الفصل السادس والعشرون

حرب سنة ١٨٥٩

نيسان–تموز ١٨٥٩

لقد كان الإنذار الذي وجهتْه النمسة إلى بيمونته خطأ سياسيًّا؛ إذ أغضب أصدقاءها وجعلها منعزلة ومتهمة من قِبَل الرأي العام الأوروبي، وقد انقلب العطف الإنجليزي إلى غضبٍ، وبذلت كل من الوزارتين الإنجليزية في لندن والروسية في بطرسبرج نفوذهما للحيلولة دون انضمام البلاطات الألمانية الصغيرة إلى النمسة، أما بروسية فقد سخطت على عمل النمسة الأهوج وصممت — بعزمٍ — على أن لا تنجرف إلى الحرب خلافًا لرغبتها، وعقدت النية على أن لا تُعير أهمية إلى أي قرارٍ يتخذه مجلس الاتحاد يتعلق بإعلان الحرب.

ثم ما كاد الخبر يصل إلى باريس حتى تفجرت الحماسةُ الشعبيةُ التي شملتْ فرنسة بأجمعها ما عدا الحزب الإكليريكي انتصارًا للقضية النبيلة التي احتضنتها، أما في بيمونته فتنفس الناس الصعداء لانتهاء الأزمة على هذا الشكل بعد أن توترت مدة طويلة، وقد عين مجلس الأمة الملك دكتاتورًا طول مدة الحرب ثم عطل جلساته، وأخذ معظم الأشراف الذين يمقتون السياسة القومية يقدمون أولادهم للدفاع عن شرف بيمونته، ووقف كافور في المجلس النيابي خطيبًا قبيل حله يقول:

إن هذا المجلس هو آخرُ مجلسٍ بيمونتي، أما المجلس القادم فسيكون مجلس المملكة الإيطالية.

وهكذا نزلت الأمةُ إلى ساحة الوغى بعزمٍ وثبات، وكان الناس يدركون خطورةَ العمل الذي أقدمت الحكومة عليه، والذي مصيرُهُ إما إلى انكسارٍ يؤدي إلى أن يحتل العدوُّ تورينو وفي هذا القضاءُ على الحرية والاستقلال، وإما إلى انتصارٍ وهذا يتطلب تضحياتٍ جسيمة وآلامًا لا حد لها، فلم يكن بد للأمة من أن توطد القدم على اجتناب أي شيء يخل بالثقة والاعتماد على الملك والحكومة التي هيأت لإيطالية مثل هذه الفرصة السعيدة.

بدأت الحرب في ٢٦ نيسان، وشرعت القوات النمسوية بعد ثلاثة أيام باجتياز نهر تسينا في سرعةٍ استهدفتْ فيها سحق الجيش البيمونتي قبل وصول النجدات الإفرنسية، مع أن وزير الحربية البيمونتي قد استعد منذ سنوات لدرء هذا الخطر فأسس معسكرًا حصينًا في مثلث «ألكسندرية، فاليزه، وكساله»؛ حيث احتشد ستون ألف جندي من الجيش البيمونتي، وكانت قوة النمسويين تبلغ مائة وستين ألفًا، فلو كان على رأسها قائدٌ ماهرٌ نشيط؛ لَسحق الجيش البيمونتي قبل مجيء القوات الإفرنسية ودخل تورينو، ولكن القائد النمسوي أضاع وقته في حركاتٍ ثانوية ثم تقدم نحو تورينو، فوصلت مقدمته في ٨ أيار إلى بضعة فراسخ من العاصمة، فاستعدت تورينو لدفاعٍ مستميت اضطلع به حَرَسُها القومي وثمانية آلاف من الإفرنسيين الذين قدموا نجدة إليها، وحمل الأهلون في الأرياف السلاح ونزل غاريبالدي ومتطوعته إلى الميدان، وبعد ثلاثة أسابيع من الشروع في الحركات تقدَّم الجيش الإفرنسي والبيمونتي نحو المواضع التي احتلتها القوات النمسوية، وفي ٣٠ أيار هاجمت القوات البيمونتية مواضع النمسويين وراء نهر «سيسيه»، واستولت عليها قبل وُصُول القوات الإفرنسية إليها، وكان الملك فيكتور عمانوئيل يقود الهجوم بنفسه.

وبعد أن حارب غاريبالدي في أطراف البحيرات توجه نحو لمبارديه على رأس المتطوعين البالغ عددهم خمسة آلاف، وكانوا خليطًا من جميع الطبقات منهم أشرافٌ ومنهم فنانون وطلاب وأطباء وعمال، وكلهم تركوا مساكنهم وضَحَّوا براحتهم في سبيل الحرية.

وتوغل غاريبالدي في بلاد العدو في جرأة؛ لتشجيع اللمبارديين على الثورة بعيدًا عن ساحة الحركات، ومعتمدًا على صداقة الأهلين، وقد تغلب بثلاثة آلاف جندي على عددٍ يفوقُهُ بثلاثة أمثاله، وكانت إيطالية تتلقى أخبار انتصارات غاريبالدي بفرحٍ لا حد له، وفي أوائل شهر حزيران تغلب الجيشان الإفرنسي والبيمونتي على الجيش النمسوي في معركة «ماجنتا»، واضطراه إلى الانسحاب إلى القلاع الأربع فافتُتح بذلك طريق ميلانو أمام البيمونتيين والإفرنسيين.

وما كاد خبر الانتصار يصل إلى ميلانو حتى أعلن المجلسُ البلدي اتحاد لمبارديه ببيمونته، ودخل الإمبراطور والملك في ٨ حزيران ميلانو باحتفالٍ مَهيب واستقبلها الأهلون بحماسة بلغت حد الجنون، وقد أثر هذا الاستقبال في نفس الإمبراطور تأثيرًا حسنًا، حتى قال في بلاغٍ له ما يلي: «إنما يحارب جيشي أعداءكم ويحافظ على الأمن في بلادكم، ولن يكون عثرةً في سبيل إظهار رغباتكم المشروعة بحرية.» وكانت ماسة كرارة قد ثارت في بدء الحرب وطردت طوسكانه أميرها وأعلنت ولاءها للملك، وأعلن فيكتور عمانوئيل انضمام لمبارديه إلى بيمونته وهرب دوقا مودينه وبارمه مع حاميتهما النمسويتين، فجددت الدولتان المذكورتان معاهدة الانضمام سنة ١٨٤٨ في ١٣ حزيران، وتركت الحامية النمسوية بولونيه من ١١ حزيران، وفي خلال أسبوع امتد لهيب الثورة إلى الروماني والمارك وإلى قسم من أومبرية، ومع أن قوات البابا استطاعت أن تسيطر على الموقف في القطرين الأخيرين إلا أن الروماني نادتْ بفكتور عمانوئيل دكتاتورًا عليها.

وفي ١٨ حزيران وقف الجيش النمسوي وراء مينجيو، وتولى الإمبراطور فرنسوا جوزيف قيادةَ الجيش الاسمية بعد أن عزل القائد السابق، وزحف الجيشان الإفرنسي والبيمونتي يتقدمهما غاريبالدي بمتطوعته وفيلق جيالديني البيمونتي، وفي ٢٤ حزيران نشبت المعركة بهجوم الإفرنسيين والبيمونتيين على مواضع النمسويين في «صولفرينو وسان مارتينو»، وبعد قتالٍ استمر من الصباح إلى ساعةٍ متأخرة من المساء تغلب الحليفان على عدوهما فكانت خسارة الإفرنسيين في هذه المعركة الدامية اثني عشر ألفًا بين قتيلٍ وجريح، أما خسارة البيمونتيين فكانت أعظمَ من خسارة الإفرنسيين إذا قيست بنسبة عدد الجيشين.

وكانت معركة صولفرينو بشيرًا بسرعة انتهاء الحرب، ويتلخص الموقف الحربي بما يلي: كان الجيش النمسوي يستطيع المقاومةَ في القلاع الأربع مدة طويلة، ولكن عدوه إذا استطاع أن يضبط البندقية من البحر، وإذا ما انتصر الحليفان عليه وراء بيجيو أصبحت طريق العاصمة فينا مفتوحة أمامهما وبذلك يتم تحرير إيطالية، وقد يؤدي انتصارُهما إلى انفصال هنغارية عن النمسة وانهيار النفوذ النمسوي في ألمانيا كلها، هذا بالنسبة إلى النمسة، أما بالنسبة إلى فرنسة فإن الحرب قد دلت الإمبراطور لويس نابليون على عجز قادته في القيادة، وجعلته يشك في مقدرته العسكرية ولا سيما لأن النمسة رغم ارتباك ماليتها وخزائنها الخاوية، ورغم تأهُّب الهنغاريين والسلاف للثورة عليها؛ فلا تزال تسيطر على مصادرٍ عسكرية جسيمة؛ إذ لها في إيالة فنيسيه مائة وخمسون ألفًا من الجنود، ومائة ألف آخر بين تريستة وفينا، فإذا انتهت المعركة القادمة على غير ما انتهت إليه سابقتُها فإن الإمبراطور يقع في مأزق لا مخرج له منه ويفقد بذلك السمعة التي كسبها من أجل ذلك، ففترت حماسته لإيطالية فتورًا عظيمًا، وأخذ يَتَذَمَّرُ — بمرارة وعلى غير حق — من عجز الإيالات المحررة من تجهيز قوات مدربة إلى ميدان القتال، وزعم أن التقارير «وكانت كاذبة.» تخبره بأن القرويين وراء منيجيو أعداء للحركة.

ومن عوامل فتوره حنقُهُ على الحوادث التي كانت تجري في إيطالية الوسطى، وكانت لا تتهدد مشروعه الاتحادي فحسب بل تجره إلى نزاعٍ مع الحزب الإكليريكي الإفرنسي، وهو غير راغب فيه، ثم إن الرأي العام في طوسكانه والروماني قد أعرب — بعزمٍ — عن رغبته في الانضمام إلى بيمونته، وكان مؤكدًا أن تحذو أومبريه والمارك حذوهما حالما تسنح أقل فرصة إلى ذلك.

إن الإمبراطور كان يعلم بأن كافور يسعى بكل قوته إلى توحيد إيطالية الشمالية وإيطالية الوسطى بإدماجها في مملكةٍ ضخمة، فإذا ما خرج الطليان من هذه الحرب منتصرين الانتصار كله أصبحت السيطرة عليهم عسيرة، وفضلًا عن ذلك أنه أتى إلى إيطالية معلنًا بأنه لن يقدم على الإخلال بسلطة البابا، ومع أن ميثاق بلومبير كان يقضي بمساعدة بيمونته في الاستيلاء على الروماني، فإن خشية جانب الإكليريكيين جعلتْه يرغب أحيانًا في التنصُّل من وعده، ولقد قرر أخيرًا أنْ يترك الروماني تختار المصير الذي ترضاه، كما اعتزم أن يترك أومبريه والمارك للبابا، وأن يحول دون انضمام طوسكانه إلى بيمونته.

وهناك عاملٌ خطيرٌ هو الذي جعل الإمبراطور يُغير خططه ويميل إلى سياسة السلم، ذلك هو موقف ألمانيا، لقد شجعه موقف بروسية — بادئ الأمر — على المضيِّ في طريقه، ولا سيما بعد أن بَلَّغَتْ حكومة برلين روسية نصيحةً مشفوعة بتهديد بأن لا تتحرك، فضلًا عن أنها كانت تعلم أن انكسار النمسة من شأنه أن يُفسح لها مجالَ الزعامة في ألمانية، وإذا انتصرت فرنسة فإنها ستهاجم بروسية عاجلًا أو آجلًا.

وحنق الرأي العام في ألمانية على بروسية واتهمها بالخيانة الوطنية في وقوفها موقف المتفرج في حربٍ يقهر فيها العدو الإرثي العريق لألمانية دولة ألمانية، فقررت الحكومة البروسية مخاصمة ذات وجهين تجاه المخاصمين، فأعلنت النفير بعد معركة ماجنتا، وعرضت على النمسة وساطتها المسلحة إذا هي تخلت لبروسية عن رئاسة الاتحاد الألماني، وفسخت المعاهدة المعقودة مع الدوقيات الإيطالية؛ إرضاء للرأي العام الأوروبي، وأعقبتْ ذلك بدعوة أربع فيالقَ من جيش الاتحاد للسلاح في ٢٤ حزيران وطلبت إلى روسية وإنجلترة أن تتفقا وإياها، وبدأتْ روسية ترتاب من الحركات في إيطالية وأخذتْ تخشى سريان عدوى الثورة في هنغارية إلى بلاد بولونيه؛ لذلك رضيت بأن تشترك في الوساطة السلمية، ومع أن الوزارة البروسية والت مساعيها السلمية فإنها عادت بعد معركة صولفرينو فأخبرت النمسة بوضوحٍ بأنْ لا تتوقع مساعدة ألمانية مسلحة، وحشدت في الوقت نفسه قواتها على نهر الرين الأمر الذي أفزع الإمبراطور؛ إذ أدرك بأنه إذا رفض التوسُّط فقد تجتاز الجيوش البروسية حدود فرنسة غير المحمية.

ومن كل ما مر معنا يظهر أن جميع الأحوال كانت تحث الإمبراطور على الرغبة في إنهاء الحرب، إلا أنه لم يكن يُريد أن تكون بروسية هي البادية؛ فلذلك أبرق إلى سفيره في لندن بعد معركة صولفرينو ببضعة أيام، يطلب إليه أن يجس نبض الحكومة الإنكليزية فيما إذا كانتْ ترغب في هدنة تكون أساسًا للسلم وتقضي بترك لمبارديه وبارمه لبيمونته، وإدارة الروماني من قبل فكتور عمانوئيل على أن يبقى تحت سيادة البابا، وتؤلف فنيسيه ومودينه دولة مستقلة يحكمها أرشيدوق نمساوي وتُعاد طوسكانه لحكم الدوق الكبير، ثم تؤلف جميع الدول الإيطالية اتحادًا برئاسة البابا.

وكانتْ وزارة دربي قد سقطت وخلفتها وزارة بالمرستون وتولى اللورد رسل وزارة الخارجية فيها، وكان بالمرستون يستهدف في سياسته إيجاد مملكة إيطالية قوية تستطيع مقاومة النمسة وفرنسة معًا. وحدث أن تحادث السفيرُ الإفرنسي مع رُسُل وزير الخارجية حديثًا أخطأ السفير في فهمه، وأرسل إلى الإمبراطور يخبره بأن إنجلترة توافق على التوسُّط بموجب الشروط التي اقترحها.

وقبل أن يصل جوابُ السفير إليه ارتأى الإمبراطور أن يُفاتح إمبراطور النمسة، وأخذ في الوقت نفسه يتأهب للقتال فيما إذا رفض تكليفه السخي، ثم اجتمع بكوسوت الوطني الهنغاري ووعده بإيفاد قوة عسكرية إلى هنغارية فيما إذا استمرت الحرب، وفي ٩ تموز جاء رسول نابليون يكلف فرنسوا جوزيف بالهدنة في الوقت الذي أدرك أنه لا يستطيع إنقاذ فنيسيه وأن بروسية خذلتْه، وعلى إثر ذلك اجتمع الإمبراطوران في فيلافرنكة، وكان نابليون الثالث في موقفٍ يستطيع فيه أن يملي شروطه على عدوه، وجرت المفاوضات بين الاثنين ورفض فرنسوا جوزيف تكليف نابليون بتشكيل مملكة مستقلة يحكمها الأرشيدوق ماكسمليان، وعرض على نابليون أن يترك له لمبارديه شريطة أن يسلمها هو إلى بيمونته، ورغم موافقته أن تنضم إيالة فنيسيه إلى الاتحاد الإيطالي إلا أنه فضل الاستمرار على الحرب على ترك هذه الإيالة والقلاع الأربع، وتم الاتفاق على أن تعطَى دوقية بارمه إلى بيمونته، بَيْدَ أنه نص في شروط الهدنة على أن ترجع مودينه وطوسكانه إلى أميريهما، وكذلك تعود الروماني إلى البابا وتعهد الإمبراطور بأن يساعد على تأسيس الاتحاد الإيطالي برياسة البابا.

وكان وقع خبر الهدنة على الطليان كصاعقة في جوٍّ ملبد بالغيوم، وقد عُقدت دون أن يطلع عليها أحدٌ حتى الملك فيكتور عمانوئيل نفسه لم يعلم بها، ولما اطلع على هذه الخيانة قال حانقًا: إنه سوف يستأنف القتال وحده، إلا أنه أدرك عجزه ذلك ورضي بالتوقيع على المعاهدة المخزية، أما كافور فامتنع الخضوعَ للأمر الواقع وسارع حين اطلع على الخبر المشئوم إلى المعسكر، فضغط على الملك وأعاد الضغط عليه لكيلا لا يقبل الشروط، ولَمَّا رفض الملك تكليفَه وجه إليه كلامًا لاذعًا، خرج فيه عن حدود الاحترام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤