعرف أبدًا كيف يمكن أن يصل إلى هنا. أتعرف أنت؟»

هزَّ ثورندايك رأسه نافيًا. وكانت إجابته: «سننظر في أمر تفسير ذلك لاحقًا.» وكان قد أخرج من جيبه علبةً معدنية صغيرة كان يحملها معه على الدوام، وكانت تحتوي على أشياء كشرائح تغطية زجاجية وأنابيب شعرية وشمع قولبة، و«لوازم تشخيصية» أخرى. ثم أخرج من هذه العلبة حافظةَ بذور وجرف فيها بعنايةٍ حبَّاتِ الرمل الصغيرة باستخدام سكينه. وبعد ذلك أغلق الحافظة وكان يدوِّن على الجانب الخارجي منها وصفًا لمحتوياتها بالقلم الرصاص، حين فزعنا بفعل صرخة أطلقها هارت.

«يا إلهي، يا سيدي! انظر لهذا! كان الفاعل امرأة!»

وكان هارت قد سحب أغطية السرير وكان يُحدِّق مذعورًا في اليد اليُسرى للضحية. وكانت يدها تُمسك بخُصلة شعر أحمر رفيعة.

أسرع ثورندايك في إغلاق عينته ووضعها في جيبه، وبعد أن سار بجوار الطاولة الصغيرة الموضوعة بجوار السرير، انحنى على اليد معقدًا حاجبَيه. كانت اليد مغلقة لكنها لم تكن مقبوضةً بإحكام، وحين حاول أن يفتحها برفق، وجد أن الأصابع كانت متيبسةً وكأنها أصابعُ يدٍ خشبية. أخذ ثورندايك ينظر عن كثب أكثر وأخرج عدسته وتفحَّص خُصلة الشعر بطولها بالكامل.

وعلَّق قائلًا: «يوجد هنا أكثر مما يمكن للعين أن تراه من الوهلة الأولى. ما رأيك يا هارت؟» وقدَّم عدسته لتلميذه القديم الذي كان على وشك أن يأخذها منه حين انفتح البابُ ودخل منه ثلاثة رجال. كان الأول مفتشَ شرطة والثاني بدا وكأنه شرطي يرتدي ملابس مدنية، في حين أن الثالث كان من الواضح أنه الطبيب الشرعي للشرطة.

سأل الأخير وهو ينظر إلينا بشيء من الازدراء: «أهما صديقان لك يا هارت؟»

قدَّم ثورندايك له تفسيرًا سريعًا لوجودنا فقال:

«حسنًا إذن يا سيدي، أمرُ مثولكما أمام المحكمة متروكٌ للمفتش. لم يكن مساعدي مخولًا لأن يستدعيَ غرباء. استمرَّ في عملك يا هارت.»

وبهذه الكلمات شرع في فحصه، في حين سحب ثورندايك الترمومتر الجيبي الذي كان قد دسَّه تحت الجثة وأخذ قراءته.

لكن المفتش لم يكن مستعدًّا لممارسة الامتياز الذي لمَّح له الطبيب الشرعي؛ ذلك أن لكل خبير مجاله.

وسأل بلطف: «في رأيك يا سيدي كم مضى على وفاتها؟»

أجابه ثورندايك: «حوالي عشر ساعات.»

نظر المفتش والمحقق كلٌّ في ساعته في آنٍ واحد. وقال الأول: «هذا يعني أنها قُتلت في غضون الثانية فجرًا اليوم. ما هذا يا سيدي؟»

كان الطبيب الشرعي يُشير إلى خُصلة الشعر الموجودة في يد الفتاة القتيلة.

صاح المفتش: «يا إلهي! إن القاتل امرأة، أليس كذلك؟ لا بد وأنها كانت قوية. تبدو هذه القضية سهلة بالنسبة لك أيها الرقيب.»

قال المحقق: «أجل. هذا يوضح أمر ذلك الصندوق والوسادة التي عليه عند مقدمة السرير. كان عليها أن تقف عليهما حتى تطالَها. لكنها لا يمكن أن تكون طويلة.»

قال المفتش: «لكن لا بد وأنها كانت قوية للغاية؛ لقد كادت تفصل رأس الفتاة المسكينة عن جسدها.» ثم تحرك نحو مقدمة السرير وانحنى على الجثة وحدَّق بالجرح الغائر. وفجأة بدأ يمشي بيده على الوسادة ثم فرك أصابعه معًا. وقال متعجبًا: «هناك رمل على الوسادة؛ رمل فضي! عجبًا، كيف وصل هذا إلى هنا؟»

وجاء كلٌّ من الطبيب الشرعي والمحقق ليتحقَّقَا من هذا الاكتشاف، وبدءوا يتشاورون بجدية فيما بينهم عن معنى ذلك.

سأل المفتش ثورندايك: «هل لاحظتَ ذلك يا سيدي؟»

أجاب الأخير: «أجل، إنه أمر غير قابل للتفسير، أليس كذلك؟»

قال المحقق: «لا أعرف إن كان كذلك أم لا.» ثم هرع إلى الحوض وأطلق نخيرًا ينمُّ عن الرضا عن النفس. وقال وهو يرمق صديقي بزهوٍ: «الأمر بسيط للغاية، كما ترون. هناك قطعة صابون رملي على الحوض، والذي هو مليءٌ بالمياه المختلطة بالدم. لا بد وأن المرأة غسلت الدم عن يديها وعن السكين أيضًا — لا بد وأنها تتسم أيضًا برباطة الجأش — وقد استخدمت الصابون الرملي في ذلك. ثم وبينما تُجفف يديها، لا بد وأنها وقفت عند مقدمة السرير فسقط الرمل على الوسادة. أعتقد بأن هذا التفسير يزيل الغموض بما يكفي.»

قال ثورندايك: «هذا واضح بصورة تُثير الإعجاب. وكيف كان تسلسل الأحداث في اعتقادك؟»

نظر المحقق المزهو بنفسه حول الغرفة وقال: «في اعتقادي أن الضحية قرأت حتى النوم. هناك كتاب على الطاولة بجوار السرير، وشمعدان ليس به شيء سوى فتيلة محترقة في تجويفه. أتخيَّل أن المرأة دخلت في هدوء، وأشعلت مصباح الغاز، ووضعت الصندوق وعليه الوسادة عند مقدمة السرير، ووقفت عليهما وقطعت عنق ضحيتها. ولا بد وأن الضحية استيقظت وأمسكت بشعر قاتلتها، رغم أنه لا يبدو أن عراكًا قد وقع؛ لكن لا شك وأنها ماتت من فورها تقريبًا. ثم غسلت القاتلة يديها ونظَّفت السكين ورتبت السرير قليلًا وخرجت. أعتقد أن الأحداث سارت بهذه الطريقة، لكنها دخلت من دون أن يسمعها أحدٌ، وكيف خرجت وأين ذهبت، هذان هما الشيئان اللذان ينبغي علينا أن نكتشفهما.»

قال الطبيب الشرعي وهو يضع أغطية السرير على الجثة: «ربما من الأفضل أن نستجوب صاحبة المكان ونسألها بضعة أسئلة.» ثم نظر بقوة إلى ثورندايك وسعل المفتش على وجه يده. لكن صديقي اختار ألَّا يلتفتَ إلى هذه التلميحات: وبعد أن فتح الباب، أدار المفتاح عدة مرات للخلف والأمام، وسحبه من الباب وتفحَّصه عن قرب ثم أعاده إلى مكانه.

وعلَّق قائلًا وهو يُمسك بالباب مفتوحًا: «صاحبة المكان تقف على بسطة الدرج في الخارج.»

ومن ثَمَّ خرج المفتش، وتبعناه جميعًا لنسمع نتيجةَ استجوابه.

قال المحقِّق وهو يفتح مفكرته: «والآن سيدة جولدشتاين، أريد منكِ أن تُخبرينا جميعًا ما تعرفينه عن هذا الأمر وعن الفتاة نفسها. ماذا كان اسمها؟»

مسحَت صاحبةُ المكان — التي كان هناك رجلٌ شاحبُ الوجه مرتعشًا يقف بجوارها — عينَيها وأجابت بصوت مرتجف: «تلك الفتاة المسكينة، كان اسمها مينا أدلر. وكانت ألمانية، وقد أتت من بريمن قبل حوالي سنتَين. ولم يكن لديها في إنجلترا أصدقاء؛ أقصد أقارب. وكانت تعمل نادلةً في مطعم في شارع فينتشرش، وكانت فتاةً طيبة وهادئة ومجدَّة في عملها.»

«متى اكتشفتِ ما حدث؟»

«قرابة الحادية عشرة صباحًا. كنت أعتقد أنها ذهبت إلى عملها كالمعتاد، لكن لاحظ زوجي من الباحة الخلفية أن ستارة غرفتها كانت لا تزال مسدلة. لذا صعدتُ إليها وطرقت الباب، وحين لم أتلقَّ إجابة فتحتُ الباب ودخلت الغرفة ثم رأيت …» وهنا غمرت الذكرى المريعة مخيلةَ المرأة المسكينة فانفجَرَت في بكاء ونحيب هستيري.

«كان بابها إذن غير موصَد؛ هل كانت تُوصدُه في العادة؟»

قالت السيدة جولدشتاين وهي تنشج: «أعتقد ذلك. لقد كان المفتاح دومًا في الباب.»

«وماذا عن باب الشارع؟ هل كان مُوصدًا حين خرجتِ منه هذا الصباح؟»

«كان مغلقًا. إنَّنا لا نُوصده لأنَّ بعض السكان يَعُودون في وقت متأخِّر.»

«والآن أخبرينا، هل كان لها أيُّ أعداء؟ هل كان هناك مَن يَحمل ضغينة تجاهها؟»

«لا، لا، يا لَها من مسكينة! لمَ قد يحمل أحدُهم ضغينةً تجاهها؟ لا، لم تتشاجَر — شجارًا فعليًّا — مع أحد أبدًا؛ ولا حتى مع ميريام.»

سألها المفتش: «ميريام! مَن هي؟»

أدركها الرجل بسرعة: «لم يكن ذلك شيئًا يُذكر. لم يكن ذلك شجارًا.»

قال المفتش مقترحًا: «أعتقد إذن يا سيد جولدشتاين أنه كان مجرَّد شعور بسيط بالبغض بينهما؟»

قال السيد جولدشتاين: «مجرَّد حمق بسيط حول شابٍّ ما، هذا كل ما في الأمر. كانت ميريام تغار قليلًا. لكن لم يكن ذلك شيئًا يُذكر.»

«لا، لا، بالطبع. نَعرف جميعًا أنَّ الفتيات يَكُنَّ عرضة ﻟ …»

ثم جاء صوت خطوات أقدام خفيفة وامتدَّ للحظات، وكانت الخطوات تنزل الدرج العلوي ببطء، وفي تلك اللحظة وعند استدارة الدرَج ظهرت الوافدةُ الجديدة أمام أعيننا. وعند رؤيتِها توقف المفتش عن حديثه فجأة وكأنه تِمثالٌ حجريٌّ، وساد فيما بيننا صمتٌ ثقيل وحذر. وتقدَّمتْ نحونا على الدرجات المتبقية فتاةٌ قصيرة القامة لكنها قويةُ البِنية وكانت مهتاجةً وشعثاء وتعلوها نظرةُ ارتعاب، ووجهُها شاحبًا للغاية، وشعرُها بلونٍ أحمرَ لامع.

وقفنا جميعًا صامِتين وجامِدين فيما كانت تتقدم نحونا تلك الفتاة ببطء؛ لكن فجأة انسلَّ المحقق عائدًا إلى الغرفة وأغلق الباب خلفه ثم عاود الظهور بعد بضع لحظات وهو يحمل مظروفًا ورقيًّا صغيرًا وضعه في جيب صدره بعد أن رمق المفتش بنظرة سريعة.

قال السيد جولدشتاين: «هذه هي ابنتي ميريام التي تحدثنا عنها أيها السادة. يا ميريام هؤلاء هم الأطباء والشرطة.»

نظرت الفتاة إلينا واحدًا تلوَ الآخر. وقالت بصوت غريب مكتوم: «إذن فقد رأيتموها.» وأضافت: «هي ليست بميتة، أليس كذلك؟ هي ليست ميتة فعلًا؟» جاء السؤال بنَبرة تنمُّ عن الخداع واليأس، كنبرةِ امرأة مجنونة تقف على جثَّة طفلها. ملأتني نبرةُ صوتها بشعور غامض بعدم الراحة، ثم نظرتُ ومن دون وعي نحو ثورندايك.

وفوجئتُ بأنه كان قد اختفى.

تراجعتُ للخلف من دون صوتٍ نحو رأس الدرج، حيث يُمكنني الحصول على نظرة للردهة أو الممر، ونظرتُ للأسفل ورأيته وهو يَمدُّ يده نحو رفٍّ خلف باب الشارع. ورآني وأنا أنظر إليه فأشار إليَّ أن آتيَه، حينها تسللتُ بعيدًا عن المجموعة الواقفة من دون أن يلحظوا ذلك. وحين وصلتُ إلى الردهة كان ثورندايك يطوي ثلاثة أشياء صغيرة، كلٌّ منها في ورقة سجائر منفصلة؛ ولاحظتُ أنه كان يتعامل معها برقَّة غير عادية.

وقال وهو يضع الأشياء الثلاثة الصغيرة بحذرٍ شديد في العلبة الصغيرة التي يَحتفظ بها في جيبه: «لم نكن نريد رؤية تلك الشيطانة الصغيرة أثناء القبض عليها. لنُغادر من هنا.» ثم فتح الباب من دون أن يُصدرَ أيَّ صوت، ووقف للحظة يقفل المزلاج ويفتحه ويتفحص قفلَ الباب عن كثَبٍ.

ورمقتُ أنا الرفَّ خلف الباب بنظرة سريعة. كان عليه شمعدانان مسطحان من الخزف، وفي أحدهما تصادف أن لاحظتُ أثناء دخولنا طرفَ شمعة صغيرًا في الوعاء، فنظرتُ الآن لأرى إن كان هذا هو ما أخذه ثورندايك؛ لكنه كان لا يزال في مكانه.

تبعتُ صديقي للخارج في الشارع، ورُحْنا نسير صامِتِين لبعض الوقت، ثم قال ثورندايك بعد فترة: «بالطبع خمنتَ ما أخذه الرقيب في ذلك الكيس الورقي الصغير.»

«أجل. لقد أخذ الشعر الذي كان في يدِ الفتاة القتيلة؛ وأعتقد أنه كان من الأفضل كثيرًا لو تركه في مكانه.»

«لا شكَّ في ذلك. لكن هذه هي الطريقة التي يُدمر بها رجال الشرطة الحسنو النية الأدلة القيِّمة. ليس معنى ذلك أن هذا الدليل ذو أهمية كبيرة في هذه الحالة؛ لكن قد يكون ذلك خطأً فادحًا.»

سألته: «هل تنوي الاضطلاع بدورٍ فاعل في هذه القضية؟»

«يعتمد هذا على الظروف. لقد جمعتُ بعض الأدلة، لكنَّني لا أعلم بعدُ أهميتها. ولا أعلم كذلك ما إن كان رجال الشرطة قد لاحظوا مجموعة الحقائق نفسها التي لاحظتُها؛ لكنَّني في غنًى عن القول بأنني سأفعل أيَّ شيء يبدو ضروريًّا لمساعدة السلطات؛ فهذه مسألة واجبات مشتركة بين المواطنين.»

ونظرًا لما تسببت به أحداثُ مغامرة الصباح من تبديد لوقتنا، فقد كان من الضروري لنا أن يذهب كلٌّ منا لمباشرة عمله من دون أيِّ تأخير؛ لذا وبعد أن تناولنا غداء بصورة روتينية في أحد المطاعم الصغيرة، انفصَلنا ولم أرَ صديقي حتى انتهيتُ من عملي اليومي، وعدتُ للمنزل قبل وقت العشاء بقليل.

وقتها وجدتُ ثورندايك جالسًا إلى الطاولة وكان مشغولًا تمامًا. كان بجواره مِجهرٌ ومكثَّفٌ يُلقي ببقعة من الضوء على رشة من المسحوق المنثور على الشريحة الزجاجية؛ وكان علبة تجميع الأشياء الصغيرة مفتوحة أمامه، وكان مشغولًا بصورة غير واضِحة في عصر عجينة إسمنت بيضاء سميكة من أنبوب إلى ثلاث قطع صغيرة من شمعِ القَولَبة.

ثم علَّق قائلًا: «الفورتافكس هذا مفيد بحق، فهو يصنع قوالب ممتازة، ويُوفِّر عليك عناء خلط الجصِّ والفوضى الناتجة عن ذلك، وهذا كثير بالنسبة لعمل صغير كهذا. بالمناسَبة، إذا كنت تريد أن تعرف ما كان على وسادة تلك الفتاة المسكينة، فألقِ نظرة سريعة من خلال المجهر. إنها عينة جميلة.»

تقدَّمتُ ونظرت بعيني من خلال الجهاز. كانت العينة جميلة بالفعل بما يتخطَّى الناحية التقنية لها. كان هناك عددٌ من الأصداف الصغيرة والجميلة مُختلطة بحبيبات بلورية من الكوارتز وشويكات زجاجية وشظايا مرجانية أبلتها المياه، وكان لبعض هذه الأصداف ملمسُ البورسلين الفاخر، وللبعض الآخر ملمَس الزجاج الفينيسي المهشَّم.

figure
الرمل المأخوذ من وسادة الفتاة القتيلة، مكبرًا إلى ٢٥ ضعفًا.

صحتُ متعجِّبًا: «هذه فورامينيفيرا!»

«أجل.»

«إذن هو ليس برمل فضيٍّ في النهاية؟»

«ليس كذلك بالتأكيد.»

«إذن ما هذا؟»

ابتسم ثورندايك. وقال: «إنها رسالة لنا من أعماق البحر يا جيرفس؛ من قاع شرق البحر المتوسط.»

«وهل تستطيع قراءة تلك الرسالة؟»

أجابني قائلًا: «أعتقد أنني يُمكنُني ذلك، لكنني آمل أن أعرف عما قريب.»

نظرتُ من خلال المجهر مرة أخرى، وتساءلت عن الرسالة التي بلَّغتْها هذه الأصداف الصغيرة إلى صديقي. رمل من قاع البحر على وسادة فتاة قتيلة! كيف يُمكن أن يُصبح الأمر أكثر تناقضًا؟ ما العلاقة المحتمَلة التي يُمكن أن تُوجد بين هذه الجريمة الشنعاء في شرق لندن وبين القاع العميق ﻟ «بحرٍ بلا مدٍّ»؟

وفي تلك الأثناء عصر ثورندايك المزيد من الإسمنت على قطع شمع القولبة الثلاث (والتي اعتقدتُ أنها الأشياء التي رأيتها يلفُّها بحذر في ردهة منزل آل جولدشتاين)؛ ثم وضع إحداها على شريحة زجاجية، وكان الجزء المغطَّى بالإسمنت منها موجَّهًا نحو الأعلى، ووضع الاثنتين الأخريين في وضع عمودي. وفي النهاية عصر المزيد من العجينة الإسمنتية السميكة على ما يبدو لكي يجمع القطع الثلاث معًا، وحمل الشريحة الزجاجية بحذرٍ شديد إلى خزانة، حيث وضعها مع المظروف الذي يحتوي على الرمل والشريحة الزجاجية التي كانت موضوعةً على المجهر.

وكان يُغلق الخزانة حين جاء صوتُ طرقات حادة على مطرقة الباب، فهرع ثورندايك إلى الباب. كان هناك صبيٌّ ساعٍ يقف عند عتبة الباب ويَحمل في يده مظروفًا قذرًا.

قال الفتى: «لقد جعَلني السيد جولدشتاين أبقى وقتًا طويلًا بالخارج يا سيدي. ليس من شِيَمي التسكُّع أبدًا.»

أخذ ثورندايك المظروف نحو مصباح الغاز وبعد أن فتَحَه سحب منه ورقة استعرضها بعينيه بسرعة ولهفة شديدة؛ ورغم أن وجهه ظل جامدًا وكأنه قناع حجري، فقد شعرتُ بقناعة بداخلي أن الورقة أخبرتْه بشيء كان يتمنَّى معرفته.

وبعد أن خرج الفتى مبتهجًا، التفت ثورندايك إلى رفوف الكتب ومرَّ بعينيه عليها في تفكير عميق حتى استقرتْ نظرتُه على كتابٍ ذي غلاف رثٍّ بالقرب من إحدى أطراف الرفوف. فمدَّ يده إلى ذلك الكتاب وأخذه وبينما كان يضعه على الطاولة ويفتحه، رمقتُه بنظرة ودُهِشت حين لاحظت أنه عملٌ ثنائيُّ اللغة، فكانت الصفحات المقابلة لبعضها على ما يبدو مكتوبةً باللغة الروسية والعبرية.

علَّق ثورندايك بعد أن لاحظ اندهاشي قائلًا: «العهدُ القديم بالروسية واليديشية. سأجعل بولتون يصوِّر بضع عينات من صفحاته، أهذا هو ساعي البريد أم هو مجرَّد زائر؟»

اتضح أنه ساعي البريد، وبعد أن أخرج ثورندايك من صندوق البريد مظروفًا رسميًّا أزرق اللون، نظر إليَّ نظرةً ذات مغزًى.

وقال: «يُجيب هذا على ما أعتقد عن تساؤلك يا جيرفس. أجل؛ إنه استدعاء من قاضي التحقيق وخطابٌ مهذَّبٌ للغاية: «آسف لإزعاجك، لكن ليس أمامي خيارٌ آخر في ظل هذه الظروف» — بالطبع لم يكن لدَيه — لقد رتَّب الدكتور دايفدسون أن يتمَّ إجراءُ التشريح غدًا في تمام الرابعة مساءً، وسأكون مسرورًا إذا ما تمكَّنت من الحضور. المشرحة في شارع باركر، بجوار المدرسة.» إذن أعتقد أننا ينبغي علينا أن نذهب، رغم أن دايفدسون سيمتعض من ذلك على الأرجح.» ثم أخذ ثورندايك مجلدَ العهد القديم وذهب به إلى المعمل.

في اليوم التالي تناولنا الغداء في المنزل، وبعد أن انتهينا من الطعام، سحبنا كرسيَّينا إلى جوار النار وأشعل كلٌّ منَّا غليونَه. وكان يبدو على ثورندايك أنه مُنهمِكٌ في التفكير؛ ذلك أنه كان يفتح مفكَّرته على ركبتِه ويُحدِّق بتأمُّل في النار، وكان بين الحين والآخر يُدوِّن أشياء في مفكِّرته بقلمه الرصاص كما لو كان يُرتِّب نقاطَ جدالٍ أو حوار. وبافتراضي أن الجريمة التي وقعت في شارع ألدجيت هي ما يَشغل تفكيره، تجرَّأتُ على أن أسأله:

«هل لديك أيُّ أدلة مادية لتُقدِّمَها إلى قاضي التحقيق؟»

أغلق مفكرته ووضَعَها في مكانها وقال: «الأدلة التي لديَّ مادية وذات أهمية؛ ولكنَّها غيرُ متصلة ببعضها وغير حاسِمة. إذا ما تمكنتُ من أن أربطها ببعضها فأصنع منها مجموعة مُتماسكة من الأدلة — وهذا ما آملُ أن أتمكَّنَ من فعله قبل أن أصلَ إلى المحكمة — فستكون تلك الأدلة في غاية الأهمية بالفعل، وهاك هو رفيقي الغالي ومعه أدوات البحث.» والتفتَ بابتسامة على وجهه نحو بولتون الذي كان قد دخل الغرفة لتوِّه، وتبادل السيد والرجل نظرةً ودية تنمُّ عن التقدير المتبادَل. وكانت علاقة ثورندايك ومساعدُه مصدرَ سرورٍ دائم لي: فكان أحدُهما يقدم الخدمات في وفاء وإخلاص؛ وكان الآخر يقدم كامل التقدير والإعجاب.

قال بولتون وهو يُعطي لسيده علبةً صغيرة مصنوعة من الكرتون كالتي تُوضَع فيها أوراق اللعب. سحب ثورندايك غطاءها فرأيت أن العلبة من الداخل كانت مُزوَّدةً من الداخل بثلمات للشرائح، وكانت تحتوي على صورتَين فوتوغرافيَّتَين. وكانت الصورتان مميزتَين بحق؛ فقد كانت كلٌّ منهما نسخةً من صفحة من مجلد العهد القديم، وكانت إحداها بالروسية والثانية باليديشية؛ لكن الأحرف كانت بيضاء على خلفية سوداء، وكانت لا تحتل سوى مساحة صغيرة في المنتصف، تاركةً هامشًا أسود كبيرًا. وكانت كلُّ صورة موضوعةً على بطاقة صلبة وكلُّ بطاقة تحتوي على صورة مكررة ملصقة على ظهرها.

أراني ثورندايك هاتين البطاقتَين وهو يَبتسم ابتسامةً مُثيرة، وكان يُمسكهما بأطراف أصابعه من أطرافهما قبل أن يدسَّهما مرة أخرى في علبتهما.

وقال وهو يضع العلبة في جيبه: «إننا نقوم باستطراد بسيط في علم فقه اللغة. لكن يَنبغي علينا الانصرافُ الآن وإلا فسنجعل دايفدسون يَنتظرنا كثيرًا. شكرًا لك يا بولتون.»

وحمَلَنا القطارُ بسرعة نحو الشرق، فخرجنا من محطة ألدجيت قبل نصف ساعة كاملة من موعدنا، إلا أن ثورندايك كان يسير بسرعة، لكنه بدلًا من أن يتجه مباشرة نحو المشرحة، ذهب إلى شارع مانسيل لأسباب مجهولة، وكان في أثناء سيره يتفحَّص أرقام المنازل. كان صفٌّ من المنازل القديمة — رائعة المظهر لكنها قذرة — على الجانب الأيمن منَّا على ما يبدو يجذب انتباهه، وقد أبطأ من سرعة سيرِه حين كنَّا نقترب منه.

ثم قال وهو يُشير إلى تمثال خشبي لشخصية هندية مطليٍّ بألوان فظَّة وموضوع على رفٍّ في باب أحد متاجر التبغ الصغيرة القديمة الطراز: «تلك حياة غريبة يا جيرفس.» وتوقفنا لننظر في ذلك التمثال الصغير، وفي تلك اللحظة فُتح بابٌ جانبيٌّ وخرجت امرأة إلى عتبة الباب، ووقفتْ تنظر في الشارع في كلَا الاتجاهين.

عبر ثورندايك الرصيف في الحال وخاطبها، وكان في ذلك يوجِّه لها سؤالًا على ما يبدو؛ لأنني سمعتُ إجابتها وهي تقول: «إنه يَصِلُ في السادسة والربع، يا سيدي، وهو في الغالب دقيق في مواعيده.»

قال ثورندايك: «شكرًا لكِ. سأضع ذلك في الحسبان.» ثم رفَعَ قبعتَه محيِّيًا إياها وراح يسير بسرعة، وسرعان ما التفَّ إلى شارع جانبي خرجنا منه إلى شارع ألدجيت. كانت الساعة الآن الرابعة إلا خمس دقائق؛ لذا رُحْنا نسير بسرعة لنصل إلى مكان اللقاء في موعدنا، لكننا وعلى الرغم من أننا وصلنا إلى البوابة والساعة تدقُّ مُعلنةً الرابعة، فحين دخلنا البناية وجدنا الدكتور دايفدسون يُعلِّق مئزره ويستعدُّ للرحيل.

وقال من دون أن يُظهرَ في حديثِه أيَّ علامة على صدقه: «آسف، لم أتمكَّن من انتظاركما، لكنَّ تشريح الجثة ما هو إلا مسرحية هزلية في جريمة كهذه؛ لقد رأيتُما كلَّ ما كان ينبغي عليكما رؤيتُه. لكن ها هي الجثة؛ إن هارت لم يَفرغ من إغلاقها بعد.»

ثمَّ رحَل بعد أن قال تلك الكلمات وحيَّانا بعبارة «طاب مساؤكما» بنبرة فظَّة.

قال هارت وهو ينظر إلى ثورندايك بوجهٍ مُغتاظ من المكتب الذي كان جالسًا عليه يُدوِّن ملحوظاته: «يجب أن أعتذر عن تصرُّفات الدكتور دايفدسون يا سيدي.»

قال ثورندايك: «لستَ في حاجة لذلك، أنت غير مسئول عن تصرُّفاته؛ وأنا لن أُعطِّلك. أنا أريد أن أتحقَّق من شيء أو شيئين فقط.»

وبعد أن فهمنا تلميحه، بقيتُ أنا وهارت عند المكتب فيما خلع ثورندايك قبعته وتقدم نحو طاولة التشريح الطويلة وانحنى فوق الجثة البائسة والمثيرة للشفقة. وقد ظلَّ بلا حراك لبرهة، يسير بعينيه بجدية على الجثة، وكان بلا شك يبحث عن كدمات أو علامات تدل على وجود صراع. ثم عكف على فحص الجرح عن قرب أكثر، خاصَّة من حيث يبدأ وينتهي. وفجأة، اقترب أكثر وراح ينظر بدقة واهتمام كما لو أن شيئًا قد جذب انتباهَه، وبعد أن أخرج عدسته، أخذ سفنجة صغيرة وجفَّف بها شيئًا بارزًا من العمود الفقري. ثم قرَّب عدسته من البقعة التي جفَّفها وراح يتفحصها مرة أخرى بعناية، ثم أخرج منها شيئًا ما باستخدام مشرط وملقط، وغسل هذا الشيء بعناية وراح يفحصه مرة أخرى بعدسته وهو على راحة يدِه. وفي النهاية وكما توقَّعت، أخرج «العلبة التي يجمع بها الأشياء» وسحب منها مظروفًا صغيرًا ووضَع فيه ذلك الشيء — وكان من الواضح أنه شيء صغير — وأغلق المظروف ودوَّن عليه شيئًا من الخارج ووضَعَه مرةً أخرى في العلبة.

وقال بينما كان يضع العلبة في جيبِه ويأخُذ قبعتِه: «أعتقد أنني رأيتُ كلَّ ما كنتُ أريد رؤيته. سنلتقي غدًا صباحًا في التحقيق.» وسلَّم على هارت وخرجنا إلى الهواء النقي نسبيًّا.

وبذريعة أو بأُخرى، أخذ ثورندايك يتلكَّع في شارع ألدجيت حتى دقَّ جرس الكنيسة معلنًا السادسة، حينَها توجهتْ خطواتُه نحو زقاق هارو. وراح يسير في ذلك الممر الضيق المتعرِّج بخطوات بطيئة وقد بدا عليه الانغماس في التفكير ثم سار بطول شارع ليتل سومرست حتى خرج إلى شارع مانسيل، وحين كانت الساعة تدق السادسة والربع وجدنا أنفسنا في مواجهة متجر التبغ الصغير.

نظر ثورندايك في ساعته وتوقَّف، وراح ينظر باهتمام في الشارع. وبعد لحظة أخرج من جيبه وبسُرعة العلبة المصنوعة من الكرتون، وأخرج منها الصورتَين الفوتوغرافيتَين الملصقتَين اللتَين تسبَّبتَا لي في حيرة كبيرة. وقد بدا الآن أن ثورندايك متحيرٌ منهما أيضًا بنفس الدرجة، وذلك بالنظر لتعبيرات وجهِه؛ ذلك أنه كان يرفعهما بالقرب من عينيه ويفحصهما في عبوس وقلق، ويرجع بظهره شيئًا فشيئًا نحو مدخل الباب بجوار متجر التبغ. في تلك اللحظة لاحظتُ رجلًا والذي بينما كان يقترب منَّا، بدا أنه كان ينظر إلى صديقي ببعض الفضول والكثير من الازدراء؛ كان الرجل قصيرًا للغاية وشابًّا قويَّ البِنية وكان على ما يبدو يهوديًّا أجنبيًّا، وكان وجهه الشرير بطبيعته وغير الجذاب مشوَّهًا أكثر بعلامات إصابته بمرضِ الجدري.

قال في فظاظة وهو يَدفع ثورندايك: «اعذرني، فأنا أسكن هنا.»

أجابه ثورندايك: «أنا آسف.» ثم تحرَّكَ جانبًا وسأله فجأة: «بالمناسبة، أعتقد أنك لا تعرف تمامًا اللغة اليديشية؟»

سأله الوافد الجديد بنبرة خشنة: «ولمَ تسأل؟»

«لأنني حصلتُ لتوِّي على هاتين الصورتين لنصٍّ ما. أعتقد أن إحداها مكتوبة باليونانية، وأن الأخرى مكتوبة باليديشية، لكنني نسيتُ أيهما يونانية وأيهما يديشية.» وأعطى البطاقتين للغريب الذي أخذهما منه ونظر فيهما بفضول وعبوس.

وقال وهو يرفع يده اليمنى: «هذه يديشية، وتلك روسية وليست يونانية.» ثم أعطى البطاقتين إلى ثورندايك الذي أخذهما منه وأمسك بهما من أطرافهما بحذر كما فعل من قبل.

قال ثورندايك: «إنني مُمتنٌّ لك كثيرًا لكرم مساعدتك.» لكن وقبل أن ينتهيَ ثورندايك من شكره، كان الرجل قد دخل بعد أن فتح الباب بالمفتاح وأغلق الباب بعنف.

دسَّ ثورندايك الصورتين بحذرٍ في مكانَيهما في العلبة مرة أخرى، ووضَع العلبة في جيبه ودوَّن ملحوظة في مفكرته.

وقال: «بهذا، أكون قد انتهيتُ من عملي في هذه القضية، ما عدا تجربة صغيرة يمكنني أن أُجريَها في المنزل. بالمناسبة، لقد التقطتُ دليلًا صغيرًا كان دايفدسون قد غفل عنه. سينزعج من ذلك، وأنا لا أحب أن أُحرز نقاطًا على حساب الزملاء؛ لكنه غيرُ مهذب ولا أستطيع أن أتواصلَ معه.»

•••

كان استدعاء قاضي التحقيق يقتضي بأن تكون العاشرة هي الساعة التي يَحضر فيها ثورندايك ليقدِّم شهادته، لكنَّ نقاشًا له مع أحد المحامين المشهورين تداخل مع خططه فتأخرنا ربع ساعة عن التحرك من مكتب المحامي. كان صديقي يتمتع بلا شك بمعنويات مُمتازة، رغم أنه كان صامتًا ومشغولَ البال، وقد استنتجتُ من ذلك أنه كان راضيًا عمَّا قام به من عمل؛ لكن وبينما جلستُ إلى جواره في عربة الأجرة، امتنعتُ عن أن أسأله عن شيء، ليس لأنَّني لا أتسم بالأنانية، لكن انطلاقًا من رغبتي في الاستماع إلى شهادته للمرة الأولى بالتزامن مع الاستماع لشهادات الشهود الآخرين.

كانت الحُجرة التي انعقد فيها التحقيق جزءًا من مدرسة مُجاوِرة للمَشرحة. وكان خلوُّها الشديد قد اكتسب بعض الحيوية في تلك المناسبة بوجود طاولة طويلة مُغطاة بقماش الجوخ وقد جلس قاضي التحقيق عند رأسها، بينما شغلت هيئةُ المحلفين أحدَ جوانبها؛ وقد سُررتُ من رؤية أن هيئة المحلفين تتكوَّن في معظمها من رجال عاملين عاديين بدلًا من «محلفين مُحترفين» متبلِّدي الحسِّ وأشداء والذين كثيرًا ما يشرفون هذه التحقيقات بحضورهم.

وجلس الشهود على صفٍّ من الكراسي، وتمَّ تخصيصُ ركن من الطاولة ليجلس فيه محامي المرأة المتهمة، وقد كان أنيقًا وبارعًا يرتدي نظارة أنقية ذهبية، كما تم تخصيص جزء من الحجرة للصحفيين، وشغل مجموعة متنوعة من الجمهور يمثلون العامة عدة مقاعد أخرى.

وكان هناك شخص أو اثنان حاضران دُهشت حين رأيتهما. على سبيل المثال، كان هناك الرجل ذو العلامات على وجهه والذي قابلناه في شارع مانسيل، وقد حيَّانا بنظرة تنمُّ عن المفاجأة والعدائية؛ وكان هناك المفوَّض ميلر من سكوتلاند يارد، وقد استبينتُ من تصرفاته أن هناك تفاهمًا خاصًّا مبرمًا بينه وبين ثورندايك. لكن لم يكن لديَّ كثيرٌ من الوقت لأنظر حولي؛ ذلك أننا حين وصلنا كانت الفعاليات قد بدأت بالفعل. كانت السيدة جولدشتاين وهي الشاهدة الأولى تنتهي من سردها لظروف اكتشاف الجريمة وبينما كانت تنسحب وهي تبكي بهستيرية، تبعتْها نظراتٌ مواسية لها من هيئة المحلفين المتعاطفة معها.

وكانت الشاهدة التالية امرأة شابة تُدعى كيت سيلفر. وبينما كانت تتقدم لتحلف اليمين رمقت ميريام جولدشتاين بنظرة تنمُّ عن البغض والتحدي، وكانت ميريام جولدشتاين تقف جانبًا رهينة اثنين من رجال الشرطة، وكان وجهها شاحبًا وتبدو جامحةً، وشعرها الأحمر مسترسل على كتفيها بكُتَل شعثاء، وكانت تُحدِّق فيما حولها وكأنها في حلم.

قال قاضي التحقيق: «أعتقد أنكِ كنتِ على صلة وثيقة بالقتيلة، أليس كذلك؟»

«هذا صحيح. كنا نعمل في المكان نفسه لفترة طويلة من الوقت — مطعم إمباير في شارع فينتشرش — وكنا نعيش معًا في نفس المنزل. كانت أعزَّ صديقاتي.»

«على حدِّ علمك، هل كان لها أيُّ أصدقاء أو أقارب في إنجلترا؟»

«لا. لقد جاءت إلى إنجلترا من بريمن قبل حوالي ثلاث سنوات. حينها تعرَّفتُ عليها، وكلُّ أقاربها كانوا في ألمانيا، لكن كان لها الكثيرُ من الأصدقاء هنا؛ لأنها كانت فتاة ودودة ومفعمة بالحيوية.»

«على حدِّ علمكِ، هل كان لها أيُّ أعداء، أقصد أيَّ أشخاص يُكنون لها الضغائن ويمكن أن يتسببوا بأذيتها؟»

«أجل. كانت ميريام جولدشتاين عدوةً لها. لقد كانت تكرهها.»

«تقولين إن ميريام جولدشتاين كانت تكره الضحية. كيف عرفتي ذلك؟»

«لم يكن ذلك سرًّا. لقد خاضتَا شجارًا عنيفًا بسبب شابٍّ يُدعى موزيس كوهين. كان موزيس رفيقَ ميريام، وأعتقد أنهما كانَا مغرمين ببعضهما كثيرًا حتى جاءت مينا أدلر وسكنت بمنزل آل جولدشتاين قبل ثلاثة أشهر تقريبًا. حينها أُعجِب موزيس بمينا، وكانت هي تشجعه، رغم أنها كان لديها رفيقٌ وهو شابٌّ يُدعى بول بيتروفسكي، والذي يسكن أيضًا في منزل آل جولدشتاين. في نهاية المطاف، انفصل موزيس عن ميريام وارتبط بمينا. حينها تميَّزت ميريام من الغيظ ولامت مينا عما وصفته بأنه سلوك غادر؛ لكن لم يكن من مينا سوى أنها ضحكت وقالت لها إنها تستطيع الحصول على بيتروفسكي بدلًا من حبيبها.»

سألها قاضي التحقيق: «وبمَ ردَّتْ ميريام على ذلك؟»

«كانت لا تزال في غاية الغضب؛ لأن موزيس كوهين كان شابًّا ذكيًّا وسيمًا، في حين لم يكن بيتروفسكي حسن المظهر. وإلى جانب ذلك، لم تكن ميريام تحب بيتروفسكي؛ فقد كان فظًّا في معاملتها، وقد جعلت والدها يُبعده عن المنزل. لذا انتهت الصداقة بينهما، وبعدها مباشرة وقع الخلاف.»

«الخلاف؟»

«أقصد حول موزيس كوهين. إن ميريام فتاة سريعة الغضب للغاية، وكانت تغار بشدة من مينا؛ لذا حين ضايقها بيتروفسكي بالسخرية منها بشأن موزيس كوهين ومينا، فقدتْ صوابَها وقالت أشياء فظيعة عن كل منهما.»

«مثل ماذا على سبيل المثال؟»

«قالت بأنها ستقتلهما، وبأنها تريد أن تقطع عنق مينا.»

«ومتى حدث ذلك؟»

«كان ذلك في اليوم السابق لوقوع الجريمة.»

«مَن غيرك سمعها وهي تقول تلك الأشياء؟»

«ساكنة أخرى تُدعى إيديث برايانت وبيتروفسكي. كنَّا نقف جميعًا في الردهة في ذلك الوقت.»

«لكنني أعتقد بأنك قلتُ إن بيتروفسكي أُبعِد عن المنزل.»

«لقد حدث ذلك بالفعل؛ لكنه كان قد ترك صندوقًا في غرفته، وفي ذلك اليوم جاء ليأخذه. كان هذا هو ما أوقع الخلاف. كانت ميريام قد أخذت غرفتَه لتجعل منها غرفةَ نومٍ لها، وحوَّلت غرفتها القديمة إلى حجرة للعمل. وقالت بأنه لا يجب أن يذهب إلى غرفتها ليأخذ صندوقه.»

«وهل ذهب بيتروفسكي؟»

«أعتقد ذلك. لقد خرجت أنا وميريام وإيديث، تاركين إياه في الردهة. وحين عُدْنا كان الصندوق قد اختفى، وحيث إن السيدة جولدشتاين كانت في المطبخ ولم يكن هناك شخص آخر في المنزل، فلا بد وأنه أخذ الصندوق.»

«لقد قلتِ شيئًا عن غرفة عمل خاصة بميريام. ماذا كانت تعمل؟»

«كانت تُقطِّع رسومات استنسل لشركة ديكور.»

في تلك اللحظة أمسك قاضي التحقيق من على الطاولة بسكين ذات شكل مميز وأعطاها للشاهدة.

وسألها قائلًا: «هل رأيتِ هذه السكين من قبل؟»

«أجل، إنها تعود لميريام جولدشتاين. إنها سكينُ تقطيع استنسل وهي تستخدمها في عملها.»

اختتمت كيت سيلفر شهادتها بهذه الجملة، وحين نودي على اسم الشاهد التالي وكان هو بول بيتروفسكي، تقدم الرجل الذي قابلناه في شارع مانسيل ليُقسم اليمين. وكانت شهادته مقتضبة إلى حدٍّ كبير وكانت مجردَ تأييد لشهادة كيت سيلفر، وهكذا كانت شهادة الشاهدة التالية وهي إيديث برايانت. وحين انتهى هؤلاء، قال قاضي التحقيق:

«أيها السادة، أقترح قبل التطرق إلى الشهادة الطبية أن نستمع إلى شهادة ضباط الشرطة، وسنستدعي أولًا المحقق الرقيب ألفريد بيتس.»

تقدَّم الرقيب بخطوات سريعة وشرع يقدِّم شهادته بدقة ونزعة رسمية.

«استدعاني الشرطي سيموندز في الحادية عشرة وتسع وأربعين دقيقة، ووصلتُ إلى المنزل قبل الثانية عشرة بدقيقتين بصحبة المفتش هاريس والطبيب الشرعي دايفدسون. وحين وصلتُ كان الدكتور هارت والدكتور ثورندايك والدكتور جيرفس حاضرين في الغرفة بالفعل. وجدتُ الضحيةَ وتُدعى مينا أدلر راقدةً في السرير وعنقها مقطوع. كانت ميتة وجثتها باردة. ولم يكن هناك آثارُ شجار، ولم يكن السرير في حالة فوضى. وبجوار السرير كانت هناك طاولة عليها كتاب وشمعدان فارغ. من الواضح أن الشمعة كانت قد اشتعلت عن آخرها، لأن الدواية لم تكن تحتوي إلا على فتيلة محترقة. وعلى الأرض عند مقدمة السرير كان هناك صندوق وعليه وسادة. من الواضح أن القاتل وقف على الوسادة وانحنى فوق مقدمة السرير ليرتكب الجريمة. وترجع ضرورة هذا إلى مكان الطاولة، التي لم يكن من الممكن تحريكها من دون إحداث بعض الضوضاء وربما إزعاج الضحية. ومن وجود الصندوق والوسادة أستنتج أن القاتل كان قصيرَ القامة.»

«هل كان هناك أيُّ شيء آخر يُشير لهوية القاتل؟»

«أجل. كانت هناك خُصلة شعر نسائي بلون أحمر تقبض عليها الضحية بيدها اليُسرى.»

وحين نطق المحقق بهذه الجملة، أطلقت كلٌّ من المتهمة وأمِّها صيحةَ رعب في نفس الوقت. وغاصت السيدة جولدشتاين في مقعد وكادت تفقد وعيها، في حين وقفت ميريام مرعوبةً وشاحبة كالموتى، وراحت تنظر إلى المحقق بنظرات تنمُّ عن الذعر والهلع، وذلك حين أخرج من جيبه مظروفَين ورقيَّين صغيرين وفتحهما وسلَّمهما إلى قاضي التحقيق.

وقال: «الشعر الموجود في المظروف «أ» هو الشعر الذي وُجِد في يد الضحية، وذلك الموجود في المظروف «ب» هو شعر ميريام جولدشتاين.»

هنا وقف محامي المتهمة. واحتجَّ قائلًا: «من أين حصلتَ على الشعر الموجود في المظروف «ب»؟»

أجابه المحقق: «أخذتُه من كيس به شعر ممشط كان معلَّقًا على جدار غرفة نوم ميريام جولدشتاين.»

قال المحامي: «أعترض على ذلك. ليس هناك أيُّ دليل على أن الشعر المأخوذ من ذلك الكيس هو شعر ميريام جولدشتاين.»

ضحك ثورندايك ضحكة مكتومة وقال لي بنبرة خافتة: «هذا المحامي غبيٌّ كالشرطيِّ. لا يبدو أن أيًّا منهما يعرف أهمية ذلك الكيس على الإطلاق.»

سألتُه متفاجئًا: «إذن هل كنتَ تعرف بأمر ذلك الكيس؟»

«لا. لقد اعتقدتُ أن الشعر مأخوذٌ من فرشاة شعرها.»

نظرتُ إلى صديقي في ذهول، وكنتُ على وشك أن أطلب منه توضيحَ إجابته المبهمة تلك، حين رفع إصبعَه طالبًا مني الصمت والتفت ليستمع مرة أخرى.

كان القاضي يقول: «حسنًا يا سيد هورفيتس. سأدوِّن اعتراضك، لكنني سأسمح للرقيب بأن يُكملَ شهادته.»

جلس المحامي، وأكمل المحقق شهادته.

«لقد فحصتُ عينتَي الشعر وقارنتُ بينهما، وفي رأيي أنهما من رأس نفس الشخص. والملاحظة الأخرى التي رأيتُها في الغرفة كانت وجودَ كمية صغيرة من رمل فضي منثورة على وسادة الضحية حول رأسها.»

قال قاضي التحقيق متعجبًا: «رملٌ فضيٌّ! من المؤكد أنه من الغريب للغاية وجود شيء كهذا على وسادة امرأة، أليس كذلك؟»

أجابه الرقيب: «أعتقد أن من السهل تفسير ذلك. كان حوض غسل اليدين مليئًا بمياه دامية، مما يوضح أن القاتل غسل يده والسكين كذلك على الأرجح، بعد ارتكابه الجريمة. وعلى الحوض كانت هناك قطعةٌ من صابون رملي، وأرى أن القاتل استخدمها في تنظيف يده بينما كان يُجفِّفهما، لا بد وأنه كان يقف عند مقدمة السرير فسقط الرمل متناثرًا على الوسادة.»

علَّق قاضي التحقيق مصدقًا على ذلك فقال: «تفسير بسيط لكنه مبتكَرٌ للغاية.» وتبادل أعضاءُ هيئة المحلفين إيماءات ووكزات الإعجاب.

«وقد بحثتُ في الغرفتين اللتين تشغلهما المتهمةُ ميريام جولدشتاين، ووجدتُ سكينًا من النوع الذي يستخدمه قاطعو الاستنسل، لكنها كانت أكبرَ من المعتاد. وكان عليها بقعُ دماء فسَّرتِ المتهمةُ وجودَها قائلة بأنها كانت قد جُرحت إصبعُها قبل بضعة أيام. وقد اعترفتْ أن السكين ملكٌ لها.»

انتهت شهادة الرقيب عند هذا، وكان على وشك أن يجلس حين نهض المحامي.

وقال: «أرغب في أن أسأل الشاهد سؤالًا أو اثنين.» وبعد أن أومأ القاضي بالموافقة استطرد المحامي قائلًا: «هل تمَّ فحصُ إصبع المتهمة منذ إلقاء القبض عليها؟»

أجابه الرقيب: «لا أعتقد ذلك. ليس على حدِّ علمي على أيِّ حال.»

دوَّن المحامي الإجابة ثم سأله: «بالإشارة إلى الرمل الفضي، هل وجدتَ أيًّا منه في قعر حوض غسل اليدين؟»

احمرَّ وجهُ الرقيب. وأجابه قائلًا: «لم أفحص الحوض.»

«هل فحصه أيُّ أحد؟»

«لا أعتقد ذلك.»

قال السيد هورفيتس: «شكرًا لك.» ثم جلس، وسمعنا صوت صرير ريشة كتابته المنتصر يعلو على صوت همهمات الاستنكار من جانب هيئة المحلفين.

قال قاضي التحقيق: «أيها السادة، سنشرع الآن في الاستماع إلى شهادة الأطباء، وسنبدأ بالطبيب الشرعي للشرطة.» ثم استطرد قائلًا بعد أن أقسم الدكتور دايفدسون اليمين: «أيها الطبيب، أنت رأيتَ الضحية بعد اكتشاف الجريمة بفترة قصيرة، فهل قمتَ بفحص الجثة؟»

«أجل. وجدتُ جثة الضحية مستلقيةً في سريرها، والذي لم يكن يبدو في حالة فوضى. كانت الضحية قد ماتت قبل نحو عشر ساعات، وكان التيبُّس مكتملًا في أطرافها، ولكن ليس في جذعها. وسببُ الوفاة جرحٌ غائر يمتدُّ بعرض الحنجرة ويفصل بين أعضائها وصولًا إلى العمود الفقري. وقد أُحدِث هذا الجرح بذبحة واحدة من السكين بينما كانت الضحية راقدة، ولا شك أن هذا كان قتلًا. ولم يكن من الممكن بالنسبة للضحية أن تكون قد تسبَّبت بهذا الجرح لنفسها. وأداةُ إحداث هذا الجرح سكينٌ ذات حدٍّ واحد، وتمَّ سحبُها على الرقبة بدءًا من الجهة اليمنى وانتهاءً في اليسرى؛ وقد وقف المعتدي على وسادة موضوعة على صندوق عند مقدمة السرير وقد انحنى على الضحية ليرتكب جريمته. ومن المرجح أن القاتل قصيرُ القامة وقويُّ البنية ويستخدم يدَه اليُمنى. ولم يكن هناك أيُّ دليل على وقوع شِجار، وبالحكم من طبيعة الجرح، يجب أن أقول إن الوفاة كانت لحظيةً تقريبًا. وفي اليد اليُسرى للضحية كانت هناك خُصلةٌ صغيرة من شعر نسائي بلون أحمر. وقد قارنتُ بين تلك الخصلة وشعر المتهمة، وفي رأيي أنه شعرها.»

«هل اطلعتَ على سكين تعود للمتهمة؟»

«أجل، سكينُ تقطيع استنسل. كان عليها بقعُ دماء جافة فحصتُها ووجدتُ أنها تعود للثدييات. وعلى الأرجح أنه دمٌ بشري، لكن لا يمكنني الجزم بذلك.»

«هل من الممكن إحداث ذلك الجرح بهذا السكين؟»

«أجل، رغم أنه سكينٌ صغير على إحداث جرحٍ عميق كهذا. لكن لا يزال ذلك ممكنًا.»

نظر قاضي التحقيق إلى السيد هورفيتس. وسأله: «هل ترغب في توجيه أيِّ أسئلة إلى هذا الشاهد؟»

كان ردُّه: «لو تكرمتَ يا سيدي.» ثم وقف المحامي وبعد أن نظر إلى ملحوظاته قال: «لقد وصفتَ بقعَ الدماء التي كانت على هذا السكين. لكننا سمعنا أنه كان هناك مياه دامية في حوض غسل اليدين، وثمة اقتراح — بدرجة معقولة — أن القاتل غسل يده والسكين. لكن إذا كان السكين قد تمَّ غسلُه، فكيف تفسِّر وجودَ بقعِ الدم عليه؟»

«من الواضح أنه لم يتمَّ غسلُ السكين، بل تمَّ غسلُ اليدين فقط.»

«لكن أليس هذا بعيدَ الاحتمال؟»

«لا، لا أعتقد ذلك.»

«قلتَ إنه لم يكن هناك شجار، وإن الوفاة كانت لحظيةً تقريبًا، إلا أن الضحية تمكَّنتْ من انتزاع خُصلةٍ من شعر قاتلتها. أليس هناك تعارضٌ بين هاتين الجملتين؟»

«لا. على الأرجح أن الشعر قد انتُزِع بشكل تشنجي في لحظة الوفاة. على أيِّ حال، لا شك أن الشعر كان في يد الضحية.»

«هل من الممكن التعرف على شعر أيِّ شخص؟»

«لا. ليس بشكل قاطع. لكن هذا الشعر كان مميزًا للغاية.»

جلس المحامي وبعد أن تمَّ استدعاءُ الدكتور هارت وأيَّد بدوره وباقتضاب شهادةَ رئيسه، قال القاضي: «الشاهد التالي أيها السادة هو الدكتور ثورندايك، والذي كان حاضرًا بمحض الصدفة، لكنه في واقع الأمر كان أولَ مَن وصل مسرح الجريمة. وقد قام بفحص الجثة ولا شك أنه سيسلِّط مزيدًا من الضوء على مثل هذه الجريمة الشنعاء.»

وقف ثورندايك وبعد أن أقسم اليمين، وضع على الطاولة علبةً صغيرة لها مقبضٌ جلدي. وردًّا على أسئلة القاضي، قدَّم نفسه كمحاضر للطب الشرعي في مستشفى سانت مارجريت، وشرح باقتضاب صلتَه بالجريمة. عند هذا قاطعه رئيسُ هيئة المحلفين ليطلب منه إبداء رأيه في أمر الشعر والسكين؛ حيث إن هذين الأمرين هما محلُّ الخلاف، ومن ثَم فقد تمَّ إعطاؤه الأشياءَ ذا الصلة.

سأله قاضي التحقيق قائلًا: «في رأيك، هل الشعر الموجود في المظروف «أ» يعود لنفس الشخص صاحب الشعر في المظروف «ب»؟»

وكانت إجابته: «لا شك لديَّ أنهما يعودان للشخص نفسه.»

«هلَّا فحصتَ هذا السكين وأخبرتنا إذا كان هو سببَ الجرح في جثة الضحية؟»

فحص ثورندايك النصلَ باهتمام بالغ، ثم سلَّم السكين مرة أخرى إلى القاضي.

وقال: «ربما كان هذا السكين هو ما استُخدِم في إحداث الجرح، لكنني متأكدٌ أن الأمر ليس كذلك.»

«هلَّا قدَّمتَ لنا أدلَّتَك على قولك القاطع جدًّا هذا؟»

قال ثورندايك: «أعتقد أننا سنوفر الكثير من الوقت لو قدَّمتُ لك الحقائق بترتيب متصل ومترابط.» أومأ القاضي موافقًا وشرع ثورندايك في حديثه: «لن أُبدِّدَ وقتكم بتكرار ذكْر الحقائق التي سبق ذكرها بالفعل. لقد قدَّم الرقيب بيتس وصفًا كاملًا لحالة الغرفة وليس لديَّ شيءٌ أُضيفه بهذا الصدد. وتوصيفُ الدكتور دايفدسون للجثة يغطي كافة الحقائق: إن المرأة كانت قد ماتت قبل عشر ساعات، وإن الجرح كان بلا شك بدافع القتل، والجرح أيضًا قد أُحدِث بالطريقة نفسها التي صوَّرها. ومن الواضح أن الوفاة كانت لحظية، وأقول إن الضحية لم تستيقظ من نومها أبدًا.»

قاطعه قاضي التحقيق معترضًا: «لكنَّ الضحية كانت تُمسك بخُصلة شعر في يدها.»

ردَّ عليه ثورندايك: «ليس ذلك الشعرُ هو شعرَ القاتل. بل تمَّ وضعُه في يد الضحية لسبب واضح؛ وحقيقةُ أن القاتل أحضر هذا الشعر معه توضِّح أن الجريمة كانت مدبَّرةً، وأنها ارتُكبت على يد شخص كان يستطيع الوصول إلى المنزل وعلى معرفة بسكَّانه.»

وحين نطق ثورندايك بهذه الإفادة، حدَّق به قاضي التحقيق وهيئةُ المحلفين والحضور على حدٍّ سواء بفم فاغر من الدهشة. وساد صمتٌ مطبق لبرهة من الوقت، ثم بدَّدتْ هذا الصمتَ ضحكةٌ هستيرية جامحة أطلقتها السيدة جولدشتاين، ثم سأل القاضي قائلًا:

«كيف عرفتَ أن الشعر في يد الجثة لم يكن شعرَ القاتل؟»

«كان استنتاج ذلك في غاية البساطة. من النظرة الأولى كنتُ أجد لون الشعر المميز والواضح مثيرًا للريبة. لكن كان هناك ثلاثُ حقائق، كلٌّ منها بحدِّ ذاتها تُعدُّ كافيةً لإثبات أن الشعر لم يكن على الأرجح يخصُّ القاتل.

في المقام الأول، كانت هناك حالة اليد. في لحظة الوفاة، حين يُمسك الشخصُ بأي شيء ويشدُّ عليه، تحدث حالة تُعرف بتشنج الجثة. إن الانقباض العضلي يتحوَّل على الفور إلى حالة يُطلَق عليها «تخشُّب الموت» أو تيبُّس الوفاة، ويظل الشيء المقبوض عليه في يد المتوفى حتى تنتهيَ حالةُ التيبس تلك. وفي هذه الحالة، كانت اليدُ متيبسة تمامًا، لكنها لم تكن قابضةً على الشعر بأي شكل من الأشكال. لقد كانت خُصلةُ الشعر موضوعةً على راحة اليد بصورة مرتخية، وكانت اليد مُنقبِضة جزئيًّا فقط. لذا كان من الواضح أن الشعر وُضِع فيها بعد الوفاة. أما الحقيقتان الأخريان فتُشيران إلى حالة الشعر نفسه. حين تُمزَّقُ خصلةٌ شعر من الرأس، فمن البديهي أن نجدَ جذور الشعر في الطرف نفسه من الخصلة. لكن في الحالة التي بين أيدينا لم يكن الأمرُ على ذلك النحو؛ فخصلةُ الشعر التي كانت في يد القتيلة كان بها جذور في كلا الطرفين، ومن ثَم فلا يمكن أن تكون هذه الخصلة منزوعةً من رأس القاتل. لكن الحقيقة الثالثة التي لاحظتُها كانت أكثرَ حسمًا، وهي تقول بأن الشعر الذي تتكوَّن منه الخصلة لم يكن منزوعًا على الإطلاق، بل سقط من تلقاء نفسه. وفي الواقع كان الشعر متساقطًا، وكان السبب في ذلك هو تسريحه على الأرجح. وسأشرح لك الاختلاف بينهما. حين يتساقط الشعر بصورة طبيعية، فإنه يخرج من قناة صغيرة في الجلد تُدعى غمد الجذر، وذلك بأن يدفعه شعرٌ حديث ينمو تحته؛ ولا نرى في طرف الشعر المتساقط هذا سوى تضخُّمٍ بُصيليٍّ صغيرٍ — هو بصيلة الشعر. لكن حين يُخرَج الشعر بانتزاعه عنوة، فإن جذر الشعر يسحب معه غمد الجذر، ويمكن رؤيةُ هذا بوضوح في شكل كتلة لامعة في نهاية الشعرة. وإذا ما انتزعتْ ميريام جولدشتاين خصلةً من شعرها وأعطتني إياها، فسأُريك الاختلاف الواضح بين الشعر المنزوع والشعر المتساقط.»

figure
(أ) شعر متساقط يوضح البصيلات، مكبَّر إلى ٣٢ ضعفًا. (ب) شعر منزوع من فروة الرأس، يوضِّح أغماد الجذور المصاحبة له، مكبَّر إلى ٢٠ ضعفًا.

ولم تكن ميريام البائسة في حاجة للضغط عليها لتفعل ذلك. ففي لحظة، قامت بانتزاع بضع شعيرات من شعرها وسلَّمها أحدُ رجال الشرطة إلى ثورندايك الذي ثبَّتها على الفور إلى مشبك للورق. ثم أخرج من العلبة مشبكًا آخر مثبَّتًا به بضع شعيرات مأخوذة من الخُصلة التي وُجدت في يد القتيلة. ثم أعطى ثورندايك المشبكَين وعدسة مكبرة إلى القاضي.

قال الآخر متعجبًا: «رائع! وأمر حاسم بشدة.» ثم مرَّر الأشياء إلى رئيس هيئة المحلفين وساد الصمتُ لفترة بينما كانت هيئة المحلفين تفحص العينتين باهتمام لاهث والكثير من تعبيرات الوجه التي تنمُّ عن التعجب.

واستطرد ثورندايك قائلًا: «وكان السؤال التالي هو: من أين حصل القاتل على هذا الشعر؟ لقد افترضتُ أنه مأخوذ من فرشاة شعر ميريام جولدشتاين، لكن شهادة الرقيب توضِّح تمامًا أنه أُخِذ من كيس الشعر الممشط الخاص بها الذي أخذ هو منه عينةً للمقارنة.»

علَّق القاضي قائلًا: «أعتقد أيها الطبيب أنك حسمتَ أمرَ الشعر بصورة تامة. فهل لي أن أسألَك إذا ما وجدتَ شيئًا آخر قد يُسلِّط الضوء على هوية القاتل؟»

أجابه ثورندايك: «أجل، لقد لاحظتُ عدة أشياء تُحدِّد هوية القاتل بصورة شبه قاطعة.» ثم التفت إلى المفوض ميلر ونظر إليه نظرة ذات مغزًى، فقام الآخر من فوره وتقدَّم في هدوء نحو الباب ثم عاد وهو يضع شيئًا في جيبه. واستطرد ثورندايك: «حين دخلتُ الردهة، لاحظتُ الحقائق التالية: خلف الباب كان هناك رفٌّ موضوع عليه شمعدانان من الخزف. وفي كلِّ واحد منهما كانت هناك شمعة، وفي وعاء أحدهما طرفُ شمعة قصير، طولُه قرابة البوصة. وعلى الأرض وبالقرب من ممسحة الأقدام، كانت هناك بقعة من الشمع، وآثارٌ ضعيفة لأقدام موحلة. وكان المشمع على السلَّم يحمل أيضًا آثار أقدام متلاشية سببُها جرموق مبتل. وكانت تلك الآثار تصعد السلَّم، وببلوغ قمة الدرج كانت تزداد تلاشيًا. وعلى الدرج كانت هناك بقعتَا شمعٍ أخريان، وبقعة ثالثة على الدرابزين؛ وكان هناك عودُ ثقابٍ شمعيٌّ محترقٌ عند منتصف الدرج من جهة الأعلى، وآخر عند بسطة الدرج. ولم يكن هناك آثار تدل على النزول، لكن إحدى بقع الشمع بالقرب من عواميد الدرابزين كانت مداسًا عليها بينما كانت لا تزال دافئةً وليِّنةً، وحملت آثارَ مقدمة كعب جرموق ينزل على الدرج. وكان قفلُ باب الشارع قد زُيِّن مؤخرًا، وكذا قفل غرفة النوم، وقد فُتحَ الأخير من الجهة الخارجية باستخدام سلكٍ مَثْنيٍّ ترك علامةً له على المفتاح. وبداخل الحجرة لاحظتُ شيئين آخرين؛ الأول أن وسادة القتيلة كان منثورًا عليها رملٌ يُشبه الرمل الفضي بعض الشيء، لكنه كان رماديًّا أكثر وأقل خشونة. وسأعود إلى هذه النقطة بعد قليل.

وكانت الملاحظة الأخرى أن الشمعدان الموضوع على الطاولة بجوار السرير كان خاويًا، وكان شكلُه غريبًا؛ فقد كان به تجويفٌ على شكل جمجمة تتكون من ثمانية شرائط مسطحة من المعدن. وكان الفتيل المتفحم للشمعة المحترقة في قاع التجويف، لكن قطعة صغيرة من الشمع على الحافة العلوية أظهرت أن شمعة أخرى قد وُضعت فيه وأنها أُخذت منه، وإلا فإن قطعة الشمع الصغيرة تلك كانت ستصبح ذائبة. وفي الحال فكَّرتُ في طرف الشمعة الموجود في الردهة، وحين نزلتُ مرة أخرى أخذتُ ذلك الطرف من الوعاء وفحصتُه. وعليه وجدتُ ثماني علامات مميَّزة تتناسب مع الأشرطة الثمانية للشمعدان الموجود في غرفة النوم. لقد حُمل طرفُ الشمعة هذا في اليد اليُمنى لشخص ما؛ ذلك أن الشمع الدافئ اللين حمل بصمتَي إبهام وسبابة اليد اليمنى وكانت البصمتان واضحتين. وقد أخذتُ ثلاثة قوالب لطرف الشمعة باستخدام شمع القولبة، ومن تلك القوالب صنعتُ صبَّةً إسمنتية، وهي تُظهر كلًّا من البصمات والعلامات الموجودة على الشمعدان.» ثم أخرج من علبته شيئًا صغيرًا أبيض اللون، وسلَّمه للقاضي.

سأله القاضي: «وماذا تستنتج من هذه الحقائق؟»

«أستنتجُ أنه في حوالي الثانية إلا الربع من صباح يوم ارتكاب الجريمة، دخل رجلٌ إلى المنزل باستخدام المفتاح (وكان قد زار المنزل في اليوم السابق للحصول على خُصلة الشعر ولتزييت الأقفال). ويمكننا تحديدُ الوقت من خلال حقيقة سقوط المطر في صباح ذلك اليوم من الساعة الواحدة والنصف إلى الثانية إلا الربع، وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي سقط فيها المطر في غضون أسبوعين، وارتُكبتِ الجريمة عند الساعة الثانية صباحًا تقريبًا. وقد أشعل الرجل عودَ ثقابٍ شمعيًّا في الردهة وآخر عند منتصف الدرج. وقد وجد باب غرفة النوم موصدًا، فأدار المفتاح من الخارج باستخدام سلكٍ مَثْنيٍّ. ثم دخل وأشعل الشمعة، ووضع الصندوق وعليه الوسادة وقتل الضحية، ثم غسل يديه والسكين، وأخذ طرف الشمعة من تجويف الشمعدان ونزل الدرج حيث أطفأ الشمعة وألقاها في الوعاء.

والدليل التالي يتمثَّل في الرمل المنثور على الوسادة. لقد أخذتُ منه شيئًا وفحصتُه تحت المجهر، وحينها أدركتُ أنه رمل من قاع شرق البحر المتوسط. وكان الرمل يتكون من أصداف دقيقة تسمى «فورامينيفيرا»، وحيث إن إحدى تلك الأصداف الدقيقة تنتمي لنوع يوجد فقط في بلاد المشرق، فقد استطعتُ أن أحدد مكانها.»

قال قاضي التحقيق: «هذا رائع جدًّا. لكن كيف بحق السماء وصل رمل من قاع البحر إلى وسادة تلك المرأة؟»

أجابه ثورندايك: «تفسيرُ ذلك غاية في البساطة. إن الرمل من ذلك النوع يوجد بكميات كبيرة في الإسفنج التركي. ويتناثر هذا الرمل في أرضية المستودعات التي يُفرَّغ فيها هذا الإسفنج بمستويات تصلُ إلى الكاحل؛ والرجال الذين يقومون بعملية التفريغ يُصبحون مغبَّرين به وتُصبح ملابسهم مشبَّعة به وجيوبهم ممتلئة به. وإذا ما قام شخص من هؤلاء — حيث تكون جيوبه وملابسه مليئة بالرمل — بارتكاب هذه الجريمة، فحين انحنى عند مقدمة السرير بوضعية مقلوبة جزئيًّا فمن المؤكد أنه أسقط بعض الرمل من جيوبه وثنايا ملابسه. والآن، وبمجرد أن فحصتُ الرمل وتأكدت من طبيعته، أرسلتُ رسالة إلى السيد جولدشتاين أطلب منه قائمة بالأشخاص الذين كانوا على صلة بالقتيلة مع ذكر عناوينهم ومِهَنهم. وقد أرسل لي القائمة، ومن بين مَن كانوا فيها رجلٌ يعمل عتالًا في مستودع لبيع الإسفنج بالجملة في شارع مينريز. وثبت لديَّ أن محصول الموسم الجديد من الإسفنج التركي قد وصل قبل أيام قليلة من ارتكاب الجريمة.

وكان السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما إذا كان ذلك العتال هو الشخص نفسه الذي وجدتُ بصماته على طرف الشمعة. ولحسم هذه النقطة، أعددت صورتين ملصقتين في بطاقتين وبعد أن ابتدعت طريقة للقاء الرجل عند باب منزله لدى عودته من العمل، تمكنتُ من استمالته لينظر في الصورتين ويقارن بينهما. وقد أخذهما مني ممسكًا كلَّ واحدة منهما بين إبهامه وسبابته. وحين أعادهما لي، أخذتهما إلى المنزل وغبرتُ كلَّ واحدة منهما على كلا جانبيها بعناية بمسحوق طبي خاص. وقد التصق المسحوق بالأماكن التي ضغط فيها بإصبعيه على الصور، مما أظهر بصماته في وضوح تام. وكانت بصمات يده اليمنى مطابقةً للبصمات التي وجدتُها على الشمعة، كما سترى لو قارنتها بالصبة.» ثم أخرج من العلبة الصورة المكتوب عليها باللغة اليديشية، وكان في الهامش الأسود لها بصمة إبهام بلون أبيض مائل للصفرة تبرز واضحة وضوحًا مذهلًا.

كان ثورندايك قد سلَّم البطاقة إلى القاضي حين وقع اضطراب غريب للغاية؛ ففي حين كان صديقي يسلِّم الجزء الآخر من دليله، لاحظتُ بيتروفسكي ينهض من مقعده ويتسلل خلسة نحو الباب. وأدار مقبض الباب بلطف وسحبه بهدوء في البداية، ثم راح يسحبه بمزيد من القوة. لكن الباب كان موصدًا. وحين أدرك ذلك، أمسك بيتروفسكي بمقبض الباب بكلتا يديه وكاد يقتلعه في شراسة، فكان يُديره إلى الأمام والخلف بعنف وجنون؛ وكانت أطرافه ترتعد، وعيناه تُحدِّقان بجنون في وجوه الحضور المذهولين، وكان وجهه القبيح الشديد الشحوب يتعرَّق بغزارة ويزيده الرعب المرتسم عليه قبحًا وبشاعة، فشكَّل كلُّ ذلك مشهدًا صادمًا بحق.

وفجأة ترك مقبض الباب، ثم صرخ صرخة مريعة داسًّا يده تحت معطفه وهرع نحو ثورندايك. لكن المفوض كان مستعدًّا لحركة كهذه. ووقع صياح وعراك، وبعدها تم الإمساك ببيتروفسكي الذي كان يركلُ ويعضُّ كالمجنون، بينما تملَّك ميلر من يده اليمنى ومن السكين الكبيرة التي كان يمسك بها.

figure
المفوض ميلر يرقى إلى مستوى الحدث.

ثم قال ثورندايك حين ثُبِّت بيتروفسكي وقُيِّد وبعد أن عدَّل المفوض ياقة ملابسه: «أطلب منك أن تسلم هذه السكين إلى القاضي.» ثم أضاف: «هلا فحصته سيدي وأخبرتني إن كان به ثلمة عند الحافة بالقرب من الحد، إنها ثلمة مثلثة الشكل طولها حوالي ثُمْن بوصة؟»

نظر القاضي إلى السكين وقال بنبرة تنم عن الدهشة: «أجل، هي موجودة. أرأيت هذا السكين من قبل؟»

أجابه ثورندايك: «لا، لم أرَه من قبل. لكن من الأفضل أن أُكملَ شهادتي. لستُ في حاجة لأن أخبرك أن البصمات على البطاقة وعلى الشمعة هي بصمات بيتروفسكي؛ وإنما سأنتقل إلى الدليل الذي استخرجتُه من جثة الضحية.

لقد ذهبتُ بمقتضى أمرك إلى المشرحة وفحصت جثة الضحية. وقد قدم الدكتور دايفدسون وصفًا كاملًا ودقيقًا للجرح، لكنني لاحظت شيئًا أعتقد أن الدكتور دايفدسون غفل عنه. وجدت أن عظمة العمود الفقري، في النتوء المستعرض الأيسر للفقرة الرابعة، تحوي جسيمًا صغيرًا من الفولاذ الذي استخرجته بعناية.»

ثم أخرج من جيبه العلبة التي يجمع فيها الأشياء، وأخرج منها مظروفًا صغيرًا وسلَّمه إلى القاضي وقال: «تلك الشظية الفولاذية موجودة في هذا المظروف، ومن الممكن أن تتوافق مع الثلمة الموجودة في نصل السكين.»

ووسط صمت تام، فتح القاضي المظروف الصغير وأسقط منه الشظية الفولاذية على ورقة. ثم وضع السكين على الورقة وراح يزيح الشظية بدقة نحو الثلمة، ثم رفع نظره إلى ثورندايك.

وقال: «إنها تتوافق معها تمامًا.»

وفجأة جاء صوت ارتطام شديد من الجهة الأخرى من الغرفة فالتفتنا إليه جميعًا.

كان بيتروفسكي قد سقط على الأرض مغشيًا عليه.

•••

قال ثورندايك معلِّقًا بينما كنا نسير في الطريق إلى المنزل: «إنها قضية مثيرة للاهتمام يا جيرفس، وهي تُعيد التأكيد على الدرس الذي ما زالت السلطات ترفض أن تتعلمه.»

سألته: «ما هو ذلك الدرس؟»

«هو كالآتي: حين تُكتشَف جريمة قتل، ينبغي أن يتحول مسرح تلك الجريمة في الحال إلى ما يشبه قصر الجميلة النائمة. ينبغي ألَّا يُحرَّك أيُّ شيء ولو كان حبة من الغبار، ولا ينبغي أن يُسمَح لأي شخص كائنًا من كان من الاقتراب منه، وذلك حتى يعاين الشخصُ المعنيُّ كلَّ شيء في موضعه ومن دون أن يمسَّه أحد. لا ينبغي السماح لرجال الشرطة المنفعلين بالمشي في المكان، ولا للمحققين بتفتيشه، ولا للكلاب البوليسية بالتزاحم في المكان. تخيَّل ما كان سيحدث في هذه القضية لو أننا وصلنا بعد عدة ساعات. كانت ستُنقَل الجثة إلى المشرحة، وسيأخذ الرقيب الشعر في جيبه، وسيتبعثر السرير بغرض تفتيشه، وسيتناثر الرمل بعيدًا، وكانت الشمعة ستنقل من مكانها على الأرجح، وكان السُّلَّم سيحمل آثار أقدام حديثة.

ما كان سيظل هناك أيُّ بقايا لأي دليل.»

أضفتُ قائلًا: «وكانت الرسالة من قاع البحر ستذهب سدًى.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤