الفصل الخامس عشر

الدموقراطيون في الحكم

تشرين الثاني ١٨٤٨–شباط ١٨٤٩

أظهرت الحوادث استحالةَ الوقوف أمام التيار الدموقراطي الجارف، ولم يستطع روسي أن يوطِّد دعائمَ الهدوء بالقوة؛ فالشعب كان لا يفتأ يطالب بالحرب، وقد شاع أن البعض كان يُعِدُّ عدة مؤامرة لإقامة جمهورية.

وفي بولونيه نظَّم الدمقراطيون صفوفَهم بقيادة جفازي، وكان زوكي قد جَرَّدَهم من السلاح؛ لارتيابه بعلاقتهم بغاريبالدي، أما رجال الإكليروس فكانوا يرجون المعونة الأجنبية، وأما المتطرفون فكانوا يناضلون للحصول على مجلس تأسيسي يقضي إلى انهيار نصف عروش إيطالية أو جميعها، فاضطر روسي أمام هذه الحوادث أن يجلب قوات إلى روما.

وكان زوكي قد أرسل كتابًا إلى روكي يقترح عليه فيه بتشتيت شمل وطنيي الروماني بالقوة أو القضاء على كتيبة غاريبالدي بالرصاص، إن هذا الكتاب وقع في أيدي البعض ونُشر فأحدث تأثيرًا سيئًا، وبينما كان روسي في طريقه إلى المجلس النيابي هدده الجمهورُ حتى إذا ما صعد السلم اغتالتْه يدٌ مجهولة، فوجه الرأي العام التهمة إلى الدمقراطيين، إلا أن هؤلاء أسندوها إلى اليسوعيين الذين اعتادوا مثل هذه الاغتيالات.

وتَلَقَّتْ روما هذا الخبرَ بدون اكتراث، ولم يترك روسي أصدقاء؛ فلذلك رأى الدموقراطيون والرجعيون في موته فرصةً مناسبة لينشط كل فريق كل منهم في العمل لمبادئهم، بَيْدَ أن الدمقراطيين كانوا أسرعَ إلى الاستفادة من الحادث؛ ذلك أن المجلس النيابي تخلى عمليًّا عن العمل، وترك روما في قبضة نادي الشعب، وهذا استطاع أن يُعيد النظام في الطرقات تمامًا.

وتلا ذلك قيامُ مظاهرة عظيمة اشترك فيها الجنودُ والمدنيون وعلى رأسهم ضباطٌ ومواطنون ممتازون، سارت إلى قصر الكردينال في ١٦ كانون الثاني، وطلب المتظاهرون إلى البابا الموافقةَ على المنهج الدموقراطي.

وكان البابا كلف قبل ذلك «جليني» وهو من رؤساء الدموقراطيين تأليفَ الوزارة إلا أن الجمهور أصر على أنْ يتعهد البابا — قبل كل شيء — بالعمل الإيجابي حسب المنهج الدموقراطي، ولكن البابا رفض الإذعان، وقد حاول جليني عبثًا أن يقنعه، ولما فشل في ذلك استعرض الجمهور أسلحته النارية؛ ليحمل البابا على القبول، ولكن الحرس السويسري الساخط على هذه التهديدات أطلق بعض الطلقات فكانت دليل التصادم.

وكان الجندُ الأهلي والحرس المدني بجانب الشعب، فوجهوا نيرانهم نحو القصر وقتلوا أسقفًا وظل البابا مصرًّا على عناده ووعد بأن يترك أمر المنهج الشعبي إلى قرار المجلس، وكلف ستربيني وهو أكثر رؤساء الدموقراطيين تصلُّبًا وأقلهم خبرة في شئون الدولة تأليف الوزارة، فاعترف المعتدلون بعجزهم وانتهزوا الفرصة للتخلُّص من المسئولية في مثل هذا الظرف العصيب، وكان تركهم المجلس سببًا في حادثٍ كان من الخطورة بمكان؛ إذ أصبح البابا جزوعًا يَوَدُّ الإفلاتَ من مدينةٍ تسود فيها الثورة، وفي ليلة ٢٤ تشرين الثاني هرب من روما متنكرًا والتجأ إلى مملكة نابولي؛ حيث خُصصت قلعة «جايته» الواقعة على الحدود مقرًّا لبلاطه.

وشعرت مدينة روما بأن اضطرار البابا إلى الهرب يمس سمعتها، وضاعف منفاه عطفَ الناس عليه وخفف من الغلواء هذه، فما كان عليه إلا أن ينتظر قليلًا حتى تفتح له روما أبوابها، إلا أنه — لسوء حظه وحظ البابوية — أسلم نفسه إلى حاشية سوء، وحاول المعتدلون والحكومة الإفرنسية عبثًا دعوتَه إلى بولونيه أو إلى مارسيلية، وآثر — كما يبدو — أن يظل أسيرًا لدى فرديناند وألعوبة بيده، وقد وقع تحت نُفُوذ الكردينال أنطونلي المتزايد الضار.

وقد اندفع البابا في سياسته الرجعية العمياء من دون هوادة، ومما شجعه على موقفه هذا وعُودُه بالمساعدة التي قطعتْها جماعاتٌ عديدة في فرنسة وبلجيكة وأيرلندة وسويسرة، حتى أصبحت قضية البابا فجأة من القضايا الأوروبية الخطيرة الشأن، أما إسبانية فكانت وجهةُ نظرها تتلخص في أن البابا أميرٌ روحيٌّ، فيجب أن يكون تحت حماية جميع الأمم الكاثوليكية بطبيعة الحال.

وقد اقترحت عقد مؤتمر دولي للبحث في القضية البابوية، ورضيت نابولي والنمسة بهذا الاقتراح، وكانت الأخيرة تأمل أن تجعل من البابا — على الأقل — حليفًا سلبيًّا ضد بيمونته، وأدرك جيوبرتي خطورةَ الأمر فارتأى رأيًا جديدًا لبقًا؛ إذ أعلن أن بيمونته لا تؤيد أي مشروع يرمي إلى أن تبت الحكومة الأجنبية في الشئون الزمنية لدولة إيطالية وأنها هي بصفتها دولة إيطالية من حقها أن تتدخل، وقد سعى جيوبرتي لإصلاح البين بين البابا وأهل روما وضمه إلى الحلف الإيطالي بتقديم ملجأ له في مدينة «نيس» والتدخُّل بالقوة لإعادته على رأس دويلاته.

ولقي جيوبرتي تعضيدًا من الحكومة الإفرنسية في مقاومة الفكرة النمسوية الإسبانية، ولم يكن في مقدور رجال الدولة الإفرنسية الثورية إلا أن يشجعوا أحرار روما، وحينما أراد البابا أن يفصل عن الأحرار طلب إلى «كفياك» وزير الخارجية الإفرنسية أن يحميه ضد النمسويين في الخارج وضد الدموقراطية في الداخل ورفضت الحكومة الإفرنسية أن تتدخل بينه وبين شعبه، وأخيرًا لما تخلى البابا عن الأحرار وأخذ يتملق للدول الرجعية لم يسع فرنسة أن تستمر على جعل نفسها حامية له ومدافعة عنه ضد النمسة.

وقد رفض «كفيناك» ولويس نابليون التدخُّل ما دام شخص البابا في أمان، وكانت مهمتُهما لدى بيوس بدون نتيجة، ولا سيما لأن سياسته كانت تميل إلى قبول حماية النمسة وإسبانيا والتخلُّص من قيود الحكم الدستوري، وفي شهر كانون الأول كتب إلى «ابنه الأعز» أي إلى إمبراطور النمسة طالبًا منه المساعدة.

وقد زادت قضية البابا في الطين بلة وأظهرت تفاهة قيمة ضم الدول بعضها إلى البعض الآخر، وظلت القضية في نظر المعتدلين والدموقراطيين عبارة عن العمل لجمع القوى القومية لأجل تجديد الكفاح في سبيل الاستقلال.

ولما كان باريتو في الحكم كان همه أن يجعل بيمونته غير مقيدة بأي تعهد تجاه الدول الأخرى؛ ولذلك فإنه رفض كل محاولة في هذا الشأن، ولما تولى كسالتي الحكم كان قد أرسل روسميني بتأثير من جيوبرتي لفتح باب المفاوَضة مع روما من جديد، وعهد إليه أن يعرض على البابا امتيازات واسعة لم تعهدها الكنيسة في بيمونته مقابل انضمامه إلى الحلف.

وكان البابا قد مضى فوعد جيوبرتي أن يتولى شارل ألبرت على إيطالية الشمالية إذا انتصر وكان لا يزال حينذاك إيطاليًّا مخلصًا يرغب في أن تُطرد النمسة شريطة أن لا يتهم هو بإعلان الحرب على دولة كاثوليكية، وكانت روما وفلورنسة مستعدتين للتوقيع على مشروعٍ لا يتضمن إعداد جيش اتحادي فحسب بل اتفاقًا جمركيًّا وتشريعًا مشتركًا أيضًا.

ولكن حينما تولى بنيلي الحكم عادت بيمونته إلى عزلتها السابقة، ولو انعقد الحلف لأدت الحرب القومية التي نشبت في الربيع الذي أعقبها إلى نتيجة أخرى، ولَمَا كانت جمهورية في روما ولا كان ارتجاع في فلورنسة حتى، ولا احتُلت روما من قبل الإفرنسيين، ولَكان الحكم الدستوري قد استقر في طوسكانه ودويلات الكنيسة، وربما في نابولي أيضًا، ولَكان لقاء ذلك مجلس الاتحاد ساحة تنافس على الأرجحية بين نابولي وبيمونته ولَلجأ كل منهما في سبيل ذلك إلى مظاهرة الاتحاديين، ولَأصبح الكفاح في سبيل جعل السلطة الزمنية رمزًا.

ولَمَّا أدرك بعض الدموقراطيين — وعلى رأسهم مميانتي وجيوبرتي — عاقبة تشتُّت القوى؛ أخذوا يسعون إلى اتفاقٍ يجمع القوى للحرب، وكان المؤتمرُ الاتحادي الذي تَوَفَّقُوا لعقده في تورينو في ١٠ تشرين الأول محرومًا من الصبغةِ الجريئة لجمع الراديكاليين أو لتنشيط سير الحكومات.

أما الدموقراطيون الطوسكانيون الذين كانوا في الحكم حينئذٍ فقد رجعوا إلى مشروع مونتانلِّي القائم بقيام مجلس تأسيسي إيطالي ينعقد في روما ويُنتخب أعضاؤه بالاقتراع العام، وتكون مهمتُهُ الوحيدة الاستعدادَ للحرب في سبيل طرد النمسويين حتى إذا ما تم ذلك يكون إلى البَت في مستقبل البلاد السياسي، وتختار الأمة الملكيةَ أو الجمهوريةَ والوحدة أو الاتحاد.

وقد نسي مونتانلِّي أن الدموقراطيين كانوا حينئذٍ ضعفاء جدًّا وفاقدي التنظيم، حتى إنهم لا يستطيعون أن يُمْلُوا إرادتهم على الحكومات ما عدا طوسكانه وروما، فضلًا عن أن الدموقراطية في بيمونته لم تكن تهتم بالوحدة كثيرًا، ويظهر أن مونتانلِّي كان يميل إلى قيام حكومة اتحادية قوية تمنح كل دولة في الاتحاد حكمًا ذاتيًّا بأوسع حدوده، ومع ذلك فلم يكن ما يحول دون أن يكون المجلس جمهوريًّا أو قائلًا بالوحدة، مما حدا بفرديناند وشارل ألبرت إلى الاعتقاد بأن الموافقة على الاقتراح المذكور معناه انهيارُ عرشهما.

ولما بدأ مونتانلِّي في مذكراته للعمل المشترك أخذتْ صعوبات الاقتراح تظهر بجلاء، وكان جائزًا أن يتفاوض مع «جرازي» لاجتذاب بيمونته ونابولي إلى المشروع وإغرائهما بتقسيم دويلات الكنيسة إلى ثلاثة أقسام، بَيْدَ أن بيمونته رفضت الموافقة على أي تنظيم خارجي أو داخلي يقيد حرية عملها في موضوع الملكية في شمال إيطالية.

والواقع أنها كانت تفضل أن لا تشترك الحكومات الأخرى في الكفاح إلا قليلًا؛ حتى تحتكر هي ثمرات الانتصار؛ فلذلك كان جوابُ بنيلي لمونتانلِّي: «يجب علينا الآن أن نقصر اهتمامنا على موضوع الحرب، لا المجالس التأسيسية.» ولما رأى جيوبرتي أن المفاوضات طالتْ بلا جدوى قَدَّمَ اقتراحًا جديدًا يتضمن الاتفاقَ على أسسٍ لا يمكن لطوسكانه أن تقبلها، ولما رأى مونتانلِّي تقلب بيمونته أخذ يسعى لقيام مجلس تأسيسي من قبل طوسكانه وروما من دون انتظار الدول الأخرى.

وكان يأمل هو وجيرازي إمكانَ اندماج الدولتين المذكورتين في دولةٍ قوية تقوم في المركز بفضل وطنيتهما التي تقل أنانية عن وطنية بيمونته أو نابولي.

وجد مونتانلِّي أهل روما على استعدادٍ للنظر مبدئيًّا في اقتراحه، وبينما كانت العناصرُ المعتدلة والدموقراطية في حالة ضعف في بيمونته كان الدموقراطيون في روما — مثل زملائهم في طوسكانه — هم الفائزين، وقد شَلَّ هروبُ البابا حركة الدولة، وأخذت روما تسير نحو الجمهورية، ولكن روما هذه من دون البابا شيءٌ لا يتصوره العقل، فخروج الأغنياء وفقدان المراسم الدينية قد جَرَّدا المدينة من مظاهر أبهتها وبعثا القلق في نفوس سكانها، حتى إنه لما وصل غاريبالدي إليها في شهر كانون الأول لم يلق فيها الحفاوة اللازمة.

وكان قسم من الحرس المدني على استعدادٍ لأنْ يكون في جانب البابا إذا ارتضى بقيام حُكْم دستوري، وكانت في الحين ذاته فئةٌ قد اعتزمت أن تُعارض أي تفاهُم مع البابا، وكانتْ صحافة المتطوعين والشرطة والقسم الأعظم من الحرس المدني بجانب هذه الفئة وقد أدت الأعمال الرجعية في «جايته» إلى رد فعلٍ نَشَّطَ دعاية المتطرفين.

وأخذ الشعب يعتنق — بالتدريج — فكرةَ استقلال جديدة، وأخذ مع ستريني يفضل أن يرى روما عاصمة إيطالية بدلًا من أن تكون عاصمة الكثلكة، وأخذ عملاء مونتانلِّي وغاريبالدي يتظاهرون في الأندية داعين إلى خلع البابا خلعًا نهائيًّا.

وكان مميانتي زعيم الأكثرية في المجلس النيابي، ومع أنه كان يُصرُّ على فصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية؛ فإنه لم يكن يوافق على اقتراحٍ يركن إلى تدمير سلطة البابا، وكان زعيما المعارضة «سترييني وكارلو بونابارتة» وطنيين غير متطرفين.

وكانت مقاومة الموظفين الرُّهبان السلبية قد شَلَّت السلطة الإجرائية، فأخذت ضرورة تأليف حكومة قوية مهما كلف الأمر؛ تبدو للعيان يومًا فيومًا، وأخذ أنصار البابا ينتهزون الفرصة لإعلان العصيان.

وبينما كانت النمسة تهدد الشمال كان أهل روما أنفسهم لا يدرون أيُعدُّون فرنسة من أصدقائهم أم من أعدائهم، ولما رأت الروماني أن شارل ألبرت لا يشجع حركة الانضمام إلى بيمونته أخذت تطالب بحكومةٍ تهدئ البلاد وتحميها من رجال الإكليروس والنمسويين، وقد قرر المؤتمر الذي اشتركتْ فيه أندية الروماني تأييدَ فكرة انتخابِ مجلس تأسيسيٍّ بالاقتراع العام يبت في مصير الدولة.

وحمل الدموقراطيون هذا الاقتراح إلى روما فتحزبت جمعية «جونتا» له، وبينما كان المجلس على استعدادٍ لأنْ يقترع ضد الاقتراح قررت الحكومة حل المجلس، وعلى إثر ذلك استقال مميانتي فتألفتْ وزارةٌ برئاسة الأسقف الدموقراطي موزاريلي، وحاول زوكي الذي لم يعد يثق بالحكومة أنْ يسوق معه حامية بولونيه إلى «جايته»، فلم يَسِرْ معه أكثر من مائة جندي إلى الحدود.

وأظهرت الانتخابات التي جرت في شهر شباط قلة أنصار المعتدلين، وكاد يصبح المجلس مؤلفًا من طبقة الزُّراع والصناع من أهل دويلات الكنيسة لولا وجود مازيني وغاريبالدي وخمسة آخرين، وقد اجتمع النواب في ٥ شباط وتَباحثوا فورًا في القضية الدستورية، وكانوا يترددون في اختيار شكل الحكومة، وكانت فئة صغيرة قد فازت في الانتخابات على أساس برنامج جمهوري، وكانت الوزارة على استعدادٍ دائم لاستدعاء البابا إنْ رضي بإقصاء أنطونللي وضمن قيام الدستور، وكان مميانتي معارضًا للجمهورية لأسبابٍ دستورية من جهة؛ ولأن الجمهورية تقيم عراقيلَ في سبيل الاتحاد من جهةٍ أخرى.

أما مونتانلِّي فاستعمل نفوذه للحيلولة دون أي قرار لا يفوز برضاء الأمة بأجمعها، ويظهر أن إيطالية لم تتحمس للجمهورية إلا قليلًا؛ فطوسكانه مترددة وبيمونته ملكية بينما كانت فنيسيه وصقلية لا تثقان باتفاق روما، أما حركة الارتجاع الملكية في نابولي فكانت هي الفائزة، بَيْدَ أن المتحمسين كانوا يتوقعون أن يؤدي إعلانُ الجمهورية من أعلى الكابتول إلى تحمُّس الشعب الإيطالي في جميع أنحاء إيطالية وينفخ في الأمة نشاطًا عظيمًا ويغلب العروش الأخرى.

وبعد أربعة أيام من اجتماع المجلس التأسيسي أعلنت الجمهورية بمائة وعشرين صوتًا من مائة واثنين وأربعين، ثم أعلن المجلس إلغاء السلطة الزمنية البابوية، وعرض على البابا ضمانات للتمتع بامتيازاته الدينية فقط.

وقد تأثرت سياسة طوسكانه بالاندفاع في روما، وكانت وزارة مونتانلِّي وجيرزاني تتمتع برضاء عام حتى إن خيرة المعتدلين كانوا على استعدادٍ لمنحها ثقة كبيرة، وكان منهج الوزارة يتضمن إصلاحَ الاعتماد المالي وتنظيم الجيش والحرس المدني وتطهير الإدارة من العناصر الفاسدة والعمل على استتباب الأمن العام.

وحاول جيرازي تأليف الشرطة وإلغاء التسول وإقصاء المتذمرين وغير اللائقين من المتطوعين، ولكن تنفيذ المنهج لقي صعوباتٍ كبيرةً حتى أصبح العمل متعذرًا، حاول جيرازي عبثًا تنظيم الأعمال وأخذ المعتدلون المتشددون يضعون العراقيل أمام الحكومة، أما الدموقراطيون المتطرفون في فلورنسة فأخذوا يحملون على الاقتراع الضيق، ولما رأى جيرازي كثرةَ الشعب عليه سعى لتأديب مُثِيري الفتن، بَيْدَ أنه لم يكن لديه أية قوة واعتبره الدموقراطيون خائنًا، وفي ١٠ شباط اجتمع المجلس وكانت أكثريتُهُ من المعتدلين، ومع أنها أكثريةٌ قليلةٌ إلا أنها كافية.

ووعد خطاب العرش بإقامة مجلس لطوسكانه وحدث بعد إحدى عشر يومًا أنْ أعلن المجلس النيابي في روما نفسه مجلسًا تأسيسيًّا لجميع إيطالية، فرأى الدموقراطيون القوميون فيه مجلس نواب إيطالي، وفرصة سانحة لجمع طوسكانه وروما في دولةٍ أخرى واحدة، وكانوا يعلمون أن النواب الرومانيين يجعلونهم يكسبون أكثرية دموقراطية لا يستطيعون أن ينالوها في بلدهم، فطالبوا بأن ترسل طوسكانه ممثلين عنها إلى روما، وكان جيرازي قد ضمن مخالفة الأمير للاقتراح بواسطة أخي السفير الإنجليزي، واغتبط المعتدلون لهذه الفكرة وأذعن مجلس الأعيان للفكرة.

وكان الأمير يتردد في الاشتراك في قرارٍ من نتائجه أن يُحرم البابا من سلطته الزمنية؛ ولذلك فإنه كي يتخلص من ضغط الرأي العام الإفلورنسي عليه وليكسب الوقت الكافي للاطلاع على أخبار البابا؛ أَجَّلَ التوقيع على القانون، وفي ٣ شباط ترك فلورنسة بحجة تافهة وذهب إلى سيفه، ولما لحقه مونتانلِّي لحمله على العودة أبدى ارتياحه نحو الوزارة ونيته في العودة، ولكن في اليوم الذي وصل مونتانلِّي إلى سينه استلم الأمير كتابًا من البابا يُلِحُّ عليه أن يترك البلاد.

وكان راديتسكي شَرَطَ عليه أنْ يترك البلاد ليبادر إلى نجدته حالما ينتهي من أمر بيمونته، فهرب إلى الميناء الصغير «سانتو ستفانو» الواقع على حدود دولته الجنوبية، وأعلن للطوسكانيين بأنه فَرَّ؛ لكيلا يوقع على قانون يَجُرُّ عليه الحرمان الديني.

ولما شاع الخبر في فلورنسة تظاهرت الجماهير داعية إلى خلع الأمير، وطلبت إلى المجلس بأن يقرر تأليف حكومة مؤقتة وبالفعل فإن المجلس بزعامة كابوني وريكاسولي قرر بالإجماع إناطة مهمة تأليف الحكومة بجيرازي مونتانلِّي ومازيني.

وقد أيد الدموقراطيون هذا القرار لأنه خطوةٌ نحو الجمهورية، ورأى فيه المعتدلون الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون الجمهورية، وقد أبرق جيرازي إلى ليفورنه نبأ خلع لئوبولد، وأرسلت الأوامر إلى الإيالات لتجنيد المتطوعين والتعاوُن مع الأندية، ولما وصل مازيني إلى ليفورنه استطاع بصعوبةٍ أن يقنع المدينة بأن تكف عن عزمها على إعلان الجمهورية، ولكن وجود الأمير في سانتا ستفانو قد شجع المخلصين له وجميع عناصر الشعب الذين استفادوا من اسمه فأحرق عمالُ السكة الذين سبق فأُخرجوا من العمل محطةَ أمبولي، وسعى القرويون بالقرب من فلورنسه إلى اقتحام المدينة، فقُوبلوا بالقوة، ويعود الفضل إلى جيرازي في إنقاذ طوسكانه من الحرب الأهلية.

وأعد مازيني في ١٨ شباط اجتماعًا آخر وتظاهر الجمهور حينئذاك لتأييد الجمهورية والوحدة مع روما، وقد قبل جيرازي بعد جدالٍ عنيف مع مازيني القول باسم الحكومة المؤقتة بالجمهورية، وفي اليوم التالي أصدرت الحكومة المؤقتة بيانًا أشارت فيه إلى الجمهورية التي عادت إلى دارها بعد ٣١٨ سنة.

أما الأمير وقد أصبح يرزح تحت عبء الخيانة فظل مترددًا ولا يعلم فيما إذا كان ينبغي له أن يرمي بنفسه إلى أحضان بيمونته لتساعده أم أنه يؤجل سير القضية القومية فيرجع نادمًا إلى حضيرة هبسبورج، وقد احتج أولًا على القرار زاعمًا بأنه لم يفكر قَطُّ في تَرْكِ الدولة، ثم قبل تكاليف جيبورتي بالمساعدة وتداول معه في خطةٍ تؤدي إلى دُخُول القوات البيمونتية.

ولما ألح عليه البابا وفرديناند بأنْ يدع بيمونته وشأنها وأن يلجأ إلى نابولي أبحر إلى جايته، ولما فشلت حركة لوجيه لم يلق أي مساعدة من الأهلين وانفض عنه رجاله وقبل أن يصل جيرازي ببعض المتطوعين والجند النظامي هرب الأمير إلى بيمونته، وبذلك قبلت طوسكانه بأجمعها الحكومة سواء أكان ذلك طوعًا أو كرهًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤