الفصل السادس

إيطالية بأجمعها

إن الذين لا يُصَدِّقُون وجودَ أمة إيطالية، يؤيدون دعواهم باختلاف السجايا التي يتصف بها أهل الدويلات المختلفة فيها، وندرة الصفات المشتركة بينهم، ويشيرون مثلًا إلى الفرق بين ابن بيمونته الرزين المجتهد، وبين العامل الفرفار العاطل الخليع في فنيسيه ونابولي، وكذلك بين الطوسكاني الذكي اللطيف والصقلي الحديد المزاح السفاك، ثم يقولون إنه لم يجمعهم أصلٌ مشترك.

فالدم الجرماني هو الحاكم في الشمال، بينما الدم العربي والنورمندي والإسباني قد ترك آثاره في صقلية، أما الدم الإيطالي والأترسكي القديم فبقي في طوسكانه وبعض المناطق الوسطى مع معرفة أنه لم يكن نقيًّا، أما الحكومات المختلفة في تلك الدويلات فقد كَوَّنَتْ في الشعوب الإيطالية عاداتٍ اجتماعيةً متفاوتة، ونظم التملُّك العقاري لا تَشابُهَ بينها مطلقًا، وقد دفعتهم إما إلى النشاط في الصناعة أو الركود فيها، أما درجة التعليم فإما راقية وإما منحطة.

وهذه التقاليد والعادات الإقطاعية كانت سائدة في بيمونته ونابولي وصقلية، بينما لم تبق في طوسكانه ولمبارديه إلا آثارٌ لا قيمة لها إن لم يكن قد نُسي أكثرها، على أنه لا بد من ملاحظة أوجُه الشبه بين هذه الدويلات رغم تلك الفروق، فالتفاوتُ بين بيمونته ونابولي في إيطالية لم يكن أعظمَ منه بين البروفنسيين والنورمنديين في فرنسة، أو بين البروسيين والبافاريين في ألمانية، أو بين الإنجليز والأيرلنديين في إنجلترة. ولكن مما لا شَكَّ فيه أَنَّ الامتزاجَ العظيم الذي حدث بين هذه الأجناس المختلفة ووحدة التفكير؛ قد ضمن وجودَ أساس للاتحاد.

وعلى رغم اختلاف اللهجات في إيطالية فإن اللغة كانت واحدة والاسم واحدا، وهناك ذكرى مشتركة لِماضٍ مجيد، يوم كانت روما تحكم العالم، وكانت كل منطقة من مناطق إيطالية تحتفظ بذكريات الرجال العِظام، الذين أنجبتْهم إيطالية، وتفتخر بأعمال روما الخالدة، وكان لإيطالية أدبٌ مشترك، وكلها تفخر بدانتي ومكيافيلي.

وعلى الرغم من التحاسُد بين بيمونته وجنوة، وبين نابولي وصقلية، وبين الروماني وروما، وعلى الرغم من تضارُب المنافع حتى بين صغار المقاطعات؛ فإنه كان واضحًا لَدَى المفكرين أن الشعورَ بالمصلحة المشتركة يدفع أجزاء إيطالية المتفرقة إلى اندماج بعضها بالبعض الآخر، لِتكوين إيطالية الموحدة.

ويتألف الشعبُ الإيطالي من طبقاتٍ عدة، وكان الإكليروس البالغ من العدد مائة وخمسين ألفًا يؤلف الطبقة القوية؛ إذ كان نفوذه متغلغلًا في جميع الأنحاء، فبإشرافه على المدارس وبسلطته في مراسم الزواج وبمقدرته على فتح أبواب السماء؛ قد استطاع أن يسيطر على النفوس وأنْ يصبح ذا نفوذٍ لا حَدَّ له بين الشعب الإيطالي المتدين، فليس مستبعدًّا — والحالة هذه — أن تقف الكنيسة بجانب الأمة في كفاحها ضد الأجنبي، فقد وجد بين الخوارانة والرُّهبان وطنيون، وراحَ منهم في كل ثورة شهداء، وكانت نارُ الوطنية متأججةً في أَدْيِرَةِ لمبارديه وصقلية.

أما الطبقة الثانيةُ في إيطالية، فكانت طبقة الأشراف، وقليلٌ منهم مَن كان يملك أرضًا، ويعيش هذا القليلُ دائمًا في المدن بعيدًا عن أملاكه ما عدا أشراف صقلية وكلبريه، وأخيرًا أشراف بيمونته، وبذلك أضاع الأشرافُ نفوذهم في مناطق أملاكهم، وكثر لقب الكونت في الشمال وفي الوسط ولقب الدوق والأمير في الجنوب، فقلل الكثرة من قيمة هذه الألقاب.

وكان الأشراف في نابولي وفنيسيه وروما متردين معروفين بفساد الأخلاق، حتى إن أحدًا من رجال السياسة لم يفكر قط في جميع التقلبات السياسية التي حدثتْ في ذلك العصر بالدعوة إلى إيجاد مجلسِ أعيانٍ، أما الأشراف في صقلية فكانوا أغنياء يتحمسون لما يتحمس له الشعب، وبذلك كانوا ذوي نفوذ عظيم، وقُلْ مثل ذلك عن الطبقة الأرستقراطية الفخمة في ميلانو من حيث النفوذ والغِنَى والقوة.

أما أشراف فلورنسة في طوسكانه فكانوا ينحدرون من أُسَر التجار في الجمهورية، وأما طبقة الأشراف العسكريين في بيمونته فإنها استطاعتْ — رغم خشونتها وتأخُّرها — أن تتمتع بميزتها الإقطاعية وبتقاليدِها الوطنية المتينة، فيرى الإنسان الأشراف على رأس كل حركة أو ثورة تنشب في سبيل الحرية، وكما حق للطبقة المتوسطة أن تفخر ببعض رجالها فلطبقة الأشراف أنْ تفتخر ببعض رجالها أيضًا، أما الطبقة الوُسطى فهي خير طبقات الأُمَّة؛ فقد قوى نفوذُها في العهد الإفرنسي.

واشتهرتْ «مودينه» بمدارس لتخريج الموظفين، ومن هؤلاء مهندسون وعلماء منشئون وأذكياء أصابهم التوفيق، ولكن هذه الطبقة كابدتْ من الاضطهاد أكثرَ مما كابدتْه أية طبقة أخرى بعد مؤتمر فينا، ولم يكونوا يتهافتون على الوظائف المدنية التي لم تُبهرهم؛ إذ كان الموظف في نظرهم رجلًا يبيع مواهبه لمضطهدي الأمة، فضلًا عن أن الوظيفة — في حد ذاتها — لا تُفسح أمام المرء مجال التقدم؛ فلذلك كان النمسويون في لمبارديه والأشراف في بيمونته وكبار الكهنة في دويلات الكنيسة يتولون أعلى المناصب.

أما المشارَكة في الآداب فكان طريقًا شائكًا؛ لأن الرقيب كان واقفًا بالمرصاد، ومع كل ذلك فقد عُنيت إيطالية بالكُتَّاب، وكان لها فلاسفتُها وشعراؤها وعلماؤها وقَصَّاصوها، هذا رغم أن الرقابة كانت تَحُول دون انتشار الكُتُب السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ ومما قيل في هذا الشأن أن الجرائد الرسمية كانت تبحث في شئون الهند واليابان أكثرَ مما تبحث في الشئون الأوروبية، ولا تبحث قَطُّ عن السياسة المعاصرة، وكانت مجلة «أتنالوجيا» هي المجلة الإيطالية الوحيدة التي تُضاهي المجلات الأوروبية الكبيرة، وكانت التجارة لا مخرج لها، فقوانين الحماية، والحواجز الجمركية، وفقدان العملة، وتبايُن الأوزان؛ كل هذه عراقيلُ تحول دون نُمُوِّها.

وكان خريجو الجامعات من الشبان يتهافتون على احترافِ القضاء أو الطب، وبذلك يتزايدُ جيشُ المتذمرين من الاضطهاد الاجتماعي الذي يقضي على طموحهم ويصليهم نار حياة عاطلة غير مجدية، وفي إيطالية أربعةٌ وعشرون جامعة تضم أربعة عشر ألف طالب من أبناء الطبقة الوسطى، وكانت هذه الجامعاتُ في طليعة كل حركة قومية تسيطر على الطبقة المثقفة كما أن حياتها الدموقراطية الحرة كانتْ تهدم الظروف الاجتماعية، وعليه فإن ارتيابَ الحكومة منها وإقامة العراقيل في سبيل تقدُّمها لم يكونا من دون سبب.

حقًّا إن الجامعات هي التي هيأت العنصر المثقف الذي قَادَ الحركة القومية فأنجبتْ لها المفكرين والكتاب والمحاربين، فأساتذة جامعة بولونيه هم الذين قادوا ثورة ١٨٣١، وأساتذة جامعة بيزا ويافيه وجنوة وطلابها؛ كانوا روح حركة التطوُّع التي جَنَّدَت القسم الأعظم من الألف الغاريبالديين.

وأخيرًا نتحدث عن الطبقة الرابعة، وهي طبقة العمال، وهذه لم تختلف حالتها عن حالة الطبقة المتوسطة من حيث الاضطهاد، ومع أن حالتهم من حيث المعيشة والسكنى كانت غير مريحة؛ فإن بساطة الحياةِ في إقليمٍ معتدل واستقرار التجارة؛ جعلاهم بمأمنٍ من الحاجة، وكان عدد العمال لا يتجاوز الخمسة عشر بالمائة من مجموع النفوس، وكانوا على العموم نشطين أذكياء، وبعضهم مثقفون ذَوُو مهارة فائقة من البَحَّارة ورؤساء العمال، ففي فنيسيه مثلًا كانوا من ذوي الثقافة العالية.

لم تكن إيطالية بلدًا صناعيًّا، ولم تزد المدن التي يتجاوز عدد سكانها المائة ألف نسمة عن الست، ولعل مجموع نفوس العواصم الثماني لا يبلغ المليون نسمة، ويزاول ستون بالمائة من مجموع النفوس مهنة الزراعة، ومع ذلك فإن حالة الزراعة كانت متأخرة، وكثيرٌ من الأراضي التي تعد من أخصب أراضي أوروبا كانت موبوءة بالملاريا، فضلًا عن الضرر البليغ الذي كانت تُلحقه بها الأنهار، ولم تكن غلة الأرض — على العموم — وافرة، إلا إذا استثنينا المراعي الغنية ومزارع الرز في بعض بقاع لمبارديه وبيمونته وحقول الزيتون والكروم والبرتقال في بعض المناطق.

وفي حضيض تلك الطبقات نرى طبقة الدهماء البائسة نسيتها الحكومة، ولم ينتبه إليها الأحرارُ، وليس ما يخفف من ويلاتها وشقائها سوى صدقاتُ الأمراء والمستشفيات الشهيرة ودور الأيتام، ومن هذه الطبقة الفلاحون في صقلية وفي سهول لمبارديه والقرويون الذين ينوءون بكثرة العمل والحاصدون المتنقلون من بقعةٍ إلى أخرى جريًا وراء رزقهم؛ هؤلاء كانوا أتعس حالًا من العبيد المستخدَمين في الصناعة الإنجليزية ومن القرويين في أيرلندة.

ومن الغريب أن هذا الشقاء الذي ابتُلي به أهلُ الأرياف لم يَلْفِتْ نظر الأحرار، وأغرب من ذلك أن حركةً تستمد قوتها من الطبقة المتوسطة وتقتبس تعاليمَها من مدرسة الحرية القديمة؛ تهتم كثيرًا بمساوئ الحكومة أكثر من اهتمامها بأحوال البؤساء الاجتماعية ونذكر هنا أن الحكم النمسوي لم يخل من بعض الحسنات كالنظام القضائي الجيد الرفيع، والمدارس الحسنة، أما الحكومة في طوسكانه فكانت قوانينها الجنائية راقية وكانت تأخذ بطريقة التبادُل التجاري الحر وتمتاز الحكومة في بيمونته بإدارتها النزيهة المستقيمة.

وليس في إيطالية إذا استثنينا لمبارديه وفنيسيه وبارمه أسلوبٌ للتعليم الوطني، وكانت القوانين في بيمونته ودويلات الكنيسة وفي مودينه؛ مرتبكةً، متأخرة، قاسية، تشين سمعة العدالة، وكانت المحاكم الاستثنائية في بيمونته ودويلات الكنيسة تحمي الإكليروس ولكل دولة محاكمُ سرية تراقب أية بادرة تبدو كمؤامرة سياسية، وكثيرًا ما تلجأ في مهمتها إلى التعذيب الروحي والجسماني، وتقف وراء هذه المحاكم السرية تشكيلات السيبري Sbirri١ المخيفة الهائلة التي تضطلع بالمسئولية وحدها، وأحيانًا مستقلة عن الحكومة إلى حدٍّ ما، تبث جواسيسها في المقاهي والمسارح وبين الخدم، وتستغل كراسي الاعتراف في الكنائس والمدارس والبريد؛ لكشف الأسرار، فويلٌ لمن يقع في يدها، فهي تستطيع أن تُنهيَ خدمات الرجل في الجامعة والإدارة والتجارة كما أنها تتمكن من أن تمنعه من السياحة أو أنْ تحرمه من إرسال أولاده إلى الدراسة في الخارج فضلًا عن أنها كانت تَستخدم نفوذها لسحق خصومها الشخصيين.

فإذا عَلِمْنا ذلك كله تتضح لنا الأسباب التي أحرجت الطليان فأخرجتهم، ودفعتهم إلى الاحتجاج اليائس وقادتهم إلى طريق المؤامرات، حقًّا إن الاعتساف الشائن الذي ينزل بالأشخاص والاستهتار بالعدالة والقيود التي لا تطاق والتي فرضت على الحياة الشخصية؛ كل ذلك حفز الطليان على الثورة، وإذا أضفنا إلى ذلك كله فقدان الحياة السياسية في إيطالية؛ تَجَلَّى لنا سُوءُ الحالة؛ إذ كيف يرضى الإيطاليون أن يروا أن لفرنسة وإسبانية والبورتغال مجالسُ نيابية بينما هم محرومون حتى من الاجتماعات، ومِن حق تأليف الأحزاب السياسية في بلدهم فضلًا عن أَنَّ حرية الكلام والكتابة مقيدة، وانتقاد سياسة الحكومة محظورٌ وليس لهم رأيٌ في الضرائب المفروضة عليهم ولا يُستشارون في المسائل الاشتراعية.

إذن ليس من الإنصاف أن نلوم إيطاليِّي ذلك الحين؛ لأنهم إذا كانوا غير متحلِّين بفضائل المواطن الاعتيادية، ولأن عقيدتهم لم تتعد النظريات والمناهج، وأنهم قَصَّروا في الثبات وفي الناحية العملية؛ فإن هذه النقائص كلها نتيجةٌ لازمةٌ لوضعهم المخيف الذي لم يكن يشجع بتثقيفهم ولا بتدريبهم على احتمال المسئوليات.

١  سبيرو Sbirro: موظف الشرطة السري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤