الفصل الثالث عشر

الحرب

آذار–آب سنة ١٨٤٨

وبينما كان الملك شارل ألبرت يتأهب للحرب كان القائد النمسوي راديتسكي ينسحب رويدًا رويدًا على طول طرق لمبارديه للاحتماء بالقلاع الأربع، وكانت الحكومة المؤقتة التي تألفتْ في نهاية الأيام الخمسة تحرص على حماية الأموال والأملاك وفيها ريبة من أن يكون المتطوعون جمهوريين، وقد اشترك منهم بضع مئات فقط في الحرب، وبقي الآخرون يضحكون على ذقن راديتسكي.

وكان الحكم النمسوي المديد قد جنى ثماره؛ لأن عجز الرؤساء وفقدان فكرة التضحية لدى الجماهير كانا قد دَمَّرا رجولية الشعب، أما في بيمونته فقد قضى الملك وقته في المجالس الحربية، وظل مترددًا من أن يخطو الخطوة الحاسمة فأضاع بذلك فرصة قطع خط الانسحاب على قوات راديتسكي.

واجتاز الفيلق الأصلي البالغ من القوة الثلاثة وعشرين ألفًا نهر تسينا في ٢٥ آذار، ولم يصل إلى «كريمونة» إلا بعد مسيرة تسعة أيام وكان راديتسكي في أثنائها قد انسحب إلى فيرونه بعد أن تغلب على المتطوعين في الشرق وفي الغرب، وحين التفَّت حوله الحاميات الأخرى بلغت قواته زهاء ستين ألفًا، رابطت في القلاع الأربع «فيرونه – مانتويه – بشييرا – لجناجوا» حتى إذا ما فترت الحماسة القومية استطاعت المفرزات النمسوية أن ترسِّخ قدمها في الإيالات الإيطالية، وأخذ التلاميذُ من أهل فينا الذين هم أسقطوا الحكومة يتطوعون للقتال في إيطالية ضد الحرية.

وكان الجيشُ النمسويُّ رغم كونه خليطًا من ست قوميات تربطه روح الجماعة، حتى إن أكثر الجنود الطليان لازموا الجيش طول الحرب، وأبرزوا صداقتهم وثباتهم، وكانت قوة الجيش البيمونتي تقدر بخمسة وأربعين ألفًا يعسكرون على ضفتي نهر «مينجيو»، وكانت قوات طوسكانه ونابولي ومودينه نحو اثني عشر ألفًا تقف أمام مانتويه في أقصى جانبه الأيمن، وهناك أربعة آلاف من المتطوعين في التيرول وكان نحوٌ من ثلاثين ألفًا من أهل روما والبندقية ومن الهاربين من الجيش النمسوي في فنيسيه أو على وشك الدخول فيها.

وكانت المدفعية والخيالة البيمونتية تتفوقان على المدفعية النمسوية وخيالتها، إلا أن الجيش النمسوي كان أحسن تدريبًا وعدة من الجيش البيمونتي، وكان أكثر قادة الجيش البيمونتي قليلي الخبرة والكفاية.

ظل جيش الملك عاطلًا أمام فيرونه خمسة عشر يومًا، وكان المتطوعون في أثنائها يتقدمون زرافاتٍ، وكانوا مزيجًا غريبًا من كل الأعمار ومن جميع الطبقات والإيالات، فمنهم شبابٌ من عِلْيَة القوم، ومنهم طلاب وعمال، ومن الجنود القدماء الذين اشتركوا في معارك نابليون، ومنهم أساتذةٌ كهول وقرويون ونمسويون هاربون من الجيش وقطاع طرق … إلخ.

وكان باستطاعة الأربعة آلاف الذين يؤلفون جيش الآلبة من متطوعة ميلانو وجنوة وبارمه؛ أن يقطعوا على راديتسكي خط الانسحاب لو ساعدتهم قوةٌ من الجيش النظامي، بَيْدَ أن الملك شارل ألبرت أمرهم بالانسحاب إلى برشيه وبارغامه للانخراط في الكتائب اللمباردية الحديثة التشكيل؛ لأنه كان لا يميل إلى إضعاف قوته بإفراز جُزء إلى التيرول من جهة؛ ولأنه كان يخشى الاختلاطات الديبلوماسية التي قد تؤدي إلى احتلال التيرول من جهةٍ أخرى.

وظل الجيش يقضي وقته في مناوراتٍ لا فائدة منها وبمظاهراتٍ عابثة أمام بشييرا ومانتويه، وكان جنود طوسكانه ونابولي في الجنوب في «كرتانونة ومونتانارة» يراقبون قلعة مانتويه، وطلب أهل فراره من الملك الهجوم على المدينة ووعدوه هم — بدورهم — أن يثوروا، ولما كان الموقف السياسي يتطلب نصرًا عاجلًا حاسمًا فإن قوات بيمونته هاجمت سلسلة الروابي، ومع أن الهجوم كان قد نجح فإن الملك المتردد أمر جنوده بإخلاء القرية التي ضبطوها والانسحاب إلى مواضعهم.

وأوشك أن يقع ما كان مازيني يتحاشاه دائمًا؛ إذ إنه من الصعب أن يترأس أحد أمراء إيطالية الحركة القومية من دون أن يحرك غيرة الأمراء الآخرين، ولا سيما لأن لكل عرش إيطالي مطمحًا في الحصول على بعض الأراضي، فلروما مطامح في بارمه وروفيجو، ولنابولي في «أنكونه»، وتطمح طوسكانه وبيمونته في ضم «لونجيانه وماسا كراره».

وقد يطمع شارل ألبرت ولئوبولد في تاج صقلية أضف إلى هذا أن بعض العناصر المهمة في طوسكانه وروما ونابولي كانت تخشى — قبل كل شيء — الالتحاقَ في بيمونته، ولمخاوفهم هذه بعض الأساس؛ إذ إن رجال الوحدة كانوا يرغبون في أن يَرَوا شارل ألبرت ملكًا على إيطالية جميعها، وكان يطلق على هؤلاء الذين اعتنقوا مذهب جيوبرتي وبالبو اسم «رجال ألبرت – الإلبرتيني»، وقد انبثوا بعد نشوب الحرب في لونجانه ومودينه وبارمه وأخذوا يعملون فيها بنشاط، وكان «جنولي» و«بيركت» في فلورنسة و«سابافينة» في نابولي و«ممياني» إلى حدٍّ ما في روما يسعون لإقامة مملكة إيطالية موحدة بزعامة آل صافويه.

فلذلك أخذت طوسكانه ترتاب من جانب بيمونته لما أعلنت نابولي انضمامها إلى الاتفاق في ١٥ آذار. أما البابا فإنه حاول بعد إعلان الحرب أن يتخلص من تبعته بتمطيط حبل المذاكرات وشاهد أن طوسكانه وبيمونته مستعدتان لها، غير أن باريتو أجاب فورًا بأن الحرب تتقدم على كل شيء، وعاضد الاقتراح القائل بالاتفاق الهجومي، فأرسل البابا في ١٨ نيسان رفضه الباتَّ في الانضمام إلى الاتفاق، وبذلك خابتْ آماله في إيجاد طريقة حل سلمي فضلًا عن أن غضبه من ضياع بارمه وشكوكه من مطامع بيمونته في الروماني ومطامع نابولي في المارك شجعت ميله نحو إهمال القضية.

والواقع أنه كان بابا قبل أن يكون وطنيًّا، ولعله لا يُبالي بالاستقلال القومي أكثر من اهتمامه باسترجاع الأراضي التي كانت البابوية تَدَّعِيها؛ فلذلك نراه يبارك أعلام القطعان من جهةٍ ويأمر من جهةٍ أخرى قائدها الجنرال جيوفاني دوراندو بأن لا يجتاز الحدود إلا لاحتلال روفيجو التي كان يدعي أنها له، واحتج بشدةٍ على الأمر اليومي الذي أصدره دوراندو للجنود ذاكرًا فيه أن البابا يبارك سيوفهم، بَيْدَ أنه قال بعد انقضاء بضعة أيام إنه ينحني أمام الحوادث، ووافق على أن تجتاز قواته نهر بو.

ومع ذلك فإن البابا لم يكن يريد أن يذكر اسمه مع اسم شارل ألبرت في صبيحة الحرب الصليبية الجديدة، وأخذت طلبات الانشقاق ترد إليه من الأساقفة الألمان، فأصبح على استعدادٍ أن يضحي بكل شيءٍ بدلًا من أن يكون سببًا في تضحية الكنيسة على هذه الصورة؛ ولذلك فإنه أعلن في ٢٩ نيسان انفصاله النهائي عن الحزب القومي، وذكر في رسالته العامة أن الحرب ضد النمسة تخالف مبادئَ بابا يحب جميع الشعوب وجميع الأمم ويساوي بينها في عاطفة الود.

وقد فقد بذلك نفوذه الشعبي فأصبحت الدولة في يومين أو ثلاثة بلا حكومة، وطلب قسمٌ كبير من الناس استقالة الحكومة الأولى وتعيين حكومة مؤقتة، ثم حاول البابا بعد ذلك أن يصحح خطأه فكتب إلى إمبراطور النمسة يطالب إليه أن يتخلى عن الإيالات الإيطالية، ووعد شارل ألبرت أن يساعد جنوده في الحركة إذا رفض الإمبراطور الصلح.

ولكن حدث بعد رسالة البابا أن خانت نابولي القضية، ولم تكن البلاد في حالٍ تستسيغ معه الحكم الدستوري، لا سيما حين يكون الملك مخادعًا والشعب خاملًا؛ فالوزارة كانت عاجزة والصحافة بدلًا من أن تتصرف إلى تنوير الناس فقد انهمكت في أعمالٍ غير مشرفة.

وأصيبت البلاد بهزاتٍ عنيفة حتى تَجَلَّى للدهماء أن الحرية لا تجلب الخير، أما القرويون فلم يكونوا ليهتموا بالدستور وإنما كان همهم أن يتقاسموا الأملاك العامة وأن يتملكوا الأرض التي كانوا يرنون بأبصارهم إليها من القديم، ولم يرحب المتطرفون بدستورٍ يستند إلى تصويتٍ ضيق ومجلس أعيان معين.

وقد عبر الوزير المستقيل «ساليستي» عن آرائهم حين طالب بأن يكون حق الاقتراح شاملًا، وأن يكون مجلس الأعيان من المنتخَبين، وأن تبادر نابولي إلى الاشتراك في الحرب ضد النمسة.

ثم اضطرت الوزارة أمام إلحاح الشعب إلى الاستقالة واستعد الملك للخضوع للعاصفة، فكلف ببه بتأليف الوزارة، بَيْدَ أن طلبات ببه كانت أشد من طلب ساليستي، فقرر الملك أن يكافح المتطرفين واختار لرئاسة الوزارة المؤرخ «كارلوتروبه»، ولم ير هذا بدًّا من التفاهُم مع الراديكاليين، وتَرَكَ البَتَّ في موضوع مجلس الأعيان والتعديلات في الدستور إلى المجلس النيابي، وجهر برأيه الصريح في الاشتراك في الحرب والانضمام إلى الحلف، وأرسل كتيبة إلى ميدان القتال في لمبارديه على أن يعقبها ببه بالقسم الكلي من الجيش.

ولم تستطع الوزارةُ أن تسيطر على الموقف أمام دسائس الملك والموظفين من جهة وأمام الجمهوريين والاشتراكيين من جهةٍ أخرى، وكان الرجعيون على أهبة الصيد في الماء العكر لمناسبة توزيع الأرض ووعظ أحد الرُّهبان في ساليرنه محبذًا الاشتراكية داعيًا إليها، فرأى الملك أن الفرصة قد سنحت له.

ونعلم أنه قد فقد شجاعته في الثورة الإفرنسية ومن المحتمل أنه حين أذعن للواقع إنما أراد أن يستغل الحركة ويستجلب الأحرار لاسترداد صقلية وتقسيم إيطالية بينه وبين شارل ألبرت، ولكنه الآن بدأ يمثل دور الخائن فاغتبط حين رأى الفرصة قد سنحت لكي يعود الرجعيون إلى الحكم خوف الناس من الاشتراكية وظهور عجز الحكومة. وقد جعلت الرسالةُ التي وجهها البابا الإكليروسَ بجانبهم.

واستعد الضباط والقرويون لتدبير مؤامرة ضد الأحرار، وحين اقنتع الضباط بأن الأحرار يريدون إرسالَ الجيش إلى الشمال ليتخلصوا منهم أخذوا يتظاهرون ضد الحرب.

لقد جرت الانتخابات وظل القسم الأعظم من الشعب لا يأبه لها، ولم يشترك فيها إلا الخمس ممن لهم حقُّ الاقتراع، وقد أُعيد انتخاب الأحرار المعتدلين في كل محل، وسرعان ما بدت للنواب الشكوكُ حين طلب إليهم خطاب العرش أن يُقسموا اليمين بأن لا يغيروا الدستور الحالي، فاعتبروا هذا التكليفَ نقضًا لِمَا تعهدت به الحكومة من إصلاحات اجتماعية ووعدت أن تعرضها عليهم، وبعد أخذٍ ورد وافقت الحكومة والملك على حذف تلك الصيغة من النص رسميًّا، وظل الفريقان على تبايُنٍ في الاتجاه والميول؛ حيث تعذر التفاهُم بينهما.

وقد أخذ المهيجون في كلبريه وساليرنه والبعض من الحرس الأهلي؛ يستعدون للحرب الأهلية، فأقيمت الموانع والمتاريس، وأدرك أولو البصيرة من الأحرار وخامةَ العاقبة، فحاولوا إصلاح ذات البين، إلا أن الحرس الأهليَّ أطلق لنفسه العنان مما أدى إلى خوف الملك، فحشد أمام قصره اثني عشر ألفًا من الجنود، فلم يبق للأحرار مندوحةٌ عن القتال والنضال، وزحف حرس ساليرنه الأهلي نحو العاصمة ثم أُطلقت أول رصاصة ونشبت معركة عنيفة بين الأهالي والجند استمرت من الصباح حتى المساء، وكان الجنود من السويسريين قد قتلوا كُلَّ من وجدوا أمامهم ونهبوا كل ما عثروا عليه، فالتهبت النيران وسالت الدماء غزيرة وكان الملك يحرِّض الجنود من شرفة قصره.

وبينما كان النواب مجتمعين يتخذون القرارات؛ طردهم الجنودُ من اجتماعهم، واجتمع رجال جمعية اللازاري والرُّهبان أمام القصر وهتفوا قائلين: «فلتسقط الأمة.» ومعنى ذلك أن جنوب إيطالية تتنكر للقضية القومية، فأرسل رسول إلى ببه يطلب إليه العودة وقد لحق به من بولونيه حين كان على وشك عبور نهر بو خلافًا للأمر المعطى إليه.

وبهذا ظل الملك شارل ألبرت يكافح وحده عن القضية القومية، ومع أن تخلف البابا وخيانة ملك نابولي قد حَرَماه من نجدات جنودهما؛ فإن الموقف كان في مصلحته، ولم يبق أمام الذين يرغبون في وحدة إيطالية والذين يريدون أن يشاهدوا قوى الأمة مجتمعة تخوض غمار الحرب إلا أن يختاروا أحد أمرين ممكنين: الإلبرتية أو الجمهورية، وكان الجمهوريون في هذا الميدان أقلية، تنحصر في بعض الجماعات من الطلاب وبعض العقلاء من عمال المدن، وكان أكثرهم وعلى رأسهم مازيني على استعدادٍ ليترك كل دعاية للجمهورية إذا ارتضى شارل ألبرت أن يتبنى بصدقٍ وإخلاص المنهجَ القوميَّ الدموقراطي، وقد قوى أنصار ملكية شارل ألبرت أن صقلية قدمت تاجها إلى ابن الملك، وأن حزبًا قويًّا في الروماني كان ينتظر إشارته للالتفاف حوله.

ومما يجدر ذِكْرُهُ أن القوى الشعبية كانت هي المسيطرة خارج إيطالية، ففي فرنسة كانت الجمهورية قوية وفي فينا كان الطلاب على وشك أن يطردوا الإمبراطور، وفي هنغارية وبوهيمية حصل الشعب على الاستقلال الوقتي، وفي ألمانية أخذ مجلس الأمة يؤدي مهمته الدستورية.

ومع ذلك فإن الملك لم يكن من العباقرة الذين ينتهزون الفرص للوثوب، وكان يُدير الحركات العسكرية متمسكًا بما تتطلبه قواعدُ الحرب المنظمة المرعية، وقد أظهر بسلوكه مع المتطوعين عدمَ ثقته بالقوى الشعبية واحتقاره إياها، وأرسل جيوبرتي إلى البابا ينشد عطفه من جديد، وكان شبح الديبلوماسية الأوروبية يُقلق بال الملك دائمًا، فرفض مساعدة المتطوعين السويسريين، وقطع العلاقات الودية التي أسسها الميلانيون مع الهنغاريين، وأضعف شأن الحركة الإيطالية باقتصارها على القسم الشمالي من إيطالية.

وفي شمال إيطالية تجلَّت قلة الثبات وروح الاستمرار، وأعقب الوثبةَ القومية دور سكون في لمبارديه، وقد تهدمت فيها دعائمُ الحكم النمسوي خلال أُسبوع واحد، وتجمع عزمها ونشاطها لإملاء الفراغ الذي وَلَّدَه انهيارُ الحكومة، ولم تبذل كل جهدها في تأليف جيش لمباردي، وقد اتفق الجميعُ على ترك القضية السياسية إلى ما بعد؛ إذ كانوا يتوقعون أن تنتهي الحرب في مدةٍ قصيرة، وترجح لهم أن تترك القضايا التي تثير خلافًا كالمفاضلة بين الملكية والجمهورية والوحدة أو الاتحاد جانبًا وقت الحرب حتى إذا نجحت القضية القومية قالت الأمة كلمتها.

أما الملك فكان هَمُّهُ الوحيد أن لا يعطي أية فرصة للجمهوريين، وأن يضم لمبارديه إلى بيمونته؛ فلذلك أصر على ألا تترك القضية إلى ما بعد، وأن يبت فيها حالًا بتحكيم رأي الأمة بالتصويت العام بأوسع حدوده.

وكان الجمهوريون أيضًا يميلون إلى تأجيل القضية، وحين عاد مازيني في أوائل نيسان إلى إيطالية وَعَدَ شارل ألبرت بمعاضدته ما دامت مطامحه تشمل الوحدة، وكان يرتئي أن أول ما يجب الاهتمام به هو طرد النمسويين، ووعد حكومة ميلانو الوقتية بمساعدته الخالصة.

ومع ذلك كله فإنه كان من الصعب أن ترمَى القضية الأساسية ظهرًا، وقد أخذ وثاق الأخوَّة بين اللمبارديين والبيمونتيين يتراخى بتأثير الفشل وخيبة الأمل، وقد استولت الشكوك على النفوس من جراء توقف الجيش البيمونتي.

ولما توغل القائد النمسوي «نوجنت» في فنيسيه زاد قلق اللمبارديين على مصير القطر الشقيق، وراحوا يتساءلون هل هناك خيانةٌ مدبَّرة كتلك التي وقعت في «كمبو فورميو» سابقًا، وكان الجيش يزداد غضبًا للإهانات التي توجهها الصحف الميلانية له، فضلًا عن أن الجرائد في ميلانو وتورينو أخذت تتبادل الكلمات القارسة.

وكانت الحكومة المؤقتة نفسها على وشك أن تفقد ثقة الرأي العام، ولا ريب في أنها مسئولة عن ذلك بسبب البطء في تأليف القوة اللمباردية، مما أدى إلى تثبيط عزائم المتطوعين واضمحلال حماستهم، ولا سيما وقد وضعت على رأسهم قوادًا مكروهين، وكان في البلد نحو ستين ألفًا من الجنود الذين تركوا الجيش النمسوي، فلم تُتخذ التدابير لتجنيدهم، فدخل شهر تموز ولم يبلغ عدد المجندين أكثر من عشرة آلاف.

وكان كل الأمور يدل على ضرورة البت في قضية الانضمام إلى بيمونته، وأنه يجب القيام بعملٍ يرضي أهلها، وأن الواجب يقضي قبل كل شيء بأن تشترك لمبارديه في الحرب بهمةٍ كبيرة، وهناك عوامل أخرى تدعو إلى ذلك، وإن كانت قليلة الشأن فإنها ذات تأثير أيضًا؛ مثل الخوف من جمهورية اشتراكية، وما يسود الناس من الاحترام للملك، وما يطمح إليه الناس من مشاهدة ميلانو مرة أخرى قاعدة لبلاطٍ زاهر.

وكان أكثر الموظفين ولا سيما الجمهوريون على استعدادٍ للتخلي عن آرائهم الجمهورية إذا تم السير نحو الوحدة بشرط أن يكون الحكم دستوريًّا ودموقراطيًّا، ضامنًا للمبادئ الجمهورية الأساسية.

وبعد التي واللتيا أعلنت الحكومة المؤقتة في أوائل أيار تحكيم الرأي العام في الانضمام أو تأجيل الأمر إلى ما بعد الحرب، وتجاه هياج أهل ميلانو اضطرت الحكومة إلى الوعد بأنه مهما كانت نتيجة التصويت فإن حق الاجتماع وحرية المطبوعات وتأليف الحرس المدني؛ أمورٌ مضمونة.

وجرى التصويت في نهاية الشهر، فأخذ رجال الملك يعملون في الخفاء، وكانت الإشاعات تدور بأنه إذا جاءت نتيجة التصويت ضد الملك شارل ألبرت فإنه سينسحب من الحرب، ودُعي جيوبرتي إلى ميلانو؛ ليقوم بالدعاية الملكية أمام دعاية مازيني الجمهورية، وأخذ الناس يغنون أنشودة «شارل ألبرت أو النمسة.» فاستنكف أكثر الجمهوريين من الاشتراك في التصويت، وصوت القرويون أمام رهبانهم والجنود أمام ضباطهم وقُوَّادهم، واشترك في التصويت خمسمائة وستون ألفًا، أعني: ثمانية وأربعين بالمائة ممن لهم حق التصويت، وكان منهم نحو سبعمائة صوت يرتئون التأجيل.

وكان إعلان الجمهورية في فنيسيه من قبل مانين قد عقد قضية الانضمام، فمانين جمهوري العقيدة حين رأى الفرصة سانحة أعلن الجمهورية، وكان لا يميل إلى نصف ثورة تستلزم ثورة أُخرى لإكمالها، وكان يخشى أن تحول زيادة شوكة بيمونته دون الاتحاد، وكان يحارب كل شعورٍ إقليمي ويدعو إلى الاتحاد ويترك شأن الوحدة الكاملة إلى مجلس الأُمة الذي ينعقد في روما.

ومما لا شك فيه أن عمله قد خلق بعض الصعوبات، وقوَّى الفكرة القائلة بأن على اللمبارديين وأهل جنوة أن يؤجلوا البت في شكل الحكومة إلى ما بعد الحرب، على أن سيطرة حكومته خارج مدينة البندقية كانت وهمية؛ إذ إن نار الغيرة القديمة ضد البندقية قد التهبت.

ومما زاد في الارتباك خبرُ تقدُّم القائد النمسوي نوجنت في منتصف نيسان وفقدان وسائط الدفاع، فقررت المدنُ الواقعةُ على الساحل «بادويه وفنيسيه وتريفيسه» بموافقة البندقية الإجبارية أن تنضم للمبارديه وبيمونته، وكانت ترجح الانضمام إلى لمبارديه؛ إذ إن كل مواطن من أهل فنيسيه كان يرغب في الانضمام إلى لمبارديه عاجلًا أو آجلًا؛ وذلك لأن تعلقهم بشارل ألبرت كان قليلًا أو معدومًا، ولكن مسير نوجنت السريع قد وجَّهَهم نحو الملك ليطلبوا منه العون، ولَمَّا جرى الاستفتاءُ العام في ٤ حزيران كان النمسويين قد احتلوا ثلاث ولايات من فنيسيه، أما الولايات الأربع الأُخرى وهي تريفيسه وبادويه وفنيسيه ورفيجو فأفتت — بأكثرية عظيمة — بضرورة الانضمام بالشروط التي اشترطتها لمبارديه، وهي عقد مجلس تأسيسي يُنتخب أعضاؤه بالاقتراع العام، ويتولى وضع القانون الأساسي.

ولما نجح أنصار الانضمام في مدن الساحل وجهوا جهودهم نحو العاصمة «البندقية»، وأخذ البريتون ينشطون ويشترون الأنصار بالمال، زاعمين أن الجمهورية تحول دون الوحدة، وحينئذٍ تصبح البندقية منعزلة، وكانت هذه المدينة بوضعها البحري المنيع غير معرضة لهجوم العدو المباغت، وظل مانين يعارض في الانضمام حتى إن الحكومة رفضت بادئ الأمر الاستفتاء إلا أنها اضطرتْ أخيرًا إلى الدعوة لانتخاب مجلس يقرر هو مصير المدينة، وقد نجح أنصار الانضمام في هذا الانتخاب بأكثرية ساحقة.

ولما رأى مانين أنه خسر الصفقة فَكَّرَ في أن يحول دون كل انشقاق، وصرح بما يلي: «انسوا الأحزاب فلم نعد جمهوريين ولا ملكيين وإنما نحن طليان.» وعليه فإن المجلس قد اقترح — بأكثرية تكاد تكون مطلقة — للانضمام الفوري إلى بيمونته، فقدم مانين وتوماسو على إثر ذلك استقالتهما، ورفرفت راية بيمونته فوق القصر.

وبعد أن انتهت قضية الانضمام ظهرت قضية عاصمة الدولة في المستقبل، أتكون ميلانو أم تورينو، وانشق وزراء بيمونته فيما بينهم في قبول شروط الانضمام، وكان المحافظون يخالفونها لصبغتهم الدموقراطية؛ ولأنهم يرون — على الأخص — أن الاقتراع سوف يشمل بيمونته أيضًا؛ فمجلس الأمة المشروط انعقاده قد يقضي على العرش نفسه وينقله من تورينو إلى ميلانو، وبذلك تنهار الهيمنة البيمونتية.

وانتهز «باريتو وريجي»؛ أي الأحرار وأهل جنوة، هذه الفرصةَ للقضاء على سيطرة تورينو وإدماج بيمونته في دولة إيطالية الكبرى، ولم يكن بالبو الرئيس الذي يستطيع أن يُسيِّر الوزارة في مثل هذا الجو، فانتقل الجدال من الوزارة إلى المجلس النيابي، وكانت أكثرية النواب من المعتدلين ومن الطبقة الوسطى والأشراف ذوي أخلاق قوية إلا أنهم ينقصهم الاختبار.

وأرادت الحكومةُ أن تتعهد بأنها لا تنقل العاصمة من تورينو ومعنى ذلك اللعب بالنار وإغاظة لمبارديه ورميها في أحضان الجمهورية الإفرنسية، واستطاع باريتو بمعونة «رتَّاري» أن يتغلب على المحافظين، فقبل المجلس شروط اللمبارديين بشرط أن لا تمس الملكية بسوء، وقبل قانون الوحدة بأكثرية ساحقة جدًّا.

ولكن تنفيذ كل هذه القضايا التي نظر فيها المجلس كان يتوقف على أمرٍ واحد وهو التغلُّب على راديتسكي، ولم يكن الجيش البيمونتي في حالةٍ يستطيع معها التغلُّب على عدوه من دون أن يكون له حلفاء؛ فقضية الإلحاق أغضبتْ فرنسة وسويسرة؛ لأنهما لا يُريدان أن يَرَيَا على حدودهما؛ أي في شمال إيطالية دولةً قوية فضلًا عن أن ذلك زاد تعنُّت البابا ونابولي.

وبينما كان شارل ألبرت يجمع الآراءَ كان راديتسكي يجمع الرجال، فأمده نوجنت بأربعة عشر ألفًا من الرجال، وعلى الرغم مِن مقاوَمة المتطوعة وبسالة القرويين؛ فإن نوجنت تقدم برجاله في ولايات فنيسيه واستولى على بعضها، وعبثًا حاول أهل فنيسيه حَثَّ شارل ألبرت على إرسال المدد إليهم أو حَمْله على أن يأمر قوات روما التي أصبحت تحت قيادته بالتقدم. أما قائد هذه القوات فلم يحرك ساكنًا.

وتقدمت متطوعة فراره مع القرويين برئاسة رهبانهم، واشتركت في القتال من دون أن ينجدهم أحد، ولما رأى تقدم النمسويين واقترابهم انسحب إلى فيرونه.

أما الجيش البيمونتي فبقي عاطلًا أمام هذه الأحداث، وقد حدث في أثناء ذلك أن هجم الجيش النمسوي بخمسة وثلاثين ألفًا على جيش طوسكانه البالغ خمسة آلاف ولكن الآخر استطاع أن يقاوم النمسويين ست ساعات في معركةٍ عنيفة، أظهر الجنودُ فيها ضروبًا من البسالة والجَلَد مما يدعو إلى الإعجاب.

ولَمَّا وصل النمسويون إلى فيرونه وكانت قوتهم تَفُوق حاميتَها التي يقودها دوراندو ضعفين؛ ارتأى هذا القائد؛ حقنًا للدماء أن يسلم نفسه وحاميته للنمسويين، وبذلك وقعت كل ولايات فنيسيه الساحلية بيد النمسويين، وتوسع الخرق بين اللمبارديين والبيمونتين، وأخذ أهل فنيسيه ولمبارديه يوصمون الملك بالخيانة ولا سيما حين شاعت أخبار المباحثات السرية التي كانت تجري بواسطة وسيط الحكومة البريطانية، وذلك أن بالمرستون قد بذل جهده لإبعاد شارل ألبرت عن الحرب، وكانت سياستُهُ ترمي إلى عزل فرنسة من إيطالية وإيجاد صلح تصبح فيه إيطالية حرة.

ولما أصبحت فينا وبوهيمية ساحة للشغب من جديد؛ حتَّمت الضرورة على رجال الدولة في النمسة البت في قضية إيطالية، فأرسلت فينا مندوبًا إلى لندن لتوسيط بالمرستون، وكانت اقتراحات المندوب تتضمن مَنْحَ الحكم الذاتي التام إلى لمبارديه وفنيسيه ولكن بالمرستون لم يرض بهذا الحل.

ولما ثارت فينا مرة ثانية فإن النمسة عدلت اقتراحاتها وقالت بمنح لمبارديه استقلالَها ومنح فنيسيه حكمًا دستوريًّا حرًّا، ولكن بالمرستون رفض هذه المقترحات أيضًا طالبًا أن تترك النمسة البلاد إلى نهر بيافة على الأقل، فلما رأت النمسة باب إنكلترة موصدًا في وجهها فكرت في التباحُث مع الميلانيين مباشرة؛ للاحتفاظ بفنيسيه، وكان جواب الميلانيين أنهم لا ينفصلون عن شقيقتهم، وكانت الوزارة البيمونتية — على ما يظهر — ما عدا بالبولا تميل إلى التساهُل.

وبينما ظلت الحكومتان حكومة ميلانو وحكومة تورينو متمسكتَين بعهودهما، فإن الملك كان يستعد في الخفاء لأن يضحي بفنيسيه رغم وعده بأنه لا يغمد سيفه إلا بعد أن يحرر إيطالية، وفي أوائل شهر حزيران كان على استعدادٍ لأنْ يرضى بنهر أديج حدًّا، وبعد مُضِيِّ أشهُر رفع القناع واقترح على النمسة خفية عقد معاهدة تجزئة، وأخذت جريدة مازيني تهاجمه بعنف، بينما كان عملاء النمسة ينسفون الأرض بنشاط، أما جرائد ميلانو فكانت تصب اللعنات على الملك والجيش، وانقلب القسم الأعظم من الأشراف في بيمونته حين طال أمد الحرب، وتخلف الإكليروس بعد اطلاعه على رسالة البابا العامة.

أما الطبقة الوسطى فأصبحت تخشى الحركة الاشتراكية، وزادت مشقةُ القرويين في الحصول على المعيشة، وانتهز الرجعيون الفرصة وأخذوا يبثون نغمة البابا، أما الدمقراطيون فكانوا منصرفين إلى القضايا الاجتماعية أكثر من انصرافهم للحرب.

واستقالت الوزارةُ وتألفت وزارةٌ أخرى اشترك فيها جيوبرتي، إلا أن البيمونتيين لم يتحمسوا لوزارة تمثل أقطار إيطالية الشمالية فيكون للمبارديين وأهل جنوة الأكثرية فيها، وأرسل جيوبرتي إلى فلورنسة وروما ليستميل البابا والدوق الكبير إلى جانب شارل ألبرت والقضية العامة.

ومهما كانت بلادة رجال الدولة فإنه كان في مقدور البيمونتيين الاستمرار على النضال في عنادٍ وثبات، ولولا عجز القيادة لَكان من المحتمل أن ينالوا الظفر، ووردت أخيرًا النجدات للجيش النمسوي فأصبح تفوُّقُه عظيمًا، أما الملك فشتت جيشه على جبهةٍ طويلة حتى أصبح ضعيفًا في كل مكان إلى أن خسر معركة «كستوزه» التي جرت في ٢٥ تموز، وانسحب باتجاه ميلانو.

وقد تألفت لجنةٌ للأمن العام في تلك المدينة أخذت على عاتقها تبعة الدفاع عن المدينة، وبذلت جهودًا كبيرة فجمعت المال والذخيرة، وجَنَّدَتْ خَلْقًا كبيرًا من الحرس الأهلي، وقد أظهر أهل المدينة الهمة والنشاط اللذَين أظهروهما في الأيام الخمسة، ووصل الجيش البيمونتي إلى المدينة في ٣ آب، وكان أول عمل قام به الملك أنْ ألغى اللجنة وبذلك جلب سخط المدينة.

ولما وصل النمسويون بعددٍ كبير إلى المدينة، وكان غاريبالدي قد قدَّم نفسه ومتطوعيه للخدمة إلا أن الملك رفض ذلك، وكان غريبالدي قد جمع ما يقارب خمسة وعشرين ألفًا من الرجال من برغامة وبريسيه، وبدلًا من أن يقرر الملك الدفاع عن المدينة فإنه أرسل رسله للمذاكرة مع راديتسكي حول تسليم المدينة، ولما شاع هذا الخبر هاج الشعبُ وماج وهرع إلى القصر الذي يسكن الملك فيه؛ محتجًّا على عمله هذا.

وقد أضاع الملك قواه المادية والأدبية، وبلغ به العمرُ إلى درجة أمسى معها خاضعًا لكل تأثير، مع أنه وعد بأنه يسفك آخر نقطة من دمه للدفاع، فقد وافق بعد بضع ساعات على نتيجة المباحثات، وفي مساء يوم ٦ آب رضي بتسليم المدينة، وأعلن ذلك على الناس فاندفعت الجماهيرُ نحو القصر ترغي وتزيد، حتى إنها أطلقت النار عليه واستعدتْ لحرق أبوابه، فأخلى الجيش البيمونتي المدينةَ في الليل، وتركها لرحمة القائد راديتسكي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤