الفصل الرابع

مودينه – بارمه – لوكا – طوسكانه

مودينه

كانت دوقيتا مودينه وبارمه الصغيرتان تقعان إلى جنوب نهر بو، بين لمبارديه وطوسكانه، وكانت نفوسُ مودينه وحدها تبلغ زهاء نصف المليون يحكمها الدوق فرنسوا، وكانت أنظمة الدولة من الوجهة النظرية صالحةً لكل ما يؤدِّي إلى خير الأهلين إلا أن تنفيذها كان يجري على صورةٍ فظيعة من الاستبداد، وكانت الضرائب فادحة والقوانين المدنية والجزائية سيئة غامضة.

وطالما تجاوزت الإرادات الأميرية القوانينَ وخرقتْها، فالمتهمون السياسيون مثلًا كانوا يُلقَون في السجون من دون أي دليل، ويبقون فيها إلى أن تظهر الحقيقة، وقد جلب الحكم الإفرنسي إلى الدوقية النشاط وروح السعي والإقدام، فاشتهرت مودينه بمدرستها التي تعد رجال الإدارة، إلا أن الدوق فرنسوا قضى على ذلك كله كما قضى على نفوذ الحكومات الحرة في النواحي.

وكان التعليم الابتدائيُّ شائعًا في قليلٍ من المدن، أما التعليم الثانوي فكان بيد اليسوعيين، كما أن الجامعة أُتلفت بالنظام الذي أصدره الدوق، وأصبحت مراقَبة المطبوعات بيد المتعصبين الذين بلغ من تعصبهم أنهم منعوا تداوُل مؤلفات دانتي.

ويؤلف القرويون الأكثريةَ الساحقة وهم الذين يملكون الأرض إلا القليل منهم، وكانوا دائبي السعي والعمل في أرضهم الجبلية الشحيحة، ويرزحون تحت ظُلم موظفي الحكومة، ويجابهون الشقاء، ولكنهم كانوا يُوالُون الحكومةَ؛ حتى إن الأمير كان يجهز — عند الحاجة — ما يشاء من المتطوعين منهم.

بارمه

أما دوقية بارمه فكانت على عكس أختها دوقية مودينه، تتمتع بحكومة هي من أبعد الحكومات في إيطالية تبصرًا، وكانت كثيفةَ النفوس؛ إذ يبلغ عدد سكانها الأربعمائة والخمسين ألفًا، وكانت أرملة نابليون، رغم خلاعتها وقلة مرونتها، شفيقةً بالناس حسنةَ النية نحو رعيتها، وكان الوزراء يساعدونها على سياسة رعيتها، في الحكم السمح والإدارة الحرة.

وظل القانون الإفرنسي نافذًا فيها، ولم تكن ثمت فوارق أمام القانون، وكانت المحاكمة علنية والحكام مستقلين، ومجلس الدولة يُستشار في جميع الأُمُور التشريعية وإدارة الشرطة لا بأس بها، وكان التعليم في هذه الدوقية منتشرًا بالنسبة إلى أكثر أنحاء إيطالية، ففي أكثر النواحي مدارسُ للأولاد حتى بلغ عدد الذين يؤمون المدارس نحو خمس السكان.

لوكا

وكانتْ دوقية لوكا من أصغر الدويلات الإيطالية، فمساحتُها لا تتجاوز ثمانمائة وخمسين كيلو مترًا مربعًا، ونفوسُها يبلغون مائة وخمسين ألفًا، وقد خَوَّلَها مؤتمرُ فينا حق الاحتفاظ بدستور ١٨٠٥، بَيْدَ أنه سرعان ما ألغي هذا الحق، ومع ذلك فإنَّ الحكومة لم تكن متعصبة ولا ظالمة.

وكانت الأميرة في هذه الدوقية كريمةَ الخلق حتى إنها استطاعت أن تنال ثقة أحرار إيطالية الذين رأوا في ابنها الأمير «شارل لويس» الزعيم المؤمل في ثورة ١٨٣١، بَيْدَ أن هذا الأمير أصبح سخرية إيطالية؛ إذ اعتنق البروتستانتية لشهوةٍ في النفس، ثم عاد إلى الكنيسة الكاثوليكية.

وكانت البلاد متمتعة برخاء نسبي تستفيد من محصول زيتونها فائدة كبيرة، ولكن محصولاتها الزراعية لم تكن تكفي سكانها الكثيرين، فأخذ فريقٌ منهم يهاجر منها، وفي الدوقية كثيرٌ من المدارس الابتدائية ونحو نصفها مجانية، وكانت المدارسُ الثانويةُ فيها جيدة، أما الجامعةُ ففيها خمسة وعشرون معلمًا ومائة وثمانون تلميذًا.

طوسكانه

وكانت طوسكانه الحكومة الوحيدة — بعد بيمونته وبارمه — التي خضع لها رعيتها عن طيبة خاطر، وإذا قورنتْ هذه الحكوماتُ بحكومات إيطالية الأخرى؛ ظهر أنها صالحةٌ متساهلة مستنيرة.

وكانت الإصلاحات الحسنة من تقاليد أحفاد «لئوبولد» الأول أول دوق نمسوي كبير حَكَمَ البلاد، وهو من الأحرار الذين أنجبتهم أسرة هابسبرج، وكان وزير الدولة الأول ميالًا بطبعه إلى الهدوء والسكنينة، ويرى أن السكون وحده كفيلٌ بتجنب البلاد الأزمات، وشعاره في ذلك كله: «أن العالم يسير بنفسه»، فلم يكن — والحالة هذه — يأبه بالمبادئ، وإن كان في طبعه وسياسته يميل إلى خير الشعب.

وكانت التعليماتُ الصادرةُ إلى الأغنياء الذين تَوَلَّوْا شئون الإدارة ألا يبذلوا جهدًا كبيرًا، قانعين بقبض رواتبهم، وقد خدم هذا الوزيرُ في عهد نابليون، وكان يحب أن يشتهر بالتسامُح والرُّقِيِّ، فلذلك نراه في فُرَصٍ عديدة يقبل اللاجئين من الروماني ومن نابولي، ويساعد أهل فلورنسه العاصمة على أن يرسلوا المتطوعين إلى بلاد اليونان الثائرة.

وكان الأمير لئوبولد الثاني بورجوازيَّ الطبع محترَمًا نشيطًا، وكان يحث الأشراف على أعمال الري وزيارة مزارعه التجريبية، ورغم أن الوزير الأول كان يسعى للحيلولة دون جعل طوسكانه إيالة نمسوية؛ فإن الأمير كان — بحكم قرابته للأسرة المالكة في النمسة — يميل إلى تنفيذ أوامر فينا.

وكانت القوانين خفيفةَ الوطأة، ويعد قانون العقوبات الذي وضعه لئوبولد الأول في حينه نموذجًا في كل أوروبا، وكانت المحاكَمة بمقتضى القانون علنيةً ويجوز إطلاق سراح المتهم بالكفالة ولا يحكم بالموت إلا نادرًا.

وقد بلغ من تساهُل الشرطة حدًّا وبخها معه مترنيخ، ومع ذلك فإن التجسس فيها كان نشيطًا فلم تنتهك حرمة البريد في أي بلادٍ أخرى كما انتهكت في طوسكانه، وقد بلغت مهارة الشرطة في فتح الرسائل والاطلاع على أسرارها مبلغًا عظيمًا، حتى إن حكومة ميلانو استعانت بخبرتها في هذه الشئون.

وكانت الرقابة على المطبوعات تتساهل إلى حدٍّ ما في نقد الحكومة، وكانت الكتب الممنوعة تباع أحيانًا في المكتبات علنًا، أما الكتب الأجنبية فكانت تدخل البلاد بحرية، وكانت مكتبة «فيوسُّو» Vieusseux في فلورنسه المحل الوحيد في إيطالية الذي يتمتع الناس فيه بحريتهم، فيتداولون في الأُمُور السياسية، ويقرءون جرائدَ أوروبا المهمة.

وكانت الضرائب خفيفة وعادلة، وليس هناك من حصر أو امتيازات تُقيد التجارة، وكانت ضريبة المستورَدات أقل منها في أوروبا، وبلغ تعلُّق الناس بحرية التجارة إلى درجة أنه رُفض الاقتراح بوضع تعريفة تُقيد أجرة للمركبات في فلورنسه.

أما الجيش فقد أُهمل أمره تمامًا، بل أُهين، وإذا ما أُريد الاحتفاظُ به فذلك تنفيذ لما فوضته المعاهدات من جهة ولسماع الموسيقة العسكرية من جهةٍ أُخرى، وكان أغلبُ الضباط من الأُسر الغنية والجنود من سواد الشعب، وهناك كتائبُ تُدعى كتائبَ التوبة يساق إليها المجرمون، وكان للحكام تأثيرٌ في الفساد العام، وبلغ التَّردِّي في هذا الأمر درجةً أصبحتْ معها العدالةُ في طوسكانه فاسدة لا يُوثق بها.

ورغم أن الحريات ظلت مَرْعِيَّةً فقد أضاعت البلديات كل سلطتها الفعلية، وأصبحت أداة لجباية الضرائب، وكانت طوسكانه تاريخيًّا مجمعًا من ناحيات أعرق ديمقراطية من الدول المتحدة الأمريكية، أما الآن فأصبحت عاجزة عن فرض الرسوم، تعيِّن الحكومةُ المركزية الموظفين، وهؤلاء كانوا يطأطئون الرءوس أمام سيدهم المطاع: الشرطة، ولعل طوسكانه كانت أرقى دولة في إيطالية، بيد أنها كانت كما قيل عنها «حديقة من حدائق الجنة»، محرومة من شجرة العلم وشجرة الحياة.

ولم يكن الأشرافُ في طوسكانه من دوحة الأشراف القدماء، إنما كانوا من أحفاد المتمولين والأمراء التجار في فلورنسه في القرون الوسطى، فظلوا دائمًا تُجَّارًا وزراعًا، وبرز من هؤلاء الأشراف مصلحون اجتماعيون غُير، وكانت جمعية جورج فيس George Fils تشجع الناس على دراسة الاقتصاد وفتح المدارس وتأسيس صناديق التوفير واشتهر «روفائيلو لمبرو شكيني وأنريكو ماماير» في نشر التعليم الابتدائي والثانوي كما أن «برنامي وريكاسولي» اندفعا نحو الإصلاحات الزراعية، وكان الكثيرُ منهم يرى «أن السياسة لا تغني فتيلًا، وأن العادات الاجتماعية هي الكل في الكل.»

وكانت الكنيسة في طوسكانه متمتعة إلى حدٍّ ما باستقلالها، وقد رفضت الحكومةُ أن تتساهل مع اليسوعيين، وبما أن الحكومة تُدرك الدور السيئ الذي لعبتْه الهيئات الدينية فيما مضى فإن هدفها أصبح إنقاذ البلاد من استبداد الإكليروس الذي استبعد بيمونته، ودمر الروماني، وطبيعي أن يكون التعليم سيئًا حينما ترعاه إدارةٌ فاسدةٌ وإكليروس جاهل، وقد كانت الحكومة تحمي جامعتي «بيزه وسينه»، اللتين يدرس فيهما العلوم ما عدا الحقوق والطب إلا الشيء القليل، وكانت المواضيع حتى في هاتين الشعبتين لا تتعدى الدرجة الثانوية، فضلًا عن أن النتائج كانت ضعيفةً لضعف الأساس في التعليم الابتدائي.

وكانت المدارسُ الثانوية قلية ولكل ناحية مدرسةٌ ابتدائية مجانيةٌ للبنين، وكان عددُ التلاميذ الذين يَؤُمُّون المدارس في الأرياف لا يتجاوز عُشْر الذين تؤهلهم أعمارُهُم للانتماء إليها، ولما وضع الأعضاء الناهضون في الوزارة مشروعَ الدراسة الابتدائية لم يكن فيهم الحماسة الكافية لمقاومة دسائس روما التي جهدت لإحباط المشروع.

وبقدر ما كان عدم تدخُّل الحكومة في شئون المعارف وبالًا على التعليم فإنه كان نافعًا للصناعة، إلا أنه لم يكن في البلاد النشاطُ الكافي لتنعم عليها برخاء كالرخاء الذي كان يسود لمبارديه.

وكانت أكثريةُ الناس تحترف الزراعة نصفهم أصحاب أملاك، والثلث أصحاب مزارع، أما طرق الزراعة فكانت متأخرة ولا شك في أن القرويين لم يكونوا قد تقدموا في الفهم الاقتصادي، إلا أنهم كانوا يأكلون طعامًا جيدًا وكانت حالتهم مؤمَّنة، وطالما خيم البؤس المدقع على الفلاحين الذين كان عددهم في تزايُد، وعلى الرغم من أن التسول كان ممنوعًا في فلورنسة، فإن عدد المتسولين فيها كان كثيرًا.

وخلاصة القول أن السائح الذي يتجول في طوسكانه حينما يشاهد رخاء البلاد ورضاءها يَلُوح له أن طوسكانه هي أسعدُ قُطْر في العالم، أما الحقيقة فهي أن هذا البناء الجميل كان مشيدًا على أساسٍ واهٍ، وإذا كان في هذه البلاد مَن يُمكن اعتبارُهُم متمتعين بالحياة الحقة الخصبة؛ فأولئك هم أهلُ الساحل الأَشِدَّاء في ليفورنا وتلاميذ جامعتي «بيزه وسينه».

دويلات الكنيسة

تقع هذه الدويلات وسط إيطالية، ويبلغ عدد نفوسها مليونين ونصف المليون، وكان الفرق البارز بين هذه الدويلات وبين جميع دول أوروبا هو حكومة رهبانها، وكان العالم الكاثوليكي يرى أن شرف البابا وكرامته يتطلبان بأن يتمتع بحقوق الأمير وامتيازاته ومن أجل ذلك تأسستْ دولةٌ مستقلةٌ يحكمها البابا بصفته ملكًا، ومعنى هذا أن رجال الدين وحدهم هم الذين كانوا يديرون شئون حكومة الله، فهم الذين يضعون القوانين، ويحكمون الإيالات، ويقضون في المحاكم، ويديرون شئون التعليم والشرطة، وكان مجلس الكرادلة المقدس الذي ينتخب البابا أعضاءه مسرحًا للدسائس الإفرنسية والنمسوية.

وكانت الدولة الكاثوليكية ترى أن مصلحتها تقضي بأن ينتخب بابا ضعيف الإرادة كبير السن رازحًا تحت ثقل تعهُّدات يتحملها على عاتقه أمام الحزب الذي انتخبه.

وقد قال شاتو بريان: «إن أصل البلاء في حكومة روما أن شيوخًا طاعِنِي السن يعينون شيخًا طاعنًا مثلهم، وإن هذا الشيخ مقابل ذلك لا يعين كردينالًا إلا من الشيوخ.» ومن ضُرُوب الأمثالِ الشائعة في روما المثل الآتي: «حكومةُ كل بابا عدوةٌ للحكومة التي سبقتها.»

وقد كانت الحكومة خارج روما أيضًا بيد رجال الدين، فكان الكرادلة يحكمون البلدان الأربعة «الروماني وبولنية وفراره ورافينته وفورلي»، وكان الأساقفة يحكمون البلدان الأُخرى ذات الأهمية الضئيلة، وكانت سلطة الكرادلة لا حَدَّ لها فكانوا يطالبون بحق فرض الضرائب كما يشاءون، ويهملون أوامر روما، بل ينحرفون عنها.

وكان هؤلاء الأمراء الكَهَنة يُعاكسون كل تجدد، ففي نظرهم أن السكة الحديدية والبرق والتجارة الحرة واكتشاف لقاح الجدري والأدبيات الحديثة هي عدوةُ الكنيسة، ولقد كانت الشئون المالية في هذه الدولة على أسوأ حال.

أما الضرائبُ فكانت خفيفة الوطأة، ولكن التجارة كانت مقيدةً بالحواجز الجمركية، فضلًا عن فُقْدان السكك الحديدية والطرق الصالحة، وتخبُّط الحكومة وانغماسها في المراسم، وكانت العصابات منتشرة في بعض النواحي، ولا سيما بالقرب من الحدود المتاخمة لمملكة نابولي، وكان لكل إيالة نظام خاص للموازين والمكاييل، وقد أدت الضرائب إلى ازدياد حوادثِ التهريب، وكان الأسقف الذي يتولى شئون الخزينة يستنكف من درس الاقتصاد السياسي، زاعمًا أنه ضارٌّ.

وكان الإفرنسيون قد قضوا على مؤسسات البلدية القديمة العهد، ولما عادت الأُمُور إلى مجاريها بعد مؤتمر فينا قضى الوزيرُ الأول على ما بقي منها، وكان في الناحيات هياكلُ وحكوماتٌ، ويشرف الحاكم في الإيالة على الشرطة ويدير شئون العدل وهو فَعَّالٌ لما يريد في الناحيات، يتجاوز كل قيد في سبيل مراضاة آمره الكهنوتي.

وكانت القوانين عبارة عن مجلدٍ ضخم من الأوامر والمراسيم التي لا تَناسُب بينها، والتي صدرت في جميع الأدوار فأكل عليها الدهرُ وشرب، ولقد احتفظ بقانون التجارة الإفرنسي وأريد بعد مدة وضع قانونٍ مدني على غرار قانون نابليون، إلا أنه كان يحتوي كثيرًا من المساوئ القديمة كمنعه الطلاق وحرمانه النساء من الإرث وإبطاله الوصيات التي لا تحتوي هبة للكنيسة.

وكان مجلس البابا القدسي يستطيع أن يُلغي أحكامَ جميع القوانين، وكانت أُصُول المحاكَمة تَستمدُّ أحكامها من قوانينِ الكنيسة؛ فلذلك كان للراهب صبغة مقدسةٌ فلا يُحاكم إلا أمام محاكَم مؤلفة من رجال الدين، وكانت العقوبة التي يُعاقب بها أَخَفَّ من عقوبة الرجل العلماني. وأما المحكومون السياسيون فكانوا يُسجنون في محلات سافلة، ويُزجون مع المجرمين الآخَرين، أو يقيدون بالسلاسل ويقضون حياتهم في غيابات الجب.

وكانت الشرطة عاتية كل العتو؛ فهي تستطيع أن تَسجن الشخص أو تنفيه أو تراقبه أو ترفض إعطاءه جواز السفر، وتفرض عليه الإقامة في المحل الذي تختاره له وتحرمه من الحقوق المدنية، وقد تحرمه من عمله وتمنعه من حَمْل السلاح أو من الخروج ليلًا من داره، وتفتح الرسائل في دائرة البريد، وتخترق حرمة مسكنه وتفتش أوراقه، كما أنها تستطيع أن تغلق المخازن والمقاهي والفنادق وتضعَ الجزاء النقدي كما تشاء، وكان التجسُّس عامًّا والناس يوقَفون بمجرد رغبةِ راهبِ القرية.

وبينما كان مجلس التفتيش يضطر الشعبَ إلى الظهور بمظهرٍ واحد كانت الحكومة تسعى لِمَحْو الإلحاد والشغب بشل التعليم، وكان مما يسند إليها أنها تتساهل في القضاء على الرذيلة وتضطهد الفكرَ الحر، وكان أحد أسياد الكنيسة لا يتورع عن القول: «تسهل جدًّا إدارة الشعب الجاهل.»

وكان رجال الإكليروس يحتكرون التعليم، فأفسدتْه أنظمتُهُم الصارمة، وكان لا يستطيع أحد أن يعلم من دون مساعدة الأسقف، وسيطر اليسوعيون على التعليم الثانوي، أما رهبان الإيغنورانتينه Ignorantine الذين لا يحبهم الشعب فأَلَّفُوا الهيئات التعليمية في كثيرٍ من المدارس الأولية، فكان أكثر الأساتذة في الجامعات من رجال الكهنوت، ولم تبذل أيةُ عناية لتعميم التعليم الابتدائي بين الشعب، حتى إن البنات حُرِمْنَ من التعليم الابتدائي حِرْمَانًا كليًّا، وكان الرأي العام ينقم على كل من يعلم بناته، ويقدر عدد الذين يؤمون المدارس باثنين في المئة، أما في روما فترفع هذه النسبة إلى عشرة بالمئة.

وقد كان طلاب المدارس الثانوية يُحملون على حشد أدمغتهم بدراسة الصرف والنحو اللاتيني، وبدراسة ما وراء الطبيعة القديمة مما يُفسد قرائحَهم، على أن هذا التعليم الناقص لم يَحُلْ دون كثرة الجامعات، فهناك جامعتان كبيرتان في روما وبولونيه وجامعات فرعية أُخرى في «بيرونه وفراره وكمبيرينو ومسبراتو وفرمو».

وعلى الرغم من أن هذه الجامعات لا تدرس فيها الآداب الحديثة والاقتصاد السياسي وما شابه ذلك من المواضيع؛ فإن الحكومة كانتْ في قلقٍ مستمر مِنْ أن تكون هذه الجامعات مباءة للحرية، وقد منع اليسوعيون دراسةَ دانتي في مدارسهم، وحين تأسيس بعض المعاهد الخاصة لدراسة المؤلفات الاقتصادية؛ ما أسرع ما منعتْ من ذلك، وبلغ تقيُّد التعليم حدًّا منع معه أحدُ الرقباء تلاوة أشعار نُظمت عن الزلزال.

ولم يُسمحْ بقراءة المؤلَّفات الإيطالية والأجنبية، فضلًا عن أن أكثر المؤلفات الحديثة المشهورة ومعظم الجرائد أُدخلتْ في قائمة المطبوعات الممنوعة، وكانت الحكومات تنشد من هذا المنع أنْ تصون الإيمان الديني من أن يتزعزع، وفاتها أن هذا الاضطهاد نفسه من شأنه أن يخدم حرية الفكر، وأن يؤدي إلى تمسك الطبقات المثقفة بها وإلى تقويض دعائم السلطة البابوية، وطبيعي أن تؤدي كثيرٌ من الأنظمة الأخلاقية الشديدة إلى عكس ما يُراد منها، إذا كان القائمون على تنفيذها أنفسُهُم فاسدي الأخلاق.

فالرقابةُ الشديدةُ حرصتْ على أنْ تكون المسارحُ طاهرة، ولكنها سمحت للكنائس بأنْ تكون بؤرةً للدسائس والفساد، وقال أحدُ الحكام الأيرلنديين وقد ساح في الأرض: «إن رعية البابا هم الشعب الأوروبي الوحيد الذي يلاقي اضطهادًا أكثر مما يلاقي أبناء وطنه (الأيرلنديون).»

أما جور العصابات وتعديات رجال سنتوريون Centurion فقد قضت على البقية الباقية من الرفاء الذي كان يتنعم به القرويون والمزارعون، وكانت جمعية السانفيديست Sanfedist تضم بين جنبيها العاطلين ليصبحوا حماة الإيمان المتحمسين، والأنكى من ذلك كله أن الخلافات الموروثة قد انقلبتْ فيما بعد إلى كفاحٍ دموي بين الأحرار وجماعة السانفيديست، وكانتْ دولة الروماني دائمًا ساحةً للمؤامرات، وكان أكثرُ الأحرار من أنصار الانفصال عن روما. ولم يكن هناك تجانسٌ بين المناطق الغربية والمناطق الشرقية؛ إذ كانت جبال الأبنين تفصل بين روما والدويلات الأخرى، وكانت هذه الدويلات قريبةً في عاداتها وأهوائها من الإيالات التي ألَّفت بلاد إيطالية.

ولم تَنْسَ مدن الرومان الحرية المفقودة التي كانت تتمتع بها بموجب المعاهدات القديمة، لقد قضى نابليون على هذه الحرية ورفض الوزير الأول في حكومة البابا أن يُعيدها فاعتبرت هذه الحكومة ناكثة لعهودها، وكانت أكثرية أهالي بولونيه الفخورة بتأريخها وجامعتها وتجارتها يحملون في صدورهم حقدًا على روما، ومن جملة الأمثال الشائعة في الروماني «الترك ولا البابا»، حتى إن القسم الكبير منهم كان يرضى بحكم النمسة إذا استطاعت أن تنقذهم من جور الحكومة البابوية.

وكان البعض من رجال السياسة يرتئي أن الحكم الذاتي هو الواسطةُ الوحيدة لاحتفاظ روما بإيالات الأدرياتيك، وكلما حدثتْ أزمةٌ في الدولة يتجلَّى الشعور بالانفصال شيئًا فشيئًا.

والخلاصة أن روما كانت كما وصفها مترنيخ «مرسحًا ضخمًا لممثلين سيئين، كنائسها حافلةٌ بالزينات إلا أنها خالية من الناس.» وكانت المدينة في ظاهرها من أطهر مدن أوروبا خُلُقًا، أما في الواقع فكانت من أفسقها، وكانت الصناعة فيها غير ناشطة والمتسولون منبثِّين في طرقاتها وأكثر فقرائها عالةٌ على بيوت الأساقفة والأشراف، أما العامة فكانت تحمل في قلبها ولاء لا حدَّ له للبابا، وفيما عدا بعض الفترات فمدينة روما كانت أقلَّ إيطاليةً من جميع المدن الإيطالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤