الفصل الخامس والعشرون

بلومبير

١٨٥٨-١٨٥٩

لم تكد تنتهي الانتخاباتُ حتى جَابَهَ كافور أزمةً غير متوقعة، وتفصيل تلك الأزمة أن وطنيًّا إيطاليًّا اسمه «أورسني» كان مازيني يَثِقُ به ويعتمد عليه في مشاريعه الثورية، وقد أُبعد عن بيمونته ووقع بيد الشرطة النمسوية فزَجَّته في السجن، ثم استطاع أن يفر منه بأعجوبة أدهشتْ أوروبا كلها، ثم انفصل عن زعيمه مازيني فحنق المازنيون عليه حنقًا حمله على أن يُقْدم على عمل جريء عظيم؛ بغية إسكات الذين بالغوا في انتقاده والتهجُّم عليه، فعقد النية على اغتيال الإمبراطور لويس نابليون؛ لأنه يعتبره المستبد الذي سحق الجمهورية في روما وباريس والذي اتخذ من نفسه أداةً لمقاومة الثورة.

وكان يعتقد أن الإمبراطور قد تَحَالَفَ مع النمسة لسحق إيطالية، واقتنع بأنه لن تنال إيطالية حريتها إلا إذا انسحب الإمبراطورُ من الميدان، وفي ذات مساء مِن شهر كانون الثاني ١٨٥٨ بينما كان الإمبراطور وزوجته الإمبراطورة يستقلان المركبةَ نحو الأوبرا أُلقيت عليهما ثلاثة قنابل فلم يُصابا بأذًى، وإنما أصابت القنابل مائة وخمسين رجلًا من الجماهير المحتشدة بين قتيلٍ وجريح، تلك هي حادثة أورسيني.

وقد أخذت جرائدُ باريس عقيب الحادث تصب لعناتها على إنجلترة التي حَمَتْ أورسيني، وعلى بيمونته التي أصبحت مخبئًا للجناة وقاتلي الملوك، وطالبت الحكومةُ الفرنسيةُ لندن وتورينو بأن تَحُدَّ مِن نشاط اللاجئين وتُسكت جرائدهم.

وقد تأزمت الحالة حينًا وخشي الأحرار أن يؤدي الحادثُ إلى فقدان عطف الإمبراطور على إيطالية فأصبح موقف كافور صعبًا، وقد حاول قبل حادثة أورسيني كثيرًا تهدئةَ الإمبراطور فطارد المتآمرين من أهل جنوة بشدة وطرد اللاجئين بالمئات، إلا انه لم يشأ أن يهينَ كرامة بلده بالخضوع إلى رغبات الإمبراطور، فأخذ البعضُ مِن أنصار كافور المتحمسين من زملائه يتذمرون، وأبت عليه عزةُ نفسه وكرامةُ وطنه أن يُذعن.

فلما أرسل الإمبراطور كتابًا بخط يده يتوعد فيكتور عمانوئيل؛ أجابه الملك عملًا بنصيحة كافور بأنه لا يرضى قَطُّ بالضغط عليه، واقتصرت التدابيرُ التي اتخذها كافور على تعديل قانونِ المطبوعاتِ بحيث صار يخول الحكومة معاقبةَ مَن يكتب، محبذًا المؤامرة ضد الملوك الأجانب بناء على طلب الحكومة ذات الشأن.

وعلى الرغم مِن أن لائحة القانون كانت معتدلة فإن أعضاء اليسار لم يتحمسوا إليها، ولكن رتازي أيدها فأقرها المجلس بأكثرية ساحقة.

وما كاد الذعرُ في باريس يزول حتى أخذ الإمبراطور يعطف على القضية الإيطالية أكثر من قبل كأن حادثة أورسيني دفعتْه إلى ذلك بدلًا مِن أن تزيدَ في غضبه؛ ذلك لأنه رغب في استمالة جانب بيمونته في حالة وُقُوع حرب مع إنجلترة، كما وإن أورسيني قبل إعدامه أرسل إلى الإمبراطور كتابين ناشده فيهما بالدم الإيطالي الذي يجري في عروق الإمبراطور، وأنذره بأن السلم في أوروبا لن يستقر وأن عرشه لن يتوطد ما لم تَبلُغْ إيطالية أمانيها القومية، وكتب له يقول: «أنقذوا إيطالية؛ تنالوا تقديس خمسة وعشرين مليون إيطالي.»

وكان لهذه الاستغاثة تأثيرٌ عميقٌ في نفس الإمبراطور، وبعد أن ضحى ببولونيه التي كان يعطف قبلًا على آمالها رغبة في التقرُّب من روسية؛ اشتدتْ حماستُهُ في تنفيذ الرغبة التي طالما تاقتْ نفسُهُ إليها لإنقاذ إيطالية وهنغارية، وكان كافور قد جلب رضاء الإمبراطور بالوقوف إلى جانبه في خصومتِهِ ضد إنجلترة والنمسة في مسائلَ ثانوية أثارتْها معاهدة باريس، وكان الأمير جيروم نابليون ابن عم الإمبراطور الذي يُدير جماعة الأحرار وأعداء الإكليريكيين في بلاط الإمبراطور قد بذل كل نفوذه في وضع أساسِ حِلْفٍ إفرنسي-إيطالي.

ودعا الإمبراطور كافور في ٢٠ تموز إلى لقاء في قصر بلومبير خلسة؛ بغية عقد ميثاقٍ نهائيٍّ لإنقاذ إيطالية، وأسفر الاجتماعُ عن توفيق لكافور؛ إذ وعده الإمبراطور بأنْ يهاجم في الوقت المناسب وأنه سيجهز لذلك مائتي ألف جندي على أنْ تجهز بيمونته نصف هذا العدد، وكان الإمبراطورُ قد توقع حياد روسية وإنجلترة في نزاعٍ ينشب بين فرنسة والنمسة، ووعد أن يطلب إلى النمسة بأنْ تتخلى عن جميع ممتلكاتها في إيطالية، ولم يشأ الإمبراطور أن يمس أراضي البابا.

بَيْدَ أن كافور ألح على ذلك فتم التفاهُم بينهما حول ضم أراضي الرسالة إلى بيمونته بالإضافة إلى لمبارديه وفنيسيه والدوقيتين، ومن المحتمل ضم المارك أيضًا وبذلك تتأسس في شمال إيطالية دولةٌ ملكية يبلغ نفوسها أحد عشر مليونًا، أما طوسكانه وأومبريه فتؤلفان دولة ملكية في وسط إيطالية قد تملكها الأميرة الوصية في بارمه، أما البابا فيحتفظ بروما والكماركة بحماية حامية إفرنسة ويترك فرديناند لرحمة رعيته.

وكان الإمبراطور يفضل بأن يرفض مورات عرش نابولي بعد الثورة التي لا بد من نشوبها في نابولي، ثم تؤلف هذه الدول الأربع الاتحاد الإيطالي، ثم جرى البحث حول مغنم الإمبراطور من هذه المساعدة واشترط الإمبراطور ما يلي:
  • أولًا: لا تستغل الحرب لتشجيع فكرة الثورة بل يجب أن تستند الثورة الإيطالية أو الحرب إلى أسبابٍ سياسية تسوغها وتدل على مشروعيتها في بلاده وفي إنجلترة، فتقرر اتخاذ وطنية مقاطعة «ماساكراره» التي كانت في حالة عصيان مستمر ضد دوق مودينه حجة يسهل التذرُّع بها.
  • ثانيًا: أن تتزوج الأميرة كلوتيلدة بنت ابنة فكتور عمانوئيل من الأمير نابليون، وأخيرًا وهنا الثمن الحقيقي التخلي عن إيالة صافويه ونيس لفرنسة، ثم لوح باستعداده لتأجيل البحث حول نيس ولكن أصر على أخذ صافويه لتمتد حدود فرنسة إلى جبال الألبة، وبذلك تنال فرنسة — على الأقل — حدودها الطبيعية في الجنوب الشرقي، ولا سيما لأنه يطمع أن تساعده هذه الحدود في المستقبل على توسيع أرض فرنسة إلى ضفاف الرين.

وظل الموقفُ — رغم النجاح الذي ناله كافور في بلومبير — صعبًا والغاية بعيدة المنال، ولقد أظهر كافور جرأةً فائقةً في زج بلاده في مأزقٍ لا يمكن الرجوع عنه، وأخذت بيمونته تتقدم نحو الحرب في سرعةٍ وعزم، وما هي إلا أشهُر قليلة حتى صار لا بد لبيمونته من أن تخوض غمار حرب فاصلة، هي حرب حياة أو ممات للمحافظة على شرفها وسمعتها، وإذا لم تقم فرنسة بمساعدتها فلا بد من أن تسحقها جيوش النمسة، وما لم تحارب القطعات الإفرنسية في جانبها فإن الشجاعة البيمونتية وحدها لن تخلصها من مخالب جارتها الجبارة على أن المساعدة الإفرنسية لما تضمن.

ولا شك في أن الإمبراطور كان صادقًا في وعده لكن الصعوبات التي يلاقيها في تمهيد المجال كانت عظيمة، وحسبنا أن نذكر قدرة الحزب الإكليريكي على حشد قواه للحيلولة دون حربٍ تؤدي حتمًا إلى الهجوم على سلطة البابا الزمنية، وكان الإمبراطور لا يجرؤ على إغضاب هذا الحزب، ثم إن رجال المال في باريس كانوا يخشون الحرب وتأثيرَها في السوق، ولم ينظر الأحرارُ بعين الرضا إلى سياسةٍ من شأنها أن تقوِّي سمعة الإمبراطورية، وأن تزيد من نُفُوذ الإمبراطورية بحيث تقضي على الاستياء في الداخل. وكان وزراء نابليون يجهلون نبأ اجتماع بلومبير جهلًا تامًّا، ولما اطلعوا عليه لم يكتموا الملك معارضتَهم إياه.

هذه بعض العقبات في الداخل، أما في الخارج فكانت أشد منها في الداخل، وكان تذليلها أصعب منالًا، فمنها أن الإمبراطور كان يعلم أن إنجلترة سوف تبذل كل جهدها للمحافظة على السلم مع أن الوزارة البروسية وقتئذٍ كانت حذرة من فيينا، إلا أن الرأي العام الجرماني الذي يعطف على فكرة الاتحاد الجرماني كان يعتبر لمبارديه وفنيسيه من أراضي الاتحاد المنشوي وأن «فيرونه ومانتويه» من المواضع الأمامية للوطن الجرماني، فهو — والحالة هذه — قد يضغط على حكومة برلين ليحملَها على محالفة النمسة.

ثم إنه رغم أن صداقة فرنسة لروسية كبيرة، ورغم أن بروسية تغتبط لضياع لمبارديه من النمسة؛ فإنه كان من المشكوك فيه جدًّا بأن تقدم روسية المستبدة مساعدتها أو عطفها المثمر في حربٍ تستهدف فوزَ القضية الوطنية، ولم تكن العقباتُ التي تعترض كافور في سبيل خَلْق الفرصة أقلَّ شأنًا من تلك التي يُلاقيها الإمبراطور.

وقد عزم كافور أولًا: على أن يجبر النمسة إلى الحرب بإغضابها، ولَمَّا لم يوفقْ إلى ذلك أخذ يترقب سنوح فرصة قد تنجم عن تطورات القضية الشرقية أو عن تمرد يحدث في كراره، وظل مترددًا في قضية دولة آل لورين في طوسكانه، هل يدبر الدسائس ضدهم بغية إلحاق طوسكانه ببيمونته في الوقت المناسب، أم عليه أنْ يصرف النظر عن ذلك لأن الدول الكبرى قد لا تُوافق على ذلك.

ثم إنه كان — في الوقت نفسه — ينظر بعين القلق إلى رغبة الإمبراطور لويس نابليون في تأسيس ملكية إيطالية الوسطى، ونصب أمير إفرنسي على عرشها؛ ولذلك فإن استبقاء آل لورين في عرشهم ضمانٌ ضد تنفيذ رغبة الإمبراطور، وعليه تلقَّى مندوبُهُ في فلورنسة تعليماتٍ تقضي عليه بأنْ يبذل جهده في استمالة أمير طوسكانه إلى جانب الأحرار.

وبعد أن وثق كافور من معاضدة الإمبراطور إياه وَجَّهَ اهتمامَه لحل المشاكل الداخلية، التي لا تقل خطورة عن المشاكل الخارجية، إنه لم يكن يخشى شيئًا من جانب بيمونته، وكان يعلم بأنها سوف تلبي نداء الملك وتقاوم العدو مهما كانت قوته، ولما عرض لائحة قرض جديد بأربعين مليونًا من الليرات وافق المجلس عليها بأكثرية ساحقة، واقترح حزب اليسار بزعامة رتازي ضد اللائحة المذكورة، ولكن كافور أطلع رتازي على محادثات بلومبير فوعده بالمساعدة.

ثم دلت موافقة مجلس الأعيان على اللائحة على انحياز المحافظين الشيوخ إلى جانب القضية القومية، ولكن جهود بيمونته وحدها لا تكفي لظفر القضية الإيطالية، وإنما الواجبُ كان يقضي عليه بأنْ يمهَد في إيطالية توافق تام في الآراء تتحطم أمامه كل معارضة سياسية ويكون من القوة بحيث تظفر فرنسة إلى الأخذ بيده وتشجع على ألا تقبل من حليفتها إلا مغنمًا شريفًا.

وكانت الجمعيةُ القومية قد سعتْ كثيرًا إلى تنظيم هذا الاتفاق في الآراء، وأخذ كافور يسعى — من جانبه — لإكمال العمل الذي بدأتْ فيه الجمعية، وكانت سياستُهُ في جَرِّ النمسة إلى الحرب تستند في مجموعها إلى التذرُّع بالحجة القائلة بأن لمبارديه وفنيسيه تُكابدان اضطهادًا لا يُطاق، وأما إذا لم يستطع التذرُّع بهذه الحجة فإن الحرب تَفقد سببها الأصلي.

ولم يكن للنمسة حليفٌ سوى إنجلترة، أما فرنسة وروسية فأخذتا تُضمران لها الخصومة أكثر من قبل، وأما بروسية فكانت تترقب بفارغ الصبر الفرصة التي تمكنها من استلام صولجان الزعامة في ألمانية فما على النمسة إذن سوى أن تظهر أمام العالم المتمدن بمظهر غير المستبد ولا سيما بعد أن اتهمها مؤتمر باريس بالاستبداد فرفعت الحجز عن الأملاك في نهاية ١٨٥٦، ونصبت الأرشيدوق مكسمليان أخا الإمبراطور الصغير حاكمًا عامًّا على لمبارديه وفنيسيه لتهدئة الحال وإزالة الاستياء فيهما.

وكانت آراء مكسميليان السياسية مشبَّعة بالتسامح، ولو خُير في الأمر لاختار إعطاءَ الدوقيتين إلى بيمونته وإنقاذ الروماني من الاضطهاد بضمها إلى الإمبراطورية وتأليف اتحاد إيطالي بزعامة البابا، ولَكان منح لمبارديه وفنيسيه حكمًا ذاتيًّا واسع النطاق ومؤسسات تمثيلية وجيشًا إيطاليًّا.

وكانت شمائلُهُ الشعبية وإسرافه في الإنفاق واعتمادُهُ على استشارته رجال البلد دائمًا، ورغبته الصادقة في مداواة أمراض الإيالتين والنشاط الذي بذله في هذا السبيل، ذلك كله جعل المعارضة تُلقي سلاحها، والتف حوله بعض الأشراف المحافظين وبقايا الحزب المعارض لبيمونته، ذلك الحزب الذي أخلى الميدان بسرعة، وتَخَوَّفَ الأحرارُ وكافور من عواقب هذه السياسة التي يسلكها ماكسميليان وأنْ تؤدي إلى إقبال لمبارديه على التفاهُم مع الأجنبي، ولم تكن مخاوفُهُ في محلها لأن أهل لمبارديه وفنيسيه كابدوا من سوء الحكم القاسي منذ عشر سنوات ما يجعل التفاهُم مستحيلًا، وما جعل وداعة الميلانيين تنقلب إلى شراسة شديدة.

وقد صم الأحرار آذانهم عن سماع وعود مكسيميليان الخلابة، ولما رفضت الحكومة المركزية في النمسة مقترحات مكسيميليان انهار آخر أمل في التفاهُم، وكان الحزب العسكري ما يزال مسيطرًا على الأمور في فيينا.

وحدثت حادثتان جنونيتان قضتا على مساعي الأرشيدوق: أولاهما تخفيض قيمة العملة بتوحيدها في جميع أنحاء الإمبراطورية، وثانيها توسيع نطاق التجنيد بمنع المكلفين بالخدمة العسكرية من الزواج قبل الثالثة والعشرين من العمر، الأمر الذي أحدث تأثيرًا سيئًا في نفوس الناس وبث روح النفرة في نفوس القرويين.

وغدا كافور طليقَ اليد في تنفيذ خططه المتعلقة بباقي إيطالية، وتجنيد جميع عناصر الأُمَّة وكفاياتها لاستخدامها في المعركة القادمة، وكان أنصارُه المخلصون الذين يغتبطون بتأسيس مملكة قوية في شمال إيطالية؛ هم الأكثرية في بيمونته ولمبارديه وفنيسيه والدوقيات، ثم إن دُعَاةَ الوحدة الذين يؤلفون الجمعية القومية كانوا يزدادون يومًا فيومًا.

أما أنصار الحكم الذاتي، ولا سيما في طوسكانه ونابولي وهم القائمون باستغلال الدول الصغيرة والذين ينفرون من روح بيمونته العسكرية المحافظة؛ فكانوا مشتتين هنا وهناك. وأما الجمهوريون فقد أخذ عددُهُم يتضاءلُ ولكنَّ صفوفهم لم تكن تخلو مِن العناصر ذات الرجولة القومية والحيوية.

ولكي يستميل كافور أنصار الحكم الذاتي إليه اجتنب كل سياسة رسمية تستهدف ضَمَّ إيطالية الوسطى والجنوبية إلى بيمونته، وسعى إلى استمالة الأمراء إلى القضية القومية بالقضاء على الشُّكوك التي ولدتْها الحركة الإلبرتية سنة ١٨٤٨.

وبموت مانين في خريف سنة ١٨٥٧ أصبحت الجمعية القوميةُ تحت سيطرة باللافيجيو وسكرتيره الغيور لافارينا، مع أنها لم تكن أداةً بيد كافور، إلا أنها كانت تُلبي أوامره في الأزمات، ولما كان موضوع الوحدة دون الاستقلال هو مثارَ الخلاف؛ فإن شعار الاستقلال حل محل الوحدة الإيطالية، وصدرت الأوامرُ بإيقاف أي جدل سياسي في نهاية الحرب الاستقلالية، وكانت الجمعية القومية قويةَ النفوذ في الإيالات النمسوية وفي الدوقيات، وبلغت الحماسةُ الوطنيةُ والوعيُ القومي في لمبارديه حدًّا عظيمًا، حتى أصبح العمل للحيلولة دون الانفجار من مشاغل الجمعية الصعبة.

أما في الروماني فاتحدت التشكيلات القومية المختلفة بانضمام بعضها إلى البعض الآخر وانبثتْ لجانُها في جميع أنحاء الإيالة، أما في صقلية فكان تفوُّق الجمعية على الجمهوريين مستمرًّا، بَيْدَ أنها لم تستطع أن تقوم باستعدادتٍ فعلية في نابولي.

واستخدم كافور الجمعية القومية في جمع المتطوعين من جميع أطراف إيطالية، وهو لم يكن يعلِّق كبيرَ أهميةٍ على استخدام هؤلاء من الوجهة العسكرية، إنما كان يدرك خطورة إرسال أكبر عدد ممكن من هؤلاء إلى ساحة الوغى، وأثر ذلك في منع الإمبراطور من الحصول على جميع أكاليل الانتصار، ولإعطاء بيمونته أقوى صوت فعال في التنظيم الذي يلي الانتصار، فضلًا عن أنَّ حركة التطوُّع قد تدفع النمسة إلى إعلان الحرب، وسار كافور في خطته في إحداث الشغب في ماسة كراره لخلق ذريعة الحرب.

وقد أقر مشروع لافارينا في إعداد الثورة بإرسال غاريبالدي مع المتطوعين لمساعدة الثوار مؤقتًا بأن الحركة المذكورةَ سوف تضطر النمسة إلى اتخاذ تدابيرَ حاسمة، فاستدعى غاريبالدي إلى تورينو وكان يثق وقتئذٍ بكافور والملك ثقة عمياء، وعهد إليه بالأمر فقَبِلَ المهمةَ التي أُنيطت به في شوقٍ ولهفة ورجع مغتبطًا بقُرْب نُشُوب المعركة.

وعلى الرغم من ذلك كان الكثيرُ من الأحرار لا يزالون مترددين، ويرجح سبب ذلك إلى تقصير كافور في مساعيه السرية، ومع أن المقربين إليه كانوا يعلمون بأن الحرب سوف تنشب في الربيع القادم، إلا أن كافور لم يستطع إقناعَ الجماهير بنِيَّاتِهِ.

وكانت لمبارديه تترقب الحرب بفارغ الصبر، وفي المراسم التي جرتْ في أوائل سنة ١٨٥٠ فاجأ الإمبراطورُ السفيرَ النمسوي بقوله بأنه يأسف «لأن العلاقات بين الإمبراطوريتين لم تكن حسنة كما يجب أن تكون.» وكان من تأثير هذا القول أن اشتد التوتر بين فرنسة والنمسة وعَدَّتْه أوروبا نذيرًا بالحرب.

ومع أن كافور فزع لهذا التصرُّف المبتسر إلا أنه علم بأن مصير بيمونته أصبح في الميزان، فما عليها إلا أن تستغل ذلك التصريح الجريء بمناسبة افتتاح المجلس النيابي في ٧ كانون الثاني، كتب كافور خطاب العرش وأشار فيه «إلى أن السنة الجديدة ليست صاحية، تمام الصحو.»

ولما اعترض زملاؤه على هذا القول واعتبروه شديدَ اللهجة، استشار الإمبراطورَ فصححه بما هو أشدُّ لهجة؛ إذ أضاف إليه العبارةَ التالية بدلًا من عبارة كافور: «ولا يسع الملكَ إلا أن يصغى إلى صرخات الاستغاثة الموجهة إليه من أكثر أبناء إيطالية.» ودلت الحماسة البالغة التي تجلت في المجلس وأروقته حين تلاوة ذلك الخطاب على أن تلك الكلمات الجريئة قد أصابت المرمى.

وهكذا اتضح للعالم أجمع بأن الإمبراطور عازمٌ على الحرب في القريب، وكان جواب النمسة على الخطاب أنها أرسلت فيلقًا إلى لمبارديه ورغم أن الإمبراطور كان يميل إلى تأجيل المخاصمات إلى أنْ تتم استعدادتُ جيشه وتصبح النمسة منعزلة تمامًا؛ فإنه لم ير بدًّا من أن يأمر سرًّا قواته المرابطةَ في ليون بأن تستعد لاجتياز الألبة، وسافر الأمير نابليون إلى تورينو لطلب يد الأميرة كلوتيلدة، وحين وصول هذا الأمير إلى تورينو عقد الحلف الهجومي بين فرنسة وبيمونته في ١٨ كانون الثاني، وقضت معاهدة التحالُف على أن تنظم في حالة الانتصار إيالتا لمبارديه وفنيسيه والدوقيات والروماني.

وإذا أمكن ضم المارك أيضًا إلى بيمونته وتَضم فرنسة إلى أملاكها لقاء ذلك إيالةَ صافويه، أما مدينة نيسي فينظر في أمرها فيما بعد، ونصت الاتفاقية العسكرية التي عقدت في الوقت نفسه على أن تبدأ الحرب بين منتصف نيسان ونهاية تموز، وأن تقدم فرنسة مائتي ألف جندي.

وباغت الإمبراطور وزراءَه في أوائل شباط بعزمه على إصدار بيان بشأن القضية الإيطالية، ثم صدر البيان في صورة رسالة بعنوان: «نابليون الثالث وإيطالية»، أوضح فيها الإمبراطور آراءه في القضية الإيطالية، أما النقاط الواردة فيه فتدور حول تطمين الشعور القومي الإيطالي، ونشل البابا من موقفه الحالي بتنفيذ خطة الاتحاد الإيطالي.

وأشارتْ الرسالةُ إلى أن الوحدة الإيطالية غيرُ ممكنة، وأن نابولي وطوسكانه يجب أن تحتفظا بعرشيهما، وأن تقسم إيطالية إلى ثلاثة أقسام تقسيمًا يتم على حساب النمسة والبابا، ويقول البيان بأن روما يجب أن تُصبح عاصمة الاتحاد على أن تترك المدينة للبابا مع إعادة إصلاح الحكومة ويكون لها جيشٌ تجنِّده البلاد، ومن ثم تنسحب الحامية الإفرنسية، وأظهرت الرسالة بأن النمسة المانع الأصلي للإصلاحات في روما وأنها ضد كل مشروع اتحادي ونوهت بأن فرنسة إذا ما وقعت في الحرب ستُحارب في سبيل روما «أم الأمم».

وكان نبأ حديث الإمبراطور للسفير النمسوي وخطاب العرش قد أضرم النار في إيطالية، فاشتدت الحماسة في نفوس أهلها وتضاعف نشاطُ جميع الوطنيين وانهارتْ جميع الشكوك التي كانت تُساور النفوسَ في إخلاص كافور وترتاب في أي حلف أجنبي لا يثق بمساعدة الإمبراطور، وأدرك الناس أن خطاب الملك قيد الملك في خوض غمار حرب قريبة الوقوع، وكان من قوة تأثيره أن انحاز بقيةُ الجمهوريين إلى جانب الحكومة البيمونتية.

ومع أن الجمعية القومية كانت قد أمالت قسمًا كبيرًا من الجمهوريين إلى جانبها، فإن فئة قوية من الجمهوريين كانت لا تزال في جنوة تتردد بين غاريبالدي ومازيني، فعزم مديجي ونينومديكسو وبرتاني — وسيلعب هؤلاء الثلاثة دورًا خطيرًا في المعركة القادمة — على مساعدة حكومة بيمونته مساعدة فعالة، أما مدينة جنوة التي كانت لا تزال منقسمةً بين الإكليريكيين والجمهوريين الذين عارضوا سياسة كافور، فقد انتهى بها الأمر إلى تأييد كافور والملك، أما مازيني فرفض بأنْ يؤيد سياسةَ التحالُف مع فرنسة أو أية سياسة لا تستهدف الوحدة وظل في عزلته.

ودلت حماسة المتطوعين على قوة الشعور القومي الكامن في النفوس، وقد تفاهم كافور مع غاريبالدي على تنظيم قوة من المتطوعين إلا أن السنةَ مضت دون الحصول على نتيجةٍ مجدية، وبدأت حركة التطوع بهروب المجندين اللمبارديين في شهر شباط، وكان لقانون التجنيد الجديد الذي استغلتْه الجمعية القومية تأثيرٌ نافذ في هذا الهروب وعلى الرغم من جميع التدابير التي اتخذتها السلطات النمسوية فإنها لم تستطع أن تحول دونه.

أما حكومة بيمونته فرحبت بالهاربين، ودلت بذلك على أنها مُقْدمة على الحرب، وامتدت حركة التطوع إلى الدول الأخرى وأصبح الذهاب إلى بيمونته مَحَكَّ الوطنية، وأخذ الفتيان مع جميع أنحاء إيطالية يجتازون حدود بيمونته بالمئات، وكانت الحكوماتُ الإيطالية ترى ذلك ثم لا تنبس ببنت شفة، وكان هؤلاء المتطوعون يهرعون للتطوع آتين من مودينه وبارمه وطوسكانه والروماني وأرميريه والمارك، حتى إن كتيبة من كتائب البابا هربت بأجمعها، وكادت مناجم الحجارة في كراره تخلو من العمال، وكان المتطوعون في صقلية ونابولي يفرون بقوارب الصيد.

وقد بلغ عددُ المتطوعين الذين انضموا إلى الجيش النظامي أو كتائب غاريبالدي قبل نشوب الحرب بين ٢٠ و٢٥ ألف متطوع، وقابل غاريبالدي الملك وأباح له أن يختار ضباطه، وأصبح نشيد غاريبالدي الذي وضعه «لويجي موكانتي» نشيدَ المارسليز في إيطالية.

وسعى القوميون المعتدلون وقتئذٍ لحمل الدوق الكبير على الانحياز إلى جانب القضية الوطنية، وكان الهدوء قد خيم على طوسكانه منذ ألغوا الدستور سنة ١٨٥٢، ومن سنة ١٨٥٥ أخلت بقية القوة النمسوية البلاد ولم تكن الحكومة على درجةٍ من السوء بحيث يعم الاستياء في البلد وينجم عنه ثورةٌ أو اضطراب، ولم يستطع الأحرار الذين فقدوا الثقةَ في أنفسهم أن يكتسبوا ثقةَ الجماهير.

على أن الناس أخذوا تدريجًا ينشدون حياة حرة أكثر من قبل، ولا سيما بعد أن توغلت الجمعية القومية في البلاد وأسست فيها حزبًا شعبيًّا قويًّا يدعو لبيمونته ويغتبط بمشاهدة فيكتور عمانوئيل ملكًا على البلاد.

أما الأشراف الأحرار من أنصار الحكم الذاتي، فكانوا يرون أن الحيلولة دون الثورة تقضي بإقناع الدوق الكبير بالسير شوطًا في ميدان القومية الحرة، ومن بين هؤلاء ريكاسولي، ولم يكن يثق بآل بوربون، ويعلم عن خبره بأنه من العبث أن يتوقع المرءُ إصلاحات من أمراء طوسكانه.

وكان يعتقد باستحالة بعث إيطالية إلا بطرد النمسويين، وعليه ينبغي أن توضَع الثقةُ في بيمونته، وإذ اقتضى الأمر فعلى بيمونته أن تقود حرب ثورة شاملة في سبيل استقلال البلاد، ومع أن ريكاسولي — باتفاقٍ مع الأشراف الآخرين — رفض العمل بنصيحة كافور للمطالَبة بالدستور خشية إثارة الحزازات الهامدة بين القوميين؛ فإنه وافق على أن يسعى لإنقاذ الدوق الكبير باشتراكه في الحرب.

وكان البيان الذي صدر في ١٥ آذار بعنوان «طوسكانه والنمسة»، الذي تَحَمَّلَ ريكاسولي وأشرافٌ مهمُّون آخرون تبعةَ نشره؛ يتضمن نقدًا لاذعًا ومعقولًا ضد النفوذ النمسوي في طوسكانه، وجاء في البيان المذكور ما يلي:

لقد انتظرنا عشر سنوات حتى تُكمل بيمونته مهمتها وتُظهر للعالم بأن الإيطاليين يستحقون الحرية، أما الآن فينبغي لطوسكانه أن تقف بجانب بيمونته.

وكان كافور قبل شهر قد استطاع — بواسطة الجمعية القومية — إيجادَ حركة سياسية في فلورنسة تدعو إلى عقد حِلْفٍ عسكري مع تورينو وعرض مندوب كافور على ريكاسولي باسم بيمونته حمايةَ عرش الدوق الكبير، إذا انضم هذا بصورة رسمية إلى بيمونته ووافق على إناطة حكومة طوسكانه بعهدة ريكاسولي في الحرب التي سوف تنشب.

وبينما كان الطوسكانيون ينضمون إلى الأحرار كان الهياج في الشمال يَخِفُّ نوعًا ما، بَيْدَ أن رائحة البارود في بيمونته أخذت تؤثر في نفوس أشد الناس كرهًا للحرب، واستمر جدلٌ خفيٌّ بين حزب بيمونته القديم وبين أنصار الوحدة في الجمعية القومية، وكان كل من هؤلاء يشك فيما إذا كانت صافويه تصبح فريسة تضحي بها بيمونته، وكانتْ أجوبةُ كافور في المجلس النيابي في هذا الشأن لا تشفي غليلًا، وأخذ البعض من أعضاء الوزارة نفسها يفكرون قلقين في الخطر العظيم الذي قد ينجم عن المعركة القادمة، ولكن الأكثرية أيدت — بسرور — سياسةَ الحرب؛ لأنها هي وحدها كفيلةٌ ببلوغ القسم الأول من الآمال، وقد وافقتْ راضية على أنْ يتولى كافور تنفيذ تلك السياسة.

وإذا استثنينا رجال صافويه السياسيين، فإن الجميع قد اتفقوا — بصورةٍ عامة — على ترك الحزازات الحزبية، وقد عبر غاريبالدي عن الشعور العام بالعبارة التالية: «الكل يرغب في وُجُود دكتاتور للحركة، فلتزُل الأحزاب وليكنْ كافور الكُلَّ في الكل.» هكذا نرى أن الأحرار قد فازوا في الداخل فوزًا عظيمًا، ولكن الصعوبات الخارجية كانت ما تزال ماثلة، فالناس كانوا يظنون أن الحلف الإفرنسي قد تم في كانون الثاني، وها هم الآن في شهر آذار ولم تَنْجَلِ آثارُهُ، من أجل ذلك أخذ الشك يخامر النفوس في عزم الإمبراطور على الوفاء بوعوده.

والواقع أن الإمبراطور بعد أن هدأتْ أعصابه أخذ يتأمل في الأخطار التي قد تنجم عن خُططه الجريئة، وعاد إلى تردُّده المعتاد وشغفه بالتسويف، ولا سيما لأن سياسة الحرب أهاجتْ جماعة من المعارضين له وأصبح محتملًا أن يناوئوه، وأخذ الوزراء يقولون له الحرب تضر بالإمبراطورية حتى إن المجلس النيابي أعرب في شباط عن مخاوفه من تلك السياسة وأيقن الإمبراطور أن في مصير الحرب حياته ومماته؛ ولذلك فإنه لم يطمئن إلى أن مصير الحرب سيكون نصرًا له وقبل أن يستعد جيشه استعدادًا تامًّا.

ولم تكن القوانين الدولية تسيغ مهاجمة النمسة بحجة الدفاع عن المبادئ القومية، فقد يؤدي ذلك إلى ظفر خصمه بمساعدة أوروبا الأدبية وربما المادية أيضًا، فلم يكن له مندوحةٌ عن السعي لعقد حلف مع روسية يضمن له حيادًا وديًّا، ويحمل روسية على حشد جيش على حدود غاليسية لتضطر النمسة إلى تقسيم قواتها ويهدد بروسية فيما إذا أرادت أن تساعد النمسة، وكان الإمبراطور يشترك مع اللاجئين الهنغاريين في حبك الدسائس باستمرار، ومما يجدُرُ ذِكرُهُ هنا أن لفرنسة في بلاد الجبل الأسود حينذاك نفوذٌ قوي بحيث يُمكن أن تصبح قاعدةً لإثارة السلاف على النمسويين.

ومع ذلك فإن الموانع كانت لا تزال عظيمةً إذا ساعدت بوروسية النمسة، وإذا ظهرت إنجلترة بمظهر المنتظر، الأمر الذي قد يؤدي إلى الخصومة، وكانت الوزارة الجديدة البروسية تعارض في عقد أي حلف مع النمسة، وجاء في نشرةٍ صدرت في برلين وقتئذٍ وتعزَى إلى بسمارك ما يدل على عطف البروسيين على إيطالية، بَيْدَ أن بلاطات الدول الألمانية كانت خاضعة للنمسة وترغب كثيرًا في إجبار الديت «مجلس الاتحاد»، على أن يتعصب للنمسة في النزاع باعتبار أن القضية تخص ألمانية بأجمعها.

ولا ننكر هنا أن الرأي العام في ألمانية كان ساخطًا على الصحافة الإفرنسية وتهجُّمها المستمر، ومع ذلك لو استطاع نابليون أن يضمن عطف إنجلترة لاضطرت الوزارة البروسية إلى البقاء على الحياد، ولكن وزارة دربي لم تشاطر الشعب البريطاني عطفَه على إيطالية إلا قليلًا، وكانت تهدد كل من يُخِلُّ بالسلم، وكان مالسيوري وزير خارجية إنجلترة يجهل السياسة الإيطالية كل الجهل، ولا يكترث مطلقًا للآمال القومية الإيطالية؛ لذلك أخذ يسعى لإصلاح البين بين فرنسة والنمسة وكانت سياسته ترمي إلى إزالة جميع الحجج التي تسوِّغ نشوب الحرب، وكانت الحجج المذكورة في نظره أربعة: (١) الاحتلال الأجنبي لدويلات الباب. (٢) الاستبداد المخيم على البلاد. (٣) توتر العلاقات بين بيمونته والنمسة. (٤) معاهدات سنة ١٨٤٧ التي عهدت للنمسة بقمع كل حركة في الدوقيات. فإذا ما استطاعتْ إنجلترة بتوسُّط ودي أنْ تتلافى هذه الأسباب أصبح اجتناب الحرب ممكنًا، وقد وافق الإمبراطور على المنهج الإنجليزي بتحفُّظ، أما النمسة فظهر أنها مستعدةٌ للتساهل وأرسلت إنجلترة اللورد «كوله ي» إلى فيينا بمهمةٍ خاصة، ولكن الإمبراطور ظل على تردُّده المعهود، وأخذ هو وكافور ينكران المرة تلو المرة أي تصميم على مهاجمة النمسة.

ثم مال الإمبراطورُ إلى الاقتناعِ بتأجيلِ المخاصمات إلى أجلٍ غير مسمًّى، وازداد تهديدُ ألمانية وأخذ وزراء نابليون الذين كانوا يجهلون معاهدة ١٨ كانون الثاني يبذلون جهدهم لمسك الإمبراطور، وفي ٥ آذار ظهر مقال في جريدة المونيور يؤكد بأن الإمبراطور غير ملزم بمساعدة بيمونته ما لم تهاجم، ولما اطلع فيكتور عمانوئيل على المقال المذكور، أرسل إلى الإمبراطور كتابًا يهدد فيه باعتزال عرشه إذا تخلى الإمبراطور عنه.

ولما رأى الإمبراطورُ أن الأمور سوف تنعقد في تورينو؛ أرسل إلى فيكتور عمانوئيل رسالة مطمئنة، ورأى أخيرًا أن أحسن وسيلةٍ للتخلُّف من تعهُّداته لبيمونته أن يُحيل الأمر على مؤتمرٍ دولي، وربما كان يتوقع أن يحمله ضغط الدول المنظمة على التخلُّص من تعهُّداته، وأما إذا كانت الحربُ لا مناص منها فإنه يكون قد كسب الوقت لمقاتلة النمسة وهو على استعدادٍ حسن، وبإيعازٍ منه طلبت روسية عقد المؤتمر في ١٨ آذار فوافق مالسيوري على ذلك وحذت بروسية حذوه، أما النمسة فوافقت بتحفظٍ زائد طالبة أن تسرِّح بيمونته قواتها والمتطوعين قبل انعقاد المؤتمر.

وحاولت إنجلترة الضغط على بيمونته لحملها على الموافقة وقالت إنها تتعهد بالاشتراك مع فرنسة الوقوف في وجه أي هجوم نمسوي عليها ولكن كافور رفض الموافقة على تسريح القوات، ووعد بألا يهاجم النمسة إذا كَفَّتْ في المستقبل عن أيِّ تجاوُز، بَيْدَ أنه كان يشعر بخطورة ما قد يولِّده عدم الاعتراف بالمؤتمر من استقرار أوروبا كلها، ومع ذلك فإنه اقتنع بأن تفاهم الدول الخمس في المؤتمر المذكور سيؤدي إلى القضاء على آماله ولن تبقى لديه أية وسيلة يتخذها لحمل النمسة على إعلان الحرب، وعليه فإن بيمونته تصبح منعزلة وعاجزة.

ثم خُيل إليه أن المؤتمر إنما هو إدارة اتخذها الإمبراطور للتعمية واكتساب الوقت؛ فرأى أن يشاطر الإمبراطور الخداعَ، ولكنه ظل يتردد بين الشك واليقين وينذر ويتوعد الإمبراطور بأنه سيضع البارود في النار إذا نكث الإمبراطورُ بوعده، وقد استدعى الإمبراطورُ كافورَ إليه وأخذ يسعى لتهدئته، وربما حاول بكل جهده أن يحمل كافور على الموافقة على تصريح الجنود.

والمعروف أن كافور هدد الإمبراطور بتنزل الملك عن عرشه وذهابه إلى أمريكا الجنوبية ونشر كتب الإمبراطور وتفاصيل محادثات بلومبير، وقد أحس الإمبراطورُ أنه أصبح في قبضة هذا الرجل، وأن في طوق كافور أن يُثير سَخَطَ أوروبا عليه فبذل جهده لمراضاته، وذهب كافور إلى تورينو واثقًا بأن الحرب واقعةٌ لا محالة منها، وأن النمسة لم توافق بادئ بدء على عقد المؤتمر إلا مرغمةً؛ إذ كانت ترتاب من النية التي دفعت إلى عقد المؤتمر وأنه لا يُقصد منه سوى إعطاء الوقت اللازم لفرنسة حتى تتهيأ جيوشها.

وكانت الأمورُ جميعها في النمسة تتجه نحو إحباط سياسة السلم ووضع مقاليد الأمور بيدِ أنصار الحرب، ولا سيما بعد أن شجعت إنجلترة بواسطة مندوبها كوله ي النمسة بأنْ وَعَدَتْها بمساعدتها إذا تحرجت الأمور، أما في ألمانية فهناك أسبابٌ وجيهة تنبئ بأن الهياج فيها سيضطر بروسية والدول الصغيرة إلى عقد اتفاقٍ مع النمسة، وكان الإمبراطور فرنسو جوزيف والحزب العسكري في النمسة يرغبان أشد الرغبة في معاقَبة بيمونته البغيضة ويظنان أنهما يستطيعان سحقها قبل وصول النجدات الإفرنسية إليه.

ومع أن رئيس الوزراء النمسوي وعد رسميًّا بأن لا يهاجم بيمونته إلا أنه أصبح في موقفٍ لا يستطيع معه أن يفي بوعده، وظلت النمسة مصرَّةً على المطالبة بتسريح الجنود في بيمونته ورفضت اشتراك مندوبي بيمونته في المؤتمر، فسنحت بذلك لكافور الفرصة؛ إذ رفض تسريح الجنود أو الاشتراك في المؤتمر ما لم يكن في وضع الند للند بالنسبة إلى الدول الأخرى، وأدرك مالسيوري أن هذا الرفض ضربةٌ قاضيةٌ على المشروع، ثم قدم اقتراحًا أصر عليه باعتباره آخر تدبير ممكن لتسوية الأمور، وهذا الاقتراح كانت فرنسة اقترحته قبلًا وهو يقضي بتخفيض عدد الجيوش الثلاثة «الإفرنسي، والنمسوي، والبيمونتي» إلى الملاك السلمي، فتظاهرتْ فرنسة بقبول الاقتراح وطلبت من بيمونته رسميًّا الموافقة عليه، بَيْدَ أن كافور — وفقًا لتحريض الإمبراطور الخفي — أخذ يُماطل ويقدم طلبات يعلم بأنها لا تُقبل بسهولة، وفي الموعد الذي طالب مالسيوري فيه بتسريحٍ عام دعت النمسة جنودَ الاحتياط إلى النمسة رغم أنها وافقت على التسريح.

وفي ٩ نيسان عزمت الحكومة النمسوية على إرسال إنذار إلى بيمونته تطلب إليها فيه تخفيض جيشها إلى ملاك السلم وتسريح المتطوعين وإلا فهي تعلن الحرب عليها، وخشي الإمبراطور لويس نابليون أن يسحق الجيش النمسوي قبل وصول قواته إلى إيطالية ومخافة أن تسبق النمسة الحوادث؛ فأرسل إلى تورينو برقية يطلب فيها إلى الحكومة تخفيض الجيش، واستلم كافور هذه البرقية ليلة ١٨ نيسان فأضاع رشده وقال إنه سوف ينتحر، ثم أجاب — والحزن يملأ قلبه — أن بيمونته سوف تخضع لمشيئة أوروبا ولكن ما أسرع ما انقلب حزنه إلى فرح؛ لأن النمسة قبل أن تعلم بموافقة بيمونته على تسريح جيشها أرسلت الإنذار.

ووصل حامل كتاب رئيس الوزراء النمسوية إلى تورينو يطلب فيه إلى بيمونته أن تسرح جيشها بعد ثلاثة أيام وينذرها بالزحف العاجل إذا هي رفضت، وهكذا في الوقت الحرج الذي كاد كافور فيه أن يخفق إخفاقًا كليًّا؛ انفرجتْ أزمتُهُ وأصبح سيدَ الموقف بفضل خطأ خصمه المشئوم.

بهذا الإنذار ظهرت النمسة بمظهر المعتدية ثم إنها أصبحت البادئةَ بالخصومة، ولقد قطعت النمسة علاقاتها السياسية ببيمونته وتأكد كافور بأن فرنسة سوف تمد يد المساعدة إليه وأن عدوه فَقَدَ عطف أوروبا السياسي، أما نابليون فقد أعلن الحرب على النمسة رسميًّا في ٢٩ نيسان ١٥٨٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤