الفصل الرابع عشر

معتدلون ودموقراطيون

أيار–كانون الثاني سنة ١٨٤٨

لقد كان تأثير الانكسار في بيمونته رائعًا، وقد فقدت الوزارة الجديدة كل نفوذ، وأصبحت البلاد منهوكة القوى ولا أمل في استمرار الحرب إلا بمحالفة فرنسة، وقد بوشر فعلًا بالمذكرة مع باريس، وكان راديتسكي يهدد الحدود، وخشي المحافظون الملكيون من قدوم جيش جمهوري من فرنسة، فتحمل شارل ألبرت مسئولية العمل وخول الجنرال «سلاسكو» التوقيع على الهدنة في ٩ آب لستة أسابيع، ولم تقض شروط الهدنة بإخلاء «بشييره» فحسب بل إخلاء دوقية فنيسيه كلها، فما كان من أهل بيمونته إلا أن رفضوا بأجمعهم هذه الشروط التي تعني التخلي عن القضية القومية إلى حين، وقد اتفقت الأحزاب على الترحيب باللاجئين اللمبارديين والاستعداد للحركة القادمة.

وكان من الصعب على فرنسة أن تبقى تجاه هذه الأحداث مكتوفة الأيدي، ولا سيما لأن واجباتها التقليدية تقضي بالاهتمام بالعلاقات بين إيطالية والنمسة، ولما أعلنت الحرب قدَّمت فرنسة مقترحات خطيرة الشأن إلى بعض الأشخاص مثل مازيني وببه، وطلبت إلى الحكومة تورينو الموافقة على إرسال جيشِ ترصُّد عبر جبال الألب، إلا أن الشعور العام في بيمونته كان يعارض بالإجماع كل معاونة إفرنسية، وكان مانين الرجل الوحيد الذي قدر أهمية المعونة الإفرنسية، فطلب إلى فرنسة إرسال أسطولها عبر الأدرياتيك، أما الملكيون فكانوا يرتعدون خوفًا من حلف جمهوري، وكان الجمهوريون أنفسهم يميلون إلى أن تحرز إيطالية النصر١ ويرى أن تدخل فرنسة قد يشجع الجمهوريين في لمبارديه وفنيسيه من جهةٍ ويعينهم على المطالبة بترك صافويه ونيس إلى فرنسة من جهةٍ أخرى.

بَيْدَ أن أكثرية اللجنة الإجرائية في باريس كانت ضد التدخُّل ما لم يطلبه الطليان أنفسهم؛ فلذلك أجاب نداء مانين بوعد عرقوبي، وعلى الرغم من تعهُّد فرنسة بالمساعدة حين تطلب منها بصورةٍ رسمية فإنها لم تكن على استعدادٍ لتقديمها، ولَمَّا خسر الطليان معركة كوستوزه، وفقدت تورينو وميلانو كل أمل في الظفر توجهت إيطالية نحو فرنسة، وشرطت عليها أن تكف عن كل دعاية جمهورية وعن المطالبة بترك صافويه مما سوغ لفرنسة أن تسحب كلامها، فأصبحت المقاومة في الحرب بعد ذلك لا معنى لها، ومع ذلك فإن بعض الوطنيين المتحمسين كانوا لا يريدون الاعتراف بالانكسار.

وكان «كورنتي» وهو أحدُ الأعضاء الفَعَّالين في الحكومة المؤقتة من ميلانو، من الذين لا يزالون يقولون بالاستمرار في الحرب بالقوات اللمباردية وبالمتطوعين حوالي بريسيه، وكان القسم الأعظمُ من الجمهوريين يَرجعون بأسباب انخذالهم إلى الاتفاق البيمونتي، وكان أكثرُ المتطوعين قد انسحب إلى سويسرة وبيمونته.

ولما عاد غاريبالدي من «بئونس آيرس» في أمريكية الجنوبية في شهر أيار؛ حاول عبثًا أن يحصل على رتبة في الجيش البيمونتي، وكان باستطاعة الملك ووزرائه أن يستغلوا صيت هذا الزعيم وأن يقيموا أهل تيرول ويُقعِدوهم، إلا أنهم قابلوا طلبه ببرودة فقدم إذ ذاك خدماته لحكومة لمبارديه، فأناطت به قيادة المتطوعين في برغامة.

وبينما كان في مونز يستعد للهجوم على النمسويين اتصلت به أخبار الاستسلام فانسحب مع مازيني إلى أرونة؛ حيث طلبتْ إليه الحكومةُ البيمونتية أن يسرح جنوده وأن يترك البلاد، فتأثر كثيرًا من هذا الطلب ومع أنه تعهد احترام الهدنة إلا أنه نشر راية مازيني في لوبنو وأعلن الحرب الشعبية، بَيْدَ أن راديتسكي وَجَّهَ إليه قوةً عظيمة اضطر أمامها إلى الانسحاب إلى سويسرة.

ثم أرسل النمسويون قوة إلى الروماني واحتلوا بولونيه، فما كان من أهلها إلا أن هَبُّوا للدفاع عن بلدتهم، فهاجموا الجنود في الطرقات بالخناجر وبعد معركةٍ دامية وجهًا لوجه استمرت ساعتين؛ أثخنوا فيهم وهزموهم.

وكان الموقف السياسي في الإمبراطورية النمسوية قد تحسن بعد أن قضى القائد «وند شجرتسن» على ثورة بوهيمية، وبعد أنْ حدث اختلاف بين الهنغاريين والصربيين استغله العدو المشترك «النمسة»، وأعلن المجلس النمسوي ولاءه للإمبراطور الذي رجع إلى فينا.

أما في إيطالية فاستعادت نفوذها بالانتصارات الباهرة المتوالية ما عدا في بيمونته وفنيسيه فإن الناس في إيطالية قد أهملوا أمر الحرب، وقد ظهر أن الكفاح للاستقلال هو ناحية واحدة من مظاهر النهوض في إيطالية، أما الناحية الأخرى فهي السعي في طريق التحرر الاجتماعي وقد اغتبط الأحرار المعتدلون بالإصلاحات التي تمت بالانقلاب البطيء الذي طرأ على الحكومة الدستورية على أن الجماهير كانت ما تزال تخضع لما تبقى من استبداد الشرطة، وكانت تتشوق إلى إيجاد مالية شعبية صالحة، وإلى سن قوانين عقارية جديدة، وإلى تعليم أصلح، كما أنها كانت تأمل أن يتم إنجاز الإصلاحات الاشتراعية في بضعة أشهر، وكانت تثق بأن البرلمان كفيلٌ بالقضاء على أساس الأوتوقراطية وبرفع إيطالية إلى مصاف فرنسة وإنجلترة.

وقد عَظُمَ نفوذُ الأندية في جميع المدن الكبيرة، وكان العمال العاطلون والمتطوعون في الطبقة الدنيا لا يزالون يؤلفون عناصرَ شغب خطيرة، ومع ذلك فإن الدموقراطيين كانوا أكثر تَعَلُّقًا بالقضية القومية من خصومهم، وكانوا يصرحون بأن الأمراء خانوا الأمة أو أنهم لم يُحسنوا إدارتها؛ فلذلك ينبغي قبل الاستمرار في الحرب أن يتولى زمام الملك مَنْ يخلص له.

أما في بيمونته فإن هدنة سلسكو قد قضت على وزارة كسالتي، وأصبحت البلاد مدة أسبوع تُدار فعلًا من قِبَل حكومتين؛ أي بينما كانت الوزارة لا تريد الاعتراف بالهدنة كان ريفل مندوب الوزارة يعمل للحصول على وساطة الدول الغربية خلافًا لأحكام الدستور، وكان الملك قد أمر قواته بمقاومة كُلِّ تقدُّم من قبل القوات الإفرنسية.

وتقلد بنيلي رئاسة الوزارة فلم يقبل هو أيضًا الهدنة وقرر الاستمرار على القتال بمساعدة فرنسة أو بدونها ما لم تنل البلاد صلحًا شريفًا، وقد اتصل بالهنغاريين والسلافيين المستائين وشجع تشكيلات اللاجئين اللمبارديين وطلب إلى غاريبالدي أن يستعد، وكان يأمل بأنْ تؤدي وساطة فرنسة وإنجلترة الودية إلى الحصول على سِلْم يرضي الوطنيين، وكان قرار الحكومة الإفرنسية أن لا تشترك بالحرب ما دامت النمسة لا تجتاز نهر تسينا؛ ولذلك فإنها لم تأبه للثمن الذي تدفعه بيمونته لقاء الحصول على السلم.

أما بالمرستون فكان يظن أن النمسة ستتخلى عن لمبارديه؛ ولذلك فإنه طلب إلى حكومة تورينو بأن تصرف النظر عن فنيسيه؛ ففعلتْ، رغم تأنيب الضمير، أما النمسة فقد غَرَّتْها الانتصارات وعزمت على أن لا تتخلى عن أي أرض، مع استعدادها لأن تمنح القطرين نوعًا من الحكم الذاتي، ودستورًا، وقد تُوافق على أن تأخذ بيمونته دوقية بارمه، أما الحكومة الإفرنسية فبعد تهديداتها التي لا طائل ورائها؛ وافقت على شروط النمسة، وسار بالمرستون إلى حدٍّ أبعدَ من تهديدات فرنسة وأمطر فينا بالموعظات ولكن النمسويين لم يتزحزحوا عن موقفهم.

وكان مِن تأثير فشل المباحثات أن تقوَّى حزب الحرب في بيمونته، وأخذ راديتسكي يعذِّب اللمبارديين باستبدادٍ لا هوادة فيه، ويُروى عن روفل المندوب أن قال بأن مملكة إيطالية في الشمال حلمٌ خلاب، وأن بيمونته يجب أن تهتم بنفسها، ونشبت في شهر تشرين الأول ثورةٌ ثانيةٌ في فينا، وتخلَّت الشعوبُ الإمبراطورية عن نُصرة الإمبراطور ما عدا الخرواتيين، فنشطت بذلك آمال بيمونته من جديد، وكان جيشها قد زاد عدده وبلغ خمسين ألفًا، وكانت مظاهرات الرأي العام في الأندية والصحافة تساعد جيوبرتي ورتازي في هجومها الصاخب، وكان للمبارديين اللاجئين البالغ عددهم خمسة وعشرين ألفًا تأثيرٌ نافذٌ في هذه الدعاية.

أما مدينة جنوة فكانت في شبه ثورة حتى إن الملك نفسه أصبح يتشوق إلى الحرب، فاجتمع بالمتطرفين خلسة، وتآمر معهم على قلْب وزارته وتبديلها بوزارة حرب دموقراطية يدخل فيها مانين وبروفيرو، وأخذت الحماسة للحرب تشتد يومًا فيومًا في بيمونته، وقد حاول بنيلي عبثًا تسكينَها بتجنيد اثني عشر ألفًا من جديد، ولَمَّا اقترع المجلسُ النيابي ضده؛ استقال في أوائل شهر كانون الأول، فاضطر الملك إلى دعوة جيوبرتي.

وكانت طوسكانه أيضًا ساحة نزاع بين المعتدلين والدموقراطيين، وما أسرع ما خَفَّت الحماسةُ للحرب، فاستغل الإكليروس رسالة البابا العامة بمهارة، أما القرويون فانصرفوا إلى موقفهم التحفُّظي الطبيعي خوفًا من التجنيد ومن الضرائب الثقيلة، وكان ريدولفي قد تولى الوزارة في شهر حزيران، وكانت وزارته خليطًا من المعتدلين والرجعيين، ولكن كفة الأخيرين هي الراجحة بسبب ممارستهم شئون الدولة مدة طويلة.

ولما كان المجلس يقضي وقته في المعاتبة؛ فإن السلطة الفعليةَ غَدَتْ بيد الدموقراطيين، وكانت الأحوالُ تدل على أن الدولة سائرةٌ نحو الفوضى، وقد انهار اتحاد الشعب عقيب وصول أخبار كوستوزه، ولما استقالت الوزارة عين الدوق الكبير «ريكاسولي» لرئاسة الوزارة، وكان ريكاسولي هذا متهمًا دون حقٍّ بأنه يرغب في إدماج طوسكانه في بيمونته، من أجل ذلك رفضت الفروع المعتدلة الأخرى التفاهُمَ معه، فظلت البلادُ مِن دون وزارة نحو ثلاثة أسابيع إلى أن استطاع «كابوني» أن يؤلف بين الجماعتين المعتدلتين.

وكان كابوني هذا يَمُتُّ إلى أشراف فلورنسة، ويتمتع باحترام الجميع رغم تردُّده، وقد وعد بالاستمرار على الحرب إذا فشلت مفاوضات الصلح، وبذل بعض الجهود لتقوية الجيش، وسعى لعقد اتفاق مع روما وبيمونته، إلا أن القلاقل جعلتْه ينصرف إلى الأمور الداخلية، وقد استمر القلق والخوف من احتمال احتلال النمسويين، وقد ملأ البلاد الجند الفاقد لمعنوياته والمتطوعون المسرحون والعمال العاطلون، وأخذ الرهبانُ والأشراف يُثيرون الفتن في المناطق الريفية، وسار المتطوِّعون والمعلِّمون يلقون الخطب في الأندية لإثارة الحرب الشعبية.

وقد أصدرت الوزارةُ قانون القمع، وأغلقت الأندية مما أدى إلى سكون مؤقت في البلاد ما عدا ليفرونة، وكانت الثورة قد نشبت فيها إثر شيوع أخبار كوستوزه، وكان كابوني قد تولى الحكم بعد عدة أيام من ذلك، فأوقف «حفازي» الذي عاد إلى البلد رغم صدور الأمر بطرده منها، فثار الشعب وقطع خطوط السكة الحديدية واستولى على مخازن السلاح.

ولما أرسل كابوني الجنود إلى ليفورنة قُوبل قرارُهُ هذا بالتصفيق، وحاول «سيبرياني» قائد الحامية أن يجرد الجمهور من السلاح إلا أن الجمهور هجم على جنوده وهزمهم، فاضطر كابوني إلى إرسال «جيرازي»؛ ليعيد الهدوء إلى المدينة، واستطاع هذا بسرعة أن يحمل عناصر الشعب على الطاعة، ولم يستطع أن يحول دون إعلان الجمهورية إلا بشِقِّ الأنفُس، فقررت الوزارة أن تقضي على عش الفساد، ودعت الحرس المدني في طوسكانه إلى الاجتماع في معسكرٍ كبير بالقرب من مدينة بيزة إلا أن القسم القليل منها لبى الدعوة، وكان هذا القليلُ أيضًا على استعدادٍ لأنْ يتآخى وأهل ليفورنة بدلًا من مقاتلتهم، ففشلت بهذا سياسة الشِّدة ثم عادت المدينة إلى حالتها الاعتيادية بفضل عزم جيرازي إلا أن كابوني رفض الاعتراف به وعين مونتانلِّي حاكمًا عليها، ولم يقبل مونتانلِّي هذا المنصب إلا بشرط أن يمنح الشعب هدفه المحبوب، وهو المجلس التأسيسي الدموقراطي، فأصبح من الواضح أن وزارة دموقراطية وحدها تستطيع أن تُبقي ليفورنة في حظيرة طوسكانه، وتعيد سلطة الحكومة إلى القسم الباقي من البلاد، فاستقال كابوني في منتصف تشرين الأول، وفشلت بعده جميعُ المحاولات لتأسيس وزارة من المعتدلين، فطلب الدوق الكبير حينئذٍ إلى مونتانلِّي أن يؤلف الوزارة إلا أن هذا رفض أن يتولى الحكم من دون جيرازي، ومع أن الأمير كان قليلَ الاستعداد لتلبية هذه الرغبة إلا أن الهياج في ليفورنة وفي فلورنسة ونصيحة وزير إنجلترة المفوض له اضطراه للإذعان.

وكان الرجلان اللذان أصبحت مقدراتُ طوسكانه في قبضتهما لا يشبه أولهما الثاني إلا قليلًا، فمونتانلِّي رجلٌ ذكيٌّ محبوبٌ لَسِنٌ صريحٌ، إلا أنه كان يجهل أمور الحكومة كل الجهل، وكان المعتدلون يحترمونه، ورجال الإكليروس يعتبرونه الرجلَ الذي سيحرر الكنيسة الطوسكانية من نير الحكومة، وكان التلاميذُ في بيزه والعمال في ليفورنة يحبونه لدفاعه المديد عن الدموقراطية.

أما جيرازي فكان من طينةٍ أخرى، ورغم أنه لم يلعب إلا دورًا صغيرًا في سياسة إيطالية فإنه كان يعد مِنْ أَقْدَرِ معاصريه، وقد تشبع بآراء فولتير وبايرن، وجَدَّ كثيرًا في اكتساب قُوتِهِ، وعركه الدهر؛ إذ دخل السجن ثلاث مرات قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره، وقضى كل حياته في جدالٍ مع الهيئة الاجتماعية، وكان مقدامًا عنودًا، وكانت الغاية التي يَتَوَخَّاها في قصصه إيقاظ إيطالية، وكان يحتقر المضطهِد والمضطهَد، ويقول: «ليست الحياة سكونًا.» وقد هَدَّأَ النجاحُ الذي ناله في آخر أيامه من طبعه وجعله يكره — دائمًا ومن صميم قلبه — الجدلَ السياسي.

أما في روما فقد كان سقوط المعتدلين فظيعًا، وفي الأزمة التي تلت نشر الرسالة العامة؛ اضطر الحزب الدموقراطي البابا إلى إناطة رئاسة الوزارة برئيس الحزب مميانتي، وقد شرط هذا لقبوله رئاسةَ الوزارة أنْ يتولى وزارةَ الخارجية أحدُ العلمانيين، كان مميانتي عضوًا في الحكومة المؤقتة التي تألفتْ في بولونيه في ثورة سنة ١٨٣١، ولما كان متغيبًا في فرنسة برز كشاعر ولاهوتي، ولما عاد إلى إيطالية سنة ١٨٤٨ اشتهر بين الناس كخطيب وصحفي، وقد أصبح المنهاجُ الذي وضعه في الإصلاح الاجتماعي المنهاجَ المقبول في الأوساط الرديكالية.

وكان يرغب في أنْ يحتفظ البابا بالسلطة الزمنية، ولكي يبقى نفوذ البابا الديني خالصًا سالمًا؛ وجب على البابا بأنْ لا يشترك في مسئولية الحكم، وعليه أن يقبل بالمبدأ الإنكليزي القائل: «الملك يملك ولا يحكم.» ثم إنه كان مِن دُعاة الاستقلال ومن المتحمسين، ويود أن تساعد روما الحرب القومية بكل ما يمكن، وأن لا يقبل المفاوضة مع النمسة ما دام لها جنود في إيطالية، كما أنه كان من أنصار الاتحاد وقد اتهمه خصومُهُ بأنه يرغب في إلحاق الروماني ببيمونته.

عنى مميانتي — قبل كل شيء — بإصلاح الحكومة المحلية والمصالح المدنية، ثم انصرف إلى الأمور الاجتماعية وعمل على تأسيس وزارةٍ للإسعاف العام ومهمتها حماية البؤساء وتعليمهم، ورأى أنَّ المصلحة فيما يخص التعليمَ تقضي في تلك البرهة التساهُل مع الإكليروس، وذلك بالسماح لفتح المدارس الحرة على أنْ يتولى الرهبانُ دراسة الدِّين فيها، وكان منهجُهُ الاجتماعيُّ يتضمن المساواةَ الاجتماعية التامة وحرية التجارة وحرية التملُّك وفرض ضريبة متزايدة بنسبة الدخل، والعناية بالسكك الحديدية وخطوط البرق والإسعاف والصحة العامة. وكان القيام بهذه الإصلاحات صعبًا بين بلاط خصم لها وشعب نفد صبره، ولو كان صلبًا لاستطاع أن يحمل البابا على التساهُل إلا أنه كان يسعى لجلب رضاء البابا.

ومن الأمور التي لا يمكن للبلاط البابوي أن يسمح لها أن تترك المخابرةُ مع سفراء البابا بيد وزير علماني؛ لذلك لم يف البابا بوعده لوزيره الأول وعين لوزارة الخارجية كردينالًا، وقد أذعن مميانتي لهذا آملًا بأن يظفر بموافقة البابا على منهجه الإصلاحي.

على أن قضية الحرب كانت موضوع جدل عنيف بينه وبين البابا حين لم يكن البابا فاقدًا استعداد العطف على الحماسة القومية، ولما فرق النمسويون حرمة أراضيه في أواخر شهر حزيران، اعتزم إعلان الحرب.

ولو قبل باريتو الحلف لَتشجع البابا وأمر مميانتي بتعبئة الجيش، إلا أن باريتو رفض اقتراحَ الحلف مما جعله مُرتابًا من مطامح بيمونته أكثر من قبل، وكان يشعر بأن دُخُول بابا في الحرب أمرٌ فظيع، وحاول مميانتي عبثًا حمله على قبول المبدأ القومي.

وكان بيوس لا يريد أن يقبل نظرية مميانتي الآتية: «إن الباري تعالى قد قدر أن تعيش الأُمم مستقلة بعضها عن بعض؛ بسبب اختلاف لُغاتها وجنسياتها وعاداتها.» وقد أضاع المعتدلون نفوذهم كقوة سياسية، وقد أدت الرسالة العامة بإضعافها لنفوذ البابا المعتدل في حركة الحرية إلى تقوية الدموقراطيين، ومع أن القسم الأعظم من الدموقراطيين كان يسير وراء مميانتي إلا أنه كانت توجد فئةٌ متطرفةٌ تسعى لإقامة جمهورية تكون عبارة عن حكومة مؤقتة.

وكان الانفصاليون في الروماني أقوياء؛ لذلك لم يستطع مميانتي أن يقوم بالإصلاحات التي عزم عليها بسبب العراقيل التي وُضعت في طريقه، وشعر أخيرًا أنه أضاع مركزه، وكانت أخبار الهزيمة في كوستوزه ضربة قاضية عليه.

وتولى الحكم بعده فايري، وهو من رجال المؤامرة القدماء، شريف النفس وطني، وكان طاعنًا بالسن، وقد اتخذت الوزارة الجديدة خطة مميانتي بشأن الحرب إلا أنها لم تستطع أن تحمي بولونيه من عدوان النمسويين وعدوان عصابة المجرمين بعد انسحابهم منها، ثم قطع البابا آخر علاقته بالحكم الدستوري وأَجَّلَ المجلس النيابي ودعا بيمونته ونابولي وفرنسة إلى حمايته من النمسة ومن رعاياه، ولما لم يثق بفايري اضطره للاستقالة وعين بدله سفير فرنسة السابق في روما «بليجرينو روسي».

وكان روسي محاميًا وأستاذًا في جامعة بولونيه، اشترك في حركة موراث، ونُفي إلى سويسرة، ثم أصبح بعد ذلك أستاذًا في كلية فرنسة في باريس، وكانت دروسه جلبت انتباه «جيزو» رئيس وزراء فرنسة، فأرسله سفيرًا إلى روما سنة ١٨٤٥ للمفاوضة بشأن إلغاء المؤسسات اليسوعية.

وكان روسي قوميًّا ومن رجال الإصلاح ويشارك الأحرار في كثيرٍ من وجهات نظرهم، وكان يُساير الحركة الإيطالية ما دامت ترمي إلى الاستقلال، وكان يشعر بضرورة وجود حكومة جريئة قوية في روما تضرب بشدة عناصر السوء في الدولة، واهتم بالقضية القومية اهتمام مميانتي.

وكان قد نشر مؤلفًا في الصيف نصح فيه البابا بخَوْض غمار الحرب، وحينما تولى منصب الرئاسة وعد بتجديد السعي في قضية الحلف واقترح تقويةَ الجيش، بَيْدَ أنه كان يُشارك البابا في شكوكه المتأصلة ضد بيمونته، وأدى اندفاعه في مدح البابا إلى تحفُّظ تورينو ففشلت مفاوضاته مع بيمونته بشأن الحلف.

وكانت سياستُهُ الداخلية ترمي إلى الإصلاح المعقول في الأمور الاقتصادية والإدارية، وقد أظهر عزمًا قويًّا في إصلاح الإدارة المتفسخة وفي الخطوط البرقية، وسعى لإنجاز مشاريع السكك الحديدية، وكان يحتقر المحاورات الصاخبة والمناقشات على ألسنة السياسيين في أَرْوِقة المجلس النيابي.

وقد هدد روما بالاحتلال العسكري وآلمتْ تصرفاتُهُ غريبالدي، وقد أسلم اللاجئين السياسييين إلى فرديناند ملك نابولي، وكثُر خصومه حتى اعتبره الإلبريتون من أعداء الشعب، ونقم منه الموظفون الذين ساقهم إلى الشغل، والإكليروس الذي زاد ضريبته، والأشقياء الذين أخمد حركتهم واضطرهم إلى الإخلاد إلى السكينة، وهكذا أخذت تصرفات الاحتجاج تزداد ضده يومًا فيومًا مما أدى إلى انهياره.

١  من دون مساعدة أجنبية، وكان لامارتين وزير الخارجية الإفرنسية يحذر قيام ملكية في شمال إيطالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤