مَسْلَاةٌ (كُومِدْيَا) فِي الْإِصْطَبْلِ

figure
أَبُو زِيَادٍ (الْحِمَارُ يُخَاطِبُ الْعَنْزَ) : «حَذَارِ — يَا أُمَّ الْأَشْعَثِ — وَإِيَّاكِ أَنْ تَتَمَادَيْ فِي هَذَا الْعَبَثِ. لَقَدْ أَزْعَجْتِنَا بِجَلَاجِلِكِ هَذِهِ … وَكَأَنَّمَا نَسِيتِ مَا كَابَدْتُهُ مِنَ الْعَنَاءِ طُولَ الْيَوْمِ. أَلَا فَلْتَعْلَمِي — إِنْ لَمْ تَكُونِي تَعْلَمِينَ —أَنَّنِي قَضَيْتُ نَهَارِي كُلَّهُ عَدْوًا (جَرْيًا) بِلَا رَاحَةٍ، وَقَدْ بَرَّحَ بيَ التَّعَبُ (آذَانِي أَذًى شَدِيدًا)، فَأَصْبَحْتُ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَى النَّوْمِ، فَالْبَثِي (امْكُثِي) فِي مَكَانِكِ هَادِئَةً سَاكِنَةً، وَاحْذَرِي أَنْ تُكَدِّرِي عَلَيَّ صَفْوَ مَنَامِي بَعْدُ!»
figure
أُمُّ الْأَشْعَثِ (الْعَنْزُ تُخَاطِبُ الْحِمَارَ) : «عُذْرًا — يَا «أَبَا زِيَادٍ» — وَاصْفَحْ عَنْ زَلَّتِي، وَتَجَاوَزْ عَنْ خَطِيئَتِي، فَإِنِّي عَلَيْهَا جِدُّ نَادِمَةٍ، وَمَا كُنْتُ لِأَتَعَمَّدَ إِيقَاظَكَ مِنْ سُبَاتِكَ (تَنْبِيهَكَ مِنْ نَوْمِكَ)، وَلَكِنَّهَا حَشَرَةٌ خَبِيثَةٌ — لَسْتُ أَدْرِي مَا هِيَ — قَدْ لَدَغَتْنِي فِي رَقَبَتِي، فَلَمَّا هَمَمْتُ بِدَلْكِهَا، وَرَفَعْتُ رِجْلِي — فِي خِفَّةٍ وَحَذَرٍ — لِأُخَفِّفَ أَثَرَ اللَّدْغِ — دَقَّ جَرَسِي — عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ مِنِّي — فَأَيْقَظَكَ مِنْ نَوْمِكَ.»
الْخَنْسَاءُ (الْبَقَرَةُ تُخَاطِبُ الْعَنْزَ، تَرْفَعُ عَيْنَيْهَا الْكَبِيرَتَيْنِ وَقَدْ تَمَثَّل فِيهِمَا الْحُزْنُ وَالْأَلَمُ) : «أَيُّ جَلَبَةٍ هَذِهِ؟ أَلَا تَكُفِّينَ — يَا أُمَّ الْأَشْعَثِ — عَنْ هَذَا الْعَبَثِ؟ لَقَدْ أَزْعَجْتِنِي بِجَلاجلِكِ، وَأَيْقَظْتِنِي مِنْ سُبَاتِي (نَوْمِي) بِتِلْكَ الثَّرْثَرَةِ الْفَارِغَةِ وَالْكَلَامِ الْكَثِيرِ! هَذَا اعْتِدَاءٌ سَمِيجٌ (قَبِيحٌ) لَا أُطِيقُهُ. أَلَا تَعْلَمِينَ أَنَّكِ أَضَعْتِ عَلَيَّ الْحُلْمَ اللَّذِيذَ، الَّذِي كُنْتُ أَنْعَمُ بِهِ فِي أَثْنَاءِ نَوْمِي؟ لَقَدْ تَمَثَّلَ لِي — فِي عَالَمِ الْأَحْلَامِ — يَوْمٌ سَعِيدٌ مِنْ أَيَّامِ الْخَرِيفِ، لَنْ أَنْسَى طِيبَهُ مَا حَيِيتُ فَقَدْ غَابَ عَنَّا «ابْنُ وَازِعٍ» (تَعْنِي الْكَلْبَ) — فِي ذلكِ الْيَوْمِ — فَخَرَجْتُ مَعَ بِنْتِي «الْجُؤْذَرَةِ» تِلْكِ الْعِجْلَةِ الظَّرِيفَةِ، حَيْثُ قَضَيْنَا الْيَوْمَ كُلَّهُ نَاعِمَيْنِ بِأَكْلِ الْبِرْسِيمِ الْهَنِيءِ السَّائِغِ، فَلَمَّا جَاَءَ الْمَسَاءُ ظَلِلْنَا نَمْرَحُ (اشْتَدَّ فَرَحُنَا وَنَشَاطُنَا حَتَّى جَاوَزَا الْقَدْرَ) فِي قِمَّةِ الْجَبَلِ (فِي أَعْلَاهُ)، بَيْنَ أَشْجَارِ الصَّنَوْبَرِ وَالشُّوحِ الْكَبِيرَةِ. فَمَا كَانَ أَرْوَعَهُ مَنْظَرًا، وَمَا كَانَ أَطْيَبَ تِلْكَ الْأَزَاهِيرَ الشَّذِيَّةَ الْمُعَطَّرَةَ … ثُمَّ سَمِعْنَا صَوْتَ سَيِّدِنَا الْإِنْسَانِ يُنَادِينَا وَهُوَ فِي سَفْحِ ذَلِكِ الْجَبَلِ الشَّامِخِ (الشَّدِيدِ الِارْتِفَاعِ).»
أُمُّ فَرْوَةَ (النَّعْجَةُ تُخَاطِبُ الْعَنْزَ) : «نَعَمْ — يَا أُمَّ الْأَشْعَثِ — لَقَدْ أَسَأْتِ إِلَيْنَا بِمَا فَعَلْتِ، وَأَيْقَظَنَا جَرَسُكِ مِنْ نَوْمِنَا جَمِيعًا، وَلَنْ نَسْتَطِيعَ النَّوْمَ بَعْدَ الْآنَ. وَلَيْسَ لَنَا مِنْ حِيلَةٍ نَتَحَوَّلُهَا لِنَقْضِيَ الْوَقْتَ الْبَاقِيَ إِلَّا أَنْ نَجْتَرَّ شَيْئًا مِمَّا اخْتَزَنَّا … مَا رَأْيُ الْخَنْسَاءِ فِي ذَلِكِ؟ لَقَدْ خَزَنْتُ مِقْدَارًا كَبِيرًا مِنَ الْحَشَائِشِ فِي جَوْفِي!»
أَبُو زِيَادٍ (الْحِمَارُ مُخَاطِبًا النَّعْجَةَ) : «وَمَاذَا أَصْنَعُ الْآنَ؟ وَكَيْفَ أُضَيِّعُ الْوَقْتَ؟ أَنَسِيتِ — يَا أُمَّ فَرْوَةَ — أَنْ لَيْسَ لِي أَرْبَعُ كُرُوشٍ مِثْلُ مَا لَكِ؟ فَمَنْ لِي بِأَنْ أَجْتَرَّ كَمَا تَجْتَرِّينَ؟ أَلَا تَنْظُرِينَ إِلَى أَرْجُلِي؟ إِنَّكِ لَوْ أَنْعَمْتِ النَّظَرَ، لَرَأَيْتِ أَنَّنِي مِنْ غَيْرِ فَصِيلَتِكِ وَطَائِفَتِكِ، كَمَا أَنَّ صَدِيقِي «لَاحِقًا» لَا يَجْتَرُّ كَذَلِكِ، فَقَدْ وَقَانَا اللهُ — سُبْحَانَهُ — تِلْكِ الْعَادَةَ السَّيِّئَةَ؛ أَعْنِي أَنَّنَا لَمْ نَعْتَدْ أَنْ نَأْكُلَ مَرَّتَيْنِ — كَمَا تَفْعَلِينَ — لِأَنَّكِ تَأْكُلِينَ ثُمْ تَخْزُنِينَ جُزْءًا مِمَّا أَكَلْتِهِ، فِي كرِشِكِ (مَعِدَتِكِ، وَالْكَرِشُ — لِذِي الْخُفِّ وَالظِّلْفِ وَكُلِّ مُجْتَرٍّ — بِمَنْزِلَةِ الْمَعِدَةِ لِلْإِنْسَانِ) لِتَجْتَرِّيهِ وَقْتَمَا تَشَائِينَ.»
أَبُو دُلَفَ (الْخِنْزِيرُ) : «وَمَاذَا أَنَا صَانِعٌ أَيْضًا؟ وَكَيْفَ أُضِيعُ الْوَقْتَ الْبَاقِيَ، أَيُّهَا الْإِخْوَانُ؟ أَنَسِيتِ — يَا أُمَّ فَرْوَةَ (يَعْنِي النَّعْجَةَ) — أَنَّ جَدِّي وَأَبِي لَمْ يَجْتَرَّا قَطُّ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ لَنَا أَرْجُلًا مَشْقُوقَةً كَأَرْجُلِكِ؟ وَلِهَذَا وَرِثْتُ عَنْهُمَا أَنْ أَزْهَدَ فِي تِلْكِ الْعَادَةِ الْمَرْذُولَةِ، فَلَمْ أُمَرِّنْ نَفْسِيَ عَلَيْهَا قَطُّ.»

(تُسْمَعُ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ ضَجَّةٌ فِي وَسَطِ الْإِصْطَبْلِ، لِأَنَّ الطَّلِيَّ — ذَلِكَ الْحَمَلُ الْمُجَعَّدُ الشَّعْرِ — وَأَبَا بُجَيْرٍ — ذَلِكَ الْجَدْيُ الشاب — جَرَّهُمَا الْمِزَاحُ إِلَى النِّطَاحِ، فَأَرَادَا أَنْ يُجَرِّبَا قُرُونَهُمَا الصَّغِيرَةَ، فَاشْتَبَكَتْ وَالْتَصَقَ رَأْسَاهُمَا، وَعَجَزَا عَنْ تَخْلِيصِ قُرُونِهِمَا الْمُشْتَبكَةِ.)

الطَّلِيُّ (الْحَمَلُ، بِصَوْتٍ أَبَحَّ) : «لَا.. لَا …!»
أَبُو بُجَيْرٍ (الْجَدْيُ، مُنْدَفِعًا إِلَى الْأَمَامِ يُخَاطِبُ الْحَمَلَ) : «لَا مَنَاصَ (لَا خَلَاصَ وَلَا مَفَرَّ) لَكَ مِنَ الاعْتِرَافِ بِبَأْسِي وَقُوَّتِي، وَلَا بُدَّ أَنْ تُقِرَّ لِي بِالْغَلَبَةِ عَلَيْكَ!»
الطَّلِيُّ (الْحَمَلُ مُخَاطِبًا الْجَدْي) : «أَمَّا أَنَّكَ أَقْوَى مِنِّي، فَلَا، وَكَذَبْتَ فِي زَعْمِكَ! وَإِنَّمَا أَنْتَ مُدَّعٍ خَبِيثٌ.»
أَبُو بُجَيْرٍ (الْجَدْيُ، يَضْرِبُ عَيْنَ الطَّلِيِّ بِرَأْسِهِ فَيَعْلُو صُرَاخُ الطَّلِيِّ الْمِسْكِينِ) : «طَقْ! طَقْ!»
الطَّلِيُّ (الْحَمَلُ، يَجْرِي إِلَى أُمِّهِ بَاكِيًا) : «آيْ! آيْ! أُمِّي! أُمِّي! لَقَدْ فَقَأَ الْخَبِيثُ عَيْنِي! آهٍ! آهٍ! لقد عَوَّرَهَا (جَعَلَهَا عَوْرَاءَ).»
أُمُّ الْأَشْعَثِ (الْعَنْزُ، تُمِرُّ لِسَانَهَا — فِي رِفْقٍ وَهَوَادَةٍ — عَلَى فَمِ الطَّلِي) : «لَا عَلَيْكَ يَا وَلَدِي. لَا تَأْلَمْ. فَمَا بِكَ مِنْ سُوءٍ، أَنَا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ سَلَامَتِكَ، فَلَا يَحْزُنْكَ مَا حَدَثَ؛ فَإِنَّ «أَبَا بُجَيْرٍ» قَصَدَ إِلَى مُدَاعَبَتِكَ وَمُلَاطَفَتِكَ، وَلَمْ يَرْمِ إِلَى إِيذَائِكَ. انْظُرْ إِلَيْهِ، أَلَا تَرَاهُ مَحْزُونًا وَاجِمًا (سَاكِتًا عَابِسَ الْوَجْهِ مُغْتَمًّا) خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ قَدْ أُصِبْتَ بِسُوءٍ؟»
أَبُو بُجَيْرٍ (الْجَدْيُ، يَقْتَرِبُ) : «صَدَقْتِ — يَا أُمَّ الْأَشْعَثِ — وَبِالْحَقِّ نَطَقْتِ، فَمَا قَصَدْتُ إِلَى شَيْءٍ غَيْرَ الدُّعَابَةِ وَالْمُزَاحِ، فَهَلْ أَصَبْتُكَ بِأَذًى يَا رَفِيقِيَ الطَّلِيُّ؛ اصْفَحْ عَنِّي يَا عَزِيزِي.»
الطَّلِيُّ (الْحَمَلُ، لَا يَكُفُّ عَنْ بُكَائِهِ) : «هِئْ! هِئْ! هِئْ! مَا زَالَتْ عَيْنِي تَوْجعُنِي.»
أَبُو بُجَيْرٍ (الْجَدْيُ) : «إِنِّي مُخَفِّفٌ أَلَمَكَ، فَادْنُ (اقْتَرِبْ) مِنِّي لِأَلْحَسَهَا (لِأَلْعَقَهَا) لَك … أَلَا تَشْعُرُ بِرَاحَةٍ الْآنَ؟ أَلَا تَزَالُ حَاقِدًا عَلَيَّ يَا رَفِيقِي؟»
الطَّلِيُّ (الْحَمَلُ، يَسْكُنُ وَيَكُفُّ عَنِ الْبُكَاءِ) : «لَا عَلَيْكَ فَقَدْ نَسِيتُ مَا فَاتَ — يَا أَبَا بُجَيْر — وَلَكِنْ لَا تَعُدْ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى.»

(تَقِفُ الدَّوَابُّ كُلُّهَا وَعُيُونُهَا مَفْتُوحَةٌ مُحَمْلِقَةٌ)

أَبُو زِيَادٍ (الْحِمَارُ) : «مَاذَا نَصْنَعُ يَا أَصْحَابِي؟ لَقَدْ تَأَخَّرَ بِنَا الْوَقْتُ، أَلَا تَرَوْنَ ذَلِكُمُ الضَّوْءَ الَّذِي يُشِعُّ (يَنْشُرُ شُعَاعَهُ) مِنَ النَّافِذَةِ، إِنَّهُ ضَوْءُ الْقَمَرِ السَّاطِعِ. وَأَنَا عَلَى ثِقَةٍ أَنَّنَا لَنْ نَنَامَ طُولَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ أَمْرٍ فَلَنْ أُفْلِتَ مِنَ الصَّحْوِ مُبَكِّرًا فِي الصَّبَاحِ التَّالِي، لِأَحْمِلَ اللَّبَنَ إِلَى الْمَدِينَةِ.»
الْخَنْسَاءُ (الْبَقَرَةُ مُخَاطِبَةً الْحِمَارَ) : «إِنَّكَ سَتَعْمَلُ كَمَا يَعْمَلُ سَيِّدُكَ — يَا «أَبَا زِيَادٍ» — أَلَمْ تَقُلْ لِي ذَلِكَ الْيَوْمَ إِنَّه قَضَى وَقْتَهُ نَائِمًا طُولَ الطَّرِيقِ؟»
أَبُو زِيَادٍ (الْحِمَارُ مُخَاطِبًا الْبَقَرَةَ) : «صَدَقْتِ — يَا سَيِّدَتِيَ الْخَنْسَاءُ — وَلَكِنْ لَا تَنْسَى أَنَّنِي مَسْئُولٌ عَنْ سَلَامَتِهِ، وَأَنَّنِي جَدِيرٌ بِالتَّنَبُّهِ وَالْيَقَظَةِ فِي أَثْنَاءِ نَوْمِهِ.»
أُمُّ الْأَشْعَثِ (الْعَنْزُ، تَلْتَفِتُ إِلَى النَّعْجَةِ) : «إِيهِ! مَاذَا بِكِ يَا أُمَّ فَرْوَةَ؟ مَا بَالُكِ تَرْجُفِينَ؟ أَمَرِيضَةٌ أَنْتِ؟»
أُمُّ فَرْوَةَ (النَّعْجَةُ مُخَاطِبَةً الْعَنْزَ) : «كَلَّا يَا صَاحِبَتِي، مَا أَنَا بِمَرِيضَةٍ، وَلَكِنَّ الْبَرْدَ يَكَادُ يُهْلِكُنِي، فَاقْتَرِبِي مِنِّي، وَاتَّكِئِي عَلَيَّ لِأَسْتَدْفِئَ بِجَسَدِكِ، وَأَدْفَعَ بِكِ غَائِلَةَ الْبَرْدِ (شِدَّتَهُ الْمُهْلِكَةَ).»
أُمُّ الْأَشْعَثِ (الْعَنْزُ) : «بِكُلِّ سُرُورٍ يَا عَزِيزَتِي!»
الْخَنْسَاءُ (الْبَقَرَةُ تُخَاطِبُ النَّعْجَةَ) : «عَجِيبٌ أَنْ تَشْعُرِي بِالْبَرْدِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، عَلَى حِينَ لَمْ تَشْعُرِي بِذَلِكِ أَمْسِ وَمَا سَبَقَهُ مِنْ الْأَيَّامِ؟ وَعَجِيبٌ مَا حَدَثَ لَكِ الْيَوْمَ يَا صَاحِبَتِي. لَقَدْ أَنْكَرْتُكِ (جَهِلْتُكِ) إِذْ رَأَيْتُكِ تَدْخُلِينَ الْإِصْطَبْلَ — هَذَا الْمَسَاءَ — وَقَدْ تَبَدَّلَت هَيْئَتُكِ، حَتَّى اخْتَلَطَ عَلَيَّ أَمْرُكِ! أَلَا تَرَوْنَ رَأْيِي أَيَّتُهَا الصَّاحِبَاتُ؟»
أَبُو زِيَادٍ (الْحِمَارُ يُخَاطِبُ الْبَقَرَةَ) : «بَلَى — أَيَّتُهَا الْعَزِيزَةُ — إِنَّا عَلَى رَأْيِكِ مُجْمِعَاتٌ فَقَدْ أَنْكَرْتُهَا كَذَلِكِ حِينَ رَأَيْتُهَا — وَسَأَلْتُ نَفْسِي مَدْهُوشًا: تُرَى مَنْ تَكُونُ هَذِهِ الرَّفِيقَةُ الْجَدِيدَةُ؟ فَقَدْ بَدَا جِسْمُهَا صَغِيرًا مَهْزُولًا … وَلَكِنَّ صَدِيقِي «لَاحِقًا» (يَعْنِي: الْجَوَادَ)، أَخْبَرَنِي أَنَّ سَيَّدَهَا الْإِنْسَانَ قَدْ أَمَرَ بِقَصِّ صُوفِهَا الْجَمِيلِ فِي هَذَا النَّهَارِ.»
أُمُّ فَرْوَةَ (النَّعْجَةُ، بِصَوْتٍ مَحْزُونٍ) : «صَدَقْتُنَّ يَا رَفِيقَاتِي الْعَزِيزَاتِ. لَقَدْ أَصْبَحْتُ عَارِيَةً، نَعَمْ جِدَّ عَارِيَةٍ مِنْ ثَوْبِي الْغَلِيظِ. فَقَدْ نَزَعَ أَحَدُ الرِّجَالِ عَنْ جَسَدِي تِلْكُنَّ الْخُصَلَ الْجَمِيلَةَ، وَهِي جَمَاعَاتُ الشَّعَرِ الَّتِي كُنْتُنَّ تُعْجَبْنَ بِهَا، وَلَمْ يَدَعْ لِي مِنْهَا إِلَّا خُصْلَةً صَغِيرَةً مِنَ الشَّعَرِ فِي طَرَفِ الذَّيْلِ. وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَيَّ الْحُزْنُ الشَّدِيدُ، مُنْذُ حُرِمْتُ هَذَا الْكِسَاءَ الْبَدِيعَ. فَلَقَدْ كَانَ لِي نِعْمَ الثَّوْبُ الْمُدْفِئُ: يَقِينِي غَائِلَةَ الْبَرْدِ. فَلَمَّا حُرِمْتُهُ، سَرَتِ الرِّعْدَةُ (الرِّعْشَةُ وَالِاضْطِرَابُ) فِي جَسَدِي حَتَّى كِدْتُ أَعْجزُ عَنِ الْحُضُورِ إِلَى هُنَا.»
الْجَمِيعُ (صَوْتًا وَاحِدًا) : «لَكِ اللهُ يَا أُمَّ فَرْوَةَ … مِسْكِينَةٌ أَنْتِ أَيَّتُهَا الْعَزِيزَةُ.»
أَبُو دُلَفَ (الْخِنْزِيرُ) : «لَيْسَ عَجَبًا أَنْ مَثَّلُوا بِكِ — يَا أُمَّ فَرْوَةَ (صَنَعُوا بِكِ مِنَ السُّوءِ مَا يَلْفِتُ النَّظَرَ) — فَلَقَدْ طَالَمَا حَدَّثْتُكِ بِغَدْرِ الْإِنْسَانِ وَأَنَانِيَّتِهِ (كِبْرِيَائِهِ وَشِدَّةِ حُبِّهِ لِنَفْسِهِ)، فَهُوَ يَأْبَى إِلَّا أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى كُلِّ مَا نَمْلِكُ، وَيَسْتَأْثِرَ (يَنْفَرِد) بِطَيِّبَاتِنَا، وَلَا يَتْرُكَ شَيْئًا إِلَّا انْتَفَعَ بِهِ … آهٍ! لَهُ اللهُ مِنْ شَرِهٍ (شَدِيدِ الْحِرْصِ) طَمَّاعٍ! أُؤَكِّدُ لَكِ يَا أُمَّ الْأَشْعَثِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ — إِذَا فَقَدَنَا وَحُرِمَ خِدْمَتَنَا إِيَّاهُ — أَصْبَحَ مَحْزُونًا كَاسِفَ الْبَالِ (سَيِّئَ الْحَالِ). وَانْقَلَبَ زَهْوُهُ وَخُيَلَاؤُهُ (إِعْجَابُهُ بِنَفْسِهِ وَكِبْرِيَاؤُهُ) ذِلَّةً وَانْكِسَارًا. وَلَوْلَا صُوفُكِ الْجَمِيلُ، لَعَاشَ الْإِنْسَانُ عَارِيًا كَمَا تَعْرَى الضِّفْدِعُ و …»
لَاحِقٌ (الْجَوَادُ، يُقَاطِعُهُ) : «صَهٍ — يَا أَبَا دُلَفَ — وَحَذَارِ أَنْ تَذُمَّ الْإِنْسَانَ أَمَامِي، فَهُوَ خَيِّرٌ سَمْحٌ كَرِيمٌ وَقَدْ غَمَرَنَا بِعَطْفِهِ وَحُبِّهِ. أَفَاهِمٌ أَنْتَ؟ إِنَّهُ سَيِّدُنَا وَأَنَا أَمْحَضُهُ الْحُبَّ (أُخْلِصُ لَهُ الْوُدَّ)، وَلَا آذَنُ لَكَ فِي اغْتِيَابِهِ وَتَنَقُّصِهِ (التَّحَدُّثِ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا يَعِيبُهُ)، فَحَذارِ أَنْ تَمَسَّ سُمْعَتَهُ بِسُوءٍ!»
أَبُو دُلَفَ (الْخِنْزِيرُ) : «إِذَا صَحَّ مَا تَقُولُ؛ وَاعْتَرَفْنَا لِلْإِنْسَانِ بِسِيَادَتِهِ عَلَيْنَا، فَقَدْ سَجَّلْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا أَنَّنَا أَذِلَّاءُ جُبَنَاءُ. فَمَنْ لَنَا بِالاتِّحَادِ وَالتَّضَافُرِ؟ آهٍ! لَوْ تَحَقَّقَ هَذَا الْحُلْمُ الْجَمِيلُ، وَأَصْبَحْنَا جَمِيعًا يَدًا وَاحِدَةً! إِذَنْ لَقَهَرْنَاهُ، وَغَلَبْنَاهُ عَلَى أَمْرِهِ. فَإِنَّ لِيَ مَخَالِبَ قَوِيَّةً فَاتِكَةً، تُشْبِهُ الْكَلَالِيبَ (وَهِيَ: حَدَائِدُ مُلْتَوِيَةُ الرَّأْسِ)، وَلِأُمِّ الْأَشْعَثِ قَرْنَيْنِ كَبْيرَيْنِ لَا قِبَلَ (لَا قُدْرَةَ) لَهُ بِمُقَاوَمَتِهِمَا. فَلَوْ صَحَّتْ عَزِيمَتُنَا وَتَرَكْنَا الْجُبْنَ وَالْخَوَرَ (الضَّعْفَ) جَانِبًا، لَانْتَصَرْنَا عَلَيْهِ، وَأَصْبَحْنَا سَادَةً فِي هَذَا الْمَكَانِ. وَأَيْنَ حَيَاةُ السَّادَةِ مِنْ حَيَاةِ الْعَبِيدِ الْأَرِقَّاءِ؟ وَمَنْ لَنَا بِالتَّضَافُرِ، لِنَقْهَرَ (نَغْلِبَ) هَذَا السَّيِّدَ، وَنُصْبِحَ أُولِي الْأَمْرِ فِي هَذَا الْمَكَانِ: نَسْتَيْقِظُ مَتَى شِئْنَا، وَنُقَابِلُ مَنْ شِئْنَا مِنَ الْأَصْدِقَاءِ وَالْخُلَصَاءِ، وَنَفْرِضُ عَلَى الْإِنْسَانِ طَاعَتَنَا وَسِيَادَتَنَا!»
figure
لَاحِقٌ (الْجَوَادُ، غَاضِبًا يَضْرِبُ الْأَرْضَ بِسُنْبُكِهِ وَهُوَ الْحَدِيدَةُ فِي الْحَافِرِ) : «يَا لَكَ مِنْ جَاحِدٍ، مُنْكِرٍ لِلْجَمِيلِ، يَا أَبَا دُلَفَ!»
أَبُو دُلَفَ (الْخِنْزِيرُ مُخَاطِبًا الْجَوَادَ) : «مَا أَعْجَبَ أَمْرَكَ يَا لَاحِقُ! أَنَسِيتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْلُبُنَا نَفَائِسَنَا وَيَغْتَصِبُ مَا هُوَ حَقٌّ لَنَا. وَلَا يُبْقِي عَلَى شَيْءٍ نَمْلِكُهُ إِلَّا اسْتَأْثَرَ (اخْتَصَّ نَفْسَهُ) بِهِ؟ أَلَا تَعْلَمُونَ — أَيُّهَا الْأَصْدِقَاءُ — أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَفْعَلُ هَذَا إِلَّا بَغْيًا (ظُلْمًا) مِنْهُ وَعُدْوَانًا؟ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ مِثَالُ الشَّرَهِ وَالْأَنَانِيَّةِ، وَلَيْسَ فِي دَوَابِّ الْأَرْضِ كُلِّهَا مَا يُدَانِيهِ فِي شَرَهِهِ وَأَنَانِيَّتِهِ، فَهُوَ دَائِبٌ عَلَى أَكْلِ الْفَطَائِرِ الْمُسَكَّرَةِ، وَالْحَلْوَى، وَمَا إِلَى ذَلِكُمْ. فَهَلْ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنْ يُشْرِكَنِي مَعَهُ فِي تِلْكُمُ الْفَطَائِرِ اللَّذِيذَةِ الطَّعْمِ؟ كَلَّا يَا أَعِزَّائِي، إِنَّمَا يَتْرُكُ لِي مِنْ فَضَلَاتِهِ مَا يَتَخَيَّرُ لِي؟ وَاسْمَحُوا لِي أَنْ أَسْأَلَكُمْ: لِمَاذَا لَا يَأْكُلُ الْحَشَائِشَ كَمَا نَأْكُلُهَا عَلَى شَوَاطِئِ الْغُدْرَانِ وَالْمَنَاقِعِ (وَهِي جَمْعُ مُسْتَنْقَعٍ: مَكَانٌ يَلْتَقِي فِيهِ الْمَاءُ وَيَكْثُرُ)؟ كَلَّا، إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكُمْ، بَلْ يَسْتَأْثِرُ (يَخُصُّ نَفْسَهُ) بِلَذَائِذِ الْأَطْعِمَةِ، وَطَيِّبَاتِ الْحَلْوَى! آهٍ لَهُ، وَوَاهٍ مِنْهُ، أَيُّهَا الْخُلَصَاءُ الْأَعِزَّاءُ! أَتَحْسَبُونَهُ يُؤْوِينَا فِي دَارِهِ، إِشْفَاقًا عَلَيْنَا وَبِرًّا بِنَا؟ شَدَّ مَا أَحْسَنْتُمْ بِهِ الظَّنَّ الْكَذُوبَ، وَشَدَّ مَا خَدَعَتْكُمْ أَوْهَامُكُمْ، وَكَذَبَتْكُمْ أَحْلَامُكُمْ! إِنِّي جِدُّ خَبِيرٍ بِمَصِيرِي (عَارِفٌ غَايَةَ أَمْرِي حَقَّ الْمَعْرِفَةِ). وَلَسْتُ أَجْهَلُ كَيْفَ تَكُونُ خَاتِمَةُ حَيَاتِي التَّاعِسَةِ عَلَى يَدِ هَذَا الْغَادِرِ الْمُنْكِرِ الْجَمِيلَ. فَإِنَّهُ مَتَى أَقْبَلَ فَصْلُ الشِّتَاءِ، وَبَرَدَ الْجَوُّ؛ وَرَآنِي سَمِينًا مُمْتَلِئَ الْجِسْمِ، مُتَكَنِّزَ اللَّحْمِ، (لَحْمِي مُتَجَمِّعٌ مُتَصَلِّبٌ) لَمْ يَتَرَدَّدْ فِي ذَبْحِي …»
لَاحِقٌ (الْجَوَادُ) : «طَالَمَا حَدَّثَتْنِي أُمُّكَ — وَهِيَ حَازِمَةٌ ذَكِيَّةٌ رَشِيدَةٌ — أَنَّنَا لَمْ نُخْلَقْ إِلَّا لِنَخْدُمَ سَيِّدَنَا الْإِنْسَانَ. فَمِنَّا مَنْ يَخْدُمُهُ فِي حَيَاتِهِ وَمِنَّا مَنْ يَخْدُمُهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ وَمِنَّا مَنْ يَخْدُمُهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ عَلَى السَّوَاءِ وَحَسْبُنَا هَذَا شَرَفًا وَمَجْدًا فَلَيْسَ أَجْمَلَ مِنْ أَنْ نُسْلَكَ فِي عِدَادِ النَّافِعِينَ! وَمَا أَعْذَبَ الْمَوْتَ وَأَهْنَأَهُ إِذَا أَعْقَبَهُ النَّفْعُ وَالْخَيْرُ لِلنَّاسِ!»
أَبُو دُلَفَ (الْخِنْزِيرُ) : «هُومْ! هُومْ! أَتَقُولُ: «مَا أَحْلَى الْمَوْتَ»؟ يَا لَكَ مِنْ أَبْلَهَ غَبِيٍّ! فَمَتَى يُحَقِّقُ اللهُ رَجَائِي فَأُلْفِيَكَ (أَلْقَاكَ أَمامِي) مَذْبُوحًا؟ عَلَى أَنَّنِي أَدَعُ لَكَ رَأْيَكَ، وَأُكَاشِفُكَ: إِنَّنِي لَا أَرَى مَا تَرَاهُ!»
لَاحِقٌ (الْجَوَادُ، يُخَاطِبُ الْخِنْزِيرَ) : «شَدَّ مَا أَضَلَّكَ الْغَرَضُ، وَأَعْمَاكَ الْهَوَى يَا أَبَا دُلَفَ — فَأَنَا أَقْضِي حَيَاتِي كُلَّهَا جَادًّا عَامِلًا، دَائِبًا عَلَى احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ وَالْعَنَاءِ بِصَبْرٍ عَجِيبٍ، عَلَى حِينِ تَقْضِي حَيَاتَكَ كُلَّهَا مُتَبَطِّلًا (مُتَعَطِّلًا) كَسْلَانَ: تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَتَنَامُ، ثُمَّ لَا تَعْمَلُ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ. أَفَلَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ تُذْبَحَ، مَا دُمْتَ لَمْ تُسْدِ إِلَى أَحَدٍ (لَمْ تُقَدِّمْ لَهُ) فَائِدَةً أَوْ نَفْعًا طُولَ حَيَاتِكَ؟ وَأَيُّ فَائِدَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ لِكَائِنٍ كَانَ إِذَا لَمْ يَنْفَعْ غَيْرَهُ؟»
أَبُو دُلَفَ (الْخِنْزِيرُ، يُخَاطِبُ الْجَوَادَ) : «إِنِّي لَأُوثِرُ (أَخْتَارُ) أَنْ أَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِكَ — يَا سَيِّدِي «لَاحِقٌ» — حَتَّى لَا تُخْتَمَ حَيَاتِي بِالذَّبْحِ، وَلَكِنَّنِي — كَمَا تَرَى — سَمِينُ الْجِسْمِ، كَثِيرُ الشَّحْمِ، بَطِيءُ الْحَرَكَةِ، كَثِيرُ النَّوْمِ، وَلِذَلِكَ لَا أَنْشَطُ إِلَى الْعَمَلِ كَمَا تَنْشَطُ أَنْتَ. عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ خَطَئِي، وَلَيْسَ لِي حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ، وَقَدْ كَانَ أَبِي يَقُولُ: إِنَّنَا لَا نَنْفَعُ فِي أَثْنَاءِ حَيَاتِنَا، حَتَّى إِذَا هَلَكْنَا أَصْبَحْنَا نَافِعِينَ!»
أَبُو زِيَادٍ (الْحِمَارُ، يَضْحَكُ وَهُوَ يَرْفَعُ شَفَتَهُ الضَّخْمَةَ) : «إِنَّكَ لَا تَنْفَعُ أَحَدًا، فِي حَيَاتِكَ وَمَمَاتِكَ أَبَدًا، فَلَا تَفْخَرْ بِشَيْءٍ، فَإِنَّكَ أَقْذَرُ دَوَابِّ الْأَرْضِ وَأَشَدُّهَا وَقَاحَةً، وَقَدْ كُنْتَ — وَلَا تَزَالُ — مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الشَّرَهِ، وَالسَّمَاجَةِ، وَالرِّجْسِ (الْقَذَرِ)!»
أَبُو دُلَفَ (الْخِنْزِيرُ) : «لَقَدْ دَخَلْتُ الْمَطْبَخَ — ذَاتَ يَوْمٍ — فِي غَيْبَةِ «ابْنِ وَازِعٍ» — (الْكَلْبِ) — فَرَأَيْتُ مَا هَالَنِي (فَزَّعَنِي) …»
أُمُّ الْأَشْعَثِ (الْعَنْزُ) : «أَدَخَلْتَ الْمَطْبَخَ؟ … أَوه! وَلِمَاذَا دَخَلْتَ الْمَطْبَخَ؟ آهٍ! لَوْ رَآكَ سَيِّدُكَ هُنَاكَ … إِذَنْ لَأَمَرَ بِذَبْحِكَ، جَزَاءَ هُجُومِكَ وَتَعَدِّيكَ!»
أَبُو دُلَفَ (الْخِنْزِيرُ، جَادًّا فِي لَهْجَتِهِ) : «لَا يَسْخَرْ أَحَدٌ مِمَّا أَقُولُ. لَقَدْ دَخَلْتُ الْمَطْبَخَ، وَأَجَلْتُ (أَدَرْتُ) بَصَرِي فِيهِ، فَرَأَيْتُ — وَيَا لَهَوْلِ مَا رَأَيْتُ — أَكْيَاسًا صَغِيرَةً مَمْلُوءَةً لَحْمًا، وَإِلَى جَانِبِهَا أَرْجُلُ صَدِيقَتِنَا الْعَزِيزَةِ «الْجَوْزَاءِ»: النَّعْجَةِ الظَّرِيفَةِ الَّتِي فِي وَسَطِهَا بَيَاضٌ. وَقَدْ كُنَّا نَأْنَسُ بِهَا مُنْذُ أَيَّامٍ. فَفَزِعْتُ وَهَرَبْتُ مُسْرِعًا إِلَى فِنَاءِ الدَّارِ، (وَهِي السَّاحَةُ الَّتِي أَمَامَهَا).»
الْخَنْسَاءُ (الْبَقَرَةُ) : «مَا أَفْظَعَ مَا تَقُصُّهُ عَلَيْنَا يَا أَبَا دُلَفَ!»
أَبُو دُلَفَ (الْخِنْزِيرُ) : «إِنِّي أُحَدِّثُكُنَّ بِمَا رَأَتْهُ عَيْنَايَ، وَأَنَا وَاثِقٌ مِمَّا رَأَيْتُ، كَمَا أَثِقُ أَنَّ لِي أُذُنَيْنِ. فَلْتَعْلَمْنَانِّ — يَا رَفِيقَاتِيَ الْعَزِيزَاتِ — أَنَّ مَصَارِعَنَا وَشِيكَةٌ (أَنَّ أَيَّامَ ذَبْحِنَا قَرِيبَةٌ) لَا مَفَرَّ مِنْهَا، فَلَا يُدْهِشَنَّكِ ذَلِكِ يَا «جُؤْذَرَةُ»!»
الْجُؤْذَرَةُ (الْعِجْلَةُ) : «مَا أَحْسَبُهُمْ يَسْتَطِيعُونَ ذَبْحِي، فَإِنِّي عَلَى ثِقَةٍ مِنْ قُدْرَةِ أُمِّي عَلَى حِمَايَتِي، لِأَنَّهَا سَتَنْطَحُهُمْ بِقَرْنَيْهَا الْكَبِيرَيْنِ، أَلَيْسَ كَذَلِكِ يَا أُمَّاهُ؟ عَلَى أَنَّنِي أُعَاهِدُكُنَّ أَنَّنِي لَنْ أَرْكَنَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ، وَلَنْ آكُلَ شَيْئًا مِنَ الْبَلَحِ الَّذِي تُهْدِيهِ إِلَيَّ «سُعَادُ» — بِنْتُ سَيِّدِنَا الْإِنْسَانِ — مَا دَامَ النَّاسُ عَلَى مِثْلِ مَا وَصَفْتَ مِنَ اللُّؤْمِ وَالْغَدْرِ يَا «أَبَا دُلَفَ»!»
لَاحِقٌ (الْجَوَادُ، بِوَقَارٍ) : «أَصْغُوا إِلَيَّ — يَا رِفَاقِي — فَإِنِّي أَكْبَرُكُمْ سِنًّا، وَأَعْرَفُكُمْ بِالنَّاسِ، وَأَخْبَرُكُمْ بِالْحَيَاةِ؛ لِأَنَّنِي قَدْ عِشْتُ أَكْثَرَ مِمَّا عِشْتُمْ، وَبَلَوْتُ (جَرَّبْتُ وَاخْتَبَرْتُ) مِنْهُمُ الطَّيِّبَ وَالْخَبِيثَ. وَيَجِبُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ كَرَمًا وَلُؤْمًا، كَمَا تَخْتَلِفُ الدَّوَابُّ سَواءً بِسَوَاءٍ. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَدْفَعُهُمُ الْقَسْوَةُ إِلَى إِجْهَادِنَا (إِتْعَابِنَا) — بِلَا رَحْمَةٍ — فَلَا يَتَأَثَّمُونَ (لَا يَكُفُّونَ عَنِ الْإِثْمِ)، وَلَا يَخْشَوْنَ مِنَ إِعْنَاتِنَا وَإِرْهَاقِنَا وَضَرْبِنَا، وَلَا يُبَالُونَ مَا كَابَدْنَاهُ مِنَ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ وَالضَّنَى. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَلَطَّفُونَ بِنَا، وَيُدَاعِبُونَنَا مُتَوَدِّدِينَ. وَسَيِّدُنَا مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ الطَّاهِرِ الْقَلْبِ، الْكَرِيمِ النَّفْسِ. فَهُوَ دَائِبٌ عَلَى مُدَاعَبَتِنَا وَالتَّوَدُّدِ إِلَيْنَا، وَلَا يَكَادُ يَخْلُو جَيْبُهُ مِنْ قِطْعَةٍ مِنَ الْخُبْزِ أَوِ السُّكَّرِ أَوِ الْمِلْحِ يُقَدِّمُهَا لَنَا مُتَلَطِّفًا، لِيُرَفِّهَ عَنَّا (يُخَفِّفَ مِنْ آلَامِنَا). فَلَا غَرْوَ (لَا عَجَبَ) إِذَا أَحْبَبْنَاهُ حُبًّا جَمًّا (كَثِيرًا)، وَبَذَلْنَا حَيَاتِنَا فِدَاءً لَهُ. أَلَيْسَ هَذَا صَحِيحًا أَيُّهَا الْإِخْوَانُ؟»
figure

(الْجَمِيعُ يُقِرُّونَ كَلَامَهُ وَيَصِيحُونَ مُعْلِنِينَ مُوَافَقَتَهُمْ، فَتَخُورُ الْبَقَرَةُ، وَيَنْهِقُ الْحِمَارُ، وَتَثْغُو النَّعْجَةُ وَالْعَنْزُ وَالْحَمَلُ وَالْجَدْيُ، أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلَا يُقِرُّ هَذَا الرَّأْيَ فَيَقْبَعُ فِي رُكْنٍ مِنَ الْإِصْطَبْلِ.)

أَبُو دُلَفَ (الْخِنْزِيرُ، بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الصَّمْتِ) : «صَدَقْتَ يَا لَاحِقُ، وَلَكِنْ لَا تَقُلْ: إِنَّكَ جَدِيرٌ أَنْ تُفْنِيَ عُمْرَكَ فِي الْعَمَلِ لِأَجْلِهِ.»
لَاحِقٌ (الْجَوَادُ، هَازًّا عُرْفَهُ الطَّوِيلَ، وَهُوَ شَعَرُ رَقَبَتِهِ) : «مَا مَعْنَى هَذَا؟ وَأَيُّ غَضَاضَةٍ (ذِلَّةٍ) فِي أَنْ يَظَلَّ الْفَرْدُ مِنَّا عَامِلًا كَادِحًا (جَاهِدًا نَفْسَهُ فِي الْعَمَلِ) طُولَ حَيَاتِهِ؟ أَلَمْ نُخْلَقْ لِنَعْمَلَ؟ وَمَا مَعْنَى وُجُودِنَا فِي الْحَيَاةِ إِذَا لَمْ نُؤَدِّ قِسْطَنَا (نَصِيبَنَا) مِنَ الْوَاجِبِ؟ أَلَا فَلْتَعْلَمْ — يَا أَبَا دُلَفَ — أَنَّ شَيْئًا وَاحِدًا يُوَفِّرُ لَنَا السَّعَادَةَ (يُكَثِّرُهَا لَنَا) فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَهُوَ: الْعَمَلُ. أَلَا تَرَى النَّمْلَ فِي بُيُوتِهِ دَائِبًا عَلَى السَّعْي فِي جِدٍّ وَنَشَاطٍ؟ أَلَا تَرَى النَّحْلَ يَمْتَصُّ الْأَزْهَارَ، وَيَتَنَقَّلُ مِنْ رَوْضَةٍ إِلَى أُخْرَى، لِيُعِيدَهَا شُهْدًا (عَسَلًا) سَائِغًا لِلْآكِلِينَ؟ أَلَا تَرَى الْعَصَافِيرَ دَائِبَةً (مُسْتَمِرَّةً) عَلَى بِنَاءِ أَوْكَارِهَا؟ أَلَا تَرَى الْأَشْجَارَ تَنْمُو لِتُظَلِّلَ النَّاسَ وَتَقِيَهُمْ غَائِلَةَ الْحَرَارَةِ؟ أَلَا تَرَى الشَّمْسَ دَائِبَةً عَلَى الطُّلُوعِ — كُلَّ يَوْمٍ — لِتُدْفِئَنَا وَتُنِيرَ لَنَا سَبِيلَ الْحَيَاةِ؟ أَلَا تَرَى النَّاسَ يَكْدَحُونَ وَلَا يَفْتُرُونَ (لَا يَهْدَأُونَ) عَنِ الْعَمَلِ؟»
الْخَنْسَاءُ (الْبَقَرَةُ) : «مَا هَذَا الْكَلَامُ يَا لَاحِقُ؟ أَرَأَيْتَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَجُرُّ الْمِحْرَاثَ كَمَا تَجُرُّهُ أَنْتَ؟»
أَبُو زِيَادٍ (الْحِمَارُ) : «أَوْ كَمَا أَجُرُّهُ أَنَا يَا خَنْسَاءُ؟ أَنَسِيتِ أَنَّنِي أَجُرُّ الْمَحَارِيثَ أَيْضًا؟»
الْخَنْسَاءُ (الْبَقَرَةُ، وَلَمْ تَسْمَعْ كَلَامَ أَبِي زِيَادٍ) : «ثُمَّ إِنَّهُمْ يَضْرِبُونَكَ — يَا لَاحِقُ — وَيُلْهِبُونَ جِسْمَكَ بِسِيَاطِهِمْ (جَمْع سَوْطٍ، وَهُوَ مَا يُضْرَبُ بِهِ مِنْ جِلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ)، فَمَا أَقْسَاهُمْ وَأَغْلَظَ أَكْبَادَهم!»
لَاحِقٌ (الْجَوَادُ، مِنْ فَوْرِهِ) : «كَلَّا يَا خَنْسَاءُ، لَقَدْ كَذَبَتْكِ ظُنُونُكِ، فَإِنَّ سَيِّدِي لَا يُلْهِبُ جَسَدِي بِسَوْطِهِ — كَمَا تَزْعُمِينَ — بَلْ يَكْتَفِي بِأَنْ يَمَسَّ جِسْمِي بِطَرَفِ سَوْطِهِ — فِي خِفَّةٍ وَرَشَاقَةٍ — لِيَحْتَثَّني عَلَى الْعَدْوِ (لِيَدْعُوَنِي إِلَى سُرْعَةِ الْجَرْيِ) فَلَا يَكَادُ يَمَسُّنِي وَشِيبُ سَوْطِهِ (طَرَفُهُ) حَتَّى أَنْطَلِقَ فِي عَدْوِي كَالرِّيحِ، وَلَسْتُ أَشْكُو شَيْئًا مِنْ هَذَا السَّيِّدِ الْكَرِيمِ، بَلْ أَرَانِي جِدَّ سَعِيدٍ فِي دَارِهِ!»
أَبُو دُلَفَ (الْخِنْزِير) : «لَا شَكَّ فِي أَنَّهُمْ يُعْنَوْنَ بِكَ لِجَمَالِكَ وَرَشَاقَتِكَ وَحُسْنِ قَوَامِكَ، فَهُمْ يَغْسِلُونَ جَسَدَكَ وَيُنَظِّفُونَهُ، وَيُرَجِّلُونَ شَعْرَكَ (يُمَشِّطُونَهُ) أَمَّا «أَبُو دُلَفَ» الْمِسْكِينُ، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ يُعْنَى بِأَمْرِهِ، أَوْ يَأْبَهُ (يَهْتَمُّ) لِشَأْنِهِ. وَلَيْتَهُمْ يَغْسِلُونَ جَسَدِي — بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ — كَمَا يَفْعَلُونَ مَعَكَ. إِذَنْ أُصْبِحَ فِي مِثْلِ جَمَالِكَ وَرَشَاقَتِكَ.»
لَاحِقٌ (الْجَوَادُ) : «يَا ابْنَ عَمِّي يَا أَبَا زِيَادٍ! أَوَتَظُنُّنِي لَا أَنْفَعُ النَّاسَ — بَعْدَ مَوْتِي — كَمَا أَنْفَعُهُمْ فِي حَيَاتِي؟ لَقَدْ أُعْجِبْتُمْ بِشَعَرِيَ الْمُتَدَلِّي عَلَى رَقَبَتِي، كَمَا أُعْجِبْتُمْ بِذَيْلِي الطَّوِيلِ الَّذِي أَهُشُّ بِهِ الذُّبَابَ، فَهَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ سَيِّدِي يَتَّخِذُ — مِنْ هَذَا الشَّعْرِ — زِينَةً لِسَرِيرِهِ.»
أَبُو دُلَفَ (الْخِنْزِيرُ) : «أوه! إِنِّي أُقِرُّ لَكَ مُعْتَرِفًا أَنَّ الْإِنْسَانَ ذَكِيٌّ بَارِعٌ، وَأَنَّهُ خَبِيرٌ بِكُلِّ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالنَّفْعِ الْجَزِيلِ. فَهُوَ يَعْرِفُ كَيْفَ يُعْنَى بِنَفْسِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِكُلِّ مَا يَكْتَنِفُهُ (يُحِيطُ بِهِ) مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ فَلَا غَرْوَ إِذَا عُمِّرَ (طَالَتْ حَيَاتُهُ) وَعَاشَ أَكْثَرَ مِمَّا نَعِيشُ!»
الْجُؤْذَرَةُ (الْعِجْلَةُ) : «لَا تَنْسَوْا أَنَّنِي جِدُّ نَافِعَةٍ لِلْإِنْسَانِ. أَلَيْسَ كَذَلِكِ يَا أمِّي؟ لَقَدْ أَخْبَرْتِنِي أَنَّ ضَرْعِي (ثَدْيِي) سَيَدُرُّ اللَّبَنَ بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ. وَلَسْتُ أَشُكُّ فِي أَنَّ «سُعَادَ» الصَّغِيرَةَ سَتَفْرَحُ بِهَذَا اللَّبَنِ الطَّيِّبِ الْمَرِيِّ، وَتَسْتَسِيغُ مَا يَحْوِيهِ مِنْ زُبْدٍ دَسِمٍ هَنِيٍّ.»
الْخَنْسَاءُ (الْبَقَرَةُ تُخَاطِبُ الْعِجْلَةَ) : «صَدَقْتِ يَا بُنَيَّتِي، فَإِنَّكِ عَلَى وَشْكِ أَنْ تُصْبِحِي فِي عِدَادِ الْبَقَرِ وَثَمَّةَ يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِلَبَنِكِ السَّائِغِ فِي تَغْذِيَةِ أَطْفَالِهِمْ، وَيَتَفَنَّنُونَ فِي صُنْعِ أَلْوَانِ الْجُبْنِ وَالزُّبْدِ، وَمَا إِلَى ذَلِكِ مِنْ لَذَائِذِ الْأَطْعِمَةِ.»
أُمُّ فَرْوَةَ (النَّعْجَةُ تُخَاطِبُ الْبَقَرَةَ) : «أَلَا تَعْلَمِينَ — يَا صَدِيقَتِي الْخَنْسَاءُ — أَنَّ لَبَنِي يُعَافِي الْمَرْضَى، وَيُقَوِّي أَجْسَادَهُمْ؟ إِنَّنِي صَادِقَةٌ إِذَا قُلْتُ: إِنَّنِي أَكْثَرُ الْحَيَوَانِ نَفْعًا لِلْإِنْسَانِ. وَلَسْتُ أُبَاهِي (أُفَاخِرُ) بِنَفْسِي، وَلَا أُغَالِي بِقِيمَتِي إِذَا قَرَّرْتُ ذَلِكِ فِي ثِقَةٍ وَيَقِينٍ، وَمَا أَحْسَبُ أَنَّ أَيَّ دَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الْأَرْضِ تَنْفَعُ النَّاسَ بِمِقْدَارِ مَا أَنَفْعُهُمْ فَلَا عَجَبَ إِذَا أَحَبُّونَا، وَفُتِنُوا بِنَا — مَعْشَرَ الْخِرْفَانِ — وَجَعَلُونَا مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ فِي مَدْحِ خِلَالِ الْإِنْسَانِ. فَهُمْ يَقُولُونَ فِي أَمْثَالِهِمْ، وَمَا أَصْدَقَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ: «إِنَّ فُلَانًا وَدِيعٌ كَالْحَمَلِ!»
أُمُّ الْأَشْعَثِ (الْعَنْزُ تُخَاطِبُ النَّعْجَةَ) : «لَعَلَّكِ — يَا أُمَّ فَرْوَةَ — تُمَرِّنِينَ نَفْسَكِ عَلَى إِلْقَاءِ الدُّرُوسِ عَلَيْنَا.»
أُمُّ فَرْوَةَ (النَّعْجَةُ، فِي سُكُونٍ) : «إِنَّهَا الْغَيْرَةُ وَالْحَسَدُ، يَدْفَعَانِكِ إِلَى السُّخْرِيَةِ مِمَّا أَقُولُ. لَقَدْ عُرِفَ عَنْكِ حُبُّ الْمُشَاكَسَةِ وَالْمُعَاكَسَةِ، وَاشْتَهَرَ أَمْرُكِ — بَيْنَ النَّاسِ — بِالشَّرَاسَةِ وَسُوءِ الْخُلُقِ، لِأَنَّكِ دَائِبَةٌ عَلَى الشِّجَارِ وَالنِّزَاعِ. وَالنَّاسُ يَمْقُتُونَ هَذَا الْخُلُقَ الشَّرِسَ. وَإِنِّي أُكَاشِفُكِ الْقَوْلَ: إِنَّكِ قَلِيلَةُ الْغِنَاءِ، حَقِيرَةُ الْفَائِدَةِ.»
أُمُّ الْأَشْعَثِ (الْعَنْزُ تُخَاطِبُ النَّعْجَةَ، مُغْضَبَةً حَانِقَةً) : «كَيْفَ تُنْكِرِينَ فَائِدَتِي؟ أَعَنْ جَهْلٍ تَفْعَلِينَ ذَلِكَ، أَمْ عَنْ تَجَاهُلٍ؟ إِنَّ النَّاسَ يُطْلِقُونَ عَلَيَّ دَائِمًا ذَلِكِ اللَّقَبَ الْحَبِيبَ إِلَى نَفْسِي، فَيَقُولُونَ: «بَقَرَةُ الْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ!» إِنَّكِ خَبِيثَةٌ — يَا أُمَّ فَرْوَةَ — لِأَنَّكِ تَجْرُئِينَ عَلَى إِنْكَارِ فَوَائِدِي الْعَمِيمَةِ، وَمَزَايَايَ الْعَظِيمَةِ، وَتَجْحَدِينَ فَضْلِي عَلَى النَّاسِ. وَلَسْتُ أَدْرِي: أَي مَيْزَةٍ انْفَرَدْتِ بِهَا — مِنْ بَيْنِ الدَّوَابِّ — فَمَلَأْتِ نَفْسَكِ صَلَفًا (كِبْرًا) وَغُرُورًا وَادِّعَاءً، حَتَّى زَعَمْتِ أَنَّ لَبَنَكِ الَّذِي…»
أُمُّ فَرْوَةَ (النَّعْجَةُ، تَثْغُو بِصَوْتِهَا اللَّطِيفِ) : «لَا تَغْضَبِي يَا أُمَّ الْأَشْعَثِ، وَلَا تَتَمَادَيْ فِي صَخَبِكِ (ضَجَّتِكِ)، فَإِنَّ الْأَمْرَ أَيْسَرُ مِمَّا تَظُنِّينَ. وَفِي قُدْرَتِنَا أَنْ نُنَاقِشَ — فِي غَيْرِ غَضَبٍ — وَأَنْ نُدْلِيَ بِحُجَّتِنَا مِنْ غَيْرِ مُنَافَرَةٍ أَوْ مُلَاحَاةٍ … أَلَا تُقِرِّينَ — قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ — أَنَّنِي عَظِيمَةُ الْفَائِدَةِ لِلنَّاسِ؟ فَإِذَا أَنْكَرْتِ هَذَا فَخَبِّرِينِي — بِرَبِّكِ يَا عَزِيزَتِي — كَيْفَ يَعِيشُ الْإِنْسَانُ إِذَا فَقَدَ نِعَاجَهُ وَكِبَاشَهُ؟ وَكَيْفَ يَقْضِي فَصْلَ الشِّتَاءِ، وَيَتَّقِي غَائِلَةَ الْبَرْدِ، إِذَا حُرِمَ صُوفَنَا النَّافِعَ الَّذِي لِا غِنَى لَهُ عَنْهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ؟ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، لِأَنَّهُ يَتَّخِذُ مِنْ صُوفِنَا: جَوْرَبَهُ الَّذِي يُغَطِّي بِهِ سَاقَيْهِ، وَقَمِيصَهُ الَّذِي يُغَطِّي بِهِ صَدْرَهُ، وَدِثَارَهُ وَثِيَابَهُ الْغَلِيظَةَ الَّتِي تَجْلِبُ لَهُ الدِّفْءَ. وَمِنْ عَظْمِي يَصْنَعُ الْأَزْرَارَ وَأَيْدِي الْمُدَى (السَّكَاكِينِ). وَمِنْ أَظْلَافِي (حَوَافِرِي) يَسْتَخْرِجُ الْغِرَاءَ وَمَا إِلَى ذَلِكِ. فَكَيْفَ تَجْحَدِينَ فَضْلِي، أَوْ تُنْكِرِينَ مَزَايَايَ الْبَاهِرَةَ؟ إِنَّنِي أُقَرِّرُ لَكِ — فِي غَيْرِ زَهْوٍ — أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعِيشَ بِفَقْدِي، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى جَحْدِ فَضْلِي عَلَيْهِ.»

(تَنْظُرُ دَوَابُّ الْإِصْطَبْلِ إِلَى النَّعْجَةِ، وَقَدِ اسْتَوْلَى علَيْهَا الْعَجَبُ وَالدَّهْشَةُ جَمِيعًا، وَقَدْ أُعْجِبَتِ الدَّوَابُّ كُلُّهَا بِتِلْكَ الْحُجَجِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي أَدْلَتْ بِهَا النَّعْجَةُ فِي فَصَاحَةٍ وَوُضُوحٍ.)

أُمُّ الْأَشْعَثِ (الْعَنْزَة، تُسْرِعُ قَائِلَةً) : أَتَحْسَبِينَ أَنَّكِ انْفَرَدْتِ بِهَذِهِ الْمِيْزَةِ — يَا أُمَّ فَرْوَةَ — مِنْ بَيْنِ دَوَابِّ الْأَرْضِ قَاطِبَةً (جَمِيعًا)؟ كَلَّا يَا عَزِيزَتِي، لَمْ تَنْفَرِدِي بِهَا؛ فَقَدْ حَدَثَتْنِي أمِّي أَنَّ دَابَّةً مِنْ بَنَاتِ عَمِّي — تَعِيشُ فِي بَعْضِ الْبِلْدَانِ النَّائِيَةِ — لَهَا شَعْرٌ طَوِيلٌ نَاعِمٌ، وَأَثْبَتَتْ لِي أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ صُوفِكِ وَأَجْمَلُ، وَأَنَّ النَّاسَ يَصْنَعُونَ مِنْهُ ثِيَابًا أَفْخَمَ مِنْ تِلْكِ الَّتِي يَصْنَعُونَهَا مِنْ صُوفِكِ، وَأَلْيَنُ مَلْمَسًا، وَأَغْلَى ثَمَنًا. وَقَدْ عَاشَ بَعْضُ جِيرَانِنَا فِي خَيْمَةٍ مَنْسُوجَةٍ مِنْ شَعْرِنَا الْمَتِينِ، كَمَا حَدَّثَتْنِي بِذَلِكِ أمِّي، مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ، خَتَمَتْهُ قَائِلَةً: «إِنَّنَا — مَعْشَرَ الْمَعِيزِ — قَدْ أَصْبَحْنَا مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الْقَنَاعَةِ بِكُلِّ مَا نَحْصُلُ عَلَيْهِ مِنَ الْغِذَاءِ الَّذِي لَا يَقْنَعُ بِهِ غَيْرُنَا مِنَ الدَّوَابِّ. فَنَحْنُ نَكْتَفِي بِمَا نَلْقَاهُ فِي طَرِيقِنَا مِنَ الْحَشَائِشِ وَقِشْرِ الشَّجَرِ، وَنَقْنَعُ بِمَا يُقَدَّمُ إِلَيْنَا مِنْ قِشْرِ الْبِطِّيخِ وَفَضَلَاتِ الْأَطْعِمَةِ، وَنَسْتَمْرِئُ فُتَاتَ الْخُبْزِ الْجَافِّ …»
أُمُّ فَرْوَةَ (النَّعْجَةُ) : «لَسْتُ أَعْرِفُ ابْنَةَ عَمِّكِ هَذِهِ، وَمَا أَدْرِي مَا هِيَ، لِأَنَّنِي لَمْ أَرَهَا طُولَ حَيَاتِي قَطُّ. وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ أَمْرٍ، فَإِنَّكِ قَلِيلَةُ الْفَائِدَةِ يَا أُمَّ الْأَشْعَثِ. وَلَيْسَ فِيكِ مِنْ الْمِيزَاتِ مَا يَدْعُوكِ إِلَى الزَّهْوِ وَالْمُبَاهَاةِ. أَلَا تَرَيْنَ تِلْكِ الْخُصَلَ الْجَامِدَةَ — مِنَ الشَّعْرِ — الَّتِي فَوْقَ ظَهْرِكِ؟ فَخَبِّرِينِي: أَيُّ فَائِدَةٍ تُرْجَى مِنْهَا؟ وَأَيُّ ثَوْبٍ جَمِيلٍ يُصْنَعُ مِنْ نَسِيجِهَا؟ أَتُحِبِّينَ أَنْ أُخْبِرَكِ عَمَّا يَصْلُحُ لَهُ جِلْدُكِ هَذَا؟ إِنَّ النَّاسَ يَصْنَعُونَ مِنْهُ — بَعْدَ مَوْتِكِ — سِيَاطًا لِتَأْدِيبِ الْكِلَابِ الْعَاصِيَةِ الْمُتَمَرِّدَةِ!»
أُمُّ الْأَشْعَثِ (الْعَنْزُ، تُخَاطِبُ النَّعْجَةَ) : «لَسْتُ أَعْرِفُ إِلَّا مَخْلُوقًا وَاحِدًا جَدِيرًا بِالْعِقَابِ وَالتَّأْدِيبِ، هُوَ أَنْتِ يَا عَزِيزَتِي. فَتَرَيَّثِي (تَمَهَّلِي وَانْتَظِرِي) قَلِيلًا حَتَّى نَخْرُجَ إِلَى الْخَلَاءِ، وَأَنَا زَعِيمَةٌ (كَفِيلَةٌ) لَكِ بِتَأْدِيبِكِ وَسَيُعَلِّمُكِ قَرْنَايَ كَيْفَ تُحْسِنِينَ الْقَوْلَ فِيمَا بَعْدُ!»
الطَّلِيُّ (الْحَمَلُ، بِصَوْتِهِ الصَّغِيرِ الْمُضْطَرِبِ) : «كُونِي عَلَى ثِقَةٍ أَنَّنِي لَا أَرْضَى أَنْ تَضْرِبِي أمِّي، وَلَنْ أُمَكِّنَكِ مِنْ ذَلِكِ!»
ابْنُ وَازِعٍ (كَلْبُ الْحَرَسِ، وَهُوَ جَاثِمٌ أَمَامَ الْبَابِ) : «عَوْ! عَوْ! أَلَا تَكُفُّونَ عَنْ هَذَا الصَّخَبِ أَيُّهَا الْعَابِثُونَ الْمُسْتَهْتِرُونَ؟!
يَا سَاكِنِي الْإِصْطَبْلِ، يَا سَاكِنِي الزَّرِيبَةِ، يَا سَاكِنِي الْمَرْبِضِ، يَا سَاكِنِي الْمَعْطِنِ: هَذِهِ ثَرْثَرَةٌ لَا تُطَاقُ. مَا بَالُكُمْ تَتَصَايَحُونَ (يَصِيحُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) هَلْ جُنِنْتُمْ هَذَا الْمَسَاءَ؟ لَقَدْ أَزْعَجْتُمُونِي، وَنَغَّصْتُمْ عَلَيَّ صَفْوَ مَنَامِي أَلَا إِنِّي مُنْذِرُكُمْ أَنَّنِي مُفْضٍ إِلَى سَيِّدِي (مُحَدِّثُهُ وَمُخْبِرُهُ) بِمَا تَفْعَلُونَ، إِذَا لَمْ تَكُفُّوا عَنْ هَذَا الشَّغَبِ. وَهُوَ — فِيمَا أَرَى — كَفِيلٌ بِتَأْدِيبِكُمْ. فَحَذَارِ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتًا بَعْدَ الْآنَ»

(تَسْكُتُ الدَّوَابُّ جَمِيعًا، وَتُدِيرُ الْخَنْسَاءُ لِسَانَهَا الْجَافَّ فِي مِزْوَدِهَا، وَتَجْتَرُّ أُمُّ فَرْوَةَ، وَيَجْثُو الطَّلِي تَحْتَهَا لِيَشْرَبَ مِنْ ضِرْعِهَا جَرَعَاتٍ مِنَ اللَّبَنِ. أَمَّا أَبُو دُلَفَ فَيَقْتَرِبُ مِنَ الْحَائِطِ، وَيَظَلُّ يَحُكُّ جِسْمَهُ بِهَا. وَيُحَرِّكُ أَبُو زِيَادٍ أُذُنَيْهِ الطَّوِيلَتَيْنِ. ثُمَّ تَخْرُجُ فَأْرَةٌ مِنْ جُحْرِهَا فَيَفْزَعُ «أَبُو بُجَيْرٍ» وَيَقْفِزُ — مِنْ شِدَّةِ الذُّعْرِ — فَتَعُودُ الْفَأْرَةُ إِلَى جُحْرِهَا خَائِفَةً. وَتَدُقُّ السَّاعَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ دَقَّةً، وَيَعُودُ ابْنُ وَازِعٍ إِلى وَجَارِهِ.)

figure
الْخَنْسَاءُ (الْبَقَرَةُ، بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ بَعْدَ صَمْتٍ طَوِيلٍ) : «يَسْتَحِيلُ عَلَيَّ النَّوْمُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ. شَدَّ مَا أَخْطَأَتْ «أُمُّ فَرْوَةَ» و«أُمُّ الْأَشْعَثِ»! لَقَدْ خَرَجَتَا عَنْ جَادَّةِ الْأَدَبِ (طَرِيقِهِ) فِي حِوَارِهِمَا (مُنَاقَشَتِهِمَا)، وَلَيْسَ يَجْدُرُ بِمِثْلِ هَاتَيْنِ الصَّدِيقَتَيْنِ الْمُؤَدَّبَتَيْنِ أَنْ تَخْرُجَ بِهِمَا الْمُنَاقَشَةُ، وَتَصِلُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ. إِنَّهُمَا ابْنَتَا عَمٍّ، وَلَيْسَ يَجْدُرُ بِالْأَقَارِبِ أَنْ يَتَنَازَعُوا … فَهَلُمِّي يَا «أُمَّ فَرْوَةَ» وَأَتِمِّي حَدِيثَكِ الَّذِي بَدَأْتِهِ، حَتَّى نَتَعَرَّفَ فَوَائِدَكِ كُلَّهَا.»
أُمُّ فَرْوَةَ (النَّعْجَةُ) : «أُتِمُّ حَدِيثِي بِكُلِّ ارْتِيَاحٍ يَا عَزِيزَتِي، إِذَا ضَمِنْتِ لِي صَمْتَ «أُمِّ الْأَشْعَثِ» وَاعْتِصَامَهَا بِالْهُدُوءِ … لَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ — يَا رِفَاقُ — أَنَّ لَبَنِي لَذِيذُ الطَّعْمِ، وَأَنَّ لَحْمِي شَهِيٌّ، سَائِغٌ هَنِيءٌ. وَلَسْتُ أَغْلُو وَلَا أُسْرِفُ، إِذَا قُلْتُ لَكُمْ: إِنَّهُ أَفْضَلُ لَحْمٍ فِي الدُّنْيَا.»
أُمُّ الْأَشْعَثِ (الْعَنْز) : «وَلَا تَنْسَيْ أَنَّنِي أَنَا أَيْضًا …»
الْخَنْسَاءُ (الْبَقَرَة) : «اسْكُتِي — يَا أُمَّ الْأَشْعَثِ — وَاصْبِرِي حَتَّى يَأْتِيَ دَوْرُكِ!»
أُمُّ فَرْوَةَ (النَّعْجَة) : «إِنَّنِي لَمْ أُتِمَّ كَلَامِي بَعْدُ … فَاعْلَمُوا أَنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ مِنْ مَصَارِينِي — بَعْدَ مَوْتِي — أَوْتَارًا لِلْكَمَانِ وَالْقِيثَارَةِ، لِيَعْزِفُوا عَلَيْهِمَا بِأَعْذَبِ الْأَلْحَانِ، وَأَرْوَعِ الْأَنْغَامِ، الَّتِي تَشْجُو السَّامِعِينَ (تَحْزُنُهُمْ) وَتُبْكِيهِمْ.»
أُمُّ الْأَشْعَثِ (الْعَنْز) : «مَا أَعْجَبَ أَمْرَكُمْ أَيُّهَا الْإِخْوَانُ الْأَعِزَّاءُ … فَأَبُو زِيَادٍ يَدُقُّ طُنْبُورَهُ، وَأَنْتِ — يَا أُمَّ فَرْوَةَ — تَعْزِفِينَ عَلَى كَمَانِكِ. وَمِنْكُمَا تَتَأَلَّفُ مُوسِيقَى مُزْدَوِجَةٌ بَارِعَةٌ!»
أُمُّ فَرْوَةَ (النَّعْجَة تُخَاطِبُ الْعَنْزَ فِي هُدُوءٍ) : «لَا تَسْخَرِي مِنِي — أَيَّتُهَا الرَّفِيقَةُ الْعَزِيزَةُ — فَإِنِّي مُلَخِّصَةٌ لَكِ طَائِفَةً مِنْ فَوَائِدِي الَّتِي أَجُودُ بِهَا لِلنَّاسِ. فَهَلُمِّي — يَا ابْنَةَ الْعَمِّ — وَعُدِّي عَلَى قَرْنَيْكِ مَا أَنَا ذَاكِرَتُهُ:
  • أَوَّلًا: أَجُودُ لَهُمْ بِلَحْمِي.
  • ثَانِيًا: أَمْنَحُهُمْ جِلْدِي.
  • ثَالِثًا: أُعْطِيهِمْ مَصَارِينِي، لِيَصْنَعُوا مِنْهَا أَوْتَارَ الْكَمَانِ.
  • رَابِعًا: لَا أَضَنُّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَدُرُّهُ ضَرْعِي مِنَ اللَّبَنِ السَّائِغِ الشَّهِي.
  • خَامِسًا: لَا أَبْخَلُ بِشَحْمِي الَّذِي يَصْنَعُونَ مِنْهُ الشَّمْعَ.
  • سَادِسًا: أَدُرُّ عَلَيْهِمْ لَبَنِي الَّذِي يَصْنَعُونَ مِنْهُ الزُّبْدَ وَالْجُبْنَ وَالْقِشْدَةَ.
وَبَعْدُ، أَفَلَا يَكْفِيكِ هَذَا؟ أَتُرِيدِينَ أَنْ أَسْتَرْسِلَ فِي عَدِّ مَآثِرِي، وَمِيزَاتِي النَّادِرَةِ، أَمْ يُحْسِبُكِ (يَكْفِيكِ) هَذَا الْقَدْرُ؟!»
الْخَنْسَاءُ (الْبَقَرَةُ تُخَاطِبُ النَّعْجَةَ) : «أَحْسَنْتِ — يَا أُمَّ فَرْوَةَ — وَقَدْ أَقْرَرْنَا لَكِ جَمِيعًا بِالسَّبْقِ، وَاعْتَرَفْنَا أَنَّكِ مِنْ أَنْفَعِ الدَّوَابِّ لِسَيِّدِنَا الْإِنْسَانِ. وَالْآنَ جَاءَ دَوْرُكِ يَا أُمَّ الْأَشْعَثِ، فَاذْكُرِي لَنَا مَزَايَاكِ، عَلَى أَنْ تَتَحَدَّثِي إِلَيْنَا بِصَوْتٍ هَادِئٍ رَزِينٍ، حَتَّى لَا يَسْمَعَكِ «ابْنُ وَازِعٍ» (الْكَلْبُ) فَيُنَغِّصَ عَلَيْنَا صَفْوَنَا.»
أُمُّ الْأَشْعَثِ (الْعَنْزُ) : «أَنَا أَمْنَحُ سَيِّدِي مِقْدَارًا كَبِيرًا مِنَ اللَّبَنِ الدَّسِمِ، الَّذِي يَحْوِي مِنْ عَنَاصِرِ التَّغْذِيَةِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَهُوَ يَشْفِي الْمَرْضَى — كَمَا تَعْلَمُونَ — وَيُغَذِّي صِغَارَ الْأَطْفَالِ. وَلَا تَنْسَوْا أَنَّنِي خَيْرُ مُعِينٍ لِلْفُقَرَاءِ، لِأَنَّنِي أَقْنَعُ مِنَ الْغِذَاءِ بِالتَّافِهِ الْقَلِيلِ، وَأَجُودُ لَهُمْ وَلِأَوْلَادِهِمْ بِالْغِذَاءِ الطَّيِّبِ الْوَفِيرِ (الْكَثِيرِ). ثُمَّ إِنَّ لَحْمِي سَائِغٌ شَهِي، وَلَنْ يَضِيرَنِي أَنَّنِي نَحِيفَةُ الْجِسْمِ، وَأَنَّ لَحْمِي — لِذَلِكِ — جَامِدٌ شَيْئًا مَا. عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ خَطَئِي، فَقَدْ أَدَّيْتُ — عَلَى كُلِّ حَالٍ — وَاجِبِي. وَلَيْسَ جِلْدِي بِأَقَلَّ مِنْ جِلْدِ غَيْرِي صَلَاحِيَةً لِلنَّاسِ.»
الْخَنْسَاءُ (الْبَقَرَةُ) : «لَسْنَا نَشُكُّ — يَا أُمَّ الْأَشْعَثِ — فِي نَفْعِكِ. وِلَئِنْ حُرِمْتِ الصُّوفَ الَّذِي مُنِحَتْهُ أُمُّ فَرْوَةَ، لَقَدْ وَهَبَكِ اللهُ مِيزَةً أُخْرَى، فَإِنَّكِ تَدُرِّينَ مِقْدَارًا كَبِيرًا مِنَ اللَّبَنِ السَّائِغِ الَّذِي يَحْوِي قِشْدَةً فَاخِرَةً. وَحَسْبُكِ — يَا عَزِيزَتِي — أَنَّكِ مُؤْنِسَةُ الْفَقِيرِ، وَمُعِينَتُهُ، وَمَانِحَتُهُ كُلَّ مَا تَمْلِكِينَ، فَانْعَمِي بِحُبِّ الْفَقِيرِ إِيَّاكِ، فَقَدْ بَذَلْتِ لَهُ وُسْعَكِ، وَحَاوَلْتِ إِمْكَانَكِ. وَلَيْسَ يَطْلُبُ مِنْكِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ. لَقَدْ آمَنَّا بِفَضْلِكِ، وَاعْتَرَفْنَا بِمَزَايَاكِ وَنَفْعِكِ. فَهَلْ يَسُرُّكِ هَذَا الِاعْتِرَافُ؟ اذْهَبِي — إِذَنْ — يَا عَزِيزَتِي فَصَالِحِي أُمَّ فَرْوَةَ.»
أُمُّ فَرْوَةَ (النَّعْجَةُ، تَقْتَرِبُ مِنَ الْعَنْزِ وَتَنْظُرُ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهَا اللَّطِيفَتَيْنِ وَالدَّمْعُ يَتَرَقْرَقُ فِيهِمَا) : «اصْفَحِي عَنِي — يَا أُمَّ الْأَشْعَثِ — وَاغْفِرِي لِي طَيْشِي وَحَمَاقَتِي، فَقَدْ حَزَنَنِي وَآلَمَنِي — لَوْ تَعْلَمِينَ! — أَنَّنِي كُنْتُ مَصْدَرَ مُضَايَقَتِكِ، وَمَبْعَثَ غَضَبِكِ، فَلْنَعُدْ صَدِيقَتَيْنِ، كَمَا كُنَّا مِنْ قَبْلُ:
وَلَا كَانَ، وَلَا صَارَ
وَلَا قُلْتُمْ، وَلَا قُلْنَا
وَمَا أَحْسَنَ أَنْ نَرْجِعَ لِلْوُدِّ كَمَا كُنَّا!
فَهَلْ تَصْفَحِينَ؟»

(فَتَقْدُمُ الْعَنْزُ إِلَى النَّعْجَةِ وَتَلْحَسُ طَرَفَ فَمِهَا مُتَوَدِّدَةً فَرْحَانَةً، وَهَكَذَا يَتِمُّ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ سَادَ الْكَرَى — حِينَئِذٍ — وَاسْتَوْلَى النَّوْمُ عَلَى أَكْثَرِ دَوَابِّ الْإِصْطَبْلِ، وَعَلَا تَنَفُّسُ «لَاحِقٍ» وَ«أَبِي زِيَادٍ»، كَمَا عَلَا شَخِيرُ «أَبِي دُلَفَ» الَّذِي انْتَحَى رُكْنًا مِنَ الْإِصْطَبْلِ حَيْثُ مَدَّ رِجْلَيْهِ وَاسْتَسْلَمَ لِلنَّوْمِ. وَرَقَدَ «الطَّلِيُّ» وَ«أَبُو بُجَيْرٍ» جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ، ثُمَّ سَرَى النَّوْمُ إِلَى الْبَاقِينَ، فَأَخَذُوا يُغْمِضُونَ أَجْفَانَهُمْ شَيْئًا. ثُمَّ نَامَ الْجَمِيعُ وَرَاحُوا فِي سُبَاتٍ عَمِيقٍ.)

figure

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤