الفصل الثالث

الأحوال الاجتماعية في إيطالية

بيمونته

كانت مملكة بيمونته وليدة قرون عديدة، وكان كونتات آل صافويه قد توصلوا إلى أن يتملكوا هذه الدولة الثانية من دول إيطالية من حيث السعة والتي ظفرت بموقعٍ عالٍ بين الممالك الثانوية في أوروبا، وبما أن هذه المملكة الصغيرة واقعةٌ بين فرنسة والنمسة؛ فإنها كانتْ ساحةً للحروب التي نشبتْ بين المملكتين العَدُوَّتين، وقد استطاع بيت صافويه المالك بالسياسة الحكيمة أن يُوسِّع حدودَ مملكته على حساب المملكتين المذكورتين، بوقوفه دائمًا بجانب المنتصرة منهما.

فكانت بيمونته الدولة الوحيدة في إيطالية التي احتفظت باستقلالها أيام التسلُّط الإسباني في القرن السابع عشر، ووقفتْ إلى جانب إنجلترة ضد النمسة في بداية القرن الثامن عشر، فأضافت إلى ممتلكاتها «ألكسندرية» و«الميلينا» ثم انحازت إلى فرنسة فحصلت على إيالة «نوفَّاره»، وانضمتْ إلى جانب فينا في حروب النمسا الوراثية، فوسعتْ حدودها إلى تستينا، فلم تعقد معاهدة — والحالة هذه — إلا وضمت أرض إلى مملكة بيمونته.

ولما نشبت الثورةُ الكبرى في فرنسة كانت مملكة ساردنيه كما كانت تدعى حينئذٍ تحتوي على القسم الشمالي من إيطالية إلى جبال الإبنين؛ أي ساردنيه ونيس وصافويه.

ولم تكن هذه السياسةُ التي اختارها أمراء صافويه ترجع في قواعدها ودوافعها إلى أي اعتبار غير منفعة البلاد، وكان يميلها عليهم موقعها الجغرافي الذي شجع ملوك بيمونته على أن يكونوا أوفياء كما وصفها أحد ساسة بلجيكة.

وكان أهل البلاد كأمرائهم محاربين عنيدين، ذوي رأي صائب، لا يلتفتون إلى الآداب والفنون، وكانت الزراعة في حالةٍ من التأخُّر، أما الصناعة فكادتْ تكون معدومة، وكانت أكثرية الشعب لا تعبأ كلية بالحرية السياسية أو الحرية الدينية، فارتضت — عن طيب خاطرٍ — حُكْم آل صافويه العسكري والأبوي المطلق.

وكان ملوكهم ذوي كفاءة نادرة، شاعرين بواجباتهم، وقد استطاعوا بفضل اختلاطهم برعيتهم في الكفاح المديد للمحافظة على كيان البلاد؛ أن يُصبحوا من صميم الأمة، وكان البلاط نشيطًا بسيطًا، وكانت الحكومةُ بوروقراطية نزيهة ولكنها جامدةٌ تشتغل في أمورٍ تافهة، أما النظام المالي فيها فكان من أحسن الأنظمة في أوروبا، وكانت ثمت أوجه شبه بين هذه الدولة وبين دولة بروسية في ألمانية.

وكانت الحكومة تساعد التجارة وتشجع الصناعة الحديثة النشأة، وكان الملك يرعاهما، أضفْ إلى ذلك أن الحكومة كانت تحمي الناس من تعدِّي الأفراد المرهق، وتضع القوانين النافعة للترفيه عن الفقراء. أما الحقوق السياسية والتقدُّم الاجتماعي فلم يعبأْ بهما الملك ولا الشعب.

وكان الناس في هذه المملكة — شأنهم في أنحاء إيطالية كلها — هم وأملاكهم وشرفهم تحت رحمة الشرطة، وكان حق وضع القوانين نظريًّا من صلاحية مجلس الأعيان أو المجلس الأعلى على نمط المجلس الإفرنسي، بَيْدَ أنه لم يكن لهذا المجلس المذكور شأن في ذلك؛ لأن أعضاءه يعينهم الملك، وكان لمدينتي تورينو وجنوة هيئات بلدية، ومع أن الإيالات كانت تدار من قبل حكومات إلا أنها كانت خاضعة للحكام العسكريين، أما المدن فكانت تحت حكم قادة الحاميات.

وقد عبر أحد أشراف بيمونته عن هذا الحكم بالعبارة التالية: «ملكٌ يأمر وطبقةُ أشراف تساعد وشعبٌ يطيع.» وكان الأشراف كملكهم محدودي الفكر غير مسرفين ومتكبرين، ومنهم تتألف الطائفة العسكرية، وكانوا يتمتعون بامتيازاتٍ إقطاعية، ويعيشون عيشة البساطة ويحكمون أتباعهم بيدٍ صارمة، ولكنهم غالبًا ما كانوا يعطفون عليهم.

أما أولاد الأشراف الصغار الذين لا يرثون بمقتضى القانون فيتولون المناصب العالية في الجيش وفي الإدارة، وكانوا يشتغلون بجدٍّ وسعي ليحيوا حياة تليق بشرف أُسَرهم ومجد وطنهم، وأما جماعة الإكليروس فكانت خاضعة لسلطة الحكومة المباشرة، فالملك يعيِّن المطارنة، ورغم أن الملوك كانوا موالين للبابا فإنهم لم يسمحوا بأي تدخُّل في امتيازاتهم في هذا الشأن، ومع ذلك فإن كابوس الإكليروس كان جاثمًا على البلاد؛ إذ استطاع اليسوعيون في سنة ١٨١٨ أن يستعيدوا نفوذهم.

وكان للمدارس التي أنشئوها وخرَّجتْ عددًا كبيرًا من أولاد الأغنياء أثرُها في تقوية مركزهم، ولم يُسمح لليهود بالاستخدام في الوظائف العامة ولا بالدخول في الجامعات، وبلغ امتدادُ نفوذ الكنيسة حدًّا كان معه الوزراء يُراعون أيام الصوم خوفًا من العزل، وكانت الجامعات تُوصد أبوابها أسبوعًا مرتين في السنة للقيام بالواجبات الدينية، وعلى الرغم من هذه الصرامة الدينية، والمراسم الكثيرة التي تجريها الكنيسة؛ كانت مدينة تورينو أكثر المدن الإيطالية الشمالية دعارة.

ولم يمنع كونُ الأشراف وجماعة الإكليروس دعامتين لنظام الحكم في بيمونته أن يكون الجيش إحدى الدعائم أيضًا، وقد احتفظ ملوكُ بيمونته بجيشٍ كبير لا يناسب سعة المملكة، وكان الجيش والأسطول — إما حبًّا في التوسُّع أو رعاية للموقع الجغرافي — يستنفدان من الميزانية ثلاثة أرباعها، فاستطاعت هذه المملكة أن تجهز سبعين ألفًا من الجنود.

وخلاصة القول إذن أن دعائم الحكم في بيمونته هي الأشراف والإكليروس والجيش، وهؤلاء مهمتهم تأمين ولاء الشعب بعقيدة دينية وملوكية مشتركة، ولجعل بيمونته محترمة في نظر جاراتها الطامعات، وحسبنا لنبين قوة هذه الدعائم أَنَّ نِصْفَ العاصمة تورينو كان ثكناتٍ والنصف الآخر أديرة.

هذا ولا يفوتنا أن نُشير إلى أنه كانتْ في المملكة نقاباتٌ مؤلَّفة من الأساتذة والصناع تبث في الأوساط الصناعية رُوح التنظيم الصارم، أما الفرق بين الطبقات فكان شاسعًا، وقد أدى الحكم الإفرنسي الذي استمر من سنة ١٧٩٨ إلى سنة ١٨١٤ إلى رُقِيٍّ عظيم.

ولم يسع الملك فيكتور عمانوئيل حين عودته وأخوه من بعده إلا أن يمنحا بعض الامتيازات على كُرْهٍ منهما، بسبب قوة تغلغل الآراء الحديثة، ويبدو — مما تقدم — أن مملكة بيمونته كانت متأخرة اجتماعيًّا بالقياس إلى ممالك أوروبا الغربية، وكان القضاء في بيمونته مزيجًا من الحقوق الرومانية وحقوق الكنيسة ومن إدارات ملكية وعُرْف محلي وقرارات للمحاكم غير مدونة، وكانت إيالة جنوة تأخذ بالقوتين الإفرنسية المدنية والتجارية، بينما كان لإيالة «آوستة» تشريعٌ خاص، وكان لبعض المدن الصغيرة أيضًا عُرْفها وامتيازاتُها الخاصة بها.

أما التعليم في المملكة فكان متأخرًا، وقد أمر الملك شارل فليكس سنة ١٨٢٢ بفتح مدارس للأولاد في كل مديرية، إلا أن الجديدة منها لم تفتح قبل سنة ١٨٤٦، أما المديريات الفقيرة فقد حرمتْ منها، وكان معظم العمال والقرويين أُميين ولم يشمل التعليم الابتدائي البنات إلا في سنة ١٨٤٦ وذلك في بعض المدارس، وكانت الحكومة تقوم بنفقاتها، وكان التعليم فيها ناقصًا، وكانت المواضيع التي تدرس فيها قاصرة على اللغة اللاتينية واليونانية وبعض العلوم الطبيعية، أما التاريخ — واللغات الحديثة فلم تكن تدرس فيها.

ويكاد الرهبان يكونون وحدهم المعلمين والأساتذة، وكان هَمُّهُم أن يلقِّنوا التلاميذ الطاعة العمياء، ولكن الأذكياءَ من التلاميذ كانوا يجنحون إلى العِصْيان أو يندفعون إلى اليأس، وقد أراد الوزير «برسبيرو بالبو» أن يدرب معلمين علمانيين في دور المعلمين، إلا أن مشروعَهُ هذا لم يُطبق بسبب قوة الرجعية، ولم يستطع خلفه أن ينفذ هذا المشروع إلا بعد ثلاث وثلاثين سنة.

وكانت جامعتا تورينو وجنوة في حالةٍ سيئة؛ إذ استولى عليهما اليسوعيون بعد سنة ١٨٢١، حتى إنه لم يكن يُقبل فيهما التلاميذُ ما لم يُبرزوا شهادة تؤيد اعترافهم وإيمانهم، وكان الجواسيس يراقبون الأساتذة والتلاميذ، حتى إذا ظهرت من الأساتذة أقلُّ بادرة تَنُمُّ عن استقلالهم بالرأي؛ طُردوا من عملهم وحرموا من الوظائف والمهن الحرة.

وكانت الزراعة مهنة أهل بيمونته الوحيدة باستثناء أهل جنوة، ويؤلف أصحاب الأراضي خمسي الأهالي، ويسكن أكثر القرويين في وديان الألبة والأبنين، وكان الكثيرون من القرويين الملاكين في بلاد الزيتون في الريفيرا يعيشون تارةً في هناء وأخرى في شقاءٍ عظيم، وكان معظم مقاطعات السهول مِلْك الأشراف، وهؤلاء كانوا لا يعيشون فيها وإنما يؤجرونها للملتزمين.

وكان الخوف من ازدياد الضرائب يحول دون الإقدام على تحسين الزراعة وتكثير إنتاجها، وقد كان المزارع إذا تأخر عن دفع الضريبة تؤخذ منه مزرعته فيبقى مشردًا بلا أرض، وقد استفحل هذا البلاء حتى اضطرت الحكومة إلى رعاية المزارعين، وطلبت إلى المحاكم أن تنظر في تأجيل ديونهم أو دفعها على أقساطٍ مناسبة.

وأهل بيمونته — على العموم — شعبٌ رزين صبور ضيق التفكير، ولكنه يتحلى بقوة كبيرة من الثبات والإرادة، أما الحكومة فعلى الرغم من تأخُّرها فإنها كانت نشيطة ووطنية معًا، وتحبها الرعية بسبب وطنيتها. وكان الناس يحسون في ذات نفوسهم أن مملكتهم سوف تهيمن على إيطالية، ويكاد سكان المملكة يتجاوزون نصف سكان نابولي وصقلية معًا، ولكن كانوا أضأل ثروة وأقل ذكاء من سكان لمباردية، وظل امتزاجها بأهل جنوة ناقصًا.

وكان خمسا رعيتها يَمُتُّون إلى عرق ما وراء الألبة ويتكلمون لغة تختلف عن لغة أهل البلاد، ولكن أخلاق الشعب القوية قد عوضتْه عن قلة عدده وثروته، مع أن البيت المالك من آل صافويه كان قد رعاه وعَلَّمَه الطاعة والانقياد له، إلا أنه طَبَعَه بشمائل الرجولة والحرية الأمران النادر وجودهما في إيطالية، وكان القرويون ذوي قدرة على الكفاح واحتمال للمشقة دون أن ينوءوا بما يحتملون، ويمتازون بإخلاصهم واستعدادهم للتضحية؛ فلذلك كانت سياسة الحكومة التقليدية توجيه الشعب إلى التطلُّع للشرف والطموح إلى التقدم، وكانت كلمة «ميلانو» شعارَ الملوك، وكان «دي ميستر» رسول المدرسة الحديثة التي تستهدف أن يكون لإيطالية تاجٌ واحد، وقد رجا من فيكتور عمانوئيل «أن ينسى عرش بيمونته وأن يفكر في عرش إيطالية.»

وقد يستمر الأشرافُ في بيمونته على التباهي بأصلهم البروفنسي واحتقار الدم الطلياني النقي، وقد تستطيع البورقراطية أن تعتبر إيطالية جزءًا من بيمونته، بَيْدَ أن الوعي القومي القوي فيها كان كفيلًا بأن يقود إيطالية إلى حرب الخلاص.

وقد ظلت النمسة في نظر الملك فيكتور عمانوئيل وخلفه شارل فيلكس العدوَّ اللدودَ لإيطالية، ولولا خشية الثورة في الداخل لَأعلنا عليها الحرب؛ تحريرًا لإيطالية، على أنه لا بد للمعركة من أن تشب عاجلًا أو آجلًا وستكون معركة حياة أو موت، ولا غرابة في أن يسود الاعتقاد بين المواطنين في إيطالية بأن ملوك بيمونته وشعبها هم الذين سيقودون تلك الحركة.

لمبارديه وفنيسيه

إن تحرير لمبارديه وفنيسيه كان أمل جميع الوطنيين الإيطاليين، فكان اغتباط أهل نابولي وروما وبيمونته بالمؤسسات الإدارية التي يتمتع بها اللمبارديون والفنيسيون في محله، لقد كانت الإدارة النمسوية في القطرين المذكورين تستمد قوتها من التقاليد المستنِدة إلى الكفاية والنظام، وقد تكون هذه الإدارة بطيئة في عملها ولا يرضى عنها الشعب، وقد تضحي بغرور الأهلين وعاداتهم القومية في سبيل منافع النمسة وإدارتها المركزية، وقد يساعد مركز الحكومة المرتبك على سوء تصرف الشرطة وعلى الاضطهاد الشنيع بعض الأحيان، بَيْدَ أن الذي لا شك فيه هو أن النظام والقوة كانا من حسنات الإدارة الجرمانية، فضلًا عن أن الناس كانوا متساوين أمام القانون، وإذا استثنينا دوقيتي «بارمه وطوسكانه» فإن الحرية الاجتماعية في القطرين المذكورين كانت تامة لا غبار عليها.

ولمبارديه قد انتقلت إلى يد النمسة في النصف الأول من القرن الثامن عشر، فاستفادت من إصلاحات ماريا تريزا ويوسف الثاني، وعقيب فتوح نابليون الأول أصبحتْ ميلانو عاصمةَ الجمهورية، ثم أمستْ عاصمة المملكة الإيطالية، بعد أن ألحقت بها جمهورية فنيسيه، وبذلك صارت عاصمة من العواصم الأوروبية المهمة وقاعدة لبلاط فخم، وكانت المدينة الأُولى في إيطالية في رقي آدابها وصناعتها ومشاريعها الاجتماعية.

فنفق «سمبلون» قد أشرف على فتحه مهندسون لمبارديون، وكتدرائية ميلانو أكمل بناءها معماريون لمبارديون، وساهم في شرف انتصارات نابليون جنود لمبارديون، وكان «مونتي وفوسكولو»١ قد أطلعا أوروبا على آداب لمباردية، ومع أن النمسة قد منحت لمباردية وفنيسيه الحكم الذاتي في سخاء فإنها عند التنفيذ خالفت الوعود التي قطعتْها، ولا سيما بعد أن شغفت دول أوروبا بالإدارة المركزية التي اقتبستها من نابليون، وكان هدف النمسة في هذه الإدارة أن يطبع الألمان والسلاف والطليان بطابعٍ واحد، حتى إن مترينيخ كان يقول «على اللمبارديين أن ينسوا أنهم طليان.» وطبق التشريع النمسوي في البلاد غير مهتم بعادات الأهلين وتقاليدهم وعرفهم القومي، وعلى الرغم من أن مترنيخ كان يميل إلى منح الطليان بعض الامتيازات في الإدارة والقضاء، إلا أنه إذا ما حدث اختلافٌ بين نائب الملك وبين حُكَّام الإيالات أو بينه وبين مدير الشرطة؛ كانت فينا هي التي تبتُّ في الخلاف، وبذلك كانت تقبض على زمام الحكم.

وأخذت الكتب المدرسية النمسوية تدرس في المدارس الابتدائية وأُلزمت الجامعات بتدريس القوانين النمسوية، واستعيض عن تدريس تأريخ إيطالية بتاريخ النمسة، ورأت الحكومة نفسها بعد مدةٍ من الزمن أمام مشاكلَ عظيمة بسبب ما فُرض من الضرائب الفادحة، وكان أهل لمبارديه وفنيسيه يدفعون ضعف ما كان يجب أن يُجبى منهم من الضرائب، حتى إن نسبة الضرائب في لمباردية وفنيسيه أصبحت وقت السلم أكثر مما كانت عليه وقت الحرب في العهد الإفرنسي، أما ضرائبُ الأملاك فتجاوزتْ حد العشرين في المائة من الوارد الصافي، وكانت الحكومة هي التي تُقدِّر الوارد الصافي فتسيء التقدير حتى تبلغ الضريبة ثلث الوارد الحقيقي أو نصفه.

وفي غير القضايا السياسية كان العدل النمسوي لا بأس به رغم ما يشعر به من العيوب الكثيرة الموجودة فيه من العدل الإيطالي، فالناس لا حَقَّ لهم في الحضور إلى المحاكم، ولا يجوز للمتهم أن يستشير، وليس من حقه أن يدرس الاتهامات الموجهة ضده بإمعان، ولا توجد هيئة عدول، ولكن النقص البارز في العدل النمسوي عدم موافقته لعادات الإيطاليين واستخدامه أكثر القضاة من الأجانب، أما في القضايا الدينية فالحكومةُ في لمبارديه كانت أرقى منها في سائر أنحاء إيطالية، فالرُّهبان يعتبرون من موظفي الدولة والراهب الذي يرفض العمل بموجب التعليمات الإدارية يعاقب.

وكان البروتستان والأرثوذكس يتمتعون بحريتهم الدينية تمامًا، ولكنهم محرومون من حق الاستخدام في الوظائف، ولم يصَب اليهود بأذًى ولعل سيطرة الدولة على جماعة الإكليروس جعل لمبارديه أكثر تثقيفًا وحرية من سائر إيطالية، ومع أن اليسوعيين استطاعوا العودة إلى فنيسيه سنة ١٨٤٣ فإنهم لم يستطيعوا أن يدخلوا ميلانو مطلقًا.

وكان التعليم في لمبارديه أَعَمَّ وأرقى منه في جميع بلدان إيطالية ما عدا بارمه ولوكا، وقد كان التعليم الابتدائي إلزاميًّا على الذكور والإناث من السادسة إلى الثانية عشرة، وكل وحدة إدارية مهما كانت صغيرة ملزمة بأن تفتح مدرسة فيها، ولكل مدينة مهمة مدرستها الابتدائية يدرس فيها النحو واللاتين وقليلٌ من العلوم الطبيعية ومدرسة «جمنازيوم» (على أن تتم هذه الدراسة في إحدى المدارس الثانوية البالغ عددها الاثنتي عشرة مدرسة)، وكان في كل من «بادويه وبافيه» جامعة تضم ألفًا وخمسمائة تلميذ وهاتان الجامعتان تَبُثَّان المبادئ الحرة في نفوس الطلبة، مما دعا إلى نقمة الشرطة وإرهابها.

ولعل رقابة المطبوعات فيها كانت أقل وطأة مما هي عليه في جميع إيطالية، ومع أن قانون سنة ١٨١٥ قد منح حق النقد السياسي فإنه حظر على أية جريدة سياسية أن تصدر قبل موافقة الرقيب العام في فينا، أضفْ إلى هذا أن جميع الكتب الأجنبية كانت خاضعة لرقابته حتى الروايات التي ليس لها قيمة علمية، والمطبوعات التي تُهاجم أُسلوبَ الكتابة ونقاوة اللغة ممنوعةٌ.

وكان من جملة الكُتُب الممنوعة مؤلفات «بلزاك وبنتهام وفيكتور هوجو ومكيافيلي وهلام ورابله» ومع هذا فقد أحسن الرقيب عملًا بمنع كل تأليف ينافي الأخلاق، أما المؤلفات العلمية غير السياسية وكذلك كتب اللاهوت فكانت تتمتع أحيانًا بكامل الحرية، وكان مجال حرية الفكر في ميلانو أوسعَ منه في نواحي إيطالية جميعها، وكانت أكثر الصُّحُف والمجلات الإيطالية تَمَتُّعًا بالحرية هي صحف إيالتي لمبارديه وفنيسيه، ومجلاتهما.

ولعل لمبارديه كانت القطر الوحيد في إيطالية الذي يسير الحكم المحلي فيه على نهجٍ واحد، وكانت طبقة الملاكين تتمتع بحق إبداء الرأي، ثم إن تقسيم الأرض على الناس جعلهم ذوي إيرادٍ خاص يكاد يخول كل أسرة حق التصويت في الوحدات الإدارية الصغيرة، وكان الناخبون يجتمعون مرتين في السنة للبَتِّ في الأُمُور المهمة. وكانوا ينتخبون من بينهم لجنةً تنفيذيةً مؤلفة من ثلاثة أعضاء؛ تنظر في الشئون الاعتيادية للوحدة الإدارية، وفي الوحدات الإدارية الكبيرة كان المنتخبون لا يجتمعون ولكن ثمت مجلسًا مؤلفًا من ثلاثين عضوًا إلى ستين عضوًا يتولى إدارة الشئون، وكانت السلطة التنفيذية في المدن الكبيرة مودعة إلى «البديستا» أي المدير أو رئيس البلدية.

أما القرارات الجديدة فمن حق المجلس، وكانت الوحداتُ الإدارية تتولى شئون المدارس والشرطة المحلية وطُرُق القرى والرُّهبان في بعض الأحوال، وتشرف على أُمُور الصحة والشرطة والأمور الخيرية كما أنها كانت تستطيع القيام بأمورٍ نافعةٍ بموافقة السلطة المركزية، إلا أنه كلما تَقَرَّبَ الحكم الذاتي من التمثيل القومي كانت مخاوف الأوتوقراطية تُضعفه.

وكان لكل من المديريات السبع عشرة مركز لمجلس المديرية المؤلف من الأشراف والملاكين، أما المدن الملكية البالغُ عددها تسع عشرة فكان لها ممثلوها الخاصُّون، وكانت سلطةُ هذه المجالس محدودةً، فهي التي تدير الشئون المالية في المديرية وتسيطر على مالية الوحدات الإدارية «الناحيات» ولها بعض الإشراف على الطرق والأنهار والمشاريع الخيرية، ومع كل ذلك فالمجلسان المركزيان في لمبارديه وفنيسيه لم يحققا الآمال المعلقة عليهما بالنسبة إلى ممارسة السلطة السياسية الفعالة، وكان الإمبراطور فرنسوا يقول: «إن الحكم الدستوري يقضي على الثقة التي تجب أن تسود بين الشعب والأمير.»

وكان القانون في الأُمُور السياسية جائرًا، ويلجأ إلى تعذيب المتهم وجلده وحرمانه من الطعام وغير ذلك من الأساليب، ويحضر المتهم أمام المحكمة من دون أن يُتاح له استدعاءُ محامٍ ومن غير أن يَعلم التهم الموجهة إليه، وكانت المذكرات تظل سرية، وهكذا يرى المتهم نفسه أمام حكام نمسويين وتيروليين، ومجرد التذمر السياسي يعتبر جرمًا يقود صاحبه إلى الاعتقال في قلعة «سبيلبرج» وفي حالة ارتكاب جماعة من الناس جريمةً ضد أشخاص آخرين فإن السلطة تسوغ لنفسها إهمال جميع الأصول الحقوقية والحكم من دون محاكمة، وأما التجسُّس والمراقبة السرية فكانتا على أشدها.

وكانت المراسلات مع الخارج تفتح، وكانت ملفات الشرطة حافلة بالتقارير عن مؤامرة مُرَتَّبة من قبل بونابرت «أي نابوليون المعتقل» أو دسائس حيكت من قبل الإنجليز أو الروس، وحظرت على المواطن السياحة في الخارج مِنْ دون الحصول على موافقة السلطات، وقد يحول بعض التدخُّلات السرية دون استخدام المواطن في وظائف الدولة، وقد طُرد أحد الأساتذة؛ لأنه ردد هتاف البابا جوليوس: «فليذهب الأجنبي»، ويكفي للدلالة على حق حرية الاجتماعات أن حفلة رقص خصوصية لم يكن جائزًا أن يدعى إليها من دون موافقة الشرطة.

ومع أن ميلانو فقدت مقامها فقد ظلت المدينةَ الصاخبةَ اللامعة المرتابة الخليعة، وكذلك فنيسيه؛ فقد أضاعتْ منزلتها إلا في فتراتٍ تجلى فيها الشعور السامي، وكانت الطبقة الأرستوقراطية فيها تتملَّق النمسة وضاعة، أما الطبقة المتوسطة فلم تكن ذات إرادة ونفوذ.

هذا ويعيش خمسا أهلها حينذاك على الصدقات، وقد عرف النمسويون كيف يستغلون هذا التردِّي في الأخلاق فبذلوا إعاناتٍ سخية إلى دار الأوبرا، وكانوا كلما حدث هياج سياسي يُلهون الناس بمضاعفة الاهتمام باحتفالات الكرنفال، كما أنهم بذلوا جهدهم في تأريث الحقد بين ميلانو وبرسيه وفنيسيه، وكان الشريف الذي يعمل للمصلحة العامة يفقد عطف الحكومة.

ومما يثير الحماسة القومية في النفوس تلك الضرائب الفادحة التي فرضتها الحكومة على الأملاك، وكان أولاد الأشراف وبناتهم يربَّون على اعتبار النمسويين أجانب لا يجوز التساهُل معهم، وإنما يجب احتقارهم والابتعاد عنهم في الرقص وفي المرسح، بَيْدَ أن الأشراف كانوا قليلي العدد في لمبارديه وكانت الطبقة المتوسطة تؤلِّف القسم الكبير في البلاد، وكانت هذه تعنى كل العناية بتجارتها.

وتقدمت الصناعة؛ بفضل ذكاء اللمبارديين وقابليتهم الفنية، حتى غدت لمبارديه أكثف نفوسًا في أوروبا باستثناء بلجيكة، ونمت تجارة الحرير وكثرت المغازل في المناطق الجبلية واشتهرت مصانع الجبن في «لودي وكريما»، وانتشرت صناعة القطن وأُنشئت مصافي السكر، ولكن الناس كانوا يعلمون أنه مهما تقدمت الصناعةُ في لمبارديه عليهم أن يقدموا الحساب إلى النمسة؛ فلذلك قَيدت التصرفاتُ الجمركية المتعددة المرتبكة نشاطَ التجارة وشجعت التهريب، فخسرت فنيسيه مقامها في التجارة على حساب منافستها «تريسته» واضطرت برسيه إلى غلق معاملها الحربية.

وأكثر الناس في لمبارديه كانوا زُرَّاعًا وأصحاب الأراضي يؤلفون ثُمن الأهلين، وكان عددهم في ازديادٍ مستمر، وكان كل قروي في المناطق الجبلية يملك أرضه ويرجِّح الاحتفاظ باستقلاله فيها على رفاهيته، ولما كانت النفوس كثيرة والضرائب باهظة فإن النقص في وارد الأسرة كان يؤمن من غزل الحرير؛ إذ اعتاد كل بيت أن يقوم به، ويعيش القروي عيشةً لا بأس بها، وكان على رغم فقره أغنى من القرويِّ الإفرنسي.

وكان الزُّرَّاع في السهول ناقصي التعليم وفي حالة البداوة، يسكنون في أكواخٍ من الطين ويَكرهون رؤساءَهم وأسيادهم، وكثيرًا ما استحوذ اليأسُ عليهم؛ ولهذا فإنهم يؤلفون عنصرًا خطرًا.

وكان الأذكياء يعتبرون الإدارة النمسوية — بمجرد أنها نمسوية — أفظعَ من الاستبداد القائم في روما ونابولي، وبمرور الزمن وبالتدريج تغلغل الحقدُ على النمسة في قلوب الناس من جميع الطبقات وفي كل الأنحاء، وقد توغلت تعاليم «مازيني»٢ بين طبقات الناس من الأشراف والتجار والعمال حتى غدت البزة البيضاء التي يلبسها الجنديُّ النمسوي رمزَ الاستبداد في نظر الناس.
١  مونتي Monti شاعر حماسي إيطالي، فوسكولو Foscolo شاعر وكاتب إيطالي.
٢  مازيني: من أكبر وطنيِّي إيطالية الذين سعوا لاستقلالها واتحادها، وكانت نَزْعته جمهورية وستَرِدُ أخباره فيما بعد بالتفصيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤