الْفَصْلُ الثَّانِي

(١) الضَّيْفُ الْهَزِيلُ

لَقَدْ دَارَتْ بِرَأْسِي هَذِهِ الذِّكْرَيَاتُ وَأَمْثَالُهَا، حِينَ خَرَجَ السَّائِسُ مِنَ الْحَظِيرَةِ، لِيَسْتَقْبِلَ ذَلِكَ الضَّيْفَ النَّاهِقَ الْحَزِينَ، الَّذِي حَدَّثْتُكَ بِهِ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ وَمَرَّتْ بِذِهْنِي سِرَاعًا أَطْيَافُ الذِّكْرَيَاتِ، كَمَا تَمُرُّ الْأَحْلَامُ. فَلَمَّا بَلَغَ بِهِ الْبَابَ نَهَضْنَا — مَعْشَرَ الدَّوَابِّ — عَلَى قَوَائِمِنَا (أَقْدَامِنَا) لِاسْتِقْبَالِهِ، وَأَطْلَلْتُ بِرَأْسِي — مِنْ أَعْلَى بَابِ مَرْبَطِي — فَرَأَيْتُ عَيْنَيْنِ مَدْهُوشَتَيْنِ تَفْحَصَانِ عَنْ كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُمَا، وَهِيَ سَائِرَةٌ فِي طَرِيقِهَا إِلَى مَرْبَطِهَا. وَكُنْتُ — كَمَا حَدَّثْتُكَ — أَقْرَبَ دَوَابِّ الْإِصْطَبْلِ إِلَى البَابِ، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ رَأَى ذَلِكَ الرَّفِيقَ التَّاعِسَ الَّذِي رَحِمَهُ سَائِسُنَا «شَفِيقٌ» مِنَ الْمَطَرِ الْغَزِيرِ (الْكَثِيرِ)، وَأَنْقَذَهُ مِنْ غَائِلَةِ الْبَرْدِ الْقَارِسِ (نَجَّاهُ مِنْ شِدَّتِهِ الْمُهْلِكَةِ). وَكَانَ الضَّعْفُ قَدْ بَلَغَ بِضَيْفِنَا كُلَّ مَبْلَغٍ، فَأَضْنَاهُ (أَسْقَمَهُ وَأَمْرَضَهُ)، وَهَدَّ قُوَاهُ، وَهَزَلَ جِسْمَهُ، فَأَصْبَحَ أَدْنَى (أَقْرَبَ) إِلَى الْمَوْتِ مِنْهُ إِلَى الْحَيَاةِ.

(٢) ابْنُ الْعَمِّ

وَشَعَرْتُ بِحُزْنٍ شَدِيدٍ مِنْ أَجْلِ هَذَا الضَّيْفِ التَّاعِسِ، وَقَدْ كُنْتُ خَلِيقَةً (جَدِيرَةً) أَنْ أَبْتَهِجَ (أَفْرَحَ) لَهُ، لِأَنَّ حَظَّهُ الْحَسَنَ قَدْ سَاقَهُ إِلَى حَظِيرَتِنَا الْوَادِعَةِ (السَّاكِنَةِ الْهَادِئَةِ) الَّتِي نَأْوِي إِلَيْهَا. وَمَا أَجْدَرَهُ بِحُبِّي، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ عُمُومَتِي الْمُقَرَّبِينَ. لَقَدْ بَدَا لِعَيْنَيَّ — حِينَئِذٍ — مَا لَقِيَهُ مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ. فَقَدْ تَشَعَّثَ شَعْرُهُ (تَفَرَّقَ) وَتَلَبَّدَ فِي بَعْضِ جِهَاتِهِ، وَنَسَلَ (انْتَفَشَ وَسَقَطَ) مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ. وَظَهَرَ الشَّيْبُ وَالْهُزَالُ عَلَيْهِ، فَخُيِّلَ لِمَنْ يَرَاهُ، أَنَّهُ قَدْ أَصْبَحَ هَيْكَلًا عَظْمِيًّا يَتَهَافَتُ (يَتَسَاقَطُ) مِنَ الضَّعْفِ، وَهُوَ يَمْشِي إِلَى مَرْبَطِهِ الْخَالِي فِي آخِرِ الْإِصْطَبْلِ.

(٣) حَدِيثُ السَّائِسِ

وَكَانَ السَّائِسُ يُرَبِّتُ أَنْفَهُ مُتَوَدِّدًا (مُتَحَبِّبًا) إِلَيْهِ، وَيُهَيِّئُ لَهُ — مِنْ أَشْتَاتِ الْقَشِّ (مُتَفَرِّقَاتِهِ) فِرَاشًا وَثِيرًا (لَيِّنًا) مُرِيحًا، وَيَقُولُ لَهُ مُدَاعِبًا (مُمَازِحًا): «مَا أَظُنُّكَ يَا أَبَا زِيَادٍ — وَقَدْ بَلَغْتَ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (جَاوَزْتَ السِّنَّ الْمَأْلُوفَةَ) — بِقَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ عَمَلٍ، جَلَّ أَوْ صَغُرَ!

وَلَقَدْ كُنْتَ عَلَى وَشْكِ أَنْ تَهْلِكَ سَغَبًا (تَمُوتَ جُوعًا)، بَعْدَ أَنْ بَلَغْتَ أَرْذَلَ الْعُمُرِ؛ فَمَا أَسْعَدَنِي بِخِدْمَةِ أَمْثَالِكَ مِنَ الضُّعَفَاءِ!»

فَسُرِرْنَا جَمِيعًا مِنْ هَذَا الشُّعُورِ النَّبِيلِ.

ثُمَّ اسْتَأْنَفَ «شَفِيقٌ» حَدِيثَهُ، وَهُوَ يَجُولُ فِي الْإِصْطَبْلِ قَائِلًا: «مَا أَسْعَدَ حَظَّكَ — يَا أَبَا زِيَادٍ — إِذِ اهْتَدَيْتَ إِلَى حَظِيرَتِنَا. فَإِنَّهَا — لَوْ تَعْلَمُ — الْمَلَاذُ (الْمَلْجَأُ) الْأَمِينُ لِأَمْثَالِكَ مِنَ الْعَجَزَةِ فِي هَذَا الْبَلَدِ، حَيْثُ يُسْمَحُ لَكَ بِالْبَقَاءِ فِي الْحَظِيرَةِ دُونَ أَنْ تُؤَدِّي عَمَلًا مَّا، فَالْبَثْ (فَابْقَ وَامْكُثْ) — إِنْ شِئْتَ — فِي هَذَا الْمَرْبَطِ إِلَى الصَّبَاحِ.»

وَمَا أَدْرِي كَيْفَ عَرَفَ أَنَّ هَذَا الضَّيْفَ يُدْعَى «أَبَا زِيَادٍ»، فَقَدْ ظَهَرَ لِي — فِيمَا بَعْدُ — أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ كُنْيَتُهُ الَّتِي أُطْلِقَتْ عَلَيْهِ، قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَهُ بِهَا سَائِسُنَا الذَّكِي.

ثُمَّ اسْتَأْنَفَ السَّائِسُ كَلَامَهُ مُلْتَفِتًا إِلَيَّ قَائِلًا: «مَا أَظُنُّكِ — يَا أُمَّ سَوَادَةَ — وَصَوَاحِبَكِ بِحَاجَةٍ إِليَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ. فَعُدْنَ (ارْجِعْنَ) إِلَى نَوْمِكُنَّ — مَرَّةً أُخْرَى — وَتَمَتَّعْنَ بِرُقَادِكُنَّ الْهَنِيءِ وَأَحْلَامِكُنَّ السَّعِيدَةِ، فَإِنَّ عَلَيْكُنَّ فِي صَبَاحِ الْغَدِ أَعْمَالًا جِسَامًا (عَظِيمَةً خَطِيرَةَ الشَّأْنِ).»

(٤) سُهَادُ «قَسَامَةَ»

ثُمَّ صَعِدَ السَّائِسُ دَرَجَاتِ السُّلَّمِ، وَهَدَأَتِ الْجَلَبَةُ (سَكَنَتِ الضَّجَّةُ) بَعْدَ قَلِيلٍ، وَنَامَ كُلُّ مَنْ فِي الْإِصْطَبْلِ. وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ صَوْتِ رِفَاقِي الدَّوَابِّ، غَيْرُ شَخِيرِهَا الْمُنْبَعِثِ مِنْ مَرَابِطِهَا الدَّانِيَةِ (الْقَرِيبَةِ) وَالنَّائِيَةِ (الْبَعِيدَةِ). أَمَّا أَنَا فَحَالَفَنِي السُّهَادُ (صَاحَبَنِي السَّهَرُ). وَأَرِقْتُ (ذَهَبَ نَوْمِي)، فَلَمْ يَزُرِ الْكَرَى (النَّوْمُ) جَفْنَيَّ طُولَ اللَّيْلِ. وَبَقِيتُ جَاثِمَةً (لَزِمْتُ مَكَانِي فَلَمْ أَتْرُكْهُ) سَاعَةً بَعْدَ أُخْرَى، مُحَاوِلَةً أَنْ أَتَعَرَّفَ: مِنْ أَيَّ مَكَانٍ قَدِمَ هَذَا الزَّائِرُ الْغَرِيبُ؟ وَفِي أَيِّ مَوْطِنٍ وُلِدَ وَعَاشَ؟ وَعِنْدَ أَيِّ الْأَنَاسِي (النَّاسِ) الْغِلَاظِ الْأَكْبَادِ (الْقُسَاةِ الْقُلُوبِ) كَانَ؟ وَكَيْفَ طَاوَعَتْهُمْ قُلُوبُهُمُ الْقَاسِيَةُ عَلَى طَرْدِ هَذَا الْمِسْكِينِ التَّاعِسِ إِلَى الْعَرَاءِ (الْخَلَاءِ)، وَالضَّنِّ (الْبُخْلِ) عَلَيْهِ بِالْقُوتِ وَالْمَأْوَى، وَتَعْرِيضِهِ لِلْمَوْتِ — جُوعًا وَبَرْدًا — فِي مِثْلِ هَذَا الشِّتَاءِ الْقَارِسِ (الشَّدِيدِ الْبَرْدِ)، بَعْدَ أَنْ بَلَغَ أَرْذَلَ الْعُمُرِ.

(٥) ذِكْرَيَاتٌ

لَقَدْ ذَكَرْتُ — حِينَ رَأَيْتُ هَذَا التَّاعِسَ — مَا لَقِيتُهُ — فِي سَالِفِ أَيَّامِي — مِنَ الْمُعَامَلَةِ السَّيِّئَةِ. فَقَدِ ابْتُلِيتُ — فِي مُقْتَبَلِ شَبَابِي — بِزَارِعٍ شَرِسٍ غَضُوبٍ عَبُوسٍ، وَكُنْتُ قَدْ بَلَغْتُ الرَّابِعَةَ مِنْ عُمُرِي — فِيمَا أَذْكُرُ — وَهِيَ السِّنُّ الَّتِي بَدَأْتُ عَمَلِي فِيهَا. وَكَانَ يَشْتُمُنَا كُلَّمَا أَبْصَرَنَا، وَيَرْكُلُنَا (يَرْفُسُنَا) بِرِجْلِهِ كُلَّمَا لَقِيَنَا. وَمَا أَذْكُرُ، أَنَّنِي رَأَيْتُهُ — فِيمَا رَأَيْتُهُ — مَسْرُورًا قَطُّ. فَقَدْ كَانَ لِسُوءِ حَظِّهِ وَحَظِّنَا مَغْلُوبًا عَلَى أَعْصَابِهِ (سَرِيعَ الْهِيَاجِ).

(٦) فِي الْمِحْرَاثِ

وَلَقَدْ ذَهَبْتُ إِلَى الْحَقْلِ — حِينَئِذٍ — أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَأَنَا فِي تِلْكَ السِّنِّ، وَإِلَى جَانِبِي زَمِيلٌ مِنْ عِتَاقِ الْخَيْلِ (مِنَ الْأَفْرَاسِ الْكَرِيمَةِ) اسْمُهُ «دَهْمَانُ»: قُوَّتُهُ ضِعْفُ قُوَّتِي، لِأَنَّ عُمْرَهُ ضِعْفُ عُمْرِي. وَقَدْ مَرَنَ هَذَا الْحِصَانُ عَلَى حَرْثِ الْأَرْضِ زَمَنًا طَوِيلًا. وَلَقَدْ حَاوَلْتُ إِمْكَانِي (بَذَلْتُ جُهْدِي) حَتَّى لَا أُتَّهَمَ بِالتَّقْصِيرِ. وَلَسْتُ أَنْسَى نَصِيحَةَ أمِّي الَّتِي أَفْضَتْ بِهَا إِلَيَّ — فِي سِنِّ الطُّفُولَةِ — فَقَالَتْ: «إِنَّنَا — مَعْشَرَ الدَّوَابِّ — جَدِيرَاتٌ أَنْ نَبْذُلَ لِلْعَمَلِ جُهْدَنَا كُلَّهُ. لِأَنَّ صَاحِبَنَا: رَبَّ هَذِهِ الضَّيْعَةِ خَلِيقٌ (جَدِيرٌ) بِأَنْ نَفْنَى فِي الْإِخْلَاصِ لَهُ، فَلَا نُقَصِّرَ فِي خِدْمَتِهِ. فَهُوَ خَيِّرُ الطَّبْعِ، يَفِيضُ قَلْبُهُ حَنَانًا وَرَحْمَةً، وَلَا يَضِنُّ عَلَيْنَا بِشَيْءٍ فِي سَبِيلِ إِسْعَادِنَا وَالتَّرْفِيهِ (التَّخْفِيفِ) عَنْ نُفُوسِنَا.»

وَقَدْ عَمِلْتُ، بِنَصِيحَتِهَا فَحَاوَلْتُ جُهْدِي إِرْضَاءَ حَارِثِ الْحَقْلِ، وَلَكِنَّنِي — عَلَى مَا بَذَلْتُ — لَمْ أَظْفَرْ بِإِرْضَائِهِ. فَدَبَّ الْيَأْسُ إِلَى قَلْبِي، وَأَيْقَنْتُ أَنَّ كُلَّ مُحَاوَلَةٍ لِلتَّحَبُّبِ إِلَيْهِ وَاسْتِجْلَابِ مَوَدَّتِهِ إِنَّمَا هِيَ مُحَاوَلَةٌ غَيْرُ مُجْدِيَةٍ. فَلَمَّا وَقَرَ (أَثَّرَ) ذَلِكَ فِي نَفْسِي، وَاسْتَقَرَّ فِي خَلَدِي (قَلْبِي)، صَعُبَ عَلَيَّ الْعَمَلُ، وَاسْتَوْلَى عَلَيَّ الضَّجَرُ وَالْمَلَلُ.

آهٍ — يَا عَزِيزِي — كَمْ كُنْتُ مُتْعَبَةً مَجْهُودَةً، وَكَمْ أَضْنَانِي الذَّهَابُ صَاعِدَةً هَابِطَةً، فِي ذَلِكَ الْحَقْلِ الْوَاسِعِ! وَفِي أَصِيلِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، خَارَتْ (ضَعُفَتْ) قُوَايَ وَكِدْتُ أَسْقُطُ مِنْ فَرْطِ الْإِعْيَاءِ (شِدَّةِ التَّعَبِ). فَهَمَمْتُ أَنْ أَقِفَ عَنْ مُوَاصَلَةِ الْعَمَلِ، وَأَكُفَّ (أَمْتَنِعَ) عَنِ الْحَرَكَةِ.

(٧) حَدِيثُ الزَّمِيلِ

وَكَأَنَّمَا أَحَسَّ زَمِيليَ الْهَرِمُ مَا يُسَاوِرُ (مَا يُغَالِبُ) نَفْسِي مِنَ الْأَلَمِ، فَقَالَ لِي: «أَبْشِرِي — أَيَّتُهَا الْفَتَاةُ النَّشِيطَةُ الذَّكِيَّةُ — فَقَدْ أَشْرَفَ النَّهَارُ عَلَى نِهَايَتِهِ — أَوْ كَادَ — وَتَرَاءَتِ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ خَلْفَ هَذِهِ التِّلَالِ وَالْآكَامِ. وَلَعَلَّنَا لَا نَحْرِثُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أُخْدُودًا أَوْ أُخْدُودَيْنِ فَقَطْ، ثُمَّ نَعُودُ إِلَى حَظِيرَتِنَا مَسْرُورِيْنِ.» فَاسْتَعَدْتُ — حِينَئِذٍ — شَيْئًا مِنَ النَّشَاطِ، وَجَذَبْتُ الْمِحْرَاثَ بِقُوَّةٍ، ثُمَّ قُلْتُ لِدَهْمَانَ: «وَمَا هُوَ الْأُخْدُودُ؟» فَقَالَ لِي: «بَيْنَ هَذِهِ النُّتُوءَاتِ (رُءُوسِ الْأَخَادِيدِ) — الْبَادِيَةِ أَمَامَكِ — تَرَيْنَ الْأَخَادِيدَ، وَهِيَ مِنْ عَمَلِ الْمِحْرَاثِ.»

فَقُلْتُ لَهُ: «وَكَيْفَ يَعْمَلُهَا الْمِحْرَاثُ؟» فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا الْمِحْرَاثَ الَّذِي نَجُرُّهُ، فِي أَسْفَلِهِ مُدْيَةٌ (سِكِّينَةٌ) صُلْبَةٌ كَبِيرَةُ الْحَجْمِ، فَهِيَ تَشُقُّ الثَّرَى (الْأَرْضَ)، وَتَقْلِبُ تُرَابَ الْحَقْلِ رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ (تَجْعَلُ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ)، كُلَّمَا مَرَّ بِهَا الْمِحْرَاثُ الَّذِي نَجُرُّهُ.»

فَقُلْتُ لَهُ: «لَعَلَّهُمْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنْ يُذْهِبُوا مَا بَقِي مِنَ الْحَشَائِشِ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ إِلَى جَوْفِهَا.» فَقَالَ: «نَعَمْ». قُلْتُ: «وَأَيُّ فَائِدَةٍ لَهُمْ مِنْ هَذَا؟» فَقَالَ: «لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ إِلَّا إِذَا قُلِبَ عَالِيهَا إِلَى أَسْفَل. وَمَتَى تَمَّ لَنَا ذَلِكَ فَإِنَّنَا — حِينَئِذٍ — نَجُرُّ آَلَةً أُخْرَى تُسَمَّى الْمِسْلَفَةَ وَهِيَ الَّتِي تُسَلَّفُ بِهَا أَرْضُ الْحَقْلِ (تُسَوَّى) لِتُغَطِّي مَا يَبْذُرُهُ فِيهَا الزَّارِعُ مِنَ الْحُبُوبِ». فَقُلْتُ لَهُ: «وَمَاذَا يُجْدِيهِمْ (مَاذَا يُفِيدُهُمْ) هَذَا الْعَنَاءُ (التَّعَبُ)؟» فَقَالَ: «لَا سَبِيلَ إِلَى الرَّاحَةِ بِغَيْرِ التَّعَبِ، وَمَنْ لَمْ يَرْكَبِ الْأَهْوَالَ لَمْ يَنَلِ الرَّغَائِبَ. وَلَا سَبِيلَ لِتَهْيِئَةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ إِلَّا بَعْدَ حَرْثِهَا وَتَسْلِيفِهَا (تَسْوِيَتِهَا) وَسَقْيِهَا، وَمَا إِلَى ذَلِكِ.

يَظْهَرُ لِي أَنَّكِ لَا تَعْرِفِينَ — يَا قَسَامَةُ — مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْأَوَّلِيَّةِ، وَبَسَائِطِ الْمَعَارِفِ الضَّرُورِيَّةِ مَا يُنَاسِبُ سِنَّكِ؟» فَقُلْتُ لَهُ — فِي اسْتِسْلَامٍ — وَقَدْ أَعْجَبَنِي حُسْنُ فَهْمِهِ، وَصِدْقُ حُكْمِهِ عَلَى الْأُمُورِ: «صَدَقْتَ — يَا دَهْمَانُ — فَإِنَّنِي عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا أَزَالُ جَاهِلَةً مُتَخَلِّفَةً (مُتَأَخِّرَةً) فَزِدْنِي عِلْمًا أَزْدَدْ لَكَ شُكْرًا.»

فَأَجَابَنِي مُتَلَطِّفًا: «لَيْسَ أَشْهَى إِلَى نَفْسِي مِنْ تَحْقِيقِ مَا تَطْلُبِينَ يَا قَسَامَةُ — وَلَكِنْ لَمْ يَبْقَ لَدَيْنَا مِنَ النَّهَارِ إِلَّا دَقَائِقُ يَسِيرَةٌ، وَمَتَى فَرَغْنَا مِنْ حَرْثِ هَذَا الْأُخْدُودِ رَجَعْنَا إِلَى الدَّارِ.»

(٨) طَائِفَةٌ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ

فَصَرَخْتُ مُتَعَجِّبَةً: «أَهَكَذَا انْتَهَيْنَا سَرِيعًا! أَلَمْ تَقُلْ لِي إِنَّنَا سَنَحْرِثُ أُخْدُودًا آخَرَ؟» فَقَالَ: «لَقَدْ فَرَغْنَا الْآنَ مِنْ حَرْثِهِ — عَلَى طُولِهِ — دُونَ أَنْ تَشْعُرِي بِمَا بَذَلْتِهِ مِنْ جُهْدٍ. وَمَرَّ الْوَقْتُ سَرِيعًا فَلَمْ تَفْطُنِي (لَمْ تَنْتَبِهِي) إِلَى انْقِضَاءِ الْيَوْمِ.»

•••

ثُمَّ قَصَّ عَلَيَّ «دَهْمَانُ» طَرَائِفَ مِنَ الْمَعَارِفِ النَّافِعَةِ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ مَا نَطْعَمُهُ مِنَ اللَّذَائِذِ عِنْدَنَا كَالشَّعِيرِ وَالْفُولِ وَالْبِرْسِيمِ إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ.

ثُمَّ قَالَ لِي فِيمَا قَالَ: «وَلَنْ تُنْبِتَ لَنَا الْأَرْضُ هَذِهِ الْمَآكِلَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ نَبْذُلَ جُهْدَنَا فِي حَرْثِهَا وَتَزْحِيفِهَا، وَيَبْذُلَ الزَّارِعُ جُهْدَهُ فِي غَرْسِهَا وَسَقْيِهَا، لِأَنَّ فِيهَا أَيْضًا أَكْثَرَ غِذَائِهِ وَغِذَاءِ بَنِي جِنْسِهِ. فَإِذَا قَصَّرَ أَحَدٌ مِنَّا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ لَمْ نَظْفَرْ بِمَا نَأْكُلُهُ غَيْرَ الْحَشَائِشِ، وَلَمْ يَظْفَرْ هُوَ بِنَبَاتِ الْأَرْضِ.»

ثُمَّ قَالَ لِي وَنَحْنُ عَائِدَانِ إِلَى الْحَظِيرَةِ: «فَإِذَا سَأَلْتِنِي رَأْيِي، فَإِنِّي لَا أَكْتُمُكِ أَنَّنِي أُفَضِّلُ — أَلْفَ مَرَّةٍ — أَنْ أَعْمَلَ وَأَكْدَحَ (أُجَاهِدَ) — طُولَ يَوْمِي — لِأُوَفِّرَ زَادِي (أُكَثِّرَ قُوتِي)، عَلَى أَنْ أَسْتَسْلِمَ لِلْكَسَلِ، وَأُخْلِدَ (أَسْكُنَ) لِلرَّاحَةِ، ثُمَّ أَهْلِكَ جُوعًا.»

(٩) ثَمَرَةُ الْمَعْرِفَةِ

وَلَمَّا بَلَغْنَا الْحَظِيرَةَ لَمْ نَجِدْ فُرْصَةً لِإِتْمَامِ حَدِيثِنَا لَيْلًا، لِأَنَّ مَرْبَطِي لَمْ يَكُنْ قَرِيبًا مِنْ مَرْبَطِ زَمِيلي. عَلَى أَنَّنِي — بَعْدَ أَنْ خَلَوْتُشج إِلَى نَفْسِي — أَنْعَمْتُ النَّظَرَ، وَأَطَلْتُ الْفِكْرَ، فِيمَا أَفْضَى بِهِ إِلَيَّ صَاحِبِي مِنْ حَدِيثٍ. وَاعْتَزَمْتُ — مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ — أَنْ أُضَاعِفَ مِنْ جُهْدِي فِي سَبِيلِ الْعَمَلِ، غَيْرَ مُتَبَرِّمَةٍ بِمَا أَلْقَاهُ مِنْ عَنَاءٍ وَجُهْدٍ. وَسَوَاءٌ عَلَيَّ أَقَدَرَ لِيَ الْحَارِثُ مَا أَبْذُلُ مِنْ هِمَّةٍ وَنَشَاطٍ أَمْ لَمْ يَقْدُرْهُ.

وَأَرَادَ اللهُ أَنْ يُجْزِلَ (يُعْظِمَ) مُكَافَأَتِي عَلَى حُسْنِ نِيَّتِي، فَيَسَّرَ لِي — فِي غَدِي (فِي الْيَوْمِ التَّالِي) — حَارِثًا آخَرَ، كَانَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ سَابِقِهِ، آيَةً فِي الْبَشَاشَةِ وَاللُّطْفِ، فَكَانَ يُلَقِّبُنِي بِأَحَبِّ الْأَلْقَابِ إِلَى نَفْسِي. فَسَهَّلَ عَلَيَّ بِذَلِكَ كُلَّ صَعْبٍ، وَيَسَّرَ لِي بِلُطْفِهِ كُلَّ عَسِيرٍ.

وَكَانَ صَدِيقِي «دَهْمَانُ» رَاوِيَةً بَارِعًا، وَقَاصًّا مُبْدِعًا فَاتِنَ الْحَدِيثِ. فَقَصَّ عَلَيَّ — حِينَئِذٍ — مِنْ أَنْبَاءِ الدَّوَابِّ كُلَّ مُغْرِبٍ مُعْجِبٍ.

وَمَا أَنْسَ مِنْ بَدَائِعِهِ لَا أَنْسَ مَا رَوَاهُ لِي مِنْ طَرَائِفِ صَاحِبِهِ: «أَبِي تَوْلَبٍ» الَّتِي قَصَّهَا — قَبْلَ مَوْتِهِ — عَلَى صَدِيقِي «دَهْمَانَ» لَقَدْ أَحْبَبْتُ الْحَمِيرَ — مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ — وَعَرَفْتُ لَهُمْ فَضْلَ مَا تَمَيَّزُوا بِهِ عَلَى دَوَابِّ الْأَرْضِ قَاطِبَةً (جَمِيعًا)، وَمَا انْفَرَدُوا بِهِ مِنْ مَزَايَا بَاهِرَةٍ، وَخِلَالٍ (صِفَاتٍ) نَادِرَةٍ.

(١٠) ضَوْءُ الصَّبَاحِ

وَهَكَذَا قَضَيْتُ لَيْلِي مُسْتَرْسِلَةً فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الذِّكْرَيَاتِ، حَتَّى رَأَيْتُ السَّائِسَ هَابِطًا إِلَيْنَا مِنْ غُرْفَتِهِ. وَكَانَ ضَوْءُ الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ، يَنْفُذُ إِلَى حَظِيرَتِنَا فَيُوقِظُ النِّيَامَ، فَهَلِ اسْتَيْقَظَ ضَيْفُنَا «أَبُو زِيَادٍ»؟ أَلَا لَيْتَ شِعْرِي: كَيْفَ حَالُكَ يَا ابْنَ عَمِّ؟ كَيْفَ قَضَيْتَ لَيْلَتَكَ؟ أَتُرَاكَ اسْتَرَحْتَ إِلَى أَحْلَامِكَ السَّعِيدَةِ؟ وَأَيُّ الْأَفْكَارِ السَّارَّةِ — أَوِ الْحَزِينَةِ — تَطُوفُ بِرَأْسِكَ الْآنَ؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤